فصل: تفسير الآيات (272- 273):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (270- 271):

{وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)}
وقوله تعالى: {وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ...} الآية: يقال: نَذَرَ الرَّجُلُ كَذَا، إِذا التزم فعله.
وقوله تعالى: {فَإِنَّ الله يَعْلَمُهُ}. قال مجاهدٌ: معناه: يُحْصِيه، وفي الآيةِ وعْدٌ ووعيدٌ، أي: مَنْ كان خالص النيَّة، فهو مثابٌ، ومن أنْفَقَ رياءً أو لمعنًى آخَرَ ممَّا يكْشفه المَنُّ والأذى، ونحو ذلك، فهو ظالمٌ يذهب فعْلُه باطلاً، ولا يجد ناصراً فيه.
وقوله تعالى: {إِن تُبْدُواْ الصدقات فَنِعِمَّا هِيَ...} الآية: ذهب جمهورُ المفسِّرين إِلى أنَّ هذه الآيةَ في صدَقَةِ التطوُّع، قال ابن عبَّاس: جعل اللَّه صدَقَةَ السِّرِّ في التطوُّع تفضُلُ علانيتها، يقال: بسبعين ضِعْفاً، وجعل صدَقَةَ الفريضَةِ علانيتَهَا أفْضَلَ من سرِّها، يقال: بخَمْسَةٍ وعشْرين ضِعْفاً، قال: وكذلك جميعُ الفرائضِ والنوافلِ في الأشياء كلِّها.
* ع *: ويقوِّي ذلك قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «صَلاَةُ الرَّجُلِ فِي بَيْتِهِ أَفْضَلُ مِنْ صَلاَتِهِ فِي المَسْجِدِ إِلاَّ المَكْتُوبَة»، وذلك أن الفرائضَ لا يدْخُلُها رياءٌ، والنوافل عُرْضَةٌ لذلك، قال الطبريُّ: أجمعَ النَّاس على أن إِظهار الواجِبِ أفضلُ.
وقوله تعالى: {فَنِعِمَّا هِيَ}: ثناءٌ على إِبداء الصدقةِ، ثم حكم أنَّ الإِخفاء خيْرٌ من ذلك الإِبداءِ، والتقديرُ: نِعْمَ شيءٌ إِبداؤها، فالإِبداء هو المخصوصُ بالمدْحِ؛ وخرَّج أبو داود في سننه، عن أبي أُمَامَةَ، قال: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «انطلق بِرَجُلٍ إلى بَابِ الجَنَّةِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَإِذَا على بَابِ الجَنَّةِ مَكْتُوبٌ: الصَّدَقَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَالقَرْضُ الوَاحِدُ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ؛ لأنَّ صاحب القرضِ لا يأتيك إِلاَّ وهو محتاجٌ، والصدقةُ ربما وُضِعَتْ في غنيٍّ»، وخرَّجه ابن ماجة في سننه، قال: حدَّثنا عُبَيْدُ اللَّه بن عبد الكريمِ، حدَّثنا هشام بْنُ خالدٍ، حدَّثنا خالدُ بن يَزِيدَ بْنِ أبي مالكٍ، عن أبيه، عن أنس بن مالك، قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي على بَابِ الجَنَّةِ مَكْتُوبٌ: الصَّدَقَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَالقَرْضُ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ، فَقُلْتُ لِجِبْرِيلَ: مَا بَالُ القَرْضِ أَفْضَلُ مِنَ الصَّدَقَةِ؟ قَالَ: إِنَّ السَّائِلَ يَسْأَلُ وَعِنْدَهُ، وَالمُسْتَقْرِضُ لاَ يَسْتَقْرِضُ إِلاَّ مِنْ حَاجَةٍ» انتهى من التذكرة.
وقرأ ابن كثير وغيره: {ونُكَفِّرُ}؛ بالنون، ورفع الراء، وقرأ ابن عامر: {وَيُكَفِّرُ}، بالياء، ورفع الراء، وقرأ نافع وغيره: {وَنُكَفِّرْ}، بالنون، والجزمِ، فأما رفْع الراء، فهو على وجهين:
أحدهما: أن يكون الفعْلُ خبر ابتداءٍ، تقديره: ونحن نكفِّر، أو: واللَّه يكفر.
والثَّاني: القطع، والاستِئْناف، والواو لعطْفِ جملةٍ على جملةٍ، والجزمُ في الراءِ أفصحُ هذه القراءات؛ لأنها تؤذن بدُخُول التكفير في الجزاء، وكونه مشروطاً إِن وقع الإِخفاء، وأمَّا رفع الراءِ، فليس فيه هذا المعنى، و{مِنْ} في قوله: {مِّن سَيِّئَاتِكُمْ} للتبعيضِ المحْضِ، لا أنها زائدةٌ؛ كما زعم قومٌ، {والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}: وعدٌ ووعيدٌ.

.تفسير الآيات (272- 273):

{لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272) لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)}
وقوله تعالى: {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ...} الآية: وَرَدَتْ آثار أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم مَنَعَ فُقَرَاء أهْلِ الذمَّة من الصَّدَقَة، فنزلَتِ الآية مبيحةً لهم، وذكر الطبريُّ؛ أن مَقْصِدَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بِمَنْعِ الصدَقة، إِنَّما كان ليُسْلِمُوا، ولِيَدْخُلُوا في الدِّين، فقال اللَّه سبحانه: {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ}، قال * ع *: وهذه الصدقةُ التي أبيحَتْ لهم حسبَمَا تضمَّنته هذه الآثار، إِنما هي صدقة التطوُّع، وأما المفروضة، فلا يجزئ دفعها لكَافِرٍ، قال ابن المُنْذِرِ: إِجماعاً فيما عَلِمْتُ، وقول المَهْدَوِيِّ: إباحتها هذه الآية مردودٌ، قال ابن العَرَبِيِّ، وإِذا كان المُسْلِمُ يترك أركان الإِسْلاَم من الصَّلاة، والصيام، فلا تُصْرَفُ إِلَيْه الصدقة؛ حتى يتُوبَ، وسائرُ المعاصِي تُصْرَف الصدَقَةُ إلى مرتكبيها؛ لدخولِهِمْ في اسم المسلمين. انتهى من الإِحكام، ويعني بالصدقةِ المفروضةَ، والهدى الَّذي ليس على نَبيِّنا صلى الله عليه وسلم هو خَلْق الإِيمان في قلوبهم، وأما الهُدَى الذي هو الدعاءُ، فهو علَيْه صلى الله عليه وسلم، وليس بمراد في هذه الآية.
ثم أخبرَ سُبْحَانه؛ أنه يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، وفي الآية ردٌّ على القدريَّة وطوائفِ المعتزلةِ، ثم بيَّن تعالى؛ أنَّ النفقة المقبولَةَ ما كان ابتغاءَ وَجْهِ اللَّهِ.
وفي الآية تأويلٌ آخرُ، وهو أنها شهادة مِنَ اللَّهِ تعالى للصحابةِ؛ أنهم إِنما ينفقون ابتغاءَ وَجُه اللَّه سبحانه، فهو خَبَر منه لهم فيه تفضيلٌ، {وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ}، أي: في الآخرة، وهذا هو بيانُ قوله: {وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأَنفُسِكُمْ}، والخير هنا: المالُ؛ بقرينة الإِنفاق، ومتى لم يقترن بما يدلُّ على أنَّه المال، فلا يلزم أن يكون بمعنى المال، وهذا الذي قلْناه تحرُّزاً من قول عِكْرِمَةَ: كُلَّ خَيْرٍ في كتابِ اللَّهِ، فهو المالُ.
وقوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الذين أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ الله...} الآية: التقديرُ: الإِنفاق أو الصدقةُ للفقراءِ، قال مجاهد وغيره: المرادُ بهؤلاءِ الفقراءِ فقراءُ المهاجرينَ من قريشٍ وغيرهم.
* ع *: ثم تتناول الآيةُ كلَّ مَنْ دخل تحْتَ صفة الفَقْر غابِرَ الدَّهْر، ثم بيَّن اللَّه سبحانه من أحْوَالِ أولئك الفقراءِ المهاجِرِينَ ما يُوجِبُ الحُنُوَّ عليهم بقوله: {الذين أُحْصِرُواْ فِي سَبِيلِ الله}، والمعنى: حُبِسُوا، ومُنِعُوا، وتأوَّل الطبريُّ في هذه الآية؛ أنهم هم حَابِسُوا أَنُفُسِهِمْ بِرِبْقَة الدِّيْن، وقصد الجهاد، وخَوْفِ العَدُوِّ، إِذ أحاط بهم الكُفْر، فصار خوف العدو عذْراً أحْصِروا به.
* ع *: كأنَّ هذه الأعذار أحصرتْهم، فالعدُوُّ وكلُّ محيطٍ يحصر، وقوله: {فِي سَبِيلِ الله} يحتملُ الجهادَ، ويحتمل الدخولَ في الإِسلام، والضَّرْبُ في الأرض: هو التصرُّف في التجارة، وكانُوا لا يستطيعونَ ضَرْباً في الأرض؛ لكون البلادِ كلِّها كفْراً مطبقاً، وهذا في صدْر الهجْرة، وكانوا- رضي اللَّه عنهم- من الانقباض، وترْكِ المسألةِ، والتوكُّلِ على اللَّه تعالى؛ بحيث يحسبهم الجاهلُ بباطنِ أحوالهم أغنياءَ.
* ت *: واعلم أنَّ المواساة واجبةٌ، وقد خرَّج مسلمٌ وأبو داود عن أبي سعيدٍ الخدري، قال: بَيْنَمَا نَحْنُ فِي سَفَرٍ، مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذْ جَاءَ رَجُلٌ على راحِلَةٍ، فَجَعَلَ يَصْرِفُ بَصَرَهُ يَمِيناً وَشَمَالاً، فَقَالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ، فَلْيَعُدْ بِهِ على مَنْ لاَ ظَهْرَ لَهُ، وَمَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ زَادٍ فَلْيَعُدْ بِهِ على مَنْ لاَ زَادَ لَهُ»، قَالَ: فَذَكَرَ مِنْ أَصْنَافِ المَالِ مَا ذَكَرَ؛ حتى رُئِينَا أنَّهُ لاَ حَقَّ لأَحَدَ مِنَّا فِي فَضْلٍ انتهى.
و{التعفف}: تفعُّلٌ، وهو بناءُ مبالغةٍ من: عَفَّ عن الشيْءِ، إِذا أمْسَك عنْه، وتنزَّه عن طَلَبه، وبهذا المعنى فسره قتادةُ وغيره.
* ت *: مَدَح اللَّه سبحانه هؤُلاءِ السَّادَةَ على ما أعطاهم من غنى النفْسِ، وفي الحديثِ الصحيحِ: «لَيْسَ الغنى عَنْ كَثْرَةِ المَالِ، وَإِنَّمَا الغنى غِنَى النَّفْسِ» وقد صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم؛ أنَّهُ قَالَ: «اللَّهُمَّ، اجعل قُوتَ آلُ مُحَمَّدٍ كَفَافاً» أخرجه مسلم، وغيره، وعنْدِي أن المراد بالآلِ هنا متَّبِعُوه صلى الله عليه وسلم.
وفي سنن ابْن مَاجَة، عن أنسٍ، قال: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ غَنِيٍّ، وَلاَ فَقِيرٍ إِلاَّ وَدَّ يَوْمَ القِيَامَةِ أَنَّهُ أُوتِيَ مِنَ الدُّنْيَا قُوتاً»، وروى مسلم والترمذيُّ عن أبي أُمَامة، قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يَابْنَ آدَمَ، إِنَّكَ إِنْ تَبْذُلْ الفَضْلَ خَيْرٌ لَكَ، وَإِنْ تُمْسك شَرٌّ لَكَ، وَلاَ تُلاَمُ على كَفَافٍ، وابدأ بِمَنْ تَعُولُ، وَاليَدُ العُلْيَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السفلى»، قال أبو عيسى، واللفظ له: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. انتهى.
وقوله سبحانه: {تَعْرِفُهُم بسيماهم}: السِّيَما؛ مقصورة: العلامةُ، واختلف المفسِّرون في تعيينها، فقال مجاهد: هي التخشُّع والتواضُع، وقال الربيعُ، والسُّدِّيُّ: هي جهد الحاجة، وقَضَفُ الفقر في وجوههم، وقلَّة النعمة، وقال ابن زَيْد: هي رِثَّة الثياب، وقال قوم، وحكاه مكِّيٌّ: هي أثر السجود، قال * ع *: وهذا حسنٌ، وذلك لأنهم كانوا متفرِّغين متوكِّلين، لا شُغْل لهم في الأغلب إِلاَّ الصَّلاة، فكان أثَرُ السُّجود علَيْهم أبداً، والإِلحافُ، والإِلحاح بمعنى، قال * ع *: والآيةُ تحتملُ معنيين.
أحدهما: نفْي السؤال جملة، وهذا هو الذي عليه الجمهورُ؛ أنهم لا يسألون البَتَّة.
والثاني: نَفْي الإِلحاف فقَطْ، أي: لا يظهر لهم سؤال، بل هو قليل وبإِجمال.
* ت *: وهذا الثاني بعيدٌ من ألفاظ الآية، فتأمَّله.
* ت *: وينبغى للفقيرِ أنْ يتعفّف في فَقْره، ويكتفي بعلْمِ ربِّه، قال الشيخُ ابن أبي جَمْرة: وقد قال أهْلُ التوفيق: مَنْ لَمْ يَرْضَ باليسيرِ، فهو أسير.
انتهى، وذكر عبد الملكِ بْنُ محمَّدِ بْنِ أبي القَاسِم بْن الكَرْدَبُوسِ في الاكتفاء فِي أخبار الخُلَفَاء، قال: وتكلَّم علي بن أبي طالب- رضي اللَّه عنه- بتسْعِ كلماتٍ، ثلاثٌ في المناجاةِ، وثلاثٌ في الحكمة، وثلاثٌ في الآداب؛ أمَّا المناجاة، فقال: كَفَانِي فَخْراً أَنْ تَكُونَ لِي رَبًّا، وكَفَانِي عِزًّا أَنْ أَكُونَ لَكَ عَبْداً، وَأَنْتَ كَمَا أُحِبُّ، فاجعلني كَمَا تُحِبُّ، وَأَمَّا الحِكْمَةُ، فَقَالَ: قِيمَةُ كُلِّ امرئ مَا كَانَ يُحْسِنُهُ، وَمَا هَلَكَ امرؤ عَرَفَ قَدْرَ نَفْسِهِ، وَالمَرْءُ مَخْبُوءٌ تَحْتَ لِسَانِهِ، وَأَمَّا الآدَابُ، فَقَالَ: استغن عَمَّنْ شِئْتَ، فَأَنْتَ نَظِيرُهُ، وَتَفَضَّلْ على مَنْ شِئْتَ، فَأَنْتَ أَمِيرُهُ، واضرع إلى مَنْ شِئْتَ، فَأَنْتَ أَسِيرُهُ. انتهى.
ولما كانتِ السيما تدلُّ على حال صاحبِها، ويعرف بها حاله، أقامَها اللَّه سبحانه مُقَامَ الإِخبار عن حَالِ صاحبِها، فقال: {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ}، وقد قال الشيخُ العارفُ باللَّهِ صاحبُ الكَلِمِ الفارقيَّة والحِكَمِ الحقيقيَّة: كلُّ ما دلَّ على معنًى، فقد أخبر عنه، ولو كان صامتاً، وأشار إليه، ولو كان ساكتاً، لكنَّ حصول الفهْمِ والمعرفةِ بحَسَب اعتبار المعتَبِرِ، ونَظَر المتأمِّل المتدبِّر. انتهى.
قال * ع *: وفي الآية تنبيهٌ على سوء حالة من يسأل النَّاسَ إِلحافاً، وقال: * ص *: وقوله تعالى: {لاَ يَسْئَلُونَ الناس إِلْحَافاً}، إِذا نُفِيَ حُكْمٌ مِنْ محكومٍ عليه بقَيْدٍ، فالأكثر في لسانهم انصراف النفْيِ إلى ذلك القيدِ، فالمعنى على هذا: ثبوتُ سؤالهم، ونَفْي الإِلحاح، ويجوز أنْ ينفي الحُكْم، فينتفي ذلك القَيْد، فينتفي السؤالُ والإِلحاح، وله نظائر. انتهى.
وقوله تعالى: {وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ}: وعدٌ محضٌ، أي: يعلمه، ويحصيه؛ ليجازي عليه، ويثيب.

.تفسير الآيات (274- 277):

{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274) الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277)}
وقوله تعالى: {الذين يُنفِقُونَ أموالهم باليل والنهار...} الآية: قال ابْنُ عَبَّاس: نزلَتْ هذه الآية في عليِّ بن أبِي طَالِبٍ- رضي اللَّه عنه- كانَتْ لِه أربعةُ دراهِمَ، فتصدَّق بدرهمٍ لَيْلاً، وبدرهمٍ نَهَاراً، وبدرهمٍ سرًّا، وبدرهمٍ علانيةً، وقال قتادةُ: نزلَتْ في المنْفِقِينَ في سبيل اللَّه مِنْ غَيْر تبذيرٍ ولا تقتيرٍ، قال * ع *: والآية، وإنْ كانَتْ نزلَتْ في عليٍّ- رضي اللَّه عنه- فمعناها يتناولُ كُلَّ مَنْ فعل فِعْلَه، وكلَّ مشَّاءٍ بصدَقَته في الظلم إِلى مَظِنَّةِ الحاجة.
وقوله تعالى: {الذين يَأْكُلُونَ الربا} {الربا}: هو الزيادةُ، مأخوذ من: رَبَا يَرْبُو، إِذا نَمَا، وزاد على ما كان، وغالبه: ما كانت العربُ تفعله من قولها للغريم: أَتَقْضِي، أَمْ تُرْبِي، فكان الغريم يزيدُ في عدد المالِ، ويصبر الطالب عليه، ومن الربا البيِّن التفاضُلُ في النوع الواحِدِ؛ وكذلك أكثر البيوعِ الممنوعَة، إِنما تجد منْعها لمعنى زيادةٍ؛ إِما في عينِ مالٍ، أو في منفعةٍ لأحدهما مِنْ تأخيرٍ ونحوه، ومعنى الآية: الذين يكْسِبُون الربا، ويفعلونه، وإِنما قصد إِلى لفظة الأكْل؛ لأنها أقوى مقاصدِ الناسِ في المَالِ، قال ابن عبَّاس وغيره: معنَى قوله سبحانه: {لاَ يَقُومُونَ}، أي: من قبورِهِمْ في البَعْثِ يوم القيامة إِلاَّ كما يقومُ الَّذي يتخبَّطه الشيطانُ من المَسِّ، قالوا: كلُّهُم يُبْعَثُ كالمَجْنُونِ؛ عقوبةً له وتمقيتاً عند جميع المَحْشَرِ؛ ويقوِّي هذا التأويلَ المجْمَع علَيْه أنَّ في قراءة عبد اللَّه بن مسعود: «لاَ يَقُومُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ».
وقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا البيع مِثْلُ الربا} معناه؛ عند جميع المتأولين: في الكفار، وأنه قول بتكذيب الشريعة، والآية كلُّها في الكفار المُرْبِينَ، نزلَتْ، ولهم قيلَ: {فَلَهُ مَا سَلَفَ}، ولا يقال ذلك لمؤمنٍ عاصٍ، ولكن يأخذ العصاة في الربا بطرف من وعيدِ هذه الآيةِ، ثم جزم اللَّه سبحانه الخَبَر في قوله: {وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الربا}، قيل: هذا من عموم القُرآن المخصَّص، وقيل: من مُجْمَلِهِ المبيَّن، قال جعفر بن محمَّدٍ الصَّادِقُ: وحرم اللَّه الربَا؛ ليتقارض النَّاسُ.
وقوله تعالى: {فَلَهُ مَا سَلَفَ}، أي: من الربا؛ لا تباعة علَيْه في الدنيا والآخرة، وهذا حكْمٌ مِنَ اللَّه سبحانه لِمَنْ أسلم من الكفار، وفي قوله تعالى: {وَأَمْرُهُ إِلَى الله} أربعُ تأويلات:
أحدها: أمْرُ الربا في إِمرار تحريمه وغير ذلك.
والثاني: أمر ما سَلَف، أي: في العفْوِ وإِسقاطِ التَّبَعَةِ فيها.
والثالث: أنَّ الضمير عائدٌ على ذي الربا؛ بمعنى: أمره إِلى اللَّه في أنْ يثبته على الاِنتهاء أو يعيدَهُ إِلى المعصية.
والرابع: أنْ يعود الضميرُ على المنتهى، ولكنْ بمعنى التأنيسِ له، وبَسْط أمله في الخَيْر.
وقوله تعالى: {وَمَنْ عَادَ}، يعني: إِلى فِعْلِ الربا، والقولِ؛ إِنما البيعُ الرِّبَا، والخلودُ في حق الكافر: خلودُ تأبيدٍ حقيقيّ، وإِن لحظنا الآيةَ في مُسْلمٍ عاصٍ، فهو خلودٌ مستعارٌ على معنى المبالغة.
وقوله تعالى: {يَمْحَقُ الله الربا وَيُرْبِي الصدقات}، {يَمْحَقُ}: معناه: ينقص، ويذهب؛ ومنه: مِحَاقُ القَمَرِ، وهو انتقاصه، {وَيُرْبِي الصدقات}: معناه: ينميها، ويزيد ثوابها تضاعفاً، تقولُ: رَبَتِ الصدقةُ، وأرْبَاهَا اللَّه تعالى، وربَّاهَا، وذلك هو التضعيفُ لمن يشاء؛ ومنه قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم «إِنَّ صَدَقَةَ أَحَدِكُمْ لَتَقَعُ فِي يَدِ اللَّهِ تعالى، فَيُرَبِّيهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ أوْ فَصِيلَهُ؛ حتى تَجِيءَ يَوْمَ القِيَامَةِ، وإِنَّ اللُّقْمَةَ لعلى قَدْرِ أُحُدٍ». قال * ع *: وقد جعل اللَّه سبحانه هذَيْن الفعلَيْن بعَكْس ما يظنُّه الحريصُ الجَشِيعُ من بني آدم؛ إِذ يظن الربا يغنيه، وهو في الحقيقة مُمْحَقٌ، ويظن الصدَقَةَ تُفْقِرُه، وهي في الحقيقة نماءٌ في الدنيا والآخرة، وعن يزيدَ بْنِ أبي حَبِيبٍ؛ أن أبا الخَيْرِ حدَّثه؛ أنَّه سمع عقبة ابن عَامِرٍ يقولُ: سَمِعْتُ رسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «كُلُّ امرئ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ؛ حتى يُفْصَلَ بَيْنَ النَّاسِ» أوْ قَالَ: «حتى يُحْكَمَ بَيْنَ النَّاسِ»، قال يزيد: وكان أبو الخَيْرِ لاَ يُخْطِئُهُ يَوْمٌ لاَ يَتَصَدَّقُ بِشَيْءٍ فِيهِ، وَلَوْ كَعْكَةٍ أَوْ بَصَلَةٍ، قال الحاكم: صحيحٌ على شرط مسلمٍ، ولم يخرِّجاه، يعني: البخاريَّ ومسلماً. انتهى من الإلمام في أحاديث الأحكام؛ لابن دقيقِ العيدِ.
قال الشيخُ ابن أبي جَمْرَة: ولا يُلْهَمُ لِلصدقةِ إِلاَّ مَنْ سبقَتْ له سابقةُ خَيْر. انتهى.
قال أبو عمر في التمهيد: وروي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؛ أنَّهُ قَالَ: «مَا أَحْسَنَ عَبْدٌ الصَّدَقَةَ إِلاَّ أَحْسَنَ اللَّهُ الخِلاَفَةَ على بَنِيهِ، وَكَانَ فِي ظِلِّ اللَّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ، وحُفِظَ فِي يَوْمِ صَدَقَتِهِ مِنْ كُلِّ عَاهَةٍ وَآفَةٍ» انتهى.
وروى أبو داود في سننه، أنَّ سَعْدَ بْنَ عْبَادَةَ، قَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أُمَّ سَعْدٍ مَاتَتْ، فَأَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: المَاءُ، فَحَفَرَ بئْراً، وَقَالَ: هَذِهِ لأُمِّ سَعْدٍ». وروى أبو داود في سننه، عن أبي سعيدٍ، عَنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَيُّمَا مُسْلِمٍ كَسَا مُسْلَماً ثَوْباً على عُرْيٍ، كَسَاهُ اللَّهُ مِنْ خُضْرِ الجَنَّةِ، وأَيُّمَا مُسْلِمٍ أَطْعَمَ مُسْلِماً على جُوعٍ، أَطْعَمَهُ اللَّهُ مِنْ ثِمَارِ الجَنَّةِ، وَأَيُّمَا مُسْلِمٍ سقى مُسْلِماً على ظَمَإٍ، سَقَاهُ اللَّهُ مِنَ الرَّحِيقِ المَخْتُومِ» انتهى.
وقوله تعالى: {والله لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} يقتضي الزجْرَ للكفَّارِ المستحلِّين للربا، ووصْف الكَفَّار ب {أثيم} إِما مبالغةٌ من حيثُ اختلف اللفظانِ، وإِما ليذهب الاشتراكُ الذي في {كَفَّار}؛ إِذ قد يقع على الزَّارِعِ الذي يستر الحَبَّ في الأرض، قاله ابنُ فُورَكَ.
ولما انقضى ذكْر الكافرين، عقَّب سبحانه بذكْرِ ضدِّهم؛ ليبين ما بين الحالَتَيْنِ، فقال: {إِنَّ الذين ءَامَنُواْ...} الآية، وقد تقدَّم تفسير مثل هذه الألفاظ.