فصل: تفسير الآيات (99- 104):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (99- 104):

{كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آَتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104)}
وقوله سبحانه: {كذلك نَقُصُّ عَلَيْكَ} مخاطبة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم أي كما قصصنا عليك نبأ بني إسرائيل، كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق مُدّتك، والذِّكْر: القُرْآن.
وقوله: {مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ} يريد بالكُفْر بهِ، و{زُرْقاً} قالت فرقةٌ معناه: يُحْشرونَ أول قيامهم سودَ الألوَانِ، زُرْقَ العُيونِ، فهو تَشْوِيه، ثم يعمون بعد ذلك، وهي مواطن.
وقالت فرقةٌ: أراد زرق الألوان، وهي غايةٌ في التشويه، لأنهم يَجِيئُون كلَوْن الرماد، ومهيع في كلام العرب أن يسمى هذا اللون أزرق: {يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إنْ لَبِثْتُمْ إلاَّ عَشْراً} أيْ: يتخافت المجرمون بينهم، أي: يتسارون، والمعنى: أنهم لهول المطلع وشِدّة ذهاب أذهانهم، قد عزب عنهم قَدْر مُدّة لبثهم.
واختلف الناسُ في ماذا، فقالتْ فرقةٌ في دار الدنيا، ومُدّة العمر، وقالت فرقةٌ في الأرضِ مدة البَرْزَخِ.
و{أمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً} معناه: أثبتهم نفساً يقول: إن لبثتم إلاَّ يوماً، أي: فهم في هذه المقالة يظنون أن هذا قَدْرَ لبثهم.

.تفسير الآيات (105- 110):

{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108) يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110)}
وقوله سبحانه: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الجبال...} الآية، السائلُ: قِيلَ: رجلٌ من ثقيف، وقيل: السائل: جماعةٌ من المؤمنين، ورُوِي: أن اللّه تعالى يرسل على الجبال رِيحاً، فتدكدكها حتى تكون كالعِهْن المنفوش، ثم تتوالى عليها حتى تُعِيدها كالهَبَاءِ المُنْبَثِّ، فذلك هو النسفُ.
والقَاعُ: هو المستوي من الأرض، والصَّفْصَفِ: نحوه في المعنى. والأمَتُ: ما يعترى الأرضَ من ارتفاع وانخفاض.
وقولُه: {لاَ عَوَجَ لَهُ} يحتمل: أن يُرِيدَ الإخبارَ به، أي: لا شَكَّ فيه، ولا يخالف وجوده خبره، ويحتمل: أن يريدَ الإخبارَ به، أي لا شَكَّ فيه، ولا يخالف وجوده خبره، ويحتمل: أن يريدَ لا مَحِيدَ لأحدٍ عن اتباع الدَّاعِي، والمشْيِ نحو صَوْته، والخشوعُ: التَّطَامُنُ، والتواضُعُ، وهو في الأصوات استعارة بمعنى الخفاء.
والهَمْسُ: الصَّوْتُ الخفيُّ الخَافِتُ، وهو تخافُتُهم بينهم، وكَلاَمُهم السر، ويحتمل أن يريد صوتَ الأقْدام؛ وفي البُخَاري: {هَمْساً}: صوت الأقدام، انتهى. ومن في قوله {إلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن} يحتمل أن تكون للشافع، ويحتمل أن تكون للمشفوع فيه.

.تفسير الآية رقم (111):

{وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111)}
وقوله تعالى: {وَعَنَتِ الوجوه} معناه: ذلّت، وخضعت، والعَانِي: الأسِير؛ ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في أمر النساء: «هن عوان عندكم» وهذه حالةُ النَّاس يومَ القيامة.
قال * ص *: وَعَنَتْ: من عَنَا يَعْنُو: ذَلَّ، وخَضَعَ؛ قال أُمَيَّةُ ابن أبي الصَّلْت: [الطَّويل]
مَلَيكٌ على عَرْشِ السَّمَاءِ مُهَيْمِنٌ ** لِعِزَّتِهِ تَعْنُو الْوُجُوهُ وَتَسْجُدُ

انتهى.
* ت *: وأحادِيثُ الشفاعة قَدِ استفاضت، وبلغت حَدَّ التواتر، ومن أعظمها شفاعة أرْحم الراحمين سبحانه وتعالى ففي صحيح مُسْلم، من حديث أبي سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ قال: فيقولُ اللّه عز وجل: «شَفَعَتِ المَلاَئِكةُ، وشَفَعَ النَّبِيُّونَ، وشَفَعَ المُؤْمِنُونَ، وَلَمْ يَبْقَ إلاَّ أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنَ النَّارِ، فَيَخْرُجُ مِنْهَا قَوْماً لَمْ يَعْمَلُوا خَيْراً قَطُّ، قَدْ عَادُوا حُمَماً، فَيُلْقِيهِمْ فِي نَهْرِ فِي أَفْوَاهِ الجَنَّةِ» وفيه: «فيخْرُجُونَ كَاللُّؤْلُؤِ، فِي رِقَابِهِمُ الخَوَاتِمُ، يَعْرِفُهُمْ أَهْلُ الجَنَّةِ هَؤُلاَءِ عُتَقَاءُ اللّهِ الَّذِينَ أدْخَلَهُمُ الجَنَّةِ بِغَيْرِ عَمَلٍ عَمَلُوهُ، وَلاَ خَيرٍ قَدَّمُوهُ...» الحديث، وخرج أبو القاسم إسحاقُ، بنُ إبراهيم الختلي بسنده عن ابن عباسٍ، قال: قال رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم: «إذَا فرغ اللّهُ تعالى مِنَ القَضَاءِ بين خَلْقِه، أخرج كِتَاباً من تحت العَرْشِ؛ أَنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي، وَأَنَا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، قَالَ: فَيُخْرِجُ مِنَ النَّارِ مِثْلَ أَهْلِ الجَنَّةِ، أَوْ قَالَ: مِثْلَيْ أَهْلِ الجَنَّةِ، قَالَ: وَأَكْبَرُ ظَنِّي أَنَّهُ قَالَ: مِثْلَيْ أَهْلِ الجَنَّةِ، مَكْتُوبٌ بَيْنَ أعْيُنِهِمْ: عُتَقَاءُ اللّهِ» انتهى من التذكرة.
{وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً}، معنى خاب: لم ينجَحْ، ولا ظفر بمطلُوبه، والظلمُ يَعمُّ الشِّركَ والمَعاصِي، وخيبةُ كلّ حاملٍ بقدْرِ ما حمل مِنَ الظُّلْم.

.تفسير الآية رقم (112):

{وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112)}
وقوله سبحانه: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات} معادلٌ لقوله: {مَنْ حَمَلَ ظُلْماً} والظلم. والهُضْمُ: هما متقاربان في المعنى، ولكن من حيثُ تَنَاسقَا في هذه الآية؛ ذهب قومٌ إلى تَخْصِيص كل وَاحِدٍ منهما بمعنًى، فقالوا: الظلم: أن نعظم عليه سيِّئاته، وتكثر أكثر مما يجب.
والهَضْمُ: أن ينقص من حَسَناتِهِ، ويبخسها.
وكلهم قرأ: فَلاَ يَخَافُ على الخبر غيرَ ابن كَثِيرٍ؛ فإنه قرأ: فَلاَ يَخَفْ على النهي.

.تفسير الآيات (113- 114):

{وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآَنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)}
{وكذلك أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ} بحسب توقع البشر، وترجيهم {يَتَّقُونَ} اللّهَ، ويخشَوْنِ عَقَابه؛ فيؤمِنُون ويتذكَّرونَ نِعَمه عندهم، وما حذَّرهم من ألِيم عقابه هذا تأويل فرقة في قوله: {أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً}.
وقالت فرقةٌ: معناه أَوْ يُكْسِبُهُمْ شَرَفاً، ويبقى عليهم إيمانهم ذكراً صالحاً في الغابرين.
وقوله تعالى: {وَلاَ تَعْجَلْ بالقرءان...} قالت فِرْقةٌ: سببها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخاف وقْتَ تكليمِ جِبْريلَ له أنْ ينسى أول القرآن، فكان يقرأُ قبل أن يستتم جبريلُ عليه السلام الوحْيَ؛ فنزلت في ذلك، وهي على هذا في معنى قوله: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} [القيامة: 16].
وقيل غير هذا.

.تفسير الآيات (115- 117):

{وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آَدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَا آَدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117)}
وقوله عز وجل: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إلى ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ...} الآية، العهدُ هنا بمعنى الوصِيّة، والشيءُ الّذي عهد إلى آدم عليه السلام هو أَلاَّ يقرَبَ الشجرة.
* ت *: قال عِياضٌ: وأما قوله تعالى: {وعصى آدَمُ رَبَّهُ فغوى} [طه: 121] أي: جهل، فإنّ الله تعالى أخبر بعذره بقوله: {ولَقَدْ عَهدْنَا إلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} قيل: نسي، ولم ينو المخالفة؛ فلذلك قال تعالى: {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً}، أيْ: قصداً للمخالفة.
* ت *: وقيل: غير هذا مما لا أرى ذكره هنا، ولِلَّه دَرُّ ابن العَربيّ حيثُ قال: يجبُ تنْزِيه الأنْبياء عليهم الصلاة والسلام عما نَسَبَ إليهم الجهالُ. ولكن البَارِي سبحانه بحُكْمه النافذ، وقَضَائِه السابق أسلم آدم إلى الأكل من الشجرة متعمِّداً للأكل، ناسِياً للعهد، فقال في تعمده: {وَعَصَى آدَمَ} وقال في بيان عُذْرهُ: {ولَقَدْ عَهِدْنَا إلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ} فَمُتَعَلِّق العهد غيرُ متعلِّق النسيان، وجاز للمولى أن يقول في عبده لحقه: عصى تَثْرِيباً، ويعودُ عليه بفضله فيقول: نَسِيَ تقريباً، ولا يجوز لأحد مِنّا أن يطلق ذلك على آدمَ، أو يذكره إلاَّ في تلاَوة القرآن أو قول النبيّ صلى الله عليه وسلم. انتهى. من الأحكام.

.تفسير الآيات (118- 119):

{إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119)}
وقوله سبحانه: {إنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تعرى} المعنى: إنّ لك يا آدمُ في الجنة نعمة تامة، لا يصيبك جوعٌ، ولاَ عُري، ولاَ ظَمأٌ، ولا بروزٌ للشمس يؤذِيك، وهو الضحاء.

.تفسير الآيات (120- 127):

{فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آَدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122) قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآَيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127)}
وقوله: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ} * ص *: عدّي هنا ب إلى على معنى أنهى الوسوسة إليه، وفي الأعراف باللام، فقال أبو البقاء: لأنه بمعنى ذكر لهما. انتهى.
ثم أعلمهم سُبْحانه: أن من اتّبع هُدَاه فلا يضِلّ في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة، وأنَّ من أعرض عن ذِكْر اللّه، وكفر به؛ فَإنَّ له معيشةً ضَنْكاً، والضَّنْك: النكدُ الشاقّ من العيش والمنازل، ونحو ذلك.
وهل هذه المعيشةُ الضنك تكون في الدنيا، أو في البَرْزَخ، أو في الآخرة؟ أقوال.
* ت *: ويُحْتَمَلُ في الجميع، قال القرطبي: قال أبو سعيد الخُدْرِيّ، وابن مسعودٍ: ضَنْكاً: عذاب القبر، وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أتَدْرُونَ فِيمَنْ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيةُ: {فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً ونَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أعمى} أَتَدْرُونَ مَا الْمَعِيشَةُ الضَّنك؟ قالوا: اللّهُ ورَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: عَذَابُ الكَافِرِ فِي الْقَبْرِ؛ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إنَّهُ لَيُسَلَّطُ عَلَيْهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ تِنِّيناً وَهِيَ الحَيَّاتُ لكُلِّ حَيَّةٍ تِسْعَةُ رُؤُوسٍ، يَنْفُخْنَ في جِسْمِهِ، وَيَلْسَعْنَهُ وَيَخْدِشْنَهُ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ، ويُحْشَرُ مِنْ قَبْرِهِ إلى مَوْقِفِهِ أعمى» انتهى من التذكرة فَإنْ صَحَّ هذا الحديث، فلا نظر لأحد معه، وإن لم يصحَّ، فالصوابُ حملُ الآية على عُمُومها؛ والله أعلم.
قال الثَّعْلَبِيُّ: قال ابن عباس: {فَمَنِ اتبع هُدَايَ فَلاَ يضِلُّ وَلاَ يشقى} قال: أَجار اللّهُ تعالى تابعَ القرآن من أنْ يصل في الدنيا، أو يشقى في الآخرة. وفي لفظ آخر: ضمن اللّهُ تعالى لمن قرأَ القرآن... الحديث، وعنه: مَنْ قرأَ القرآن واتَّبع ما فيه، هَدَاهُ اللّه تعالى مِنَ الضَّلاَلَةِ ووقاه اللّهُ تَعَالَى يَوْمَ القِيَامَةِ سُوءَ الحِسَابِ. انتهى.
وقولُه سبحانه: {ونَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أعمى} قالت فرقةٌ: وهو عَمَى البَصَر، وهذا هو الأوْجه، وأما عمى البَصِيرة، فهو حاصل للكافر.
وقوله سبحانه: {كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا} النسيان هنا: هو التركُ، ولا مَدْخَلَ للذهول في هذا الموضع، و{تنسى} أيضاً بمعنى: تُتْرك في العذاب.

.تفسير الآيات (128- 133):

{أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128) وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آَنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130) وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132) وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133)}
وقوله سبحانه: {أفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ القُرُونِ} المعنى: أفلم يبين لهم.
وقرأت فرقةٌ: {نَهْدِ} بالنون، والمراد بالقرونِ المهلَكِين: عَادٌ، وثَمُودٌ، والطَّوائِفُ التي كانت قريشٌ تجوزُ على بلادهم في المرور إلى الشام وغيره، ثم أعلم سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم أن العذابَ كان يصير لهم لِزَاماً لولا كلمة سبقَتْ من اللّه تعالى في تَأْخيره عنهم إلى أجلٍ مُسَمًّى عنده، فتقدير الكلام. ولولاَ كلمةٌ سبقت في التَّأْخِير، وأجلٍ مسمى، لكَانَ العذابُ لِزَاماً؛ كما تقولُ لَكَانَ حَتْماً، أو واقعاً، لكنّه قدم وأَخّر؛ لتشابه رُؤُوس الآي.
واختُلِف في الأجل المسمى: هل هو يوم القيامة، أو موت كل واحد منهم، أو يوم بدْرٍ؟ وفي صحيح البخاري: أن يوم بَدْرٍ هو: اللزام، وهو: البَطْشَةُ الكبرى، يعني: وقع في البخاري من تفسير ابن مَسْعُودٍ، وليس هو من تفسير النبي صلى الله عليه وسلم.
قال * ص *: و{لِزَاماً}: إمَّا مصدرٌ، وإمَّا بمعنى ملزم، وأجاز أبو البقاء: أنْ يكون جمع لاَزِم، كَقَائِمٍ وقيام. انتهى.
ثم أمر اللّه سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالصّبْر على أقوالهم: إنه ساحرٌ، إنه كاهن، إنه كاذب إلَى غير ذلك.
وقوله سبحانه: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ...} الآية، قال أكثرُ المفسرين: هذه إشارةٌ إلى الصلوات الخمس؛ فقبل طلوع الشمس صلاةُ الصبح، وقبل غُرُوْبَها صَلاةُ العَصْر، ومن آناءِ الليل العِشَاءُ، وأطرافُ النهار المغرِبُ والظهر.
قال ابن العربي: والصحيحُ أنَّ المغربَ من طَرَفِ الليل، لاَ مِنْ طرف النَّهَارِ. انتهى من الأحكام.
وقالت فرقةٌ: آناء الليل: المغرب والعشاء، وأطراف النهار: الظهر وحدها، ويحتمل اللفظ أن يراد به قول: سبحان اللّه وبحمده.
وقالت فرقةٌ: في الآية: إشارةٌ إلى نوافل، فمنها آناء الليل، ومنها قبل طلوع الشمس ركعتا الفجر.
* ت *: ويتعذر على هذا التأويل قولُه: {وقَبْلَ غُرُوبِهَا}؛ إذْ لَيْس ذلك الوقْتُ وقْتَ نفل، على ما علم إلاَّ أنَّ يتأول ما قبل الغروب بما قبل صلاة العصر وفيه بعد.
قال * ص *: {بِحَمْدِ رَبِّكَ} في موضع الحال، أي: وأنت حامدٌ. انتهى.
وقرأ الجمهور: {لَعْلَّكَ ترضى} بِفَتْح التاء، أي: لعلك تُثَابُ على هذه الأعمال بما ترضى به.
قال ابنُ العربي في أحكامه: وهذه الآية تُماثِلُ قولَهُ تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى} [الضحى: 5].
وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنَّكُمْ تَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ القَمَرَ لَيْلَةَ البَدْرِ؛ فإنِ استطعتم أَلاَّ تُغْلَبُوا على صَلاَةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ يَعْنِي: الصُّبْحَ، وقَبْلَ غُرُوبَهِا؛ فافعلوا». وفي الحديث الصحيح أيضاً: «منْ صَلَّى البَرْدَيْنِ، دَخَلَ الجَنَّةَ» انتهى.
وقرأَ الكسائي، وأبو بكر عن عاصم: {ترضى} أي: لعلك تُعْطى ما يرضيك، ثم أمر سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم: بالاحتقار لشأن الكفرة، والإعراض عن أموالهم، وما في أيْديهم من الدنيا؛ إذ ذلك مُنْحَسِرٌ عنهم صائر إلى خِزْي، والأزواج: الأنواع، فكأنه قال: إلَى ما متعنا به أقواماً منهم، وأَصنافاً.
وقوله: {زَهْرَةَ الحياة الدنيا} شبَّه سبحانه نِعَم هؤلاء الكفار بالزهر، وهو ما اصفر من النّوْر، وقيل: الزهر: النورُ جملةً؛ لأن الزهر له منظر، ثم يضمحل عن قرب، فكذلك مآلُ هؤلاء، ثم أخبر سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم: أن ذلك إنما هو ليختبرهم به، ويجعله فِتْنةً لهم وأمراً يجازون عليه أسوأ الجزَاءِ؛ لفساد تقلبهم فيه.
* ص *: و{زَهْرَةً}: منصوبٌ على الذمِّ، أو مفعولٌ ثانٍ ل: {مَتَّعْنَا} مضمن معنى أعطينا. اهـ.
ورزق اللّه تعالى الذي أحله للمتقين من عباده، خير وأبقى، أيْ: رزق الدنيا خيرٌ ورزق الآخرة أبقى، وبين أنه خير من رزق الدنيا، ثم أمره سبحانه وتعالى بأن يأمر أهله بالصلاة، ويمتثلها معهم ويَصْطَبِر عليها ويلازمها، وتكفَّل هو تعالى برزْقِهِ لا إله إلاَّ هو، وأخبره أن العَاقِبَةَ للمتقِينَ بنصره في الدنيا، ورحمته في الآخرة، وهذا الخطابُ للنبي صلى الله عليه وسلم ويدخل في عُمُوْمِهِ: جميعُ أمته.
ورُوِيَ: أنَّ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ رضي اللّه عنه كان إذا رأى شيئاً من أخبار السلاطين وأحوالهم، بادر إلَى منزله، فدخله وهو يقول: {وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ...} الآية إلى قوله {وأبقى} ثم يُنَادِي: الصَّلاَةَ الصَّلاَةَ رَحِمَكُمُ اللّهُ، ويصلي.
وكان عُمَرُ بْنُ الخطَّابِ رضي اللّه عنه يوقِظُ أَهْلَ دَارِهِ لِصَلاَةِ اللَّيْلِ ويصلِّي، هو يتمثَّلُ بالآية.
قال الداوودي: وعن عَبْدِ اللّهُ بْنِ سَلاَمٍ، قال: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا نزل بأهله ضِيقٌ أوْ شِدَّةٌ أمرهم بالصَّلاَةِ، ثم قرأَ: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة} إلى قوله {للتقوى}. انتهى.
قال ابن عطاء اللَّه في التنوير واعلم. أنَّ هذه الآية علمت أهل الفَهْم عن اللَّه تعالى كَيْفَ يطلبون رزقَهُم، فإذَا توقفت عليهم أسباب المعيشة، أكثروا من الخِدْمة والموافقة، وقَرَعُوا بابَ الرِّزْقِ بمعاملة الرزَّاق- جل وعلا- ثم قال: وسمعتُ شَيْخَنَا أَبَا العَبَّاس المُرْسِي رضي اللَّه عنه يقول: واللَّه مَا رَأَيْتَ العزَّ إلاَّ في رفع الهِمّة عن الخلق، واذكر رحمك اللَّه هنا: {وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8].
ففي العز الذي أَعزّ اللَّه به المؤمن رفْعُ همته إلى مولاه، وثقتُه به دُونَ مَنْ سِوَاهُ، واستحي من اللَّه بعد أن كساك حُلّة الإيمان، وزينك بزينة العِرْفان؛ أن تستولي عليك الغفلة والنسيان؛ حتى تميل إلى الأكوان، أو تطلب من غيره تعالى وجود إحسان، ثم قال: ثم قال ورفع الهِمَّة عن الخلْقِ: هو ميزانُ ذوي الكمال ومِسْبار الرجال، كما توزن الذَّواتُ كذلك توزن الأحوالُ والصِّفَاتُ. انتهى.
ومن كتاب صفوة التصوف لأبي الفضل محمد بن طاهر المقدسي الحافظ حَدِيثٌ بسنده عن ابن عُمَرَ قال: أتَىَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم رَجَلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، حَدَّثْنِي حَدِيثاً، واجعله مُوجَزاً، فقال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «صَلَّ صَلاَةَ مُوَدَّع، كَأَنَكَ تَرَاهُ، فَإنْ كُنْتَ لاَ تَرَاهُ، فَإنَّهُ يُرَاكَ، وَايَأَس مِمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ، تَعْشِ غَنِيّاً، وإِيَّاكَ وَمَا يُعَتَذَّرُ مِنْهُ» ورواه أبو أيوب الأنصاري بمثله عن النبي صلى الله عليه وسلم إنتهى.
{وَقَالُواْ لَوْلاَ يَأْتِينَا} محمدٌ {بِآيَةٍ مِّن رَّبِّهِ} أي: بعلامة مما اقترحناها عليه، ثم وبخهم سبحانه بقوله: {أَوَ لَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصحف الأولى} أَيْ: ما في التوراة، وغيرها، ففيها أعظم شاهد، وأكبر، آية له سبحانه.