فصل: تفسير الآيات (24- 36):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (24- 36):

{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36)}
وقوله سبحانه: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إبراهيم...} الآية، قد تقدم قَصَصُهَا، وعليم أي: عالم، وهو إسحاق عليه السلام.
* ت *: ولنذكر هنا شيئاً من الآثار في آداب الطعام، قال النوويُّ: روى ابن السُّنِّيِّ بسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يقول في الطعام إذا قُرِّبَ إلَيْهِ: «اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيمَا رَزَقْتَنَا، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، باسم اللَّهِ» انتهى، وفي صحيح مسلم عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ، فَذَكَرَ اللَّهَ تَعَالَى عِنْدَ دُخُولِهِ وَعِنْدَ طَعَامِهِ قَالَ الشَّيْطَانُ: لاَ مَبِيتَ لَكُمْ، وَلاَ عَشَاءَ، وَإذَا دَخَلَ فَلَمْ يَذْكُرِ اللَّه تَعَالَى عِنْدَ دُخُولِهِ، قَالَ الشَّيْطَانُ: أَدْرَكْتُمُ الْمَبِيتَ، وَإذَا لَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ تَعَالَى عِنْدَ طَعَامِهِ، قَالَ أَدْرَكْتُمُ المَبِيتَ وَالْعَشَاءَ»، وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ الشَّيْطَانَ يَسْتَحِلُّ الطَّعَامَ أَلاَّ يُذْكَرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ» الحديث، انتهى، والصَّرَّةُ: الصيحة؛ كذا فسره ابن عباس وجماعة، قال الطبريُّ عن بعضهم: قَالَتْ: أَوَّهْ؛ بِصِيَاحٍ وتَعَجُّبٍ؛ وقال النَّحَّاسُ: {فِى صَرَّةٍ} في جماعة نسوة.
وقوله: {فَصَكَّتْ وَجْهَهَا}: معناه: ضربْت وَجْهَهَا؛ استهوالاً لما سمعت، وقال سفيان وغيره: ضَرَبَتْ بِكَفِّهَا جبهتها، وهذا مُسْتَعْمَلٌ في الناس حَتَّى الآن، وقولهم: {كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ} أي: كقولنا الذي أخبرناك.
وقوله تعالى: {حِجَارَةً مِّن طِينٍ} بيانٌ يخرج عن مُعْتَادِ حجارة البرَد التي هي من ماء، ويُرْوَى أَنَّه طين طُبِخَ في نار جَهَنَّمَ حَتَّى صار حجارة كالآجر، و{مُّسَوَّمَةً} نعت لحجارة، ثم أخبر تعالى أَنَّه أخرج بأمره مَنْ كان في قرية لوط مِنَ المؤمنين، منجياً لهم، وأعاد الضمير على القرية، وإنْ لم يجرِ لها قبل ذلك ذكر؛ لشهرة أمرها، قال المفسرون: لاَ فَرْقَ بين تقدُّمِ ذكر المؤمنين وتأخُّرِهِ؛ وإِنَّمَا هما وصفانِ ذَكَرَهُمْ أَوَّلاً بأحدهما، ثم آخراً بالثَّاني، قيل: فالآية دالَّةٌ على أَنَّ الإيمان هو الإسلام، قال * ع *: ويظهر لي أَنَّ في المعنى زيادة تحسن التقديم للإيمان؛ وذلك أَنَّهُ ذكره مع الإخراج من القرية، كأَنَّهُ يقول: نفذ أمرنا بإخراج كُلِّ مؤمن، ولا يُشْتَرَطُ فيه أنْ يكون عاملاً بالطاعات؛ بلِ التصديق باللَّه فقط، ثم لما ذكر حال الموجودين ذكرهم بالصفة التي كانوا عليها، وهي الكاملةُ التصديق والأعمالِ، والبيتُ من المسلمين هو بيتُ لوط عليه السلام وكان هو وابنتاه، وفي كتاب الثعلبيِّ: وقيل: لوط وأهل بيته ثلاثةَ عَشَرَ، وهلكت امرأتُه فيمن هلك، وهذه القصة ذُكِرَتْ على جهة ضرب المثل لقريش، وتحذيراً أنْ يصيبهم مثلُ ما أصاب هؤلاء.

.تفسير الآيات (37- 44):

{وَتَرَكْنَا فِيهَا آَيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37) وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44)}
وقوله: {وَتَرَكْنَا فِيهَا} أي: في القرية، وهي سدوم {ءَايَةً}، قال أبو حيان: {وَفِى موسى}، أي: وفي قصة موسى، انتهى.
وقوله سبحانه في فرعون: {فتولى بِرُكْنِهِ} أي: أعرض عن أمر اللَّه، ورُكْنُهُ: هو سلطانُه وجُنْدُهُ وشدَّةُ أمره، وقول فرعون في موسى: {ساحر أَوْ مَجْنُونٌ} هو تقسيم، ظَنَّ أَنَّ موسى لابد أَنْ يكونَ أَحَدَ هذين القسمين، وقال أبو عبيدةَ: أو هنا بمعنى الواو، وهذا ضعيف لا داعيةَ إليه في هذا الموضع.
وقوله: {مَا تَذَرُ مِن شَئ أَتَتْ عَلَيْهِ} أي: ما تدع من شيء أتتْ عليه مِمَّا أذِنَ لها في إِهلاكه {إِلاَّ جَعَلَتْهُ كالرميم}: وهو الفاني المُتَقَطِّعُ؛ يبساً أو قِدَماً من الأشجار والوَرَقِ والعِظَامِ، ورُوِيَ في حديث: أَنَّ تلك الريح كانت تَهُبُّ على الناس فيهم العاديُّ وغيرُهُ، فَتَنْتَزِعُ العَادِيَّ من بين الناس وتذهب به.
وقوله سبحانه: {وَفِى ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُواْ} أي: إذ قيل لهم في أول بَعْثِ صالح، وهذا قول الحَسَنِ، ويحتمل: إذْ قيل لهم بعد عَقْرِ الناقة: تمتعوا في داركم ثلاثة أَيَّامٍ؛ وهو قول الفرَّاء.
وقوله: {فَأَخَذَتْهُمُ الصاعقة وَهُمْ يَنظُرُونَ} أي: يبصرون بعيونهم، وهذا قول الطبريِّ، ويحتمل أَنْ يريدَ وهم ينتظرون في تلك الأَيَّامِ الثلاثة، وهذا قول مجاهد.

.تفسير الآيات (45- 48):

{فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (46) وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48)}
{فَمَا استطاعوا مِن قِيَامٍ} أي: من مصارعهم؛ قاله بعض المفسرين، وقال قتادة وغيره: معناه من قيام بالأمر النازل بهم ولا دَفْعِهِ عنهم.
{وَقَوْمَ نُوحٍ} بالنصب، وهو عَطْفٌ إمَّا على الضمير في قوله: {فَأَخَذَتْهُمُ}، إذْ هو بمنزلة أَهلكتهم، وإمَّا على الضمير في قوله: {فنبذناهم}.
وقوله: {والسماء بنيناها} نُصِبَ بإضمار فعل تقديره: وَبَنَيْنَا السماء بَنيناها، والأيد: القوة؛ قاله ابن عباس وغيره {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} أي: في بناء السماء، أي: جعلناها واسعةً؛ قاله ابن زيد.
أبو البقاء {فَنِعْمَ الماهدون} أي: نحن، فحذف المخصوص انتهى.

.تفسير الآيات (49- 55):

{وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51) كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55)}
وقوله سبحانه: {وَمِن كُلِّ شَئ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} قال مجاهد: معناه: أَنَّ هذه إشارة إلى المتضادات والمتقابلات من الأشياء؛ كالليل والنهار، والشقاوة والسعادة، والهُدَى والضلال، والسماء والأرض، والسواد والبياض، والصِّحَّةِ والمرض، والإيمان والكفر، ونحو هذا، ورَجَّحَهُ الطبريُّ بأَنَّه أَدَلُّ على القدرة التي تُوجدُ الضدين، وقال ابن زيد وغيره: هي إشارة إلى الأنثى والذكر من كل حيوان.
* ت *: والأَوَّلُ أحسن؛ لشموله لما ذكره ابن زيد.
وقوله سبحانه: {فَفِرُّواْ إِلَى الله...} الآية أمر بالدخول في الإيمان وطاعَةِ الرحمن، وَنَبَّهَ بلفظ الفرار على أَنَّ وراءَ الناس عقاباً وعذاباً يَفِرُّ منه، فجمعتْ لفظةُ فروا بين التحذير والاستدعاء.
* ت *: وأسند أبو بكر، أحمد بن الحسين البيهقيُّ في دلائل النبوَّةِ تصنيفه عن كَثِيرِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ، عن أبيه، عن جَدِّهِ أَنَّ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ في الْمَسْجِدِ، فَسَمِعَ كَلاَماً مِنْ زَاوِيَتِهِ، وَإذَا هُوَ بِقَائِلٍ يَقُولُ: اللَّهُمَّ، أَعِنِّي عَلَى مَا يُنْجِينِي مِمَّا خَوَّفْتَنِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ سَمِعَ ذَلِكَ: «أَلاَ تَضُمُّ إلَيْهَا أُخْتَهَا؟» فَقَالَ الرَّجُلُ: اللَّهُمَّ، ارْزُقْنِي شَوْقَ الصَّادِقِينَ إلَى مَا شَوَّقْتَهُمْ إلَيْهِ وفيه: فَذَهَبُوا يَنْظُرُونَ، فَإذَا هُوَ الخَضِرُ عليه السلام، انتهى مختصراً.
وقوله تعالى: {كذلك} أي: سيرة الأمم كذلك؛ قال عياض: فهذه الآية ونظائرها تسليةٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، عَزَّاهُ اللَّه عز وجل بما أخبر به عن الأُمَمِ السالفة ومقالها لأنبيائها، وأَنَّه ليس أَوَّلَ مَنْ لَقِيَ ذلك، انتهى من الشفا.
وقوله سبحانه: {أَتَوَاصَوْاْ بِهِ} توقيف وتعجيب من توارد نفوس الكَفَرَةِ في تكذيب الأنبياء على تَفَرُّقِ أَزمانهم، أي: لم يتواصوا، لكنَّهُم فعلوا فعلاً كأَنَّهُ فعل مَنْ تواصى، والعِلَّةُ في ذلك أَنَّ جميعهم طاغٍ، والطاغي المستعلي في الأرض، المُفْسِدُ.
وقوله تعالى: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} أي: عنِ الحرص المُفْرِطِ عليهم، وذَهَابِ النفس حَسَرَاتٍ، ولستَ بملوم؛ إذ قد بَلَّغْتَ {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذكرى}: نافعة للمؤمنين، ولمن قُضِيَ له أَنْ يكون منهم.

.تفسير الآيات (56- 60):

{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)}
وقوله سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} قال ابن عباس وعليٌّ: المعنى: ما خلقت الجن والإنس إلاَّ لآمرهم بعبادتي، وليقرُّوا لي بالعبودِيَّةِ، وقال زيد بن أسلمَ وسفيان: هذا خاصٌّ، والمراد: ما خلقت الطائعين من الجن والإنس إلاَّ لعبادتي، ويؤَيِّدُ هذا التأويلَ أَنَّ ابن عباس رَوَى عَن النبي صلى الله عليه وسلم: أَنَّهُ قَرَأَ: «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ»، وقال ابن عباس أيضاً: معنى {لِيَعْبُدُونِ}: ليتذللوا لي ولقدرتي، وإنْ لم يكن ذلك على قوانينِ شرع، وعلى هذا التأويل فجميعهم من مُؤمن وكافر مُتَذَلِّلٌ للَّه عز وجل؛ أَلاَ تراهم عند القحوط والأمراض وغيرِ ذلك كيف يخضعون للَّه ويتذللون؟!.
* ت *: قال الفخر: فإنْ قيل: ما العبادة التي خلق اللَّه الجن والإنسَ لها؟ قلنا: التعظيم لأمر اللَّه، والشفقةُ على خلق اللَّه؛ فإنَّ هذين النوعينِ لم يَخْلُ شرعٌ منهما، وأَمَّا خصوص العبادات فالشرائع مختلفة فيها: بالوضع والهيئة، والقِلَّةِ والكَثْرَةِ، والزَّمان والمكان، والشَّرَائِطِ والأركان، انتهى، ونقل الثعلبيُّ وغيره عن مجاهد: {إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} أي: ليعرفوني، قال صاحب الكَلِمِ الفارقية: المعرفة باللَّه تملأ القلبَ مَهَابَةً ومخافَةً، والعينَ عَبْرَةً وعِبْرةً وحياءً وخَجْلَةً، والصَّدْرَ خُشُوعاً وَحُرْمَةً، والجوارحَ استكانةً وذِلَّةً وطاعةً وخدمةً، واللسانَ ذكراً وحمداً، والسمعَ إصغاءً وَتفَهُّماً، والخواطِرَ في مواقف المناجات خموداً، والوساوِسَ اضمحلالاً، انتهى.
وقوله سبحانه: {مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ} أي: أنْ يرزقوا أنفسهم ولا غيرهم.
وقوله: {أَن يُطْعِمُونِ} أي: أنْ يطعموا خَلْقِيَ؛ قاله ابن عباس، ويحتمل أنْ يريد: أنْ ينفعوني، و{المتين}: الشديد.
* ت *: ورُوِّينَا في كتاب التِّرْمِذِيِّ عن أبي هريرةَ عنِ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: يَا بْنَ آدَمَ، تَفَرَّغْ لِعِبَادَتِي أَمْلأْ صَدْرَكَ غِنًى، وأَسُدَّ فَقْرَكَ، وَإلاَّ تَفْعَلْ مَلأْتُ يَدَكَ شُغْلاً، وَلَمْ أَسُدَّ فَقْرَكَ»، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن، ورُوِّينَا فيه عن أنس قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ، جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ في قَلْبِهِ، وَجَمَعَ لَهْ شَمْلَهُ، وأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ، جَعَل اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إلاَّ مَا قُدِّرَ لَهُ» انتهى.
وقوله سبحانه: {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ}: يريد أهل مَكَّةَ، والذّنوب: الحَظُّ والنصيب، وأصله من الدَّلْوِ؛ وذلك أَنَّ الذَّنُوبَ هو مِلْءُ الدَّلْوِ من الماء، وكذا قال أبو حيان: {ذَنُوبِ}، أي: نصيباً، انتهى و{أصحابهم}: يُرَادُ بهم مَنْ تقدم من الأمم المُعَذَّبَةِ، وباقي الآية وعيد بَيِّنٌ.

.تفسير سورة والطور:

وهي مكية بإجماع.
بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 16):

{وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16)}
قوله عز وجل: {والطور * وكتاب مُّسْطُورٍ...} الآية، هذه مخلوقات أقسم اللَّه عز وجل بها؛ تنبيهاً على النظر والاعتبارِ بها، المؤَدِّي إلى توحيد اللَّه والمعرفة بواجب حَقِّه سبحانه؛ قال بعض اللغويين: كُلُّ جبلٍ طُورٌ، فكأَنَّه سبحانه أقسم بالجبال، وقال آخرون: الطور: كُلُّ جبل أجردَ لا ينبت شجراً، وقال نوف البكاليُّ: المراد هنا جبل طُورِ سَيْنَاءَ، وهو الذي أقسم اللَّه به؛ لفضله على الجبال، والكتاب المسطور: معناه بإجماع: المكتوبُ أسطاراً، واخْتَلَفَ الناس في هذا الكتاب المُقْسَمِ به، فقال بَعْضُ المُفَسِّرِينَ: هو الكتاب المُنْتَسَخُ من اللوح المحفوظ للملائكة؛ لتعرفَ منه جميعَ ما تفعله وتصرفه في العالم، وقيل: هو القرآن؛ إذ قد علم تعالى أَنَّه يتخلد في رَقٍّ منشور، وقيل: هو الكُتُبُ المُنَزَّلَةُ، وقيل: هو الكتاب الذي فيه أعمال الخلق، وهو الذي لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً، والرَّقُّ: الورق المُعَدَّةُ للكتب، وهي مُرَقَّقَةٌ؛ فلذلك سُمِّيَتْ رَقًّا، وقد غلب الاستعمال على هذا الذي هو من جلود الحيوان، والمنشور خلاف المَطْوِيِّ، {والبيت المعمور}: هو الذي ذُكِرَ في حديث الإسراء؛ قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم: هَذَا الْبَيْتُ المَعْمُورُ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ لاَ يَعُودُونَ إلَيْهِ آخِرَ مَا عَلَيْهِمْ، وبهذا هي عمارته، وهو في السماء السابعة، وقيل: في السادسة، وقيل: إنَّه مقابلٌ للكعبة، لو وَقَعَ حجر منه، لَوَقَعَ على ظهر الكعبة، وقال مجاهد، وقتادة، وابن زيد: في كل سماء بيت معمور، وفي كل أرض كذلك، وهي كُلُّها على خط من الكعبة، وقاله علي بن أبي طالب، قال السُّهَيْلِيُّ: والبيت المعمور اسمه عريباً، قال وهب بن مُنَبِّهٍ: مَنْ قال: سبحانَ اللَّهِ وبحمده، كان له نور يملأ ما بين عريباً وحريباً، وهي الأرض السابعة، انتهى.
{والسقف المرفوع}: هو السماء، واختلف الناس في {والبحر المسجور} فقال مجاهد وغيره: المُوْقَدُ ناراً، ورُوِيَ أَنَّ البحرَ هو جَهَنَّمُ، وقال قتادة: {المسجور}: المملوء، وهذا معروف من اللغة، ورَجَّحَهُ الطبريُّ، وقال ابن عباس: هو الذي ذهب ماؤه، فالمسجور الفارغ، ورُوِيَ أَنَّ البحار يذهب ماؤها يومَ القيامة، وهذا معروف في اللغة، فهو من الأضداد، وقيل: يوقد البحر ناراً يَوْمَ القيامة، فذلك سجره، وقال ابن عباس أيضاً: {المسجور}: المحبوس؛ ومنه ساجور الكلب، وهي القلادة من عود أو حديد تمسكه، وكذلك لولا أَنَّ البحر يُمْسِكُ لفاض على الأرض، والجمهور على أَنَّه بحر الدنيا، وقال منذر بن سعيد: المُقْسَمُ به جهنم، وسمَّاها بحراً؛ لِسَعَتِها وتموجها؛ كما قال صلى الله عليه وسلم في الفرس: «وَإنْ وَجَدْنَاهُ لَبَحْراً»، والقسم واقع على قوله: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} يريد: عذاب الآخرة واقع للكافرين؛ قاله قتادة، قال الشيخ عبد الحق في العاقبة: وَيُرْوَى أَنَّ عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه سَمِعَ قارئاً يقرأ: {والطور * وكتاب مَّسْطُورٍ} قال: هذا قَسَمٌ حَقٌّ، فلمَّا بلغ القارئ إلى قوله عز وجل: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} ظنَّ أَنَّ العذاب قد وقع به فَغُشِيَ عليه، انتهى، و{تَمُورُ} معناه: تذهب وتجيء بالرياح متقطعةً مُتَفَتِّتَةً، وسير الجبال: هو في أَوَّلِ الأمر، ثم تتفتَّتُ حتى تصيرَ آخراً كالعِهْنِ المنفوش، و{يُدَعُّونَ} قال ابن عباس وغيره: معناه: يُدْفَعُونَ في أعناقهم بشدة وإهانة وتَعْتَعَةٍ، ومنه:
{يَدُعُّ اليتيم} [الماعون: 2]، وفي الكلام محذوف، تقديره: يقال لهم: هذه النار التي كنتم بها تكذبون؛ توبيخاً وتقريعاً لهم، ثم وقفهم سبحانه بقوله: {أَفَسِحْرٌ هذا..} الآية: ثم قيل لهم على جهة قطع رجائهم: اصْبِرُوا أَوْ لاَ تَصْبِرُوا سواء عليكم، أي: عذابكم حتم، فسواء جَزَعُكُمِ وَصَبْرُكُمْ، لابد من جزاء أعمالكم.