فصل: تفسير الآيات (37- 38):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (35- 36):

{وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36)}
قوله تعالى: {وَقُلْنَا يَا ءادَمُ اسكن أَنتَ وَزَوْجُكَ الجنة}: {اسكن}: معناه: لاَزِمِ الإقامةَ، ولفظه لفظ الأمر، ومعناه الإِذن، واختلف في الجنة التي أسكنها آدم عليه السلام، هل هي جنةُ الخُلْدِ، أو جنةٌ أخرى.
* ت *: والأول هو مذهب أهل السنة والجماعة.
{وَكُلاَ مِنْهَا}، أي: من الجنةِ، والرغَد: العيشَ الدارَّ الهنيَّ، و{حَيْثُ} مبنيةٌ على الضمِّ.
وقوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة}: معناه لا تقرباها بأكْلٍ، والهاءُ في {هَذِهِ} بدلٌ من الياء، وتحتمل هذه الإشارة أن تكون إلى شجرةٍ معيَّنة واحدة، واختلف في هذه الشجرة، ما هي؟ فقال ابن عَبَّاس، وابن مسعود: هي الكَرْم، وقيل: هي شجرة التِّين، وقيل: السنبلة وقيل غير ذلك.
وقوله: {فَتَكُونَا مِنَ الظالمين}: الظالمُ؛ في اللغة: الذي يضع الشيء في غير موضعه، والظلم؛ في أحكام الشرع على مراتب: أعلاها الشِّرْكُ، ثم ظُلْمُ المعاصِي؛ وهي مراتبُ، و{أَزَلَّهُمَا}: مأخوذ من الزَّلَلِ، وهو في الآية مجازٌ؛ لأنه في الرأْي والنَّظر، وإنما حقيقة الزَّلَلِ في القَدَمِ، وقرأ حمزة: {فأَزَالَهُمَا} مأخوذ من الزوالِ، ولا خلاف بين العلماء أن إبليس اللعينَ هو متولِّي إغواء آدم عليه السلام، واختلف في الكيفيَّة.
فقال ابن عباس، وابن مسعود، وجمهور العلماء: أغواهما مشافهةً؛ بدليل قوله تعالى: {وَقَاسَمَهُمَا} [الأعراف: 21] والمقاسمة ظاهرها المشافهةُ.
وقالت طائفةٌ: إن إبليس لم يدخُلِ الجنةَ بعد أن أخرج منها، وإنما أغوى آدم بشيطانِهِ، وسُلْطَانه، ووَسَاوِسِهِ التي أعطاه اللَّه تعالى، كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِن ابن آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ». * ت *: وإلى هذا القوْلِ نَحَا المَازِرِيُّ في بعض أجوبته، ومن ابتلي بشيء من وسوسة هذا اللعينِ؛ فأعظم الأدوية له الثقَةُ باللَّه، والتعوُّذ به، والإعراض عن هذا اللعين، وعدمُ الالتفاتِ إليه، ما أمكن؛ قال ابن عطاءِ اللَّه في لَطَائِفِ المِنَنِ: كان بي وسواسٌ في الوضوءِ، فقال لي الشيخُ أبو العبَّاس المُرْسِيُّ: إن كنت لا تترك هذه الوسوسةَ لا تَعْدُ تَأْتِينَا، فَشَقَّ ذلك علَيَّ، وقطع اللَّه الوسواسَ عني، وكان الشيخ أبو العباس يُلَقِّنُ للوسواسِ: سُبْحَانَ المَلِكِ الخَلاَّقِ، {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذلك عَلَى الله بِعَزِيزٍ} [فاطر: 16، 17] انتهى.
قال عِيَاضٌ: في الشِّفا؛ وأما قصة آدم عليه السلام، وقوله تعالى: {فَأَكَلاَ مِنْهَا} [طه: 121] بعد قوله: {وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة فَتَكُونَا مِنَ الظالمين}، وقوله تعالى: {أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشجرة} [الأعراف: 22] وتصريحه تعالى عليه بالمعصية بقوله: {وعصى ءادَمُ رَبَّهُ فغوى} [طه: 121] أي: جهل، وقيل: أخطأ، فإن اللَّه تعالى قد أخبر بعذره بقوله: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إلى ءَادَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} [طه: 115] قال ابن عبَّاس: نسي عداوة إِبليس، وما عهد اللَّه إِليه من ذلك؛ بقوله:
{إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ...} [طه: 117] الآيَة، وقيل: نسي ذلك بما أظهر لهما، وقال ابن عباس: إنما سمي الإنسان إنساناً؛ لأنه عهد إِليه فنسي، وقيل: لم يقصد المخالفة؛ استحلالا لها، ولكنهما اغترا بِحَلِفِ إِبليس لهما: {إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين} [الأعراف: 21] وتوهَّما أن أحداً لا يحلف باللَّه حانِثاً، وقد روي عذر آدم مثل هذا في بعض الآثار، وقال ابن جُبَيْر: حلف باللَّه لهما حتى غَرَّهُمَا، والمؤمن يخدع، وقد قيل: نسي، ولم ينو المخالفَةَ؛ فلذلك قال تعالى: {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} [طه: 115] أَيْ: قَصْداً للمخالفةِ وأكثر المفسرين على أن العزمَ هنا الحزمُ والصبرُ، وقال ابن فُورَكَ وغيره: إِنه يمكن أن يكون ذلك قبل النبوءة، ودليل ذلك قوله تعالى: {وعصى ءَادَمُ رَبَّهُ فغوى * ثُمَّ اجتباه رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وهدى} [طه: 121، 122] فذكر أن الاجتباء والهداية كانا بعد العصيان، وقيل: بل أكلها، وهو متأوِّل، وهو لا يعلم أنَّها الشجرة التي نهي عنها، لأنه تأول نهي اللَّه تعالى عن شجرة مخصوصةٍ، لا على الجنْسِ، ولهذا قيل: إنما كانت التوبةُ من ترك التحفُّظ، لا من المخالفة، وقيل: تأول أن اللَّه تعالى لم ينهه عنها نَهْيَ تحريمٍ. انتهى بلفظه فجزاه اللَّه خيرًا، ولقد جعل اللَّه في شِفَاهُ شِفَاءً.
والضمير في {عَنْهَا} يعود على الجنة، وهنا محذوفٌ يدلُّ عليه الظاهر تقديره: فَأَكَلاَ مِنَ الشَّجَرَةِ. وقوله تعالى: {فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ}: قيل: معناه: مِنْ نعمة الجنَّةِ إلى شقاء الدنيا، وقيل: من رفعة المنزلةِ إلى سُفْل مكانة الذنب.
* ت *: وفي هذا القول ما فيه، بل الصوابُ ما أشار إليه صاحب التَّنْوِيرِ؛ بأن إخراج آدَم لم يكن إهانة له، بل لما سبق في علمه سبحانه من إكرام آدم وجعله في الأرض خليفةً، هو وأخيارَ ذرّيته، قائمين فيها بما يجبُ للَّه من عبادتِهِ، والهبوطُ النزولُ من عُلْو إلى سُفْل، واختلف من المخاطَبُ بالهبوط.
فقال السُّدِّيُّ وغيره: آدم، وحَوَّاء، وإِبليس، والحَيَّة التي أدخلت إبليس في فَمِها، وقال الحسن: آدمُ، وحواءُ والوَسْوَسَة.
و{بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} جملةٌ في موضع الحال، {وَلَكُمْ في الأرض مُسْتَقَرٌّ}، أيْ: موضع استقرار، وقيل: المراد الاستقرار في القبور، والمتاع: ما يستمتع به؛ من أكل، ولُبْس، وحَدِيثٍ، وأنس، وغيرِ ذلك.
واختلف في الحِينِ هنا.
فقالت فرقةٌ: إلى المَوْتِ، وهذا قولُ من يقول: المستقرُّ هو المُقام في الدنيا، وقالت فرقة: {إلى حِينٍ}: إلى يومِ القيامةِ، وهذا هو قول من يقول: المستَقَرُّ هو في القبور، والحِينُ المدَّة الطويلة من الدهر، أقصرها في الأيمان والالتزامات سَنَةٌ؛ قال اللَّه تعالى: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ} [إبراهيم: 25] وقيل: أقصرها ستَّةُ أشهر؛ لأن من النخل ما يطعم في كلِّ ستة أشهر.
وفي قوله تعالى: {إلى حِينٍ} فائدةٌ لآدم عليه السلام؛ ليعلم أنه غير باق فيها، ومنتقلٌ إِلى الجنة التي وعد بالرجوع إِليها، وهي لغير آدم دالَّة على المعاد، وروي أن آدم نزل على جبل من جبال سَرَنْدِيبَ، وأن حواء نزلَتْ بِجُدَّةَ، وأن الحية نزلَتْ بِأصْبَهَانَ، وقيل: بِمَيْسَانَ، وأن إبليسَ نزل عند الأُبُلَّةِ.

.تفسير الآيات (37- 38):

{فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)}
قوله تعالى: {فَتَلَقَّى ءادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ}: المعنى: فقال الكلماتِ، فتابَ اللَّه علَيْه عنْد ذلك، وقرأ ابن كثير {آدَمَ} بالنصب {مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٌ} بالرفع، واختلف المتأوِّلون في الكلماتِ، فقال الحسنُ بن أبي الحسن: هي قوله تعالى: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا...} الآية [الأعراف: 23]، وقالت طائفة: إِنَّ آدم رأى مكتوباً على ساق العرش: محمَّدٌ رسُولُ اللَّهِ، فتشفَّع به، فهي الكلماتُ، وسئل بعض سَلَفِ المسلمين عمَّا ينبغي أن يقوله المُذْنِبُ، فقال: يقول ما قاله أبواه: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} [الأعراف: 23] وما قاله موسى: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فاغفر لِي} [القصص: 16] وما قال يونس: {لاَ إله إِلاَّ أَنْتَ سبحانك إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظالمين} [الأنبياء: 87] وتَابَ عَلَيْهِ: معناه: راجعٌ به، والتوبةُ من اللَّه تعالى الرجوعُ على عبده بالرحمةِ والتوفيقِ، والتوبةُ من العبد الرجوعُ عن المعصيةِ، والندمُ على الذنب، مع تركه فيما يستأنف.
* ت *: يعني: مع العزم على تركه فيما يستقبل، وإنما خص اللَّه تعالى آدم بالذكْرِ في التلقِّي، والتوبة، وحواءُ مشارِكَةٌ له في ذلك بإجماع؛ لأنه المخاطَبُ في أول القصَّة، فكملت القصة بذكُره وحْدَه؛ وأيضاً: فَلأَنَّ المرأة حُرْمَةٌ ومستورةٌ، فأراد اللَّه تعالَى السِّتْر لها؛ ولذلك لم يذكرها في المعصية في قوله: {وعصى ءادَمُ رَبَّهُ} [طه: 121] وبنية التَّوَّاب للمبالغة والتكثير، وفي قوله تعالى: {هُوَ التواب} تأكيدٌ فائدتُهُ أنَّ التوبة على العبد إنما هي نعمة من اللَّه تعالى، لا من العبد وحده؛ لئلاَّ يعجب التائبُ، بل الواجب عليه شكر اللَّه تعالى في توبته عليه، وكرر الأمر بالهبوط لما علَّق بكل أمر منهما حكمًا غير حكم الآخر، فعلَّق بالأول العداوة، وبالثاني إتيان الهدى.
* ت *: وهذه الآية تبين أن هبوط آدم كان هبوط تَكْرِمَةٍ؛ لما ينشأ عن ذلك من أنواع الخيرات، وفنون العباداتِ.
و{جَمِيعاً}: حالٌ من الضمير في {اهبطوا}، واختلف في المقصود بهذا الخطاب.
فقيل: آدم، وحواء، وإبليس، وذريَّتهم، وقيل: ظاهره العموم، ومعناه الخصوص في آدم وحواء؛ لأن إبليس لا يأتيه هُدًى، والأول أصح؛ لأن إبليس مخاطَبٌ بالإيمان بإجماع.
{وإِنْ} في قوله: {فَإِمَّا} هي للشرط، دخلت {مَا} عليها مؤكِّدة؛ ليصح دخول النون المشدَّدة، واختلف في معنى قوله: {هُدًى} فقيل: بيان وإرشاد، والصواب أن يقال: بيان ودعاءٌ، وقالت فرقة: الهُدَى الرسُلُ، وهي إلى آدم من الملائكة، وإلى بنيه من البشر هو فَمَنْ بعده.
وقوله تعالى: {فَمَن تَبِعَ هُدَايَ}: شرطٌ، جوابه: {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ}، قال سيبوَيْهِ: والشرط الثاني وجوابه هما جواب الأول في قوله: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم}.
وقوله تعالى: {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ}: يحتمل فيما بين أيديهم من الدنيا، {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} على ما فاتهم منها، ويحتمل: {لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} يوم القيامة، {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} فيه.
* ت *: وهذا هو الظاهر، وعليه اقتصر في اختصار الطبريِّ، ولفظه عن ابن زيد: {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ}، أي: لا خوف عليهم أمامهم، قال: وليس شيء أعظم في صدر من يموت مما بعد الموتِ؛ فأمَّنهم سبحانه منْه، وسَلاَّهم عن الدنيا. انتهى.

.تفسير الآيات (39- 41):

{وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآَمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41)}
وقوله تعالى: {والذين كَفَرُواْ...}: لما كانت لفظة الكُفْرِ يشترك فيها كفر النعمِ، وكفر المعاصي، ولا يجب بهذا خلودٌ، بيَّن سبحانه أن الكفر هنا هو الشرك، بقوله: {وَكَذَّبُواْ بآياتنا...} والآياتُ هنا يحتمل أن يريد بها المتلوَّة، ويحتمل أن يريد العلاماتِ المنصوبَةَ، والصُّحْبَةُ الاقتران بالشيْءِ في حالةٍ مَّا زَمَنًا.
قوله تعالى: {يابني إسراءيل اذكروا نِعْمَتِيَ}: إسْرَائِيلَ: هو يَعْقُوبُ بْنُ إسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عليهم السلام وإِسْرَا: هو بالعبرانية عبد، وإِيلُ: اسم اللَّه تعالى، فمعناه عَبْدُ اللَّهِ، والذِّكْرُ في كلام العَرَبِ على أنحاء، وهذا منها ذكر القلب الذي هو ضدّ النسيان، والنعمة هنا اسم جنس، فهي مفردة بمعنى الجَمْعِ، قال ابن عَبَّاس، وجمهور العلماء: الخِطَابُ لجميع بني إسرائيل في مدَّة النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى: {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ}: أمر وجوابه، وهذا العهد في قول جمهور العلماءِ عامٌّ في جميع أوامره سبحانه ونواهيه ووصاياه لهم، فيدخل في ذلك ذكر محمَّد صلى الله عليه وسلم الذي في التوراة، والرهبةُ يتضمَّن الأمر بها معنى التهديد، وأسند الترمذيُّ الحَكِيمُ في نَوَادِرِ الأُصُولَ له عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال: «قَالَ رَبُّكُمْ سُبْحَانَهُ: لاَ أَجْمَعُ على عَبْدِي خَوْفَيْنِ، وَلاَ أَجْمَعُ لَهُ أَمْنَيْنِ، فَمَنْ خَافَنِي فِي الدُّنْيَا أَمَّنْتُهُ فِي الآخِرَةِ، وَمَنْ أَمِنَنِي فِي الدُّنْيَا، أَخَفْتُهُ فِي الآخِرَةِ» انتهى في التذكرة للقرطبيِّ، ورواه ابن المبارك في رَقَائِقِهِ من طريق الحسن البصريِّ، وفيه: قَالَ اللَّهُ: «وَعِزَّتِي، لاَ أَجْمَعُ على عَبْدِي خَوْفَيْنِ، وَلاَ أَجْمَعُ لَهُ أَمْنَيْنِ؛ فَإذَا أَمِنَنِي فِي الدُّنْيَا أَخَفْتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَإذَا خَافَنِي فِي الدُّنْيَا أَمَّنْتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ» انتهى، ورواه أيضاً الترمذيُّ الحكيمُ في كتاب خَتْمِ الأَوْلِيَاءِ قال صاحب الكَلِمِ الفَارِقِيَّةِ، والحِكَمِ الحقيقيَّة: بقدر ما يدخل القلْبَ من التعظيم والحرمة تنبعثُ الجوارحُ في الطاعةِ والخدمة. انتهى.
و{ءَامِنُواْ}: معناه: صدِّقوا، و{مُصَدِّقاً} نصبٌ على الحال من الضمير في {أَنزَلْتُ}، و{مَا أَنزَلْتُ} كنايةٌ عن القرآن، و{لِّمَا مَعَكُمْ}، يعني: التوراةَ.
وقوله: {وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} هذا من مفهوم الخطاب الذي المذكورُ فيه والمسكوتُ عنه حكُمُهما واحدٌ، وَحُذِّرُوا البدارَ إلى الكفر به؛ إِذ على الأول كِفْلٌ من فعل المقتدى به، ونصب {أَوَّلَ} على خبر كَانَ.
* ع *: وقد كان كَفَر قبلهم كفار قريشٍ، وإِنما معناه من أهل الكتاب؛ إِذ هم منظورٌ إِليهم في مثل هذا، واختلف في الضمير في {به}، فقيل: يعود على محمَّد صلى الله عليه وسلم، وقيل: على القرآن، وقيل: على التوراة، واختلف في الثمن الذي نُهُوا أن يشتروه بالآياتِ.
فقالتْ طائفةٌ: إن الأحبار كانوا يُعلِّمُونَ دينَهم بالأجرة، فَنُهُوا عن ذلك، وفي كتبهم: عَلِّمْ مَجَّاناً؛ كَمَا عُلِّمْتَ مَجَّاناً، أي: باطلاً بغير أجرة.
وقيل: كانتْ للأَحبار مأكلة يأكلونها على العِلْمِ.
وقال قوم: إن الأحبار أخذوا رُشاً على تغييرِ صفَةِ محمَّد صلى الله عليه وسلم في التوراة، فنُهُوا عن ذلك.
وقال قوم: معنى الآية: ولا تشتروا بأوامري، ونواهِيَّ، وآياتي ثمناً قليلاً، يعني: الدنيا ومدَّتها والعيش الذي هو نزْرٌ لا خَطَر له، وقد تقدَّم نظير قوله: {وإياي فاتقون}، وبيْنَ اتقون، وارهبون فرق إن الرهبة مقرونٌ بها وعيدٌ بالغٌ.

.تفسير الآيات (42- 43):

{وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)}
وقوله تعالى: {وَلاَ تَلْبِسُواْ الحق بالباطل}، أي: لا تخلطوا، قال أبو العاليةِ: قالت اليهود: محمَّد نبيٌّ مبعوثٌ، لكن إلى غيرنا، فإقرارهم ببعثه حق، وقولهم: إلى غيرنا باطلٌ، {وَتَكْتُمُواْ الحق}، أي: أمْرَ محمَّد صلى الله عليه وسلم، وفي هذهِ الألفاظ دليل على تغليظ الذنب على من وقع فيه، مع العلم به، وأنه أعصى من الجاهل، {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} جملةٌ في موضع الحال. قال:
* ص *: {وَتَكْتُمُواْ} مجزومٌ معطوف على {تَلْبِسُواْ}، والمعنى النهْيُ عن كلٍّ من الفعلين. انتهى.
{وَأَقِيمُواْ الصلاة}: معناه: أظهروا هيئَتَها، وأديموها بشروطها، والزكاة في هذه الآية هي المفروضة، وهي مأخوذة من النماء، وقيل: من التطهير.
وقوله تعالى: {واركعوا مَعَ الراكعين}: قيل: إنما خص الركوع بالذِّكْر؛ لأن بني إسرائيل لم يكن في صلاتهم ركوعٌ.
* ت *: وفي هذا القول نظرٌ، وقد قال تعالى في {مَرْيم}: {اسجدي واركعي} [آل عمران: 43]، وقالت فرقة: إنما قال: {مَعَ}؛ لأن الأمر بالصلاة أولاً لم يقتضِ شهود الجماعة، فأمرهم بقوله: {مَعَ} شهود الجماعة.
* ت *: وهذا القول هو الذي عوَّل عليه * ع *: في قصَّة مرْيَمَ عليها السلام، والركوع الانحناء بالشخْصِ.