فصل: تفسير الآيات (55- 57):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (55- 57):

{وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)}
وقوله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ ياموسى}: يريد السبعينَ الذين اختارهم موسى، واختلف في وقت اختيارهمْ.
فحكى أكثر المفسِّرين؛ أن ذلك بعد عبادة العجل، فاختارهم؛ ليستغفِروا لبني إسرائيل، وحكى النقَّاش وغيره؛ أنه اختارهم حين خَرَجَ من البحْرِ، وطلب بالميعاد، والأول أصح.
وقصة السبعين أنَّ موسى عليه السلام، لما رجع من تكليم اللَّه تعالى، ووجد العجْلَ قد عُبِدَ، قالتْ له طائفة ممَّن لم يعبد العجلَ: نحن لم نكْفُرْ، ونحن أصحابك، ولكنْ أسمعْنَا كلام ربِّك، فأوحى اللَّه إِليه؛ أن اختَرْ منهم سَبْعِينَ، فلم يجد إلا ستِّين، فأوحى إليه أن اختر من الشباب عَشَرةً، ففعل، فأصبحوا شيوخاً، وكان قد اختار ستَّةً من كلِّ سبط، فزادوا اثنين على السبعين، فتشاحُّوا فيمن يتأخَّر، فأُوحِيَ إِليه أنَّ من تأخَّر له أجْرُ مَنْ مضى، فتأخَّر يوشَعُ بْنُ نُونٍ، وكَالُوثُ بْنُ يُوفَنَّا، وذهب موسى عليه السلام بالسبْعين، بعد أن أمرهم أن يتجنَّبوا النساء ثلاثاً، ويغتسلوا في اليوم الثالث، واستخلف هارون على قومه، ومضى حتى أتى الجَبَلَ، فألقي عليهم الغمام، قال النَّقَّاش: غشيتهم سحابة، وحِيلَ بينهم وبين موسى بالنور، فوقعوا سجوداً، قال السُّدِّيُّ وغيره: وَسَمِعوا كلامَ اللَّهِ يأمر وينهى، فلم يطيقوا سماعه، واختلطتْ أذهانهم، ورَغِبُوا أن يكون موسى يسمع ويعبِّر لهم، ففعل، فلما فرغوا، وخرجوا، بدَّلت منهم طائفةٌ ما سمعت من كلام اللَّهِ، فذلك قوله تعالى: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كلام الله ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ} [البقرة: 75] واضطرب إيمانهم، وامتحنهم اللَّه تعالى بذلك، فقالوا: {لَنْ نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى الله جَهْرَةً}، ولم يطلبوا من الرؤية محالاً؛ أما إِنه عند أهل السُّنَّة ممتنعٌ في الدنيا من طريق السمع، فأخذتهم حينئذ الصاعقةُ، فاحترقوا وماتوا موْتَ همودٍ يعتبر به الغَيْرُ، وقال قتادة: ماتوا، وذهبت أرواحهم، ثم رُدُّوا؛ لاستيفاء آجالهم، فحين حصلوا في ذلك الهمود، جعل موسى يناشد ربَّه فيهم، ويقول: أيْ ربِّ، كيف أرجع إِلى بني إِسرائيل دونهم، فيَهْلِكُون، ولا يؤمنون بي أبداً، وقد خرجوا، وهم الأخيار.
قال * ع *: يعني: هم بحال الخير وقْتَ الخروج، وقال قومٌ: بل ظن موسى أنَّ السبعين، إِنما عوقبوا بِسَبَبِ عبادة العجْلِ، فذلك قوله: {أَتُهْلِكُنَا} [الأعراف: 155] يعني السبعين: {بِمَا فَعَلَ السفهاء مِنَّا} يعني: عَبَدَةَ العجلِ، وقال ابن فورك: يحتمل أن تكون معاقبة السبعين؛ لإخراجهم طلب الرؤية عن طريقه؛ بقولهم لموسى: {أَرِنَا} [النساء: 153] وليس ذلك من مقدورِ موسى عليه السلام.
قال * ع *: ومن قال: إن السبعين سَمِعُوا ما سمع موسى، فقد أخطأ، وأذهب فضيلةَ موسى، واختصاصه بالتكْلِيم.
و{جَهْرَةً}: مصدر في موضع الحالِ، والجهرُ العلانيةُ، ومنه الجَهْرُ ضد السر، وجَهَرَ الرَّجُلُ الأَمْرَ: كشفه، وفي مختصر الطبريِّ عن ابن عبَّاس: {جَهْرَةً}: قال علانيةً، وعن الربيع: {جَهْرَةً}: عياناً.
انتهى.
وقوله تعالى: {ثُمَّ بعثناكم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}: أجاب اللَّه تعالى فيهم رغبةَ موسى عليه السلام وأحياهم من ذلك الهمودِ، أو الموت؛ ليستوفوا آجالهم، وتاب عليهم، والبعث هنا الإِثارة، و{لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، أي: على هذه النعمة، والترجِّي إِنَّمَا هو في حق البَشَر.
وذكر المفسِّرون في تظليل الغمامِ؛ أنَّ بني إِسرائيل، لما كان من أمرهم ما كان من القتل، وبقي منهم من بقي، حصلوا في فحص التِّيه بَيْن مصْر والشَّام، فأُمِرُوا بقتال الجَبَّارين، فَعَصَوْا، وقالوا: {اذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا} [المائدة: 24] فدعا موسى عليهم، فعوقبوا بالبقاء في ذلك الفحْص أربعين سَنَةً يتيهون في مقدارِ خَمْسَة فراسِخَ أو ستَّةٍ، روي أنهم كانوا يمشون النهار كلَّه، وينزلون للمبيت، فيصبحون حيثُ كانوا بكرةَ أَمْسِ، فندم موسى على دعائه علَيْهم، فقيل له: {لاَ تَأْسَ عَلَى القوم الفاسقين} [المائدة: 26].
وروي أنهم ماتوا بأجمعهم في فحص التِّيه، ونشأ بنوهم على خير طاعة، فهم الذين خرجوا من فحْصِ التيه، وقاتلوا الجَبَّارين، وإذ كان جميعُهم في التيه، قالوا لموسى: من لنا بالطعامِ؟ قال: اللَّه، فأنزل اللَّه عليهم المَنَّ والسلوى، قالوا: مَنْ لنا من حَرِّ الشمس؟ فظلَّل عليهم الغمامَ، قالوا: بِمَ نستصْبِحُ بالليل، فضَرَبَ لهم عمودَ نُورٍ في وَسَطَ مَحَلَّتهم، وذكر مكِّيٌّ عمود نار، قالوا: من لنا بالماء؟ فأمر موسى بضرب الحَجَرِ، قالوا: من لنا باللباس، فَأُعْطُوا ألاَّ يبلى لهم ثوبٌ، ولا يَخْلَقَ، ولا يَدْرَنَ، وأن تنمو صِغَارُهَا حَسَب نُمُوِّ الصبيانِ، والمَنُّ صَمْغَةٌ حُلْوَةٌ؛ هذا قول فرقةٍ، وقيل: هو عسل، وقيل: شراب حُلْوٌ، وقيل: الذي ينزل اليوْمَ على الشجَر، وروي أنَّ المَنَّ كان ينزل عليهم من طُلُوع الفَجْر إلى طُلُوع الشمس؛ كالثلج، فيأخذ منه الرجُلُ ما يكفيه ليومه، فإِنِ ادَّخَرَ، فسد عليه إِلا في يوم الجمعة؛ فإِنهم كانوا يدَّخرون ليوم السبْتِ، فلا يفسد عليهم؛ لأن يوم السبت يومُ عبادةٍ.
والسلوى طيرٌ؛ بإِجماع المفسِّرين، فقيل: هو السُّمَّانا.
وقيل: طائر مثل السُّمَّانَا.
وقيل: طائر مثل الحمام تحشره عليهم الجَنُوب.
* ص *: قال ابن عطيَّة: وغلط الهُذَلِيُّ في إِطلاقه السلوى على العَسَلِ؛ حيث قال: [الطويل]
وَقَاسَمَهَا بِاللَّهِ عَهْداً لأنْتُمُ ** أَلَذُّ مِنَ السلوى إِذَا مَا نَشُورُهَا

* ت *: قد نقل صاحبُ المختصر؛ أنه يطلق على العَسَلِ لغةً؛ فلا وجه لتغليظه؛ لأنَّ إِجماع المفسِّرين لا يمنع من إِطلاقِهِ لغةً بمعنى آخر في غير الآية. انتهى.
وقوله تعالى: {كُلُواْ...} الآية: معناه: وقلنا: كلوا، فحذف اختصارا لدلالة الظاهر عليه، والطَّيِّبَاتُ، هنا جَمَعَتِ الحلال واللذيذ.
* ص *: وقوله: {وَمَا ظَلَمُونَا}: قدَّر ابن عطية قبل هذه الجملةِ محذوفًا، أي: فَعَصوْا، وما ظَلَمُونا، وقدَّر غيره: فظَلَمُوا، ومَا ظَلَمُونَا، ولا حاجَة إِلى ذلك؛ لأن ما تقدَّم عنهم من القبائِح يُغْنِي عنه. انتهى.
* ت *: وقول أبي حَيَّان: لا حاجة إلى هذا التقدير... إِلى آخره: يُرَدُّ بأن المحذوفاتِ في الكلام الفصيحِ هذا شأنها؛ لابد من دليل في اللفظ يدلُّ عليها إلا أنه يختلف ذلك في الوضوحِ والخفاءِ، فأما حذف ما لا دليل عليه، فإِنه لا يجوزُ.

.تفسير الآيات (58- 60):

{وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59) وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)}
وقوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا ادخلوا هذه القرية فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وادخلوا الباب سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ المحسنين فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الذي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الذين ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السمآء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ وَإِذِ استسقى موسى لِقَوْمِهِ}.
{القَرْيَةَ}: المدينةُ؛ سمِّيت بذلك؛ لأنها تَقَرَّتْ، أي: اجتمعت؛ ومنه: قَرَيْتُ المَاءَ في الحَوْضِ، أي: جمعته، والإِشارة بهذه إِلى بيت المقْدِسِ في قول الجمهور.
وقيل: إلى أَرِيحَاء، وهي قريبٌ من بيت المَقْدِس، قال عمر بن شَبَّة: كانت قاعدةً، ومسْكنَ ملوكٍ، ولما خرج ذريةُ بني إِسرائيل من التِّيه، أُمِرُوا بدخول القرية المشار إِلَيْها، وأما الشيوخ، فماتوا فيه، وروي أن موسى وهارون عليهما السلام ماتا في التِّيه، وحكى الزجَّاج عن بعضهم أنهما لم يكونا في التِّيه؛ لأنه عَذَابٌ، والأول أكْثَرُ.
* ت *: لكن ظاهر قوله: {فافرق بَيْنَنَا وَبَيْنَ القوم الفاسقين} [المائدة: 25] يقوِّي ما حكاهُ الزجَّاج، وهكذا قال الإِمام الفَخْر. انتهى.
و{كُلُواْ}: إِباحة، وتقدَّم معنى الرَّغَد، وهي أرض مباركة عظيمة الغَلَّة، فلذلك قال: {رَغَدًا}.
و{الباب}: قال مجاهد: هو باب في مدينة بَيْت المَقْدِسِ يُعْرَفُ إِلى اليوم بباب حِطَّة، و{سُجَّدًا}: قال ابن عبَّاس: معناه: ركوعاً، وقيل: متواضعين خضوعاً، والسجودُ يعم هذا كلَّه، وحِطَّة: فِعْلَةٌ؛ من حَطَّ يَحُطُّ، ورفعه على خبر ابتداء؛ كأنهم قالوا: سؤالُنَا حِطَّة لذنُوبِنَا، قال عكرمة وغيره: أُمِرُوا أَنْ يَقُولُوا: لا إِله إِلاَّ اللَّهُ؛ لتحطَّ بها ذنوبُهُمْ، وقال ابن عَبَّاس: قيل لهم: استغفروا، وقولوا ما يحطُّ ذنوبكم.
* ت *: قال أحمد بن نصرٍ الدَّاوُودِيُّ في تفسيره: وَرُوِيَ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم سَارَ مَعَ أَصْحَابِهِ فِي سَفَرٍ، فَقَالَ: «قُولُوا: نَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ»، فَقَالُوا ذَلِكَ، فَقَالَ: «وَاللَّهِ، إِنَّهَا للْحِطَّةُ الَّتِي عُرِضَتْ على بَنِي إِسْرَائِيلَ فَلَمْ يَقُولُوهَا» انتهى.
وحكي عن ابن مَسْعود وغيره؛ أنهم أمروا بالسُّجود، وأن يقولوا: حِطَّةٌ، فَدَخَلُوا يزْحفُونَ على أَسْتَاهِهِمْ، ويَقُولُونَ: حِنْطَةٌ حَبَّةٌ حَمْرَاءُ فِي شَعْرَةٍ، ويروى غير هذا من الألفاظ.
وقوله تعالى: {وَسَنَزِيدُ المحسنين} عِدَةٌ: المعنى: إِذا غُفِرَتِ الخطايا بدخولكم وقولِكُمْ، زِيدَ بعد ذلك لمن أحسن، وكان من بني إسرائيل من دخل كما أُمِرَ، وقال: لا إله إلا اللَّه، فقيل: هم المراد ب {المحسنين} هنا.
وقوله تعالى: {فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ} الآية.
روي أنهم لما جاءوا الباب، دخلوا من قبل أدبارهم القهقرى، وفي الحديث: أنهم دَخَلوا يَزْحَفُونَ على أَسْتَاهِهِمْ، وبدَّلوا، فقالوا: حَبَّة في شَعْرَة، وقيل: قالوا: حِنْطَة حبَّة حمراء في شَعْرة، وقيل: شعيرة، وحكى الطبريُّ؛ أنهم قالوا: هَطِّي شَمْقَاثَا أَزْبَه وتفسيره ما تقدَّم وفي اختصار الطبريِّ، وعن مجاهد قال: أمر موسى قومَهُ أنْ يدخلوا الباب سُجَّداً، ويقولُوا: حِطَّة، وطُؤْطِئ لهم البابُ؛ ليسجدوا، فلم يسجدوا، ودخلوا على أدبارهم، وقالوا: حِنْطَة.
وذكر عزَّ وجلَّ فعل سلفهم؛ تنبيهاً أنَّ تكذيبهم لمحمَّد صلى الله عليه وسلم جَارٍ على طريق سلَفهم في خلافهم على أنبيائهم، واستخفافهم بهم، واستهزائهم بأمر ربِّهم. انتهى.
والرِّجْز العَذَابُ، قال ابن زيد وغيره: فبعث اللَّه على الذينَ بدَّلوا الطاعونَ، فأذهب منهم سبْعِينَ أَلْفاً، وقال ابن عبَّاس: أمات اللَّه منهم في ساعةٍ واحدةٍ نيِّفاً على عشرينَ ألْفاً.
و{استسقى}: معناه: طلب السُّقْيَا، وَعُرْفُ استفعل طلَبُ الشيءِ، وقد جاء في غير ذلك؛ كقوله تعالى: {واستغنى الله} [التغابن: 6]، وكان هذا الاستسقاءُ في فحْصِ التيه، فأمره اللَّه تعالى بضرب الحَجَر آيةً منه، وكان الحَجَرُ من جبل الطور على قدر رأسِ الشاة، يلقى في كِسْر جُوَالِقَ، ويرحل به، فإذا نزلُوا وضع في وَسَط محلَّتهم، وضربه موسى، وذكر أنهم لم يكونوا يحملون الحَجَر لكنَّهم كانوا يجدُونه في كلِّ مرحلة في منزلته من المرحَلَة الأولى، وهذا أعظم في الآية، ولا خلاف أنه كان حجراً مربَّعاً منْفَصِلاً تطَّرد من كلِّ جهة منه ثلاثُ عُيُونٍ، إِذا ضربه موسى، وإِذا استغنَوْا عن الماءِ، ورحَلُوا، جفَّت العيون، وفي الكلام حذفٌ؛ تقديره: فضربه، فانفجرت، والانفجار: انصداع شيء عن شَيْء؛ ومنه: الفَجْر، والانبجاس في الماء أقلُّ من الانفجار.
و{أُنَاسٍ}: اسم جمعٍ، لا واحد له من لفظه، ومعناه هنا: كلُّ سِبْطٍ؛ لأن الأسباط في بني إِسرائيل كالقبائل في العرب، وهم ذرِّية الاثْنَيْ عَشَرَ أولادُ يعقُوبَ عليه السلام.
وقوله سبحانه: {كُلُواْ واشربوا مِن رِّزْقِ الله...} الآية.
* ت *: رُوِّينَا من طريق أنس بن مالك عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أنَّه قال: «إنَّ اللَّهَ ليرضى عَنِ العَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا، أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا» رواه مُسْلِمٌ، والترمذيُّ، والنسائِيُّ. انتهى.
والمَشْرَبُ: موضع الشُّرْب، وكان لكلِّ سبطٍ عَيْنٌ من تلك العيون، لا يتعداها.
{وَلاَ تَعْثَوْاْ}: معناه: ولا تُفْرِطُوا في الْفَسَادِ.
* ص *: {مُفْسِدِينَ}: حالٌ مؤكِّدة؛ لأن: {لاَ تَعْثَوْا}: معناه: لا تفسدوا. انتهى.

.تفسير الآيات (61- 64):

{وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64)}
وقوله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ ياموسى لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ واحد...} الآيةَ: كان هذا القول منهم في التيه حينَ ملُّوا المَنَّ والسلوى، وتذكَّروا عيشهم الأول بمصْرَ، قال ابنُ عَبَّاس وأكثر المفسِّرين: الفُومُ: الحِنْطَة، وقال قتادة، وعطاء: الفوم: جميع الحبوب التي يمكن أن تختبز، وقال الضحَّاك: الفوم: الثُّوم، وهي قراءة عبد اللَّه بن مسعود، وروي ذلك عن ابن عبَّاس، والثاء تُبْدَلُ من الفاءِ؛ كما قالوا: مَغَاثِيرُ ومَغَافِير.
* ت *: قال أحمد بن نصر الدَّاوُوديُّ: وهذا القولُ أشبه لما ذكر معه، أي: من العَدَسِ والبَصَلِ. انتهى.
{وَأَدْنَى}: قال عليُّ بن سليمان الأخْفَشُ. مأخوذٌ من الدَّنِيءِ البيِّنِ الدناءةِ؛ بمعنى: الأَخَسِّ، إلا أنه خُفِّفَت همزته، وقال غيره: هو مأخوذ من الدُّون، أي: الأحط فأصله أَدْوَن، ومعنى الآية: أَتَسْتَبْدِلُونَ البَقْلَ، والْقِثَّاءَ، والفُومَ، وَالعَدَسَ، والبَصَلَ الَّتي هي أدنى بالمَنِّ والسلْوَى الذي هو خيرٌ.
وجمهور النَّاس يقرءون {مِصْراً} بالتنوين، قال مجاهدٌ وغيره: أراد مِصْراً من الأمصار غير معيَّن، واستدلُّوا بما اقتضاه القرآن من أمرهم؛ بدخول القرية، وبما تظاهَرَتْ به الرواياتُ؛ أنهم سكنوا الشَّام بعد التيه، وقالت طائفة: أراد مِصْرَ فِرْعَونَ بعينها، واستدلوا بما في القرآن من أنَّ اللَّه أورَثَ بني إسْرائيل ديار آل فرعون وآثارهم، قال في مختصر الطبريِّ: وعلى أن المراد مصْر التي خرجُوا منها، فالمعنى: إنَّ الذي تطلُبُونَ كان في البَلَد الَّذي كان فيه عذابُكُم، واستعبادكم، وأسْركم، ثمَّ قال: والأظهر أنهم مُذْ خرجوا من مصْر، لم يرجعوا إليها، واللَّه أعلم. انتهى.
وقوله تعالى: {فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ} يقتضي أنه وَكَلَهُمْ إِلى أنفسهم، و{وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة} معناه: الزموها؛ كما قالت العربُ: ضَرْبَةُ لاَزِبٍ، {وَبَاءُوا بِغَضَبٍ}: معناه: مروا متحمِّلين له، قال الطبري: باءوا به، أي: رجعوا به، واحتملوه، ولابد أن يوصل بَاءَ بخير أو بشرٍّ. انتهى.
وقوله تعالى: {ذلك بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بآيات الله وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ الحق} الأشارة ب {ذلك} إلى ضرب الذلَّة وما بعدهُ، وقوله تعالى: {بِغَيْرِ الحق} تعظيمٌ للشنعة، والذَّنْب، ولم يجرم نبيٌّ قطُّ ما يوجبُ قتله، وإنما التسليطُ عليهم بالقَتْل كرامةٌ لهم، وزيادةٌ لهم في منازلهم صلى اللَّه عليهمْ؛ كَمَثَلِ مَنْ يُقْتَلُ في سبيلِ اللَّهِ من المؤمنين، والباء في بِمَا باء السبب.
و{يَعْتَدُونَ}: معناه: يتجاوزون الحُدُود، والاعتداء هو تجاوُزُ الحدِّ.
وقوله تعالى: {إِنَّ الذين ءامَنُواْ والذين هَادُواْ والنصارى والصابئين...} الآية.
اختلف في المراد ب {الذين ءَامَنُواْ} في هذه الآية.
فقالت فرقة: الذين آمنوا هم المؤمنون حقًّا بنبيِّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم، وقوله: {مَنْ ءَامَنَ بالله} يكون فيهم بمعنى مَنْ ثَبَتَ ودَامَ، وفي سائر الفرق: بمعنى: مَنْ دخَلَ فيه، وقال السُّدِّيُّ: هم أهل الحنيفيَّة ممَّن لم يلحق محمَّداً صلى الله عليه وسلم، والذين هَادُوا، ومن عطف عليهم كذلك ممَّن لم يلحق محمَّداً صلى الله عليه وسلم، {والذين هَادُواْ} هم اليهودُ، وسُمُّوا بذلك؛ لقولهم:
{هُدْنَا إِلَيْكَ} [الأعراف: 156]، أي: تبنا، {والنصارى} لفظةٌ مشتقَّة من النَّصْرِ.
قال: * ص *: {والصابئين}: قرأ الأكثر بالهمز؛ صَبَأَ النَّجْمُ، والسِّنُّ، إِذا خرج، أي: خَرَجُوا من دينٍ مشهورٍ إِلى غيره، وقرأ نافع بغير همز، فيحتمل أن يكون من المهموز المُسَهَّل، فيكون بمعنى الأول، ويحتمل أن يكون مِنْ صَبَا غيْرَ مهموزٍ، أي: مَالَ؛ ومنه: [الهزج]
إلى هِنْدٍ صَبَا قَلْبِي ** وَهِنْدٌ مِثْلُهَا يُصْبِي

انتهى.
قال * ع *: والصَّابِئ؛ في اللغة: من خرج من دين إلى دين.
وأما المشار إليهم في قوله تعالى: {والصابئين} فقال السديُّ: هم فرقة من أهل الكتاب، وقال مجاهد: هم قوم لا دِينَ لهم، وقال ابنُ جْرَيْج: هم قوم تركب دينهم بين اليهوديَّة والمجوسيَّة، وقال ابنُ زَيْد: هم قومٌ يقولون لا إله إلا اللَّه، وليس لهم عمل ولا كتابٌ كانوا بجزيرةِ المَوْصِلِ، وقال الحسنُ بْنُ أبي الحسن، وقتادة: هم قوم يعبدون الملائكةَ، ويصلُّون الخمْسَ إلى القبلة، ويقرءون الزَّبُور رَآهُمْ زيادُ بن أبي سفيان، فأراد وضع الجزْيَة عنْهم حتَّى عُرِّفَ أنهم يعبدون الملائكَةَ.
وقوله تعالى: {وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطور...} الآية: {الطور}: اسم الجبلِ الَّذي نُوجِيَ موسى عليه السلام قاله ابنُ عبَّاس، وقال مجاهدٌ وغيره: {الطور}: اسمٌ لكلِّ جبلٍ، وقصص هذه الآية أنَّ موسى عليه السلام، لما جاء إلى بني إسرائيل من عنْد اللَّه تعالى بالألواح، فيها التوراة، قال لهم: خُذُوهَا، والتزموها، فقَالُوا: لا، إِلاَّ أنْ يكلَّمنا اللَّهُ بهَا كما كلَّمك، فصُعِقُوا، ثم أُحْيُوا، فقال لهم: خُذُوها، فقالوا: لاَ، فأمر اللَّه الملائكَةَ، فاقتلعت جَبَلاً من جبالِ فِلَسْطِينَ طولُه فَرْسَخٌ في مثله، وكذلك كان عسْكَرهم، فجعل عليهم مثْلَ الظُّلَّة، وأخرج اللَّه تعالى البَحْرَ من ورائهم، وأضرم نَاراً من بين أيديهم، فأحاط بهم غضبه، وقيل لهم: خذوها، وعليكُم الميثَاقُ، ولا تضيِّعوها، وإِلا سقط علَيْكم الجبَلُ، وأغرقكم البَحْر، وأحرقتكم النارُ، فَسَجَدُوا؛ توبةً للَّه سبحانه، وأخذوا التوراةَ بالميثاقِ، قال الطبريُّ عن بعض العلماء: لو أخذوها أوَّلَ مرَّة، لم يكُنْ عليهم ميثاقٌ، وكانت سجدتهم على شِقٍّ؛ لأنهم كانوا يرقبون الجَبَل؛ خوْفاً، فلما رحمهم اللَّه سبحانه، قالوا: لا سجدَةَ أفضلُ من سَجْدة تقبَّلها اللَّه، ورَحِمَ بها، فأَمَرُّوا سجودَهم على شِقٍّ واحدٍ.
قال * ع *: والذي لا يصحُّ سواه أن اللَّه تعالى اخترع وقْتَ سجودهم الإِيمان في قلوبهم، لا أنهم آمنوا كُرْهاً، وقلوبهم غيرُ مطمئنة، قال: وقد اختصرْتُ ما سرد في قصصِ هذه الآية، وقصدت أَصَحَّهُ الذي تقتضيه ألفاظُ الآية، وخلط بعْضُ الناس صَعْقَةَ هذه القصَّة بصَعْقة السبعين.
و{بِقُوَّةٍ}: قال ابن عباس: معناه: بجِدٍّ واجتهاد.
وقال ابن زيد: معناه: بتصديق وتحقيق.
{واذكروا مَا فِيهِ}، أي: تدبُّروه واحْفَظُوا أوامره ووعيدَهُ، ولا تنسوه، ولا تضيِّعوه.
وقوله تعالى: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُم...} الآية: تولَّى: أصله الإِعراض والإِدبار عن الشيء بالجِسْمِ، ثم استعمل في الإعراض عن الأمورِ، والأديانِ، والمعتقداتِ؛ اتِّساعاً ومجازاً، وتَوَلِّيهِمْ من بعد ذلك: إما بالمعاصِي، فكان فضل اللَّه بالتوبة والإِمهال إِلَيْها، وإما أن يكون تَوَلِّيهم بالكُفْر، فلم يعاجلْهم سبحانه بالهَلاَكِ؛ لِيَكُونَ من ذرِّيَّتهم من يُؤْمِنُ.