فصل: تفسير الآيات (98- 104):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (89- 91):

{وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)}
وقوله تعالى: {وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ الله...} الآية الكتاب: القرآن، و{مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ}: يعني التوراةَ، و{يَسْتَفْتِحُونَ} معناه أن بني إِسرائيل كانوا قبل مَبْعَثِ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم قد علموا خروجه بما علموا عنْدَهُمْ من صفته، وذكر وقته، وظنُّوا أنه منهم، فكانوا إذا حاربوا الأوْسَ والخَزْرجَ، فغلبتهم العَرَبُ، قالوا لهم: لو قد خرج النبيُّ الذي أظلَّ وقتُهُ، لقاتلْنَاكُم معه، واستنصرنا عليكم به، ويَسْتَفْتِحُونَ: معناه يستنصرُونَ، قال أحمد بن نَصْرٍ الداووديُّ: ومنه: {عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالفَتْحِ}، أي: بالنصر. انتهى.
وروى أبو بكر محمد بن حُسَيْنٍ الاْجُرِّيُّ عن ابن عبَّاس، قال: كانت يهودُ خَيْبَرَ يُقَاتِلُونَ غَطَفَانَ، فكُلَّمَا التقوا، هزمت اليهودَ، فَعَاذَ اليهودُ يوماً بالدعاء، فقالوا: اللهم، إِنا نسألكَ بحَقِّ محمَّدٍ النبيِّ الأُمِّيِّ الذي وعدتَّنَا أن تخرجَهُ لَنَا في آخر الزمان إِلاَّ نَصَرْتَنا علَيْهم، فكانوا إِذا التقوا، دعوا بهذا الدعاء، فهزموا غَطَفَانَ، فلما بُعِثَ رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَفَرُوا به، فأنزل اللَّه عزَّ وجلَّ، {وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ}، والاستفتاحُ: الاستنصار، ووقع ليهود المدينة نحو هذا مع الأنصار قُبَيْل الإِسلام. انتهى من تأليف حسن بن عليِّ بن عبد المَلْكِ الرّهونيِّ المعروفِ بابْنِ القَطَّان، وهو كتابٌ نفيسٌ جِدًّا ألَّفه في معجزات النبيِّ صلى الله عليه وسلم وآيات نبوءته.
وروي أن قريظة والنضير وجميعَ يَهُودِ الحجازِ في ذلك الوقْتِ كانوا يستفتحون على سائر العرب، وبسبب خروج النبيِّ المنتظر، كانت نقلتهم إلى الحجاز، وسُكْناهم به، فإِنهم كانوا علموا صُقع المَبْعَث، وما عرفوا هو محمَّد صلى الله عليه وسلم وشرعه؛ ويظهر في هذه الآية العنادُ منهم، وأن كفرهم كان مع معرفة ومعاندة و{لَعْنَةُ الله} إبعاده لهم، وخزيهم لذلك.
و{بِئْسَ}: أصله {بَئِسَ}، سُهِّلت الهمزة، ونقلت حركتها إلى الباء، ومَا عند سيبويه: فَاعِلَةٌ ب {بِئْسَ} والتقدير: بِئْسَ الذي اشتروا به أنفسُهُمْ.
و{اشتروا}: بمعنى: بَاعُوا.
و{مَا أَنزَلَ الله}، يعني به القرآن، ويحتمل التوراة، ويحتمل أن يراد الجميع من توراة، وإِنجيل، وقرآن؛ لأن الكفر بالبعض يستلزمُ الكفر بالكلِّ، و{مِن فَضْلِهِ}، يعني: من النبوءة والرسالة، و{مَن يَشَآءُ}، يعني به محمَّداً صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم حَسَدوه لما لم يكن منهم، وكان من العرب، ويدخلُ في المعنى عيسى صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم كفروا به بَغْياً، واللَّه قد تفضَّل عليه.
و{بَاءُو}: معناه: مَضَوْا متحمِّلين لما يذكر؛ أنهم بَاءُوا به.
وقال البُخَاريُّ: قال قتادة: {بَاءُو}: معناه: انقلبوا. انتهى.
و{بِغَضَبٍ} معناه من اللَّه تعالى؛ لكفرهم بمحمَّد صلى الله عليه وسلم على غَضَبٍ متقدِّم من اللَّه تعالى عليهم، قيل: لعبادتهم العِجْلَ.
وقيل: لكفرهم بعيسى- عليه السلام- فالمعنى: على غَضَبٍ قد باءَ به أسلافهم، حظُّ هؤلاءِ منْهُ وافرٌ؛ بسبب رضاهم بتلك الأفعال، وتصويبِهِمْ لها.
و{مُّهِينٌ}: مأخوذ من الهَوَانِ، وهو الخلود في النَّار؛ لأن من لا يخلد من عصاة المسلمين، إنما عذابه كعذابِ الذي يقام عليه الحدُّ، لا هوان فيه، بل هو تطهيرٌ له.
وقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ}، يعني لليهود: {آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ} على محمَّد صلى الله عليه وسلم، وهو القرآن، {قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا} يعنون: التوراةَ، {وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءَهُ}؛ قال قتادة: أي: بما بعده، قال الفَرَّاء. أي: بما سواه، ويعني به: القرآن، ووصف تعالى القرآن؛ بأنه الحق و{مُصَدِّقاً}: حالٌ مؤكِّدة؛ عند سيبَوَيْهِ.
وقوله تعالى: {قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاءَ الله مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} ردٌّ من اللَّه تعالى عليهم، وتكذيبٌ لهم في ذلك، واحتجاج عليهم.

.تفسير الآيات (92- 95):

{وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93) قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآَخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95)}
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ جَآءَكُم موسى بالبينات}: {البينات}: التوراةُ، والعصَا، وفَرْقُ البَحْرِ، وسَائِرُ الآياتِ، و{خُذُواْ مَا ءاتيناكم}: يعني: التوراةَ والشرْعَ {بِقُوَّةٍ}، أي: بعزمٍ، ونشاطٍ. وجِدٍّ.
{وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ العجل}: أي: حبَّ العجْلِ، والمعنى: جُعِلَتْ قلوبهم تَشْربه، وهذا تشبيهٌ ومجازٌ عبارة عن تمكُّن أمر العِجْل في قلوبهم.
وقوله تعالى: {بِكُفْرِهِمْ} يحتمل أن تكون باء السببِ، ويحتمل أن تكون بمعنى مَعَ.
وقوله تعالى: {قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إيمانكم} أمر لمحمَّد صلى الله عليه وسلم أن يوبِّخهم؛ لأنَّه بئس هذه الأشياء التي فَعَلْتُمْ، وأمركم بها إِيمانُكُم الذي زعمتُمْ في قولكم: {نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا}.
وقوله تعالى: {قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدار الأخرة...} الآية: أمر لمحمَّد صلى الله عليه وسلم أنْ يوبِّخهم، والمعنى: إِن كان لكم نعيمُهَا وحُظْوَتُهَا، وخيرها، فذلك يقتضي حرْصَكُم على الوصُول إِليها، {فَتَمَنَّوُاْ الموت}، والدَّارُ: اسمُ كان، و{خَالِصَة}: خبرها و{مِّن دُونِ الناس} يحتملُ أن يراد ب النَّاس: محمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، ومن تبعه، ويحتمل أن يراد العموم، وهذه آية بيِّنة أعطاها اللَّه رسولَهُ محمَّداً صلى الله عليه وسلم؛ لأن اليهود قالَتْ: {نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18] وشبه ذلك من القول، فأمر اللَّه نبيَّه أن يدعوهم إلى تمنِّي الموت، وأن يعلمهم أنه من تمنَّاه منهم مات، ففعل النبيُّ صلى الله عليه وسلم ذلك، فعلموا صدْقَهُ، فَأَحْجَمُوا عن تمنِّيه فَرَقاً من اللَّه؛ لِقبحِ أفعالهم ومعرفتهم بكذبِهم، وحرصاً منهم على الحَيَاة، وقيل: إِن اللَّه تعالى منعهم من التمنِّي، وقصرهم على الإِمساك عنه؛ لتظهر الآية لنبيِّه صلى الله عليه وسلم.
* ت *: قال عِيَاضٌ: ومن الوجوه البَيِّنة في إِعجاز القُرْآن آيٌ وردتْ بتعجيز قومٍ في قضايا، وإعلامهم أنهم لا يفعلونها، فما فَعَلُوا ولا قَدَرُوا على ذلك؛ كقوله تعالى لليهود: {قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدار الأخرة عِندَ الله خَالِصَةً...} الآية: قال أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَاج في هذه الآية: أعظم حجة، وأظهر دلالة على صحَّة الرسالة؛ لأنهُ قال لهم: {فَتَمَنَّوُاْ الموت} وأعلمهم أنهم لَنْ يتمنَّوْهُ أبداً، فلم يتمنَّهُ وَاحِدٌ منهم، وعن النبيِّ صلى الله تعالى عليه وسلم «والَّذي نَفُسِي بيَدِهِ، لا يقولها رجُلٌ منهم إلا غصَّ بِرِيقِهِ»، يعني: يموتُ مكانه، قال أبو محمَّدٍ الأصيليُّ: من أَعجب أمرهم؛ أنَّهُ لا تُوجَدُ منهم جماعةٌ ولا واحدٌ من يومِ أَمَرَ اللَّهُ تعالى بذلك نبيَّهُ يقدَّم عليه، ولا يجيب إليه، وهذا موجودٌ مشاهَدٌ لمن أراد أن يمتحنه منهم. انتهى من الشِّفَا.
والمراد بقوله: {تَمَنَّواْ}: أريدوهُ بقلوبكم، واسْألوهُ، هذا قَوْلُ جماعة من المفسِّرين، وقال ابن عبَّاس: المراد به السؤالُ فقطْ، وإِن لم يكن بالقَلْب، ثم أخبر تعالى عنهم بعجزهم، وأنهم لا يتمنَّونه أبداً، وأضاف ذنوبهم واجترامهم إِلى الأيدي؛ إِذ الأَكْثَرُ من كسب العبد الخير والشرَّ، إِنما هو بِيَدَيْهِ، فحمل جميعُ الأشياء على ذلك.
وقوله تعالى: {والله عَلِيمٌ بالظالمين}: ظاهره الخبر، ومضمَّنه الوعيدُ؛ لأن اللَّه سبحانه عليمٌ بالظالمينَ، وغيرهمْ، ففائدة تخصيصهم حصولُ الوعيد.

.تفسير الآيات (96- 97):

{وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96) قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97)}
وقوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناس على حياة} الآية: وحرصهم على الحياة لمعرفتهم بذنوبهم، وأن لا خير لهم عند اللَّه تعالى.
وقوله تعالى: {وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ}: قيل: المعنى: وأحرصُ من الذين أشركوا لأن مشركِي العَرَبِ لا يعرفون إلا هذه الحياة الدنيا، والضمير في {أَحَدُهُمْ} يعودُ في هذا القول على اليهودِ، وقيل: إِن الكلام تَمَّ في حياةٍ، ثم استؤنف الإِخبار عن طائفة من المشركين؛ أنهم يودُّ أحدهم لو يُعمَّر ألف سنَةٍ، والزحزحة الإبعاد والتنحية، وفي قوله تعالى: {والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} وعيدٌ.
وقوله تعالى: {قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ...} الآيةَ: أجمع أهل التفْسير؛ أن اليهود قالتْ: جبريلُ عدوُّنا، واختلف في كيفيَّة ذلك، فقيل: إن يهود فَدَك قالوا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: «نَسْأَلُكَ عَنْ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ، فَإِنْ عَرَفْتَهَا، اتبعناك، فَسَأَلُوهُ عَمَّا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ على نَفْسِهِ، فَقَالَ: لُحُومُ الإِبِلِ، وأَلْبَانُهَا، وَسَأَلُوهُ عَنِ الشَّبَهِ فِي الوَلَدِ، فَقَالَ: أَيُّ مَاءٍ عَلاَ، كَانَ لَهُ الشَّبَهُ، وَسَأَلُوهُ عَنْ نَوْمِهِ، فَقَالَ: تَنَامُ عَيْنِي، وَلاَ يَنَامُ قَلْبِي، وَسَأَلُوهُ عَنْ مَنْ يَجِيئُهُ مِنَ المَلاَئِكَةِ، فَقَالَ: جِبْرِيلُ، فَلَمَّا ذَكَرَهُ، قَالُوا: ذَاكَ عَدُوُّنَا؛ لأنَّهُ مَلَكُ الحَرْبِ، وَالشَّدَائِدِ، وَالجَدْبِ، وَلَوْ كَانَ الَّذِي يَجِيئُكَ مِيكَائِيلُ مَلَكُ الرَّحْمَةِ، وَالخِصْب، والأَمْطَار، لاتَّبَعْنَاكَ». وَفِي جِبْرِيلَ لغاتٌ:
جِبْرِيلُ؛ بكسر الجيم والراء من غير همز، وبها قرأ نافع، وجَبْرِيلُ، بفتح الجيم وكسر الراء من غير همز، وبها قرأ ابن كثير، وروي عنه؛ أنه قال: رأيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم في النَّوْمِ وهو يَقُرَأُ: جَبْرِيلَ وَمِيكَالَ، فلا أزال أقرأها أبداً كذلك.
* ت *: يعني، واللَّه أعلم: مع اعتماده على روايتها، قال الثعلبيُّ: والصحيح المشهورُ عن ابْن كَثِيرٍ ما تقدَّم من فتح الجيم، لا ما حُكِيَ عنه في الرؤْيَا من كَسْرها. انتهى.
وذكر ابن عبَّاس وغيره؛ أنَّ جِبْر، ومِيك، وإِسْرَاف هي كلُّها بالأعجميَّة بمعنى عَبْد وممْلُوك، وإِيلُ: اللَّهُ.
وقوله تعالى: {فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ} الضمير في إِنَّهُ عائد على اللَّه تعالى، وفي {نَزَّلَهُ} عائدٌ على جِبْرِيل، أي: بالقرآن، وسائر الوحْي، وقيل: الضمير في إنَّهُ عائدٌ على جبريل، وفي {نَزَّلَهُ} عائد على القرآن، وخص القلب بالذِّكْر؛ لأنه موضع العقْل والعلْم، وتلقِّي المعارف.
و{بِإِذْنِ الله}: معناه: بعلْمه وتمكينه إِياه من هذه المنزلة، و{مُصَدِّقاً}: حالٌ من ضمير القرآن في {نَزَّلَهُ}، و{مَا بَيْنَ يَدَيْهِ}: ما تقدَّمه من كتب اللَّه تعالى، {وَهُدًى}، أي: إِرشاد.

.تفسير الآيات (98- 104):

{مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98) وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99) أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100) وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)}
وقوله تعالى: {مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلَّهِ...} الآيةَ: وعيدٌ وذمٌّ لمعادِي جبريلَ، وإعلام أن عداوة البعض تقتضي عداوةَ اللَّهِ لهم، وعطف جبريل وميكائل على الملائكة، وقد كان ذكْر الملائكة عمَّهما؛ تشريفاً لهما؛ وقيل: خُصَّا لأن اليهود ذكروهما، ونزلَتِ الآية بسببهما؛ فذكرا لئلا تقول اليهود: إِنا لم نُعَادِ اللَّه، وجميعَ ملائكتِهِ، وعداوةُ العبدِ للَّه هي مَعْصِيَتُهُ، وترْكُ طاعته، ومعاداةُ أوليائه، وعداوةُ اللَّه للعبْدِ تعذيبُهُ وإظهار أثر العداوة عليه.
وقوله تعالى: {أَوَكُلَّمَا عاهدوا عَهْدًا...} الآيةَ: قال سيبوَيْه: الواو للعطف، دخلت عليها ألف الاستفهام، والنبذ: الطَّرْح، ومنه المنبوذ، والعَهْد الذي نبَذُوه: هو ما أُخِذَ عليهم في التوراة من أمر النبيِّ صلى الله عليه وسلم {وَلَمَّآ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ الله} هو محمَّد صلى الله عليه وسلم و{مُصَدِّقٌ}: نعْتٌ لرسولٍ، وكتابُ اللَّه: القُرْآن، وقيل: التوراة؛ لأن مخالفتها نبذٌ لَهَا، و{وَرَاء ظُهُورِهِمْ}؛ مَثَلٌ؛ لأن ما يجعل ظهريًّا، فقد زال النظَر إِلَيْه جملةً، والعرب تقول: جَعَلَ هذا الأمْرَ وراءَ ظهره، ودَبْرَ أُذُنِهِ.
و{كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}: تشبيهٌ بمن لا يَعْلَم فيجيء من اللفظ أنهم كفروا على عِلْمٍ.
وقوله تعالى: {واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين...} الآية: يعني اليهود، و{تَتْلُواْ}: قال عطاءٌ: معناه: تقرأ، وقال ابن عبَّاس: {تَتْلُواْ}: تتبع، و{على مُلْكِ سليمان}، أي: على عهد مُلْكِ سليمانَ، وقال الطبريُّ: {اتبعوا}: بمعنى: فَضَّلُوا، و{على مُلْكِ سليمان}، أي: على شرعه ونبوءته، والَّذي تلته الشياطينُ، قيل: إِنهم كانوا يلقون إِلى الكهنة الكَلِمَةَ من الحَقِّ معها المائةُ من الباطل؛ حتى صار ذلك علمهم، فجمعه سُلَيْمَانُ، ودفَنَه تحْت كرسيِّه، فلما مات، أخرجته الشياطينُ، وقالت: إن ذلك كان علْمَ سُلَيْمَان.
وروي أنَّ رسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لما ذَكَر سليمانَ- عليه السلام- في الأنبياء، قال بعضُ اليهود: انظروا إلى محمَّد يذكر سليمانَ في الأنبياء، وما كان إِلا ساحراً.
وقوله تعالى: {وَمَا كَفَرَ سليمان} تبرئةٌ من اللَّه تعالى لسليمان- عليه السلام.
والسِّحْرُ والعمل به كفْرٌ، ويقتلُ السَّاحر عند مالك؛ كُفْراً، ولا يستتابُ؛ كالزنديقِ، وقال الشافعيُّ: يسأل عن سِحْره، فإِن كان كُفراً، استتيب منه، فإِن تاب، وإِلا قتل، وقال مالكٌ فيمَنْ يعقدُ الرجَالَ عن النساءِ: يعاقَبُ، ولا يُقْتَلُ، والناس المعلَّمون: أتباعُ الشياطين من بني إِسرائيل، {وَمَا أُنزِلَ عَلَى الملكين}: مَا عطْفٌ على السِّحْر، فهي مفعولةٌ، وهذا على القول بأن اللَّه تعالى أنزل السِّحْرَ على الملكَيْن؛ ليكفر به من اتبعه، ويؤمن به من تركه، أو على قول مجاهد وغيره؛ أنَّ اللَّه تعالى أنزل على الملكَيْن الشيْءَ الذي يفرق به بين المرء وزوجه، دون السِّحْر، أو على القول؛ أن اللَّه تعالى أنزل السحر عليهما؛ ليُعْلَم على جهة التحذير منه، والنهْيِ عنه.
قال * ع *: والتعليمُ؛ على هذا القول، إِنما هو تعريف يسير بمبادئه، وقيل: إِنَّمَا عطف على ما في قوله: {مَا تَتْلُواْ}، وقيل: {ما} نافية، ردٌّ على قوله: {وَمَا كَفَرَ سليمان}، وذلك أنَّ اليهود قالُوا: إن اللَّه تعالى أنزل جبريلَ وميكَائلَ بالسِّحْر، فنفى اللَّه ذلك.
* ت *: قال عِيَاضٌ: والقِرَاءَةُ بكسر اللام من الملكَيْن شاذَّة، وبَابِل: قُطْر من الأرض، وهَارُوتُ ومَارُوتُ: بدل من الملكَيْن، وما يذكر في قصتهما مع الزُّهرةِ كُلُّه ضعيفٌ؛ وكذا قال: * ع *.
* ت *: قال عياض: وأما ما ذكره أهل الأخبار، ونقله المفسِّرون في قصَّة هَارُوت ومَارُوت. وما رُوِيَ عن عليٍّ، وابنِ عَبَّاسٍ- رضي اللَّه عنهما- في خَبَرِهما، وابتلائهما، فاعلم- أكرمك اللَّه- أن هذه الأخبار لم يُرْو منها سقيمٌ ولا صحيحٌ عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وليس هو شَيْئاً يؤخذ بقياسٍ، والذي منه في القرآن، اختلف المفسِّرون في معناه، وأنكَرَ ما قال بعضهم فيه كثيرٌ من السلف، وهذه الأخبار من كتب اليهود، وافترائهم؛ كما نصَّه اللَّه أول الآيات. انتهى. انظره.
وقوله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ...} الآية: ذكر ابْنُ الأعرابيِّ في اليَاقُوتَةِ؛ أنَّ {يُعَلِّمَانِ} بمعنى يُعْلِمَانِ، ويشعران؛ كما قال كعب بن زهير: [الطويل]
تَعَلَّمْ رَسُولَ اللَّهِ أنَّكَ مُدْرِكِي ** وَأَنَّ وَعِيداً مِنْكَ كَالأَخْذِ بِالْيَدِ

وحَمَلَ هذه الآية على أن الملكين إِنما نزلا يُعْلِمَانِ بالسَّحْر، وينهَيَان عنه، وقال الجمهورُ: بل التعليمُ على عرفه.
* ص *: وقوله تعالى: {مِنْ أَحَدٍ}: {مِنْ} هنا زائدةٌ مع المفعول لتأكيد استغراق الجنْس؛ لأن أحداً من ألفاظ العموم. انتهى.
و{يَفْرِّقُونَ}: معناه فرقةَ العِصْمَة، وقيل: معناه يُؤْخِّذُونَ الرجُلَ عن المرأة؛ حتى لا يَقْدِرَ على وطْئها، فهي أيضاً فرقةٌ، و{بِإِذُنِ الله}: معناه: بعلمه، وتمكينه، و{يَضُرُّهُمْ}: معناه: في الآخرة، والضميرُ في علموا عائدٌ على بني إِسرائيل، وقال: {اشتراه}؛ لأنهم كانوا يعطون الأجرة على أنْ يعُلَّمُوا، والخَلاَقُ: النصيب والحظُّ وهو هنا بمعنى الجاه والقَدْرِ، واللامُ في قوله: {لَمَن} للقسمِ المؤذنة بأنَّ الكلام قَسَمٌ لا شرط.
* م *: {وَلَبِئْسَ مَا}: أبو البقاء: جواب قسمٍ محذوفٍ، والمخصوصُ بالذم محذوفٌ، أي: السحرأو الكفر، والضمير في {بِهِ} عائدٌ على السحر، أو الكفر. انتهى.
و{شَرَوْاْ}: معناه: باعوا، والضمير في {يَعْلَمُونَ} عائدٌ على بني إسرائيل اتفاقا، {وَلَوْ أَنَّهُمْ ءَامَنُواْ}: يعني: الذين اشْتَرُوا السِّحْرَ، وجوابُ: {لَوْ}: {لَمَثُوبَةٌ}، والمثوبةُ؛ عند الجمهور: بمعنى الثواب.
وقوله سبحانه: {لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} يحتمل نفْيَ العلْمِ عنهم، ويحتمل: لو كانوا يعلمون عِلْماً ينفع.
وقرأ جمهورُ النَّاس: {راعنا}؛ من المراعاة؛ بمعنى: فَاعِلْنَا، أي: ارعنا نَرْعَكَ، وفي هذا جَفَاءٌ أنْ يُخَاطِب به أحدٌ نبيِّهُ، وقد حضَّ اللَّه تعالى على خَفْض الصوت عنده، وتعزيرِهِ وتوقيرِهِ، وقالتْ طائفةٌ: هي لغةٌ للعرب، فكانت اليهودُ تصرفها إلى الرُّعُونَة؛ يظهرون أنهم يريدون المراعاة، ويُبْطِنُون أنهم يريدونَ الرُّعُونَة التي هي الجَهْلُ، فنهى اللَّه المؤمنين عن هذا القول؛ سَدًّا للذريعةِ؛ لئلاَّ يتطرق منه اليهود إِلى المحظور، و{انظرنا}: معناه: انتظرنا، وأمهل علَيْنا، ويحتمل أن يكون المعنى: تفقَّدنا من النَّظَر، والظاهرُ عنْدي استدعاءُ نظر العَيْن المقترِنِ بتدبُّر الحال، ولما نهى اللَّه تعالى في هذه الآية، وأمر، حض بَعْدُ على السمع الذي في ضمنه الطاعةِ، وأَعلَمَ أنَّ لمن خالف أمره، فكفر عذاباً أليماً، وهو المؤلم، {واسمعوا}: معطوفٌ على {قُولُواْ}، لا على معمولها.