فصل: تفسير سورة المزمل:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (1- 3):

{قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3)}
قوله عز وجل: {قُلْ أُوحِىَ إِلَىَّ أَنَّهُ استمع نَفَرٌ مِّنَ الجن} هؤلاءِ النفرُ من الجنِّ هم الذين صَادَفُوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقرأ ببطنِ نخلةٍ في صَلاَةِ الصِّبْحِ، وقد تَقَدَّمَ قَصَصَهم في سورةِ الأحقافِ، وقولُ الجن: {إِنَّا سَمِعْنَا...} الآيات، هو خطابٌ منهم لِقَوْمهم.
و{قُرْآناً عَجَباً}: معناه: ذَا عَجَبٍ؛ لأن العَجَبَ مصدرٌ يقعُ من سَامِعِ القرآن لبراعتِه وفصاحتِه ومُضَمَّناتِه.
وقوله: {وَأَنَّهُ تعالى جَدُّ رَبِّنَا} قَالَ الجمهورُ: معناه: عَظَمَةُ ربنا، وروي عن أنسٍ أنه قال: كان الرجلُ إذا قَرَأ البَقَرَةَ، وآلَ عمرانَ جَدَّ في أعيننا، أي: عَظُم، وعن الحسن: {جَدُّ رَبِّنَا} غِنَاهُ وقال مجاهد: ذِكْرُهُ، وقال بعضهم: جَلاَلُه، ومَنْ فَتَح الألِفَ من قوله: {وَأَنَّهُ تعالى} اخْتَلَفُوا في تأويلِ ذلك، فقال بعضُهم: هو عَطْفٌ على {أَنَّهُ استمع} فيجيءُ عَلَى هذا قولُه تعالى: {وَأَنَّهُ تعالى} مما أُمِرَ أنْ يقولَ النبيَّ إنَّه أوحي إليه، ولَيْسَ هو من كلامِ الجنِّ، وفي هذا قَلَقٌ، وقال بعضهم: بل هو عطف على الضمير في {بِهِ} كأنه يقول: فآمنا به وبأنه تعالى، وهذا القول أبْيَنَ في المعنى، لكنَّ فيه من جهةِ النحو العطفَ على الضميرِ المخفوضِ دُونَ إعَادَةِ الخَافِضِ، وذلك لاَ يَحْسن * ت *: بلْ هُوَ حَسَنٌ؛ إذ قَدْ أتى في النظم والنَّثْرِ الصحيحِ، مُثْبَتاً، وقرأ عكرمة: {تعالى جَدٌّ رَبُّنَا} بِفَتْحِ الجيمِ وضَمِّ الدالِ وتَنْوِينِهِ ورفْعِ الرَّبِّ، كأنه يقول: تعَالَى عَظِيمٌ هو ربُّنا، فَ {رَبُّنَا} بدَلٌ والجَدُّ: العَظِيمُ في اللغةِ، وقرأ أبو الدرداء: {تعالى ذِكْرُ رَبِّنَا} ورُوي عنه: {تعالى جَلاَلُ رَبِّنَا}.

.تفسير الآيات (4- 5):

{وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5)}
وقوله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا} لا خِلاَفَ أن هَذَا مِنْ قَوْلِ الجِنَّ، والسفيهُ: المذكورُ قال جمهورٌ من المفسرينَ: هُو إبليسُ لعنه اللَّه، وقال آخرونَ: هو اسْمُ جنسٍ لكلِّ سفيهٍ مِنْهُمْ وَلاَ مَحَالَة أَنَّ إبليسَ صَدْرٌ في السفاهةِ، وهذا القول أحْسَنُ، والشَّطَطُ: التَّعَدِّي وتجاوُزُ الحدّ بقولٍ أو فعل، * ص *: {شَطَطًا} أبو البقاءِ: نَعْتٌ لمصدَرٍ محذوفٍ، أي: قَوْلاً شَطَطَا، انتهى، ثم قال أولَئِكَ النفرُ: {وَأَنَّا ظَنَنَّا} قبلَ إيماننا {أَن لَّن تَقُولَ الإنس والجن عَلَى الله كَذِباً} في جِهَةِ الألوهيةِ وما يتعلق بذلك.

.تفسير الآيات (6- 10):

{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآَنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10)}
وقوله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإنس يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الجن...} الآية، منَ القُرَّاءِ مَنْ كَسَرَ الهمزةَ مِنْ {إنَّهُ}، ومنهمْ من فَتَحَها، والكسْرُ أوْجَهُ، والمعنى في الآيةِ: ما كَانَتِ العربُ تفعله في أسْفَارِها من أنَّ الرَّجُلَ إذا أرادَ المَبِيتَ بِوَادٍ، صاحَ بأعلى صوتِه: يا عزيزَ هذا الوَادِي؛ إني أعوذُ بكَ مِنَ السُّفَهَاءِ الذين في طاعتِكَ، ويعتقدُ بذلكَ أنَّ الجِنِّيَّ يحميه ويمنعَه، قال قتادة: فكانت الجنُّ تحتقرُ بني آدمَ وتَزْدَرِيهم لِمَا تَرَى مِنْ جَهلِهِم، فكانوا يَزِيدُونَهمْ مخافةً، ويتعرضُون للتَّخَيُّلِ لهم، ويُغْوُونَهم، في إرادَتِهم، فهذا هو الرَّهَقُ الذي زادته الجنُّ بني آدم، وقال مجاهد وغيره: بنو آدمَ همُ الذينَ زَادُوا الجنّ رَهَقاً وهي الجَرَاءَةُ والطُّغْيان وقَدْ فَسَّر قوم الرَّهَقَ بالإثْم.
وقوله: {وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ} يريدُ به بني آدم.
وقوله: {كَمَا ظَنَنتُمْ} مخاطبةٌ لقومِهم من الجنِّ وقولهم: {أَن لَّن يَبْعَثَ الله أَحَداً} يحتملُ معنيين: أحَدُهُما بَعْثُ الحَشْرِ من القبورِ، والآخرُ بَعْثُ آدَمِيٍّ رَسُولاً، وذكر المَهدوي تأويلاً ثالثاً، أنَّ المعنى: وأنَّ الجنَّ ظَنُّوا كما ظَنَنْتُمْ أيها الإنْسُ، فهِي مخاطَبَةٌ من اللَّهِ تعالى، قال الثعلبيُّ: وقيل: إن قَولَه: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإنس...} الآية، ابتداء إخْبارٍ مِنَ اللَّه تعالى، ليسَ هو من كلامِ الجنِّ، انتهى، فهو وِفَاقٌ لما ذكره المهدوي، وقولهم: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السماء} قال جمهورُ المتأولينَ: معناه الْتَمَسْنَا، والشُّهُبُ كواكبُ الرجْمِ والحَرَسُ يحتملُ أن يريدَ الرَّمْيَ بالشُّهُبِ، وكرَّرَ المعْنَى بلفظٍ مختلف، ويحتملُ أن يريدَ الملائكةَ، و{مقاعد}: جَمْع مَقْعَدِ وقَدْ تَقَدَّمَ بيانُ ذلِكَ في سورةِ الحِجْرِ، وقولهم: {فَمَن يَسْتَمِعِ الأن...} الآية، قَطْعٌ على أنَّ كلَّ مَنِ استمع الآنَ أحْرَقَه شهابٌ فليسَ هنا بَعْدُ سَمْعٌ إنَّما الإحراقُ عِنْدَ الاِستماعِ، وهذا يقتضي أنَّ الرَّجْمَ كَانَ في الجاهليةِ، ولكنَّه لم يكنْ بمُسْتأصِلٍ، فَلَمَّا جاءَ الإسْلاَمُ، اشْتَدَّ الأَمْرُ؛ حتى لم يكُنْ فِيه وَلاَ يَسِيرُ سَمَاحَةً، و{رَّصَداً}: نعتٌ ل {شِهَاب} ووصفَه بالمصْدَرِ، وقولهم: {وَأَنَّا لاَ نَدْرِى أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن في الأرض...} الآية، معناه: لاَ نَدْرِي أَيُؤْمِنُ الناسُ بهذا النبيِّ فَيَرْشُدُوا، أمْ يَكْفُرُونَ بهِ فَيَنْزِلَ بهِمُ الشَّرُّ، وعبارة الثعلبي: {وأَنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض} حينَ حُرِسَتِ السماءُ ومُنِعْنَا السَّمْعَ، {أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً}، انتهى.

.تفسير الآيات (11- 15):

{وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آَمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15)}
وقولهم: {وَأَنَّا مِنَّا الصالحون} إلى آخرِ قولهم: {وَمِنَّا القاسطون} هُوَ من قولِ الجِنّ، وقولهم: {وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} أي: غَيْرُ صالحين، * ص *: {دُونَ ذَلِكَ} قِيل: بمعنى غَيْرُ ذلك، وقيلَ: دُونَ ذلكَ في الصلاحِ، ف {دون} في موضِع الصِّفَةِ لمحذوفٍ، أي: ومنَّا قومٌ دونَ ذلك، انتهى، والطرائقُ: السِّيَرُ المختلفَة، والقِدَدُ كذلكَ هي الأشْياء المختلفة كأنه قَدْ قُدَّ بعضُها من بعضٍ وفُصِلَ، قال ابن عباس وغيره: {طَرَائِقَ قِدَداً} أهواء مختلفةً. وقولهم: {وَأَنَّا ظَنَنَّا} أي: تَيَقَّنَّا، فالظِّنّ هنا بمعنى الْعِلْمِ {أَن لَّن نُّعْجِزَ الله في الأرض...} الآية، وهذا إخبارٌ منهم عَنْ حَالِهِمْ بَعْدِ إيمانِهم بما سمعوا من نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، و{الهدى} يريدونَ به القرآنَ، والبَخْسُ النَّقْصُ، والرَّهَقُ تَحْمِيلُ مَا لاَ يطاقُ، وما يَثْقُل، قال ابن عباس: البَخْسُ نَقْصُ الحسناتِ، والرَّهَقُ الزيادةُ في السيئات.
وقوله تعالى: {فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْاْ رَشَداً} الوجْهُ فيه أنْ يكونَ مخاطَبَةً من اللَّه تعالى لنبيه محمد عليه السلام ويُؤيِّدُه ما بَعْدَه من الآياتِ، و{تَحَرَّوْاْ} معناه: طَلَبُوا باجتهادهم.

.تفسير الآيات (16- 18):

{وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17) وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18)}
وقوله سبحانه: {وَأَلَّوِ استقاموا عَلَى الطريقة...} الآية، قال ابن عباس وقتادة ومجاهد وابن جبير: الضميرُ في قوله: {استقاموا} عائِدٌ عَلى القاسِطينَ، والمعنى: لوِ اسْتَقَامُوا على طريقةِ الإسْلاَمِ والحَقِّ لأَنْعَمْنَا عليهم، وهذا المعنى نحوُ قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الكتاب ءَامَنُواْ واتقوا} [المائدة: 65] إلى قوله: {لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم} [المائدة: 66] والقَاسِطُ الظَّالِم، والماء الغَدَقُ هو الماءُ الكثيرُ، و{لِّنَفْتِنَهُمْ}: معناه: لنختبرَهم، قال عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه: حيْثُ يكونُ الماءُ فَثَمَّ المالُ، وحَيْثُ المالُ فَثَمَّ الفِتْنَةُ، ونَزَعَ بهذه الآية، وقال الحسن وجماعة من التابعين: كانتِ الصحابَةُ رضي اللَّه عنهم سَامِعينَ مُطِيعينَ فَلَمَّا فُتِحْتْ كُنُوزُ كِسْرَى وقَيْصَرَ على الناس، ثَارَتِ الفِتَن، و{نُسْلكه} نُدْخلُه، و{صَعَداً}: معناه: شَاقًّا، وقال ابن عباس وأبو سعيد الخدري: {صعداً} جَبَلٌ في النارِ، {وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ} قيل: أرادَ البيوتَ التي للعبادةِ والصلاةِ في كلِّ ملةٍ، وقال الحسن: أرادَ بها كلَّ موضِع يُسْجَدُ فيه؛ إذ الأَرْضُ كلها جُعِلَتْ مَسْجِداً لهذه الأمة، ورُوِيَ: أنّ هذه الآيةَ نَزَلَتْ بسبب تَغَلُّبِ قريشٍ عَلى الكعبةِ حينئذٍ، فقيل للنبي صلى الله عليه وسلم المواضعُ كلُّها لِلَّهِ فَاعْبُدْه حيثُ كنتَ، قال * ع *: والمسَاجِدُ المخصوصَةُ بَيِّنَةُ التَمَكُنِ في كونها لِلَّهِ تعالى، فيصلُحُ أنْ تُفْرَدَ للعبادةِ، وكلِّ مَا هُوَ خَالِصٌ لِلَّهِ تعالى، وأنْ لاَ يُتَحَدَّثَ بها في أمورِ الدنيا، ولا يُجْعَلُ فيها لِغَيرِ اللَّهِ نَصِيبٌ.

.تفسير الآيات (19- 22):

{وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19) قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22)}
وقوله تعالى: {وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ الله} يحتملُ: أنْ يكونَ خِطَاباً مِنَ اللَّهِ تعالى، ويحتملُ: أنْ يَكُونَ إخباراً عَنِ الجِنِّ، وَعَبْدُ اللَّهِ هو محمد صلى الله عليه وسلم، والضميرُ في {كَادُواْ} يحتملُ: أنْ يكونَ لكفارِ قريشٍ، وغيرِهم في اجتماعهم على رَدِّ أمرِهِ صلى الله عليه وسلم، وقيلَ: الضميرُ للجِنِّ، والمعنى أنهم كادوا يَتَقَصَّفُونَ عليه؛ لاسْتِماعِ القرآن، وقال ابن جبير: معنى الآيةِ أنَّها قَوْلُ الجِنِّ لقومِهم؛ يحكُون لَهُم، والعَبْدُ محمدٌ عليه السلام، والضميرُ في {كَادُواْ} لأَصْحَابهِ الذينَ يُطِيعُونَ له ويَقْتَدُونَ بهِ في الصلاةِ فَهُمْ عليه لِبَدٌ، واللِبَدُ: الجماعاتُ شُبِّهَتْ بالشَّيءِ المُتَلبِّدِ، وقال البخاريُّ: قال ابن عباس: {لِبَداً} أعْوَاناً، انتهى،، و{يَدْعُوهُ} معناه: يَعْبُدُه، وقيل: عبدُ اللَّهِ في الآيةِ المرادُ به نوحٌ، وقرأ جمهور السبعة: {قَالَ إِنَّمَا أَدْعُواْ رَبِّي} وقرأ حمزةُ وعاصمٌ وأبو عمرو بخلافٍ عنه: {قُلْ} ثم أمَرَ اللَّهُ تعالى محمداً عليه السلام بالتَّبَرِّي مِنَ القُدْرَةِ، وأنَّه لاَ يَمْلِكُ لأَحَدٍ ضَرًّا ولا نفعاً، والملتَحَدُ: المَلْجَأُ الذي يُمَال إليه، ومنه الإلْحادُ وهو الميل.

.تفسير الآيات (23- 24):

{إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23) حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24)}
وقوله: {إِلاَّ بَلاَغاً} قال قتادة: التقدير: لا أمْلِكُ إلاَّ بَلاَغاً إلَيْكُمْ، فأمَّا الإيمانُ وَالكُفْرُ، فَلاَ أَمْلِكُهُ، وقال الحسن: ما معناه أَنَّه اسْتِثْنَاءٌ منْقَطِع، والمعنى: لَنْ يجيرَني مِنَ اللَّه أحَدٌ إلا بلاغاً فإنّي إنْ بَلَّغْتُ، رَحِمَنِي بذلك، أي: بِسَبَبِ ذلك.
وقوله تعالى: {وَمَن يَعْصِ الله} يريدُ: بالكفر، بدليلِ تَأبِيدِ الخلود.

.تفسير الآيات (25- 28):

{قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)}
وقوله تعالى: {قُلْ إِنْ أَدْرِى أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ} يعني عَذَابَهم الذي وُعِدُوا به، والأمدُ المُدَّةُ والغايةُ.
وقوله تعالى: {إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ} معناه فإنه يُظْهِرُه عَلَى ما شَاءَ مما هو قليلٌ من كثير، ثم يَبُثُّ تعالى حَوْلَ ذلك الملَكِ الرَّسُولِ حَفَظَةً رَصَداً لإبليسَ وحِزْبِه من الجنِ والإنْس.
وقوله تعالى: {لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ...} الآية، قال ابنُ جُبَيْرٍ: لِيعْلَمَ محمدٌ أنَّ الملائِكَة الحَفَظَةَ الرَّصَد النازِلينَ بَيْنَ يدي جبريلَ وخَلْفَه قَدْ أبلغوا رسالاتِ رَبِّهم، وقال مجاهد: معناه لِيَعْلَمَ مَنْ كَذَّبَ أو أشْرَكَ أنَّ الرُّسُلَ قَدْ بَلَّغَتْ، وقيل: المعنى لِيَعْلَمَ اللَّهُ تَعَالَى رُسُلَه مُبَلِّغَةً خَارِجَةً إلى الوُجُودِ، لأَنَّ عِلْمَه بكلِّ شَيْءٍ قَدْ تَقَدَّمَ، والضميرُ في {أَحَاطَ} و{أحصى} للَّه سبحانه لاَ غَيْر.

.تفسير سورة المزمل:

وهي مكية في قول الجمهور إلا قوله: {إن ربك يعلم} إلى آخر السورة فمدني.
وقال جماعة: هي مكية كلها.
بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 4):

{يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا (4)}
قوله عز وجل: {يا أَيُّهَا المزمل} نداءٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال السهيلي: المُزَّمِّلُ اسمٌ مشتقٌ من حالتِه التي كَانَ عليها عليه السلام حينَ الخطابِ، وكذلكَ المدَّثِّرُ، وفي خطابِه بهذَا الاسْمِ فائِدَتان: إحداهما: الملاطفةُ فإنَّ العربَ إذا قَصَدَتْ ملاطَفَةَ المخاطَبِ، وتَرْكَ معاتَبَتهِ سَمَّوْهُ باسم مشتقٍ من حالتِه، كقوله عليه السلام لعلي حين غَاضَبَ فاطمةَ: قُمْ أبا تُرَابٍ، إشعاراً له أنه غَيْرُ عاتبٍ عليه، وملاطَفَةً له، والفائدة الثانية: التنبيهُ لكلِّ مُتَزَمِّلٍ راقدٍ ليلَه؛ لينتبهَ إلى قيامِ الليل وذكرِ اللَّه فيه، لأنَّ الاسْمَ المشتق من الفعلِ، يَشْتَرِكُ فيه معَ المخاطَب كلُّ مَنْ عَمِلَ بذلك العملِ، واتَّصَفَ بتلك الصفةِ، انتهى، والتَزَمُّلُ الاِلْتِفَافُ في الثياب، قال جمهور المفسرين وهو في البخاري وغيره: «إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا جَاءَه المَلَكُ في غار حراء وَحَاوَرَه بما حَاوَرَه به، رَجَعَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى خَدِيجَةَ فَقَال: زَمِّلُوني زَمِّلُوني؛ فنزلت يأيها المدثر» وعلى هذا نزلت {يأيها المزمل}.
وقوله تعالى: {قُمِ اليل إِلاَّ قَلِيلاً} قال جمهور العلماءِ: هو أمْرُ نَدْبٍ، وقيل كَانَ فَرْضاً وقْتَ نزول الآيةِ، وقال بعضُهم: كان فرضاً على النبي صلى الله عليه وسلم خاصَّةً وبَقِيَ كذلك حتى تُوُفِّي، وقيل غير هذا.
وقوله تعالى: {نِّصْفَهُ} يحتملُ: أن يكونَ بَدَلاً من قوله قليلاً، * ص *: {إِلاَّ قَلِيلاً} استثناءٌ من الليلِ، و{نِّصْفَهُ} قيل: بَدَلٌ من الليل وعلى هذا يكون استثناءُ {إِلاَّ قَلِيلاً} منه، أي: قم نصفَ الليل إلا قليلاً منه، والضميرُ في قوله: {أَوِ انقص مِنْهُ}، {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} عائدٌ على النصْفِ وقيل: {نِّصْفَهُ}: بدل من قوله: {إِلاَّ قَلِيلاً} قَالَ أبو البَقَاءِ، وهو أشْبَهُ بظاهرِ الآيةِ، انتهى، قال * ع *: وكَيْفَ مَا تَقَلَّبَ المعنى فإنه أمْر بقيامِ نصفِ الليلِ، أو أكْثَر شيئاً أو أقَلَّ شيئاً، فالأكْثر عند العلماء لا يُزِيدُ على الثُّلثَيْنِ، والأقَلُّ لاَ يَنْحَطُّ عَن الثلثِ، ويُقَوِّي هذا حديثُ ابنِ عَبَّاسٍ في مَبِيتهِ في بيت ميمونة؛ قال: فلما انْتَصَفَ الليلُ أو قَبْلَه بقليلٍ أو بعده بقليل، قام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال * ع *: ويلزمُ على هذا البَدَلِ الذي ذَكَرْنَاه أن يكونَ نصفُ الليل قَدْ وَقَعَ عليه الوصفُ بقليلٍ، وقَدْ يحتملُ عندي قوله: {إِلاَّ قَلِيلاً} أنْ يكون استثناءً من القيام، فنجعلُ الليلَ اسْم جِنْسٍ ثم قال: {إِلاَّ قَلِيلاً} أي: إلا الليالي التي تُخِلُّ بقيامِها لعذرٍ، وَهَذَا النظرُ يَحْسُنُ مَعَ القولِ بالنَّدْبِ جِدًّا، قال * ص *: وهذا النَّظَرُ خلافُ ظاهرِ الآية، انتهى، والضميرُ في {مِنْهُ} و{عَلَيْهِ} عائِدَان على النصف.
وقوله سبحانه: {وَرَتِّلِ}: معناه في اللغةِ: تَمَهَّلْ وَفَرِّقْ بَيْنَ الحروفِ، لَتَبِينَ، والمقْصِدُ أنْ يَجِدَ الفِكْرُ فُسْحَةً للنَّظَرِ وفَهْمِ المعاني، وبذلكَ يَرِقُّ القَلْبُ، ويَفِيضُ عليه النُّورُ والرحمة، قال ابن كيسان: المُرادُ: تَفْهَمُه تالياً له، ورُوِي في صحيح الحديث: أن قراءةَ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم كانَتْ بيِّنَةً مُتَرسِّلَةً، لو شاء أحَدُ أنْ يَعُدَّ الحروفَ لعَدَّها، قال الغزاليُّ في الإحياء: واعْلَمْ أنَّ التَرْتِيلَ والتَّؤُدَةَ أقْرَبُ إلى التوقير والاحترامِ، وأشَدُّ تأثيراً في القلبِ من الهَدْرَمَةِ والاسْتِعْجَالِ، والمَقْصُودُ مِنَ القراءَةِ التفكُّرُ، والترتيلُ مُعِينٌ عَلَيْهِ، وللناس عاداتٌ مختلفة في الخَتْمِ، وأوْلَى مَا يُرْجَعُ إليه في التقديراتِ قَوْلُ النبي صلى الله عليه وسلم وَقَدْ قَال عليه الصَّلاةُ والسلام: «مَنْ قَرَأَ القُرْآنَ في أَقَلِّ مِن ثَلاَثٍ، لَمْ يَفْقَهْهُ» وذلك لأَنَّ الزيادةَ عليهَا تمنعُ الترتيلَ المطلوبَ، وقَدْ كَرِهَ جماعةٌ الختمَ في يومٍ ولَيْلَةٍ، والتفصيلُ في مقدار القراءة أنَّه إنْ كَانَ التالي من العُبَّادِ السالكينَ طريقَ العَمَلِ، فلا يَنْبَغِي له أن يَنْقُصَ من خَتْمَتَيْنِ في الأُسْبُوعِ، وإنْ كانَ من السالكينَ بأعْمَالِ القَلْبِ وضرُوب الفِكْر، أو من المشغولين بِنَشْرِ العلمِ فَلا بأسَ أنْ يَقْتَصِر في الأُسْبُوعِ على ختمةٍ، وإنْ كَانَ نَافِذَ الفِكْرِ في مَعَانِي القرآن فَقَدْ يكتفِي في الشهر بمرةٍ لحاجَتِهِ إلى كَثْرَةِ التَّرْدِيدِ والتأمُّل، انتهى، ورَوَى ابنُ المباركِ في رقائقه: قال: حدثنا إسماعيل عن أبي المتوكِّل الناجي: أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَامَ ذَاتَ لَيْلَةٍ بِآيَةٍ مِنَ القُرْآنِ يُكَرِّرُهَا على نَفْسِهِ، انتهى.