فصل: تفسير الآيات (30- 32):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (30- 32):

{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32)}
وقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً}: {إِذْ} ليست بزائدةٍ عند الجمهور، وإِنما هي معلَّقة بفعل مقدَّر، تقديره: واذكر إِذ قال، وإِضافةُ رَبٍّ إِلى محَّمدٍ صلى الله عليه وسلم، ومخاطبتُهُ بالكاف تشريفٌ منه سبحانه لنبيِّه، وإِظهار لاِختصاصه به، والملائكةُ: واحدها ملَكٌ، والهاء في ملائكة لتأنيث الجُموعِ غير حقيقيٍّ، وقيل: هي للمبالغة؛ كَعَلاَّمَةٍ وَنسَّابَةٍ، والأول أبين.
و{جَاعِلٌ}؛ في هذه الآية بمعنى خَالِقٍ، وقال الحسن وقتادة: جاعلٌ بمعنى فاعل، وقال ابن سابط عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الأَرْضَ هُنَا هِيَ مَكَّةُ؛ لأَنَّ الأَرْضَ دُحِيَتْ مِنْ تَحْتِهَا؛ وَلأنَّهَا مَقَرُّ مَنْ هَلَكَ قَوْمُهُ مِنَ الأَنْبِيَاءِ، وَأَنَّ قَبْرَ نُوحٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ بَيْنَ المَقَامِ وَالرُّكْنِ»
و{خَلِيفَةً}: معناه: من يخلف.
قال ابن عبَّاس: كانت الجن قبل بني آدم في الأرص، فأفسدوا، وسَفَكُوا الدماء، فبعث اللَّه إِليهم قبيلاً من الملائكة قتلهم، وألْحَقَ فَلَّهُمْ بجزائرِ البحار، ورؤوسِ الجبالِ، وجعل آدم وذريته خليفةً، وقال ابن مسعود: إنما معناه: خليفةٌ مني في الحُكْمِ.
وقوله تعالى: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا} الآيةَ: قد علمنا قطعًا أن الملائكة لا تعلم الغيْبَ، ولا تسبق القول، وذلك عَامٌّ في جميع الملائكة، لأن قوله تعالى: {لاَ يَسْبِقُونَهُ بالقول} [الأنبياء: 27] خرج على جهة المدح لهم، قال القاضي ابن الطَّيِّب: فهذه قرينة العموم، فلا يصح مع هذين الشرطَيْن إِلا أن يكون عندهم من إفساد الخليفة نبأٌ ومقدِّمة.
قال ابن زيد وغيره: إن اللَّه تعالى أعلمهم أن الخليفة سيكونُ من ذريته قومٌ يفسدونَ، ويسفكون الدماء؛ فقالوا لذلك هذه المقالةَ: إِما على طريق التعجُّب من استخلاف اللَّه من يعصيه، أو من عصيان من يستخلفُهُ اللَّهُ في أرضه وينعم علَيْه بذلك، وإِما على طريق الاِستعظامِ والإِكبار للفصلَيْن جميعاً؛ الاستخلاف، والعصيان.
وقال أحمد بن يَحْيَى ثَعْلَبٌ وغيره: إنما كانت الملائكة قد رأَتْ، وعلمت ما كان من إفساد الجِنِّ، وسفكهم الدماء في الأرض؛ فجاء قولهم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا...} الآية؛ على جهة الاستفهام المحض، هل هذا الخليفة يا ربَّنَا على طريقة من تقدَّم من الجِنِّ أم لا؟
وقال آخرون: كان اللَّه تعالى قد أعلم الملائكة؛ أنه يخلق في الأرضِ خلْقاً يفسدون، ويسفكون الدماء، فلما قال لهم سبحانه بعد ذلك: {إِنِّي جَاعِلٌ} قالوا: رَبَّنَا {أَتَجْعَلُ فِيهَا...} الآيةَ؛ على جهة الاسترشاد والاستعلام، هل هذا الخليفةُ هو الذي كان أعلمهم به سبحانه قبل، أو غيره؟ ونحو هذا في مختصر الطبريِّ، قال: وقولهم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا} ليس بإنكار لفعله عز وجلَّ وحكمه، بل استخبارٌ، هل يكون الأمر هكذا، وقد وجَّهه بعضهم بأنهم استعظموا الإِفسادَ وسفْكَ الدماء؛ فكأنهم سألوا عن وجه الحكمة في ذلك؛ إِذ علموا أنه عز وجل لا يفعل إِلا حكمة.
انتهى.
* ت *: والعقيدة أن الملائكة معصومون، فلا يقع منهم ما يوجب نقصانًا من رتبتهم، وشريف منزلتهم صلوات اللَّه وسلامُهُ على جميعهم والسفك صبُّ الدَّمِ، هذا عُرْفُه، وقولهم: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ}.
قال بعض المتأوّلين: هو على جهة الاستفهام؛ كأنهم أرادوا: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} الآيةَ، أم نتغير عن هذه الحال؟
قال * ع *: وهذا يحسن مع القول بالاستفهام المحْضِ في قولهم: {أَتَجْعَلُ}.
وقال آخرون: معناه: التمدُّح ووصف حالهم، وذلك جائز لهم؛ كما قال يوسُفُ: {إِنّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55]، وهذا يحسن مع التعجُّب والاستعظام؛ لأَِنْ يستخلف اللَّه من يعصيه في قولهم: {أَتَجْعَلُ}، وعلى هذا أدَّبهم بقوله تعالى: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}، ومعنى: {نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ}: ننزِّهك عما لا يليق بصفاتك، وقال ابن عبَّاس وابن مسعود: تسبيحُ الملائكةِ صلاتهم للَّه سبحانه، وقال قتادةُ: تسبيحهم قولهم: سبحانَ اللَّهِ؛ على عرفه في اللغة، و{بِحَمْدِكَ}: معناه نَصِلُ التسبيح بالحمدِ، ويحتمل أن يكون قولهم: {بِحَمْدِكَ} اعتراضا بين الكلامين؛ كأنهم قالوا: ونحن نسبِّح ونقدِّس، وأنت المحمود في الهداية إِلى ذلك، وخرَّج مسلم في صحيحه عن أبي ذَرٍّ؛ قال: قال لِي رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَلاَ أُخْبِرُكَ بِأَحَبِّ الكَلاَمِ إِلَى اللَّهِ تعالى؟ إِنَّ أَحَبَّ الكَلاَمِ إِلَى اللَّهِ تعالى: {سبحان الله وَبِحَمْدِهِ}»، وفي رواية: «سُئِلَ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وسلَّم، أَيُّ الكَلاَمِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: مَا اصطفى اللَّهُ لِمَلاَئِكَتِهِ أَوْ لِعِبَادِهِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ» وفي صحيحَي البخاريِّ ومسلم عن أبي هُرَيْرَة؛ قال: قال رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: «كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي المِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ العَظِيمِ» وهذا الحديثُ به ختم البخاريُّ رحمه اللَّه. انتهى.
{وَنُقَدِّسُ لَكَ}: قال الضَّحَّاك وغيره: معناه: نُطَهِّرُ أنفسنا لك؛ ابتغاء مرضاتك، والتقديسُ: التطهير بلا خلافٍ، ومنه الأرض المقدَّسة، أي: المطهَّرة، وقال آخرون: {وَنُقَدِّسُ لَكَ}: معناه: نقدِّسك، أي: نعظِّمك ونطهِّر ذكرك ممَّا لا يليقُ به، قاله مجاهد وغيره.
وقوله تعالى: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}.
قال ابن عبَّاس: كان إِبليس لعنه اللَّه قد أُعْجِبَ بنفسه، ودخله الكِبْرُ لما جعله اللَّه خَازِنَ السماء الدنيا، واعتقد أن ذلك لمزيَّة له، فلما قالت الملائكة: ونحن نسبِّح بحمدك ونقدِّس لك، وهي لا تعلم أنَّ في نفْسِ إِبليسَ خلافَ ذلك، قال اللَّه سبحانه: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} يعني ما في نفس إِبْلِيسَ.
وقال قتادة: لما قالتِ الملائكةُ: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا}، وقد علم اللَّه أنَّ في مَنْ يستخلفُ في الأرض أنبياءَ وفضلاءَ وأهلَ طاعةٍ، قال لهم: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}، يعني: أفعالَ الفضلاءِ.
وقوله تعالى: {وَعَلَّمَ ءَادَمَ الأسماء كُلَّهَا}: معناه: عرَّف، وتعليم آدم هنا عند قومٍ إِلهامُ علمه ضرورةً، وقال قوم: بل تعليمٌ بقولٍ؛ إما بواسطة مَلَكٍ، أو بتكليمٍ قبل هبوطه الأرضَ، فلا يشارك موسى عليه السلام في خَاصَّته.
* ت *: قال الشيخ العارفُ باللَّه عبد اللَّه بن أبي جَمْرَةَ: تعليمه سبحانه لآِدم الأسماء كلَّها، إِنما كان بالعلْم اللدنيِّ بلا واسطة. انتهى من كتابه الذي شرح فيه بعض أحاديث البخاريِّ، وكل ما أنقله عنه، فمنه، واختلف المتأوِّلون في قوله: {الأسماء}: فقال جمهور الأُمَّة: علَّمه التسميات، وقال قومٌ: عرض عليه الأشخاص، والأول أبين؛ ولفظة عَلَّمَ تعطي ذلك.
ثم اختلف الجمهورُ في أيِّ الأسماء علَّمه، فقال ابن عبَّاسٍ، وقتادة، ومجاهدٌ: علَّمه اسم كلِّ شيء من جميع المخلوقات؛ دقيقها، وجليلها، وقال الطبريُّ: علَّمه أسماء ذريته، والملائكة؛ ورجَّحه بقوله تعالى: {ثُمَّ عَرَضَهُمْ} وقال أكثر العلماء: عَلَّمه تعالى منافعَ كلِّ شيء، ولما يصلَح.
وقيل غير هذا.
واختلف المتأوِّلون، هل عرض على الملائكة أشخاص الأسماء أو الأسماء دون الأشخاص؟.
{وأَنْبِئُونِي}: معناه: أخبروني، والنبأ: الخبر، وقال قوم: يخرج من هذا الأمر بالإنباء تكليفُ ما لا يطاقُ، ويتقرَّر جوازه؛ لأنه سبحانه عَلِمَ أنهم لا يعلمون.
وقال المحقِّقون من أهل التأويل: ليس هذا على جهة التكليفِ، إِنما هو على جهة التقرير والتوقيف.
وقوله تعالى: {هَؤُلاَءِ} ظاهره حضورُ أشخاصٍ، وذلك عند العرض على الملائكة، وليس في هذه الآية ما يدلُّ أن الاسم هو المسمى؛ كما ذهب إِليه مَكِّيٌّ والمَهْدَوِيُّ.
والذي يظهر أن اللَّه تعالى علَّم آدم الأسماء، وعرض مع ذلك عليه الأجناس أشخاصاً، ثم عرض تلك على الملائكة، وسألهم عن تسمياتها التي قد تعلَّمها آدم، ثم إِن آدم قال لهم: هذا اسمه كذا، وهذا اسمه كذا.
{وهَؤُلاَءِ}: مبنيٌّ على الكسر، {وَكُنْتُمْ} في موضع الجزمِ بالشرْطِ، والجواب عند سيبويه: فيما قبله، وعند المبرِّد: محذوفٌ؛ تقديره: إِن كنتمْ صادِقِينَ، فَأَنْبِئوني، وقال ابن عبَّاس وابن مسعود وناسٌ من أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم: معنى الآية: إِنْ كنتم صادِقِينَ في أنَّ الخليفةَ يُفْسِدُ ويسفك.
* ت *: وفي النفس من هذا القول شيءٌ، والملائكة منزَّهون معصومون؛ كما تقدَّم، والصواب ما تقدَّم من التفسير عند قوله تعالى: {أَتَجْعَلُ فِيهَا...} الآية.
وقال آخرون: إِن كنتم صادِقِينَ في أنِّي إِن استخلفتكم، سبَّحتم بحَمْدِي، وقدَّستم لي.
وقال قوم: معناه: إن كنتم صادقين في جوابِ السؤالِ، عالمين بالأسماء.
و{سبحانك}: معناه تنزيهاً لك وتبرئةً أنْ يعلم أحدٌ من علمك إِلا ما علمته، والعَلِيمُ: معناه: العَالِمُ، ويزيد عليه معنى من المبالغةِ والتكثيرِ في المعلوماتِ، والحكيمُ: معناه: الحاكِمُ وبينهما مزية المبالغةِ، وقيل: معناه: المُحْكِمُ، وقال قوم: الحَكِيمُ المانعُ من الفساد، ومنه حَكَمَةُ الفرسِ مانعته.

.تفسير الآيات (33- 34):

{قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)}
وقوله تعالى: {قَالَ يَا ءَادَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ}: أَنْبِئْهُمْ: معناه: أخبرهم، والضمير في {أَنْبِئْهُمْ} عائدٌ على الملائكة بإجماعٍ، والضميرُ في {أَسْمَائِهِمْ} مختلَفٌ فيه حَسَبَ الاختلاف في الأسماء التي علَّمها آدم، قال بعض العلماء: إنَّ في قوله تعالى: {فَلَمَّا أَنبَأَهُم} نبوءةً لآدم عليه السلام؛ إِذ أمره اللَّه سبحانه أن ينبئ الملائكة بما ليس عندهم من علم اللَّه عز وجَلَّ.
وقوله تعالى: {أَعْلَمُ غَيْبَ السموات والأرض}: معناه: ما غاب عنكم؛ لأنَّ اللَّه تعالى لا يغيبُ عنه شيء، الكلُّ معلوم له.
واختلف في قوله تعالى: {مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ}.
فقال طائفة: ذلك على معنى العموم في معرفة أسرارهم وظواهرهم وبواطنهم أجمع، {وإِذْ} من قوله: {وَإِذْ قُلْنَا للملائكة} معطوفةٌ على {إذِ} المتقدِّمة، وقولُ اللَّه تعالى وخطابه للملائكةِ متقرِّر قديم في الأَزَلِ؛ بشرط وجودهم وفهمهم، وهذا هو الباب كله في أوامر اللَّه تعالى ونواهيه ومخاطباته.
* ت *: ما ذكره رحمه اللَّه هو عقيدةُ أهل السنة، وها أنا أنقل من كلام الأئمة، إن شاء اللَّه، ما يتبيَّن به كلامه، ويزيده وضوحاً، قال ابن رُشْدٍ: قوله صلى الله عليه وسلم: «أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ» لا يفهم منه أن للَّه عز وجلَّ كلماتٍ غَيْرَ تامَّات؛ لأن كلماته هي قوله، وكلامه هو صفةٌ من صفات ذاتِهِ يستحيلُ عليها النقص، وفي الحديث بيانٌ واضحٌ على أن كلماته عز وجل غير مخلوقة إذ لا يستعاذ بمخلوقٍ، وهذا هو قول أهل السنة، والحقّ أن كلام اللَّه عزَّ وجلَّ صفة من صفات ذاته قديمٌ غيرُ مخلوقٍ؛ لأن الكلام هو المعنى القائِمُ في النفسِ، والنطقُ به عبارةٌ عنه؛ قال اللَّه عزَّ وجلَّ: {وَيَقُولُونَ في أَنْفُسِهِمْ} [المجادلة: 8] فأخبر أن القول معنًى يقوم في النفْسِ، وتقول: في نَفْسِي كَلاَمٌ، أريد أن أعلمك به، فحقيقة كلام الرجل هو المفهومُ من كلامه، وأما الذي تسمعه منه، فهو عبارةٌ عنه؛ وكذلك كلام اللَّه عز وجلَّ القديمُ الذي هو صفة من صفاتِ ذاته هو المفهومُ من قراءة القارئ لا نَفْسُ قراءته التي تسمعها؛ لأنَّ نفس قراءته التي تسمعها مُحْدَثَةٌ، لم تكن؛ حتى قرأ بها، فكانت، وهذا كله بيِّن إلا لمن أعمى اللَّه بصيرته. انتهى بلفظه من البَيَانِ.
وقال الغَزَّالِيُّ بعد كلامٍ له نحو ما تقدَّم لابن رشد: وكما عقل قيامُ طلبِ التعلُّم وإرادته بذات الوالدِ قبل أن يخلق ولده؛ حتى إذا خلق ولده، وعقل، وخلق اللَّه سبحانه له علْماً بما في قلْب أبيه من الطَّلَب، صار مأموراً بذلك الطلب الذي قام بذاتِ أبيه، ودام وجوده إِلى وقت معرفة ولده، فليعقل قيام الطلب الذي دلَّ عليه قوله عزَّ وجلَّ:
{فاخلع نَعْلَيْكَ} [طه: 12] بذات اللَّه تعالى، ومصير موسى عليه السلامُ سَامِعاً لذلك الكلامِ مخاطَباً به بعد وجوده؛ إذ خلقت له معرفة بذلك الطلبِ، ومعرفةُ بذلك الكلامِ القديمِ. انتهى بلفظه من الإحياء.
وقوله: {للملائكة} عمومٌ فيهم، والسجودُ في كلام العرب: الخضوعُ والتذلُّل، وغايته وضع الوجْه بالأرض، والجمهور على أنَّ سجود الملائكة لآدم إيماءٌ وخضوعٌ، ولا تدفع الآية أنْ يكونوا بلغوا غاية السجود، وقوله تعالى: {فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر: 29] لا دليل فيه؛ لأن الجاثي على ركبتيه واقعٌ، واختُلِفَ في حال السجودِ لآدم.
فقال ابن عَبَّاسٍ: تعبَّدهم اللَّه بالسجود لآدم، والعبادةُ في ذلك للَّهِ، وقال عليُّ بن أبي طالب، وابنُ مسعودٍ، وابنُ عبَّاس أيضاً: كان سجودَ تحيَّة؛ كسجود أبوَيْ يوسُفَ عليه السلام له، لا سجودَ عبادة، وقال الشَّعبيُّ: إنما كان آدم كالقِبْلة، ومعنى {لأَدَمَ}: إلى آدَمَ.
* ع *: وفي هذه الوجوهِ كلِّها كرامةٌ لآدم عليه السلام.
وقوله تعالى: {إِلاَّ إِبْلِيسَ} نصبٌ على الاستثناءِ المتَّصِلِ؛ لأنه من الملائكة على قول الجمهور، وهو ظاهر الآية، وكان خازناً ومَلَكاً على سماء الدنْيا والأرض، واسمه عَزَازِيلُ؛ قاله ابن عباس.
وقال ابن زيد والحسن: هو أبو الجِنِّ كما آدمُ أبو البشر، ولم يكُ قطُّ ملَكاً، وقد روي نحوه عن ابن عباس أيضاً، قال: واسمه الحارثُ.
وقال شَهْرُ بن حَوْشَبٍ: كان من الْجِنِّ الذين كانوا في الأرض، وقاتلتهم الملائكةُ فسَبَوْهُ صغيراً، وتعبَّد مع الملائكة، وخُوطِبَ معها، وحكاه الطبريُّ عن ابن مسعود.
والاستثناءُ على هذ الأقوال منقطعٌ؛ واحتجَّ بعض أصحاب هذا القول؛ بأن اللَّه تعالى قال في صفة الملائكة: {لاَ يَعْصُونَ الله مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6] ورجَّح الطبريُّ قَوْلَ من قال: إن إِبليسَ كان من الملائكَةِ، وقال: ليس في خلقه مِنْ نارٍ، ولا في تركيبِ الشَّهْوَةِ والنسلِ فيه حينَ غُضِبَ عليه ما يدْفَعُ أنه كان من الملائكة، وقوله تعالى: {كَانَ مِنَ الجن فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف: 50] يتخرَّج على أنه عمل عملهم، فكان منهم في هذا، أو على أن الملائكة قد تسمى جِنًّا؛ لاستتارها؛ قال اللَّه تعالى: {وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً} [الصافات: 158] وقال الأعشى في ذكر سليمانَ عليه السلام: [الطويل]
وَسَخَّرَ مِنْ جِنِّ المَلاَئِكِ تِسْعَةً ** قِيَاماً لَدَيْهِ يَعْمَلونَ بِلاَ أَجْرِ

أو على أن يكون نسبه إلى الجَنَّةِ؛ كما ينسب إلى البَصْرَةِ بِصْرِيَّ.
قال عِيَاضٌ: ومما يذكرونه قصَّةُ إبليس، وأنه كان من الملائكة، ورئيساً فيهم، ومن خُزَّان الجَنَّة إلى ما حكَوْه، وهذا لم يتفقْ عليه، بل الأكثر ينفون ذلك، وأنه أبو الجن. انتهى من الشِّفا.
وإِبْلِيسُ: لا ينصرفُ؛ لأنه اسم أعجميٌّ؛ قال الزَّجَّاج: ووزنه فِعْلِيلُ، وقال ابن عبَّاس وغيره: هو مشتقٌّ من أُبْلِسَ، إِذا أبعد عن الخير، ووزنه على هذا إفْعِيلُ، ولم تصرفه هذه الفرقةُ؛ لشذوذه وقلَّته، ومنه قوله تعالى:
{فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام: 44] أيْ: يائسون من الخَيْر، مبعدُونَ منه فيما يَرَوْنَ، و{أبى}: معناه: امتنَعَ من فعْلِ ما أمر به، {واستكبر}: دخل في الكبرياءِ، والإبَاءَةُ مقدَّمة على الاِستكبارِ في ظهورهما عليه، والاستكبارُ والأَنَفَة مقدَّمة في معتقده، وروى ابْنُ القاسم عن مَالكٍ؛ أنه قال: بَلَغَنِي أنَّ أوَّلَ معْصيَةٍ كانت الحسدُ، والكِبْرُ، والشُّحُّ، حسد إِبليسُ آدم، وتكبَّر، وشحَّ آدم في أكله من شجرة قد نُهِيَ عن قربها.
* ت *: إِطلاق الشحِّ على آدم فيه ما لا يخفى عليك، والواجب اعتقاد تنزيه الأنبياء عن كل ما يحُطُّ من رتبتهم، وقد قال اللَّه تعالى في حق آدَمَ: {وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إلى ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} [طه: 115].
وقوله تعالى: {وَكَانَ مِنَ الكافرين}: قالت فِرقَةٌ: معناه: وصار من الكافرين، وردَّه ابن فُورَكَ، وقال جمهور المتأوِّلين: معنى: {وَكَانَ مِنَ الكافرين}، أيْ: في علْمِ اللَّهِ تعالى، وقال أبو العالية: معناه: من العاصين، وذهب الطبريُّ إِلى أن اللَّه تعالى أراد بقصة إبْلِيسَ تقريعَ أشباهه من بني آدم، وهم اليهودُ الذين كفروا بمحمَّد صلى الله عليه وسلم، مع علمهم بنبوءته، ومع تقدُّم نعم اللَّه عليهم، وعلى أسلافهم.
* ت *: ولفظ الطبريِّ: وفي هذا تقريعٌ لليهود؛ إذ أبوا الإسلام مع علمهم بنبوءة رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم من التوارة والكُتُبِ؛ حَسَداً له، ولبني إِسماعيل؛ كما امتنع إِبليسُ من السجود؛ حَسَداً لآدَم وتكبُّراً عن الحق وقبولِهِ، فاليهود نظراء إِبْليسَ في كُفْرهم وكِبْرهم وحَسَدهم وتَرْكِهِمْ الانقيادَ لأمر اللَّه تعالى. انتهى من مختصر الطبريِّ لأبي عبد اللَّه اللَّخْمِيِّ النحْويِّ.
واختلف، هل كفر إبليس جهلاً أو عناداً؟ على قولَيْن بين أهل السنة، ولا خلاف أنه كان عالماً باللَّه قبل كفره، ولا خلاف أن اللَّه تعالى أخرج إبليس عند كفره، وأبعده عن الجنة، وبعد إخراجه قال لآدم: {اسكن}.