فصل: تفسير الآيات (29- 30):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (29- 30):

{وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30)}
وقوله سبحانه: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ} استعارةٌ لليد المقبوضةِ عن الانفاق جملةً، واستعير لليد التي تستنفِذُ جميعَ ما عنْدها غايةَ البَسْطِ ضِدّ الغُلِّ، وكلُّ هذا في إِنفاق الخير، وأما إِنفاق الفساد، فقليله وكثيره حرامٌ، أو الملامة هنا لاحقةٌ ممن يطلب من المستحقين، فلا يجدُ ما يعطى، والمحسورُ الذي قد استنفدَتْ قوته، تقولُ: حَسَرْتُ البَعِيرَ؛ إِذا أتْعَبْتَهُ حتى لم تَبْقَ له قوة؛ ومنه البَصَرِ الحَسِير.
قال ابنُ العربيِّ وهذه الآية خطابٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، والمراد أمته، وكثيراً ما جاء هذا المعنى في القرآن، فإِن النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا كان سيِّدَهم وواسطَتَهم إِلى ربِّهم، عبِّر به عنهم، على عادة العرب في ذلك. انتهى من الأحكام، والحسير: هو الكالُّ.
{إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} معنى {يَقْدِرُ} يضيِّق.
وقوله سبحانه: {إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا}، أي: يعلم مصلحة قَوْمٍ في الفقر، ومصلحةَ آخرين في الغنى.
وقال بعضُ المفسِّرين: الآية إِشارةٌ إِلى حال العرب التي كانَتْ يصلحها الفَقْرَ، وكانت إِذا شبعتْ، طَغَتْ.
* ت *: وهذا التأويلُ يَعْضُدُهُ قوله تعالى: {وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي الأرض} [الشورى: 27] ولا خصوصيَّة لذكْر العرب إِلا مِنْ حيث ضَرْبُ المَثَلَ.

.تفسير الآيات (31- 35):

{وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31) وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32) وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35)}
وقوله سبحانه: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إملاق...} الآية: نَهْيٌ عن الوأْدِ الذي كانت العرب تفعله، والإِملاق. الفقر وعَدَم المال، وروى أبو داود عن ابن عباس، قال: قال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَانَتْ لَهُ ابْنَةٌ فَلمْ يَئِدْهَا، ولَمْ يُهِنْهَا، وَلَمْ يُؤثِرْ وَلَدَهُ عَلَيْهَا- قال: يَعْني الذُّكُورَ- أدْخَلَهُ اللَّهُ الجَنة» انتهى. والحق الذي تُقْتَلُ به النفس: قد فسَّره النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: «لاَ يُحِلُّ دَمَ المُسْلِمِ إلاَّ إحْدَى ثَلاَثِ خِصَالٍ: كُفْرُ بَعْدَ إِيمَانٍ، أو زناً بَعْدَ إِحْصَانٍ، أوْ قَتْلُ نَفْسٍ» أي: وما في هذا المعنى مِنْ حرابةٍ أو زندقةً ونحو ذلك.
{وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا} أي: بغير الوجوه المذكورة، {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سلطانا}، ولا مدخل للنساء في ولاية الدَّمِ؛ عند جماعة من العلماءِ، ولهنَّ ذلك عند آخرين، والسلطان: الحجة والملك الذي جُعِلَ إِليه من التخيير في قبول الدية أو العفو؛ قاله ابن عبَّاس. قال البخاريُّ: قال ابن عباس: كلُّ سلطانٍ في القرآن فهو حُجَّة. انتهى، وقال قتادةُ: السلطان القود.
وقوله سبحانه: {فَلاَ يُسْرِف فِّي القتل} المعنى: فلا يَتَعَدَّ الوليُّ أمْرَ اللَّه بأنْ يقتل غير قاتِلِ وليِّه، أو يقتل اثنين بواحدٍ إلى غير ذلك من وجوه التعدِّي، وقرأ حمزة والكسائيُّ، وابن عامر: {فَلاَ تُسْرِفْ}- بالتاء من فوق-، قال الطبري: على الخطاب للنبيِّ صلى الله عليه وسلم والأئمة بعده.
قال * ع *: ويصحَّ أنْ يراد به الوليُّ، أي: فلا تسرفْ أيُّها الولي، والضميرُ في إِنه عائدٌ على الوليِّ، وقيل: على المقتول، وفي قراءة أبي بن كعب: {فَلاَ تُسْرُفوا في القِتَال إِنَّ وليَّ المَقْتُول كانَ مَنْصُوراً}، وباقي الآية تقدَّم بيانه، قال الحسن: {القِسْطَاسِ} هو القَبَّان، وهو القرسطون، وقيل: {القِسْطَاسِ}: هو الميزانُ، صغيراً كان أو كبيراً.
قال * ع *: وسمعت أبي رحمه الله تعالى يَقُولُ: رأيْتُ الواعِظَ أبا الفضْلِ الجَوْهَرِيَّ رحمه الله في جامعِ عمرو بن العاص يعظُ النَّاسَ في الوزْن، فقال في جملة كلامه: إِن في هيئة اليَدِ بالميزانِ عِظَةً، وذلك أنَّ الأصابعَ يجيءُ منها صُوَرةُ المكتوبة ألف ولامَانِ وهاء، فكأنَّ الميزان يقولُ: اللَّه، اللَّه.
قال * ع *: وهذا وعظٌ جميلٌ، والتأويل، في هذه الآية المآلُ؛ قال قتادة، ويحتمل أنْ يكون التأويلُ مصدر تأولَّ، أي: يتأول عليكم الخَيْر في جميع أموركم، إِذا أحسنتم الكيلَ والوَزْن.
وقال * ص *: {تَأْوِيلاً} أي: عاقبةً انتهى.

.تفسير الآيات (36- 38):

{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36) وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38)}
وقوله سبحانه: {وَلاَ تَقْفُ} معناه لا تقُلْ ولا تتَّبع، واللفظة تستعملُ في القَذْف؛ ومنه قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «نَحْنُ بَنُو النَّضْرِ لاَ نَقْفُوا أُمَّنَا، وَلاَ نَنْتِفى مِنْ أَبِينَا»، وأصل هذه اللفظة من اتباع الأثر، تقول: قَفَوْتُ الأَثَرَ، وحكى الطبريُّ عن فرقةٍ؛ أنها قالَتْ: قَفَا وقَافَ، مثل عَثَا وعَاث، فمعنى الآية: ولا تتبع لسانَكَ من القول من ما لا عِلْمَ لك به، وبالجملة: فهذه الآية تنهى عن قول الزور والقذفِ وما أشبه ذلك من الأقوال الكاذبة والمُرْدِيَة.
{إِنَّ السمع والبصر والفؤاد كُلُّ أولئك كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً} عبَّر عن هذه الحواسِّ ب {أولئك}. لأن لها إدراكاً وجعلها في هذه الآية مسؤولة، فهي حالَةُ مَنْ يعقل.
* ت *: قال * ص *: وما توهمه ابنُ عطية {أولئك} تختصُّ بمن يعقل ليس كذلك؛ إِذ لا خلاف بين النحاة في جواز إطلاق أولاء وأولئك على مَنْ لا يعقل.
* ت *: وقد نقل * ع * الجَوَازَ عن الزَّجَّاجِ وفي ألفِيَّةِ ابْنِ مالك: [الرجز]
وبأولى أَشِرْ لِجَمْعٍ مُطْلَقَا

فقال والده بدر الدين: أي سواءٌ كان مذكَّراً أو مؤنَّثاً، وأكثر ما يستعمل فيمن يعقل، وقد يجيء لغيره؛ كقوله: [الكامل]
ذُمَّ المَنَازِلَ بَعْدَ مَنْزِلَةِ اللِّوَى ** والعَيْشَ بَعْدَ أُوَلئِكَ الأَيَّامِ

وقد حكى * ع * البيْتَ، وقال: الرواية فيه الأقوامِ، واللَّه أعلم انتهى.
والضمير في {عَنْهُ} يعودُ على ما ليس للإِنسان به عِلْم، ويكون المعنى: إِن اللَّه تعالى يَسْأَل سَمْعَ الإِنسان وبَصَره وفُؤَاده عمَّا قال مما لاَ عْلَم له به، فيقع تكذيبه مِنْ جوارحه، وتلك غايةُ الخزْي، ويحتمل أنْ يعود على {كُلٌّ} التي هي السمْعُ والبصر والفؤاد، والمعنى: إن اللَّه تعالى يسأل الإِنسان عما حواه سمعه وبصره وفؤاده.
قال صاحبُ الكَلِمِ الفَارِقِيَّة: لا تَدَعْ جَدْوَلَ سمِعْكَ يجرى فيه أُجَاج الباطل؛ فيلهب باطنك بنار الحِرْص على العاجل، السَّمْعُ قُمْعٌ تغور فيه المعاني المَسْمُوعة إِلى قرار وعاء القَلْب، فإنْ كانَتْ شريفةً لطيفةً، شرَّفَتْه ولطَّفَتْه وهذَّبَتْه وزكَّتْه، وإِن كانَتْ رذيلةً دنيَّةً، رذَّلَتْه وخبَّثَتْه، وكذلك البصَرُ منْفُذٌ مِنْ منافذ القَلْبِ، فالحواسُّ الخمْسُ كالجداول والرواضِعِ تَرْضَعُ من أثداءِ الأشياء التي تُلاَبِسُها، وتأخذ ما فيها من معانيها وأوصافها، وتؤدِّيها إلى القَلْب وتنهيها. انتهى.
وقوله سبحانه: {وَلاَ تَمْشِ فِي الأرض مَرَحًا} قرأ الجمهور {مَرَحاً} بفتح الحاء مصدر: مَرِحَ يَمْرَحُ؛ إِذا تسيَّب مسروراً بدنياه، مقبلاً على راحته، فنُهِيَ الإِنسانُ أنْ يكون مشيه في الأرض على هذا الوجه، وقرأت فرقةٌ: {مَرِحاً} بكسر الراء، ثم قيل له: إِنك أيها المَرِحُ المختال الفخورُ، لمن تَخْرِقَ الأرض، ولن تطاول الجبال بفخْرك وكبْرك، وخرق الأرض قَطْعها ومَسْحها واستيفاؤها بالمشْي.
وقوله سبحانهُ: {كُلُّ ذلك كَانَ سَيِّئُهُ} قرأ نافعٌ وابن كثير وأبو عمرو: {سَيِّئَةً} فالإِشارة بذلك على هذه القراءةِ إلى ما تقدَّم ذكره مما نهي عنه كقوله: {أُفٍّ} [الإسراء: 23] وقذف الناس، والمَرَحِ، وغيرِ ذلك، وقرأ عاصم وابن عامرٍ وحمزةُ والكسائيُّ {سَيِّئُهُ} على إضافة سَيِّئ إلى الضمير، فتكون الإِشارة؛ على هذه القراءة إلى جميع ما ذَكَرَ في هذه الآيات؛ من بِرٍّ ومعصيةٍ، ثم اختص ذكْر السَّيِّئ منه، بأنه مكروه عند الله تعالى.

.تفسير الآيات (37- 40):

{وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38) ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39) أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40)}
وقوله سبحانه: {ذلك مِمَّا أوحى إِلَيْكَ رَبُّكَ...} الآية: الإِشارةُ ب {ذلك} إلى هذه الآداب التي تضَّمنتها هذه الآياتُ المتقدِّمة، و{الحكمة} قوانينُ المعاني المُحِكَمة، والأفْعَالِ الفاضلة.
* ت *: فينبغي للعاقل أنْ يتأدَّب بآداب الشريعة، وأنْ يحسن العشرْة مع عَبادِ اللَّه، قال الإِمام فَخْرُ الدِّين ابْنُ الخَطِيب في شرح أسماء اللَّه الحسَنى كان بعضُ المشايِخِ يقولُ: مَجَامِعُ الخَيْرَاتِ محصُورَةٌ في أمرَيْنِ صِدْقٍ مَعَ الحَقِّ، وخُلُقٍ مع الخَلْقِ انتهى، وذكر هشامُ بنُ عبْدِ اللَّهِ القرطبيُّ في تاريخه المسمَّى ب بهجة النَّفْسَ، قال: دخَلَ عبدُ الملكِ بْنُ مَرْوَانَ على معاويةَ، وعنده عَمْرُو بن العاصِي، فلم يَلْبَثْ أنْ نَهَضَ، فقال معاوية لعمْرٍو: ما أكْمَلَ مُرُوءَةَ هذا الفتى! فقال له عمرو: إنه أخذ بأخْلاَقٍ أربعةٍ، وترك أخلاقاً ثلاثةً، أخذ بأحْسَنِ البشر إِذا لقي، وبأحْسن الاستماع إِذا حُدِّثَ، وبأحْسَنِ الحديثِ إِذَا حَدَّث، وبأحسنِ الرَّدِّ إِذا خولِفَ، وتركَ مُزَاحَ من لا يُوثَقُ بعقله، وتَرَكَ مخالَطَةَ لِئَامِ النَّاس، وتَرَكَ مِنَ الحديثِ ما يُعْتَذَرُ منْه انتهى.
وقوله سبحانه: {وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ الله إلها آخَرَ...} الآية: خطابٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، والمراد غيره، والمدحورُ المهانُ المُبْعَدُ.
وقوله سبحانه: {أفأصفاكم...} الآية خطابٌ للعرب، وتشنيعٌ عليهم فَسَادَ قولهم.

.تفسير الآيات (41- 44):

{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41) قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آَلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)}
وقوله سبحانه: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هذا القرآن لِيَذَّكَّرُواْ}، أي صرَّفنا فيه الحِكَمَ والمواعظ.
وقوله سبحانه: {إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إلى ذِي العرش سَبِيلاً} قال سعيدُ بن جُبَيْر وغيره: معنى الكلام: لاَبْتَغَوْا إِليه سبيلاً في إِفساد مُلْكِهِ ومُضَاهَاته في قُدْرته، وعلى هذا: فالآية بيان للتمانُع، وجاريةٌ مع قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22].
قال * ع *: ونقتضب شيئاً من الدليل على أنه لا يجوزُ أَنْ يكونَ مَعَ اللَّهِ تبارَكَ وتعالى إله غيره؛ على ما قال أبو المَعَالي وغيره: أنا لو فَرَضَناه، لفَرَضْنا أن يريد أحدهما تسكينَ جِسْمٍ والآخرُ تحريكَهُ، ومستحيلٌ أن تنفذ الإِرادتانِ ومستحيلٌ ألاَّ تنفذَا جميعاً، فيكون الجسْمُ لا متحِّركاً، ولا ساكناً، فإِن صحَّت إِرادة أحدهما دون الآخر، فالذي لم تتمَّ إِرادته ليس بإله، فإِن قيل: نفرضهما لا يختلفانِ، قُلْنا: اختلافُهما جائزٌ غيرُ مُمْتَنعٍ عقلاً، والجائز في حُكْمِ الواقعِ، ودليلٌ آخر: أنَّه لو كان الاثنانِ، لم يمتنعْ أنْ يكونوا ثلاثةً، وكذلك ويتسلسل إِلى ما لا نهاية له، ودليلٌ آخر: أنَّ الجزء الذي لا يتجزَّأُ من المخترعات لا تتعلَّق به إِلا قدرةٌ واحدةٌ لا يصحُّ فيها اشتراك، والآخر كذلك دَأَباً، فكل جزءٍ إنما يخترعه واحدٌ، وهذه نبذة شرحُهَا بحَسَبِ التقصِّي يطولُ.
وقوله سبحانه: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ...} الآية: اختلف في هذا التسبيح، هل هو حقيقةٌ أو مجاز، * ت *: والصوابُ أنه حقيقة، ولولا خشية الإطالة، لأتينا من الدلائل على ذلك بما يُثْلِجُ له الصَّدر.

.تفسير الآيات (45- 47):

{وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآَنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47)}
وقوله سبحانه: {وَإِذَا قَرَأْتَ القرآن جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالأخرة} يعني كفَّارَ مكَّة و{حِجَابًا مَّسْتُورًا} يحتمل أن يريد به حمايةَ نبيِّه منهم وقْتَ قراءته وصلاتِهِ بالمَسْجد الحرام؛ كما هو معلوم مشهورٌ ويحتمل أنه أراد أنه جعل بين فَهْم الكفرة وبَيْنَ فَهْم ما يقرؤه صلى الله عليه وسلم حجاباً، فالآية على هذا التأويل: في معنى التي بعدها.
وقال الواحديُّ: قوله تعالى: {وَإِذَا قَرَأْتَ القرآن...} الآية: نزلَتْ في قومٍ كانوا يؤذون النبيَّ صلى الله عليه وسلم، إِذا قرأ القرآن فحَجَبَه اللَّه عن أعينهم عنْدَ قراءة القرآن، حتى يكونوا يَمُرُّونَ به ولا يَرَوْنَه.
وقوله: {مَّسْتُورًا} معناه ساتراً انتهى.
والأكنَّة جمع كِنَان، وهو ما غطى الشيء، والوَقْرُ: الثِّقَل في الأُذُن، المانِعُ من السمعِ، وهذه كلُّها استعاراتٌ للإِضلالِ الذي حَفَّهم اللَّه به.
وقوله سبحانُهُ: {نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ...} الآية: هذا كما تقولُ: فلان يستمعُ بإِعراضٍ وتغافلٍ واستخفافٍ، وما بمعنى الذي، قيل: المراد بقوله: {وَإِذْ هُمْ نجوى} اجتماعُهم في دار الندوة، ثم انتشرتْ عنهم.

.تفسير الآيات (48- 51):

{انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48) وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51)}
قوله سبحانه: {انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال...} الآية: حكى الطبري أنها نزلَتْ في الوليدِ بْنِ المُغِيرة وأصحابه.
وقوله سبحانه: {فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً}، أي: إلى إِفساد أمرك وإِطفاء نورك، وقولهم: {أَءِذَا كُنَّا عظاما ورفاتا} الآية في إِنكارهم البَعْثَ، وهذا منهم تعجُّب وإنكار واستبعاد والرُّفَاتُ من الأشياء: ما مَرَّ عليه الزمانُ حتى بلغ غايةَ البِلَى، وقربه مِنْ حالة التُّرَابَ.
وقال ابن عباس: {رُفَاتاً} غباراً وقال مجاهد: تُرَاباً، وقوله سبحانه: {قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً...} الآية: المعنى: قل لهم، يا محمَّد، كونوا إِن استطعتم هذه الأشياءَ الصَّعبة الممتَنِعَةَ التأتِّي لابد من بعثكم، ثم احتَجَّ عليهم سبحانه في الإعادة بالفِطْرة الأولى من حيثُ خلقُهم واختراعهم من تُرَاب.
وقوله سبحانه: {فَسَيُنْغِضُونَ} معناه يرفعون ويُخْفِضُون، يريد على جهة التكذيب والاستهزاء. قال الزَّجَّاج: وهو تحريك مَنْ يبطل الشيء ويَسْتَبْطِئُهُ ومنه قول الشاعر: [الرجز]
أَنْغَضَ نَحْوِي رَأْسَهُ وَأَقْنَعَا ** كَأَنَّمَا أَبْصَرَ شَيْئاً أَطْمَعَا

ويقال: أَنْغَضَتِ السِّنُّ؛ إِذا تحرَّكَتْ، قال الطبري وابنُ سَلاَّمٍ: {عَسَى} من اللَّه واجبةٌ، فالمعنى: هو قريبٌ، وفي ضمن اللفْظِ توَّعد.