فصل: تفسير الآيات (256- 257):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (256- 257):

{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)}
قوله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدين قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي}: الدِّينُ، في هذه الآية: هو المُعْتَقَدُ، والمِلَّة، ومقتضى قولِ زَيْدِ بن أسْلَمَ أن هذه الآية مكِّيَّة، وأنها من آيات الموادَعَة الَّتي نسخَتْها آية السَّيْف، وقال قتادةُ والضَّحَّاك بنُ مُزَاحِمٍ: هذه الآية مُحْكَمَةٌ خاصَّة في أهل الكتاب الذينَ يبذُلُون الجزْيَة، وقوله تعالى: {قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي}: معناه: بنصب الأدلَّة، ووجودِ الرسُول صلى الله عليه وسلم الدَّاعِي إِلى اللَّه، والآياتِ المُنيرة، والرُّشْدُ: مصْدَر من قولك: رَشِدَ؛ بكسر الشين، وضَمِّها، يَرْشُدُ رُشْداً، ورَشَداً، ورَشَاداً، والغيُّ مصدر من: غَوِيَ يغوى، إِذا ضلَّ في معتقد، أو رأْيٍ، ولا يُقَال: الغيُّ في الضلال على الإِطلاق، والطَّاغُوتَ بنَاءُ مبالغةٍ من: طغى يطغى، واختلف في مَعْنى الطَّاغوت، فقال عُمَر بْنُ الخَطَّاب وغيره: هو الشَّيْطَان، وقيل: هو السَّاحِر، وقيل: الكَاهِنُ، وقيل: الأصْنَام، وقال بعضُ العلماء: كُلُّ ما عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فهُوَ طَاغُوتٌ.
* ع *: وهذه تسميةٌ صحيحة في كلِّ معبودٍ يرضى ذلك؛ كفرعَوْنَ ونُمْرُوذ، وأما مَنْ لا يرضى ذلك، فسمي طاغوتاً في حقِّ العَبَدَةِ، قال مجاهد: العروةُ الوثقَى: الإِيمانُ، وقال السُّدِّيُّ: الإِسلام، وقال ابن جُبَيْر وغيره: لا إِله إِلا الله.
قال * ع *: وهذه عباراتٌ تَرْجِعُ إِلى معنًى واحدٍ.
والاِنْفِصَامُ: الاِنكسارُ من غَيْر بَيْنُونَةٍ، وقد يجيءُ بمعنى البَيْنُونة، والقَصْم كسر بالبينونة.
* ت *: وفي الموطَّإ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أنَّهُ قَالَ: «إِنَّ الوَحْيَ يَأْتِينِي أَحْيَاناً فِي مِثْلِ صَلْصَلَةِ الجَرَسِ، وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ، فَيَفْصِمُ عَنِّي، وَقَدْ وَعَيْتُ» قال أبو عُمَر في التمهيد: قوله: «فَيَفْصِمُ عَنِّي»: معناه: ينفرجُ عنِّي، ويذهب؛ كما تفصمُ الخلخال، إِذا فتحته؛ لتخرجَهُ من الرِّجْل، وكلُّ عُقدْة حلَلْتَهَا، فقد فَصَمْتَها، قال اللَّه عز وجلَّ: {فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى لاَ انفصام لَهَا}، وانفصامُ العروةِ أنْ تنفَكَّ عن موضعها، وأصْلُ الفَصْم عند العرب: أنْ تفكَّ الخلخال، ولا يبين كَسْره، فإِذا كسرته، فقد قَصَمْتَهُ بالقافِ. انتهى.
ولما كان الإِيمان ممَّا ينطقُ به اللِّسان، ويعتقده القلبُ، حَسُن في الصفاتِ {سَمِيعٌ}: من أجْل النُّطْق، و{عَلِيمٌ} من أجْل المعتقَدِ.
قوله سبحانه: {الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ...} الآية: الوليُّ من: وَلِيَ، فَإِذا لازم أحدٌ أحداً بنَصْره، وودِّه، واهتباله، فهو وليُّه؛ هذا عُرْفُهُ لغةً، ولفظ الآية مترتِّب في الناس جميعاً، وذلك أن منْ آمن منهم، فاللَّه وليُّه، أخرجه من ظلمة الكُفْر إِلى نور الإِيمان، ومَنْ كفر بعد وجودِ الرسُولِ صلى الله عليه وسلم فَشَيْطَانَهُ ومُغْوِيهِ أخرجه من الإِيمان؛ إِذ هو معدٌّ وأهل للدخول فيه، ولفظ {الطاغوت} في هذه الآيةِ يَقْتَضِي أنَّه اسم جنْسٍ؛ ولذلك قال: {أَوْلِيَاؤُهُمُ}؛ بالجَمْع؛ إِذ هي أَنْوَاع.

.تفسير الآيات (258- 259):

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258) أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آَيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)}
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذي حَاجَّ إبراهيم فِي رِبِّهِ...} الاية: {أَلَمْ تَرَ}: تنبيهٌ، وهي رؤية القَلْب، والَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ، هو نُمْرَوذُ بْنُ كَنْعَانَ مَلِكُ زمانه، وصاحبُ النَّار، والبَعُوضَةِ، قاله مجاهد وغيره، قال قتادة: هو أولُ من تجبَّر، وهو صاحبُ الصَّرْح بِبَابِلَ، قيل: إِنه مَلكَ الدُّنْيَا بأجمعها، وهو أحد الكَافِرَيْنِ، والآخر بُخْتَ نَصَّرَ، وقيل: إِن النُّمْرُوذَ الذي حاجَّ إِبراهيم هو نُمْرُوذُ بْنُ فَالخ، وفي قصص هذه المحاجَّة روايتان.
إحداهما: ذكر زيْد بن أسْلم أنَ النُّمْروذ هذا قَعَدَ يأمر للنَّاس بالميرة، فكلَّما جاء قومٌ، قال: مَنْ رَبُّكُمْ وَإِلَهُكِمْ، فيقولُونَ: أَنْتَ، فيقولُ: مِيرُوهُمْ، وجاء إِبراهيم- عليه السلام-، يَمْتَارُ، فَقَالَ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ وَإِلَهُكَ؟ قَالَ إِبْرَاهِيمُ: رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ، فَلَمَّا سَمِعَهَا نُمْرُوذُ، قَالَ: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ، فَعَارَضَهُ إِبْرَاهِيمُ بِأَمْرِ الشَّمْسِ؛ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ، وَقَالَ: لاَ تُمِيرُوهُ، فَرَجَعَ إِبْرَاهِيمُ إِلَى أَهْلِهِ دُونَ شَيْءٍ، فَمَرَّ على كَثِيبٍ رَمْلٍ؛ كَالدَّقِيقِ، فَقَالَ: لَوْ مَلأْتُ غَرَارَتِي مِنْ هَذَا، فَإذَا دَخَلْتُ بِهِ، فَرِحَ الصِّبْيَانُ؛ حتى أَنْظُرَ لَهُمَا، فَذَهَبَ بِذَلِكَ، فَلَمَّا بَلَغَ مَنْزِلَهُ، فَرِحَ الصِّبْيَانُ، وَجَعَلاَ يَلْعَبَانِ فَوْقَ الغِرَارَتَيْنِ، وَنَامَ هُوَ مِنَ الإِعْيَاءِ، فَقَالَتِ امرأته: لَوْ صَنَعْتُ لَهُ طَعَاماً يَجِدُهُ حَاضِراً، إِذَا انتبه، فَفَتَحَتْ إِحْدَى الْغِرَارَتَيْنِ، فَوَجَدَتْ أَحْسَنَ مَا يَكُونُ مِنَ الحَوَارِيِّ، فَخَبَزَتْهُ، فَلَمَّا قَامَ، وَضَعَتْهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ هَذَا؟ قَالَتْ: مِنَ الدَّقِيقِ الَّذِي سُقْتَ، فَعَلِمَ إِبْرَاهِيمُ؛ أنَّ اللَّه يسَّر لَهُمْ ذَلِكَ.
وقال الربيعُ وغيره في هذا القصص: إِن النُّمروذَ لَمَّا قال: أنَا أُحْيِي وأُمِيتُ، أَحْضَرَ رَجُلَيْنِ، فَقَتَل أحَدَهُمَا، وأَرْسَلَ الآخَرَ، وقَالَ: قَدْ أحْيَيْتُ هَذَا، وأَمَتُّ هذا، فردَّ علَيْهِ إِبراهيمُ بأمْرِ الشمْسِ.
والروايةُ الأخرى: ذكر السُّدِّيُّ؛ أنه لما خَرَجَ إِبراهيمُ من النَّار، وأُدْخِلَ على المَلِكِ، قالَ له: مَنْ ربُّكَ؟ قَالَ: ربِّيَ الَّذِي يُحْيِي ويُمِيتُ.
يقالُ: بُهِتَ الرَّجُلُ، إِذا انقطعَ، وقامَتْ عليه الحُجَّةُ.
وقوله تعالى: {والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين}: إِخبارٌ لمحمَّد صلى الله عليه وسلم وأمته، والمعنى: لا يرشدهم في حججهم على ظُلْمهم، وظاهر اللفْظ العمومُ، ومعناه الخصوصُ؛ لأنَّ اللَّه سبحانه قد يَهْدي بعْضَ الظالمينَ بالتَّوْبة والرجوع إِلى الإِيمان.
قوله تعالى: {أَوْ كالذي مَرَّ على قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا...} الآية: عطفت {أوْ} في هذه الآية على المعنى الَّذِي هو التعجُّب في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذي حَاجَّ}.
قال ابن عبَّاس وغيره: الذي مَرَّ على القَرْيَة هو عُزَيْرٌ، وقال وهْبُ بن مُنَبِّهٍ وغيره: هو أَرْمِيَا، قال ابن إِسحاق: أَرْمِيَا هو الخَضِرُ، وحكاه النَّقَّاش عن وهْب بن منَبِّه.
واختلف في القَرْيَةِ، مَا هِيَ؟ فقِيلَ: المُؤْتَفِكَةُ، وقال زيْدُ بن أسلم: قريةُ الَّذين خَرَجُوا مِنْ ديارهم، وهم أُلُوفٌ، وقال وهْبُ بن مُنَبِّهٍ، وقتادة، والضَّحَّاك، والرَّبيع، وعِكْرِمَة هي بَيْت المَقْدِسِ، لما خرَّبها بُخْتَ نَصَّرُ البابليُّ، والعَرِيشُ: سقْف البيتِ، قال السُّدِّيُّ: يقول: هي ساقطةٌ على سَقْفِها، أي: سقطت السقْف، ثم سقطت الحيطانُ عليها، وقال غيره: معناه: خاوية من الناس، وخاوية: معناه: خاليةٌ؛ يقال: خَوَتِ الدَّارُ تَخْوِي خَوَاءً وخُوِيًّا، ويقال: خويت، قال الطبريُّ: والأول أفْصَحُ، قال: * ص *: {وَهِيَ خَاوِيَةٌ} في موضع الحالِ من فَاعِلِ {مَرَّ} أو من {قَرْيَةٍ} و{على عُرُوشِهَا}: قيل: على بابِهَا، والمعنى: خاويةٌ من أهلها، ثابتةٌ على عروشها، والبُيُوت قائمةٌ، والمَجْرور على هذا يتعلَّق بمحذوفٍ، وهو ثابتةٌ، وقيل: يتعلَّق ب {خَاوِيَة} والمعنى: وقعتْ جُدُرَاتُهَا على سقوفها بعْد سُقُوط السقوفِ.
انتهى، وقد زدنا هذا المعنى وضوحاً في سورة الكهف، واللَّه الموفِّق بفضله.
وقوله: {أنى يُحْيِي هذه الله بَعْدَ مَوْتِهَا}: ظاهر اللفظ السؤَالُ عن إِحياءِ القَرْيَة بعمارةٍ أو سُكَّانٍ، فكأنَّ هذا تلهُّفٌ من الواقِفِ المعتبر على مدينة أحبَّته، ويحتمل أنْ يكونَ سؤاله إِنما كانَ عن إِحياء الموتى، فضرب له المَثَل في نَفْسه، وحكى الطبريُّ عن بعضهم؛ أنَّ هذا القَوْلَ منه شك في قدرة اللَّه على الإِحياء؛ قال * ع *: والصواب ألاَّ يتأول في الآية شكٌّ، وروي في قصص هذه الآية؛ أنَّ بني إِسرائيل، لَمَّا أحدثوا الأحدَاثَ، بعث اللَّه عليهم بُخْتَ نَصَّرَ، فقتَلَهُم، وجَلاَهم من بْيتِ المَقْدِسِ، وخرَّبه، فلَمَّا ذهب عنه، جاء عُزَيْرٌ أَوْ أزمِيَّا، فوقَف على المدينة معتبراً، فقال: {أنى يُحْيِي هذه الله بَعْدَ مَوْتِهَا}؛ فأماته اللَّه تعالى، وكان معه حمارٌ قد رَبَطَهُ بحَبْلٍ جديدٍ، وكان معه سَلَّة فيها تِينٌ هو طعامه، وقيل: تِينٌ وعِنَبٌ، وكانتْ معه رِكْوة من خَمْر، وقيل: من عصيرٍ، وقيل: قُلَّة من ماءٍ هي شرابُهُ، وبقي ميتاً مائةَ عامٍ، فروي أنَّه بَلِيَ، وتفرَّقت عظامه هو وحمارُهُ، وروي أنَّ الحمار بَلِيَ، وتفرَّقت أوصاله، دون عُزَيْرٍ.
وقوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثَهُ}: معناه: أحياه، فسأله اللَّه تعالى بوسَاطَةِ المَلَكِ، كَمْ لَبِثْتَ؛ على جهة التقرير، فقال: {لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ}، قال ابن جُرَيْج، وقتادة، والربيع: أماته اللَّه غدوة يَوْمٍ، ثم بعثه قُرْبَ الغروبِ، فظنَّ هو اليومَ واحداً، فقال: لَبِثْتُ يوماً، ثم رأى بَقِيَّةً مِن الشمْسِ، فَخَشِيَ أنْ يكون كاذباً، فقال: {أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ}، فقيل له: {بَل لَّبِثْتَ مِاْئَةَ عَامٍ}.
وقوله تعالى: {فانظر إلى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ}، أي: لم يتغيَّر.
* ت *: قال البخاريُّ في جامعه: {يَتَسَنَّهْ}: يتغيَّر.
وأمَّا قوله تعالى: {وانظر إلى حِمَارِكَ}، فقال وهْبُ بن منَبِّه وغيره: المعنى: انظر إِلى اتصال عظامِهِ، وإِحيائه جُزْءاً جُزْءاً، ويروى؛ أنه أحياه اللَّهُ كذلك؛ حتى صار عظَاماً ملتئِمَةً، ثم كساه لَحْماً، حتى كمل حماراً، ثم جاء ملَكٌ، فنفَخَ في أنْفِهِ الرُّوح، فقام الحمارُ ينْهَقُ.
ورُوِيَ عن الضَّحَّاكِ، ووهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ أيضاً؛ أنهما قالا: بل قيلَ لَهُ: وانظر إلى حمارك قائماً في مربطه، لم يُصِبْهُ شيء مِائَةَ سَنَةٍ، قالا: وإِنما العظامُ التي نَظَر إِلَيْها عظامُ نَفْسِهِ، وأعمى اللَّه العُيُون عنه، وعن حِمَاره طُولَ هذه المُدَّة، وكَثَّر أهْلُ القصص في صورة هذه النَّازلة تَكْثيراً اختصرته، لعدم صحته.
وقوله تعالى: {وَلِنَجْعَلَكَ ءَايَةً لِّلنَّاسِ}،
قال * ع *: وفي إِمَاتَتِهِ هذه المُدَّةَ، ثم إِحيائِهِ- أعظمُ آية، وأمره كلّه آية للناس غابر الدهر.
* ت *: قال ابن هِشَامٍ: لا يصحُّ انتصاب {مِائَة} ب {أَمَاتَهُ}؛ لأن الإِماتة سلْبُ الحياة، وهي لا تمتدُّ، وإِنما الوجْهُ أنْ يضمَّن {أَمَاتَهُ} معنى أَلْبَثَهُ، فكأنه قيلَ: فألبثه اللَّه بالمَوْت مِائَةَ عامٍ؛ وحينئذٍ يتعلَّق به الظرف. انتهى من المُغْنِي.

ومعنى {نُنْشِرُهَا}، أي: نُحْيِيها، وقرأ حمزةُ وغيره: {نُنْشِزُهَا} ومعناه: نرفعها، أي: ارتفاعا قليلاً قليلاً؛ فكأنه وَقَفَ على نباتِ العظامِ الرُّفَاتِ، وقال النَّقَّاشُ: نُنْشِزُهَا: معناه: نُنْبِتُهَا، ومِنْ ذلك: نَشَزَ نَابُ البَعِيرِ.
وقوله تعالى: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ}: المعنى: قال هو: أَعلَمُ أنَّ اللَّه على كلِّ شيء قديرٌ، وهذا عنْدي لَيْسَ بإِقرار بما كان قَبْلُ يُنْكِرُهُ؛ كما زعم الطبريُّ، بل هو قولٌ بَعَثَهُ الاعتبارُ؛ كما يقول الإِنسان المؤمن، إِذا رأى شيئاً غريباً مِنْ قدرةِ اللَّهِ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، ونحْو هذا.
وأما قراءة حمزةَ والكسائي: {قال اعلم} موصولةَ الألفِ، ساكنةَ الميمِ، فتحتمل وجهيْن:
أحدهما: قال المَلَكُ له: اعلم، وقد قرأ ابن مسعود، والأعمشُ: {قِيلَ اعلم}.
والوجه الثاني: أنْ يُنَزِّلَ نفسه منزلةَ المُخَاطَبِ الأجنبيِّ المُنْفَصِلِ، أي: قال لنفسه: اعلم، وأمثلةُ هذا كثيرةٌ.

.تفسير الآية رقم (260):

{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)}
قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إبراهيم رَبّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الموتى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بلى...} الآية: قال جمهور العلماء: إِن إبراهيم- عليه السلام- لم يكُنْ شَاكًّا في إِحياء اللَّه الموتى قطُّ، وإنما طلب المعايَنَة، وأما قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ» فمعناه: أنْ لو كانَ شَكَّ، لكنَّا نحْنُ أَحَقُّ به، ونحْنُ لا نشكُّ، فإِبراهيم- عليه السلام- أحرى ألاَّ يشكَّ، فالحديث مبنيٌّ على نفْيِ الشكِّ عن إِبراهيم، والذي روي فيه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أنَّهُ قَالَ: «ذَلِكَ مَحْضُ الإِيمَانِ»؛ إِنما هو في الخواطر الجاريَةِ الَّتي لا تثبتُ، وأما الشَّكُّ، فهو توقّف بيْن أمرين، لا مزية لأحدهما على الآخرِ، وذلك هو المنفيُّ عن الخليل صلى الله عليه وسلم.
وإِحياء الموتى إِنما يثبُتُ بالسمْع، وقد كان إِبراهيمُ أُعْلِمَ بذلك؛ يدلُّك على ذلك قولُهُ: {رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة: 258]، والشكُّ يبعد على مَنْ ثبت قدمه في الإِيمان فقَطْ، فكيف بمرتبة النبوَّة والخُلَّة، والأنبياءُ معصومون من الكبائرِ، ومن الصغائرِ التي فيها رذيلةٌ إِجماعاً، وإِذا تأمَّلت سؤاله- عليه السلام- وسائِرَ ألفاظ الآيةِ، لم تعط شكًّا، وذلك أنَّ الاستفهام ب {كَيْفَ}، إِنما هو عن حالِ شيء موجودٍ، ومتقرّر الوجودِ عند السائل والمسئول؛ نحو قولكَ: كَيْفَ عِلْمُ زَيْدٍ، وَكَيْفَ نَسْجُ الثَّوْبِ؟ ف {كَيْفَ} في هذه الآية إِنما هي استفهامٌ عن هيئة الإِحياء، والإِحياءُ متقرِّر، ولما وجدنا بعض المنكرين لوجودِ شيْء قد يعبَّر عن إِنكاره بالاستفهام عن حالةٍ لذلك الشيء، يعلم أنها لا تصحُّ، فيلزم من ذلك؛ أنَّ الشيْءَ في نفْسه لا يصحُّ؛ مثال ذلك: أنْ يقولَ مدَّعٍ: أنا أرفَعُ هذا الجَبَلَ، فيقول المكذِّب: كَيْفَ ترفعه، فهذه طريقة مجازٍ في العبارة، ومَعْنَاها: تسليمٌ جدليٌّ؛ كأنه يقول: افرض أنَّك ترفعه، أَرِنِي كَيْفَ، فَلَمَّا كان في عبارةِ الخَلِيلِ صلى الله عليه وسلم هذا الاشتراكُ المجازيُّ، خَلَّصَ اللَّه سبحانه ذلك، وحمَلَهُ على أنْ يبيّن الحقيقةَ، فقال له: {أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بلى} فكمل الأمر، وتخلَّص من كلِّ شك، ثم علَّل- عليه السلام- سؤالَهُ بالطُّمَأْنينة.
* ت *: قال الداووديُّ: وعن ابن جُبَيْر: {أَوَلَمْ تُؤْمِن} بالخُلَّة، قال مجاهدٌ، والنَّخَعِيُّ: {ولكن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}، أي: أزداد إِيماناً إِلى إِيماني، وعن قتادة: لأزداد يقيناً. انتهى.
قال * ع *: وقوله تعالى: {أَوَلَمْ تُؤْمِن} معناه: إِيماناً مطلقاً دخل فيه فصْل إِحياء الموتى، والواو: واو حالٍ دخَلَتْ عليها ألِفُ التقريرِ، وقال: * ص *: الهمزة في {أَوَلَمْ تُؤْمِن} للتقرير؛ كقوله تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح: 1]؛ وكقوله [الوافر]
أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ المَطَايَا

أي: قد شَرَحْنا لك صدرك، وأنتم خَيْر.
وقولُ ابن عطيَّة: الواو للحالِ، دخَلَتْ عليها ألفُ التقرير: متعقَّب، والظاهر أنَّ التقرير منسحبٌ على الجملة المنفيَّة فقطْ، وأن الواو للعطْف. انتهى.
{ولِّيَطْمَئِنَّ}: معناه: ليسكُنَ، فطمأنينةُ القَلْب هي أنْ تَسْكُنَ فِكَرُهُ في الشيء المعتَقَدِ، والفِكَرُ في صورة الإِحياء غيْرُ محظورةٍ؛ كما لنا نحن اليوم أنْ نفكِّر فيها، بل هي فِكَرٌ، فيها عِبَرٌ، فأراد الخليلُ؛ أن يعاين، فتذهب فِكَرُهُ في صُورة الإِحياء؛ إِذ حرَّكه إِلى ذلك، إِما الدابَّةُ المأكولةُ في تأويل، وإِمَّا قولُ النُّمْرُوذِ: أنا أُحْيِي وأميتُ في تأويل آخر، ورُوِيَ أن الأربعة التي أَخَذَ إِبراهيم- عليه السلام- هي الدِّيكُ، وَالطَّاوُسُ، والحَمَامُ، وَالغُرَابُ، قاله مجاهد وغيره، وقال ابن عباس: مكان الغرابِ الكَرْكِيّ، فروي أنه أخذها- عليه السلام- حَسَب ما أمر، وذكَّاها، ثم قَطَعها قِطَعاً قِطَعاً صِغَاراً، وجمع ذلك مع الدم والرِّيش، ثم جعل من ذلك المجْمُوع المختلط جزْءاً على كلِّ جبل، ووقَفَ هو من حيثُ يرى تلك الأجزاء، وأمْسَك رُءُوس الطَّيْر في يده، ثم قال: تَعَالَيْنَ؛ بإِذنِ اللَّه، فتطايَرَتْ تلك الأجزاءُ، وطار الدمُ إِلى الدمِ، والريشُ إِلى الريشِ؛ حتى التأمت؛ كما كانَتْ أولاً، وبقيتْ بلا رءوسٍ، ثم كرر النداء، فجاءته سعياً؛ حتى وضعت أجسادها في رءوسها، وطارتْ بإِذن اللَّه تعالى.
وقوله تعالى: {فَصُرْهُنَّ}، يقال: صُرْتُ الشَّيْءَ، أصُورُهُ، بمعنى: قطعته، ويقال أيضاً: صُرْتُ الشيْءَ، بمعنى: أَمَلْتُهُ، وقد تأوَّل المفسِّرون اللفظة بمعنى التقطيع، وبمعنى الإمالَةِ، وقد قال ابن عَبَّاس وغيره في هذه الآية: صُرْهُنَّ: معناه: قَطِّعْهُنَّ، وقال قتادة: صُرْهُنَّ: فَصِّلْهن، وقال عطاء بن أبي رَبَاح: صُرْهُنَّ: اضممهن، وقال ابن زيد: معناه: اجمعهن، وعن ابن عباس أيضاً: أوْثِقْهُن.
وقرأ قومٌ: {فَصُرَّهُنَّ}؛ بضم الصاد، وشدِّ الراء؛ كأنه يقول: فَشُدَّهُنَّ؛ ومنه: صُرَّة الدَّنَانِيرِ.