فصل: تفسير الآيات (33- 38):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (33- 38):

{أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38)}
وقوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ الذي تولى...} الآية، قال مجاهد، وابن زيد، وغيرُها: نزلت في الوليد بن المغيرة المخزوميِّ؛ وذلك أَنَّهُ سَمِعَ قراءة النبي صلى الله عليه وسلم وَوَعْظَهُ فقرب من الإسلام، وطمع النبيُّ صلى الله عليه وسلم في إسلامه، ثم إنَّه عاتبه رجلٌ من المشركين، وقال له: أتتركُ مِلَّةَ آبائك؟ا ارجع إلى دينك، واثبت عليه، وأَنا أتَحَمَّلُ لك بكلِّ شيء تخافه في الآخرة، لكن على أَنْ تعطيني كذا وكذا من المال، فوافقه الوليد على ذلك، ورجع عَمَّا هَمَّ به من الإسلام، وأعطى بعضَ ذلك المالَ لذلك الرجل، ثم أمسك عنه وشَحَّ، فنزلت الآية فيه، وقال السُّدِّيُّ: نزلت في العاصي بن وائل؛ قال * ع *: فقوله: {وأعطى قَلِيلاً وأكدى} على هذا هو في المال، وقال مقاتل في كتاب الثعلبيِّ: المعنى: أعطى الوليدُ قليلاً من الخير بلسانه، ثم {وأكدى}، أي: انقطع ما أعطى، وهذا بَيِّنٌ من اللفظ، والآخر يحتاج إلى رواية، و{تولى} معناه: أدبر وأعرض عن أمر اللَّه، {وأكدى} معناه: انقطع عطاؤه، وهو مشبه بالذي يحفر في الأرض؛ فإنَّه إذا انتهى في حفر بئر ونحوه إلى كُدْيَةٍ، وهي ما صَلُبَ من الأرض يَئِسَ من الماء، وانقطع حفرُهُ، وكذلك أجبل إذا انتهى في الحفر إلى جبل، ثم قيل لمن انقطع: عمله أكدى وأجبل.
* ت *: قال الثعلبيُّ: وأصله من الكُدْيَةِ، وهو حجر في البئر يؤيس من الماء؛ قال الكسائِيُّ: تقول العرب: أَكْدَى الحَافَرُ وأَجْبَلَ: إذا بَلَغَ في الحَفْرِ إلى الكُدْيَةِ والجَبَلِ، انتهى.
وقوله عز وجل: {أَعِندَهُ عِلْمُ الغيب فَهُوَ يرى} معناه: أَعَلِمَ من الغيب أَنَّ مَنْ تحمَّل ذنوبَ آخر انتفع بذلك المُتَحَمَّلُ عنه؛ فهو لهذا الذي علمه يرى الحق وله فيه بصيرة؟! أم هو جاهل، لم يُنَبَّأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وَفَّى بما أُرْسِلَ بِه، من أَنَّهُ لا تَزِرُ وازرة، أي: لا تحملُ حَامِلَةٌ حَمْلَ أخرى؛ وفي البخاري {وإبراهيم الذي وفى}: وفى ما فُرِضَ عليه، انتهى.

.تفسير الآيات (39- 41):

{وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41)}
وقوله سبحانه: {وَأَن لَّيْسَ للإنسان إِلاَّ مَا سعى} وما بعده، كل ذلك معطوف على قوله: {أَلاَّ تَزِرُ وازرة وِزْرَ أخرى} والجمهور أَنَّ قوله: {وَأَن لَّيْسَ للإنسان إِلاَّ مَا سعى} مُحْكَمٌ لا نسخَ فيه، وهو لفظ عام مخصص.
وقوله: {وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يرى} أي: يراه اللَّه، ومَنْ شاهد تلك الأُمُورَ، وَفِي عَرْضِ الأعمال على الجميع تشريفٌ للمحسنين وتوبيخٌ للمسيئين، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَمَّعَ بِأَخِيهِ فِيمَا يَكْرَهُ، سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ سَامِعَ خَلْقِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». وفي قوله تعالى: {ثُمَّ يُجْزَاهُ الجزاء الأوفى} وعيد للكافرين، ووعد للمؤمنين.

.تفسير الآيات (42- 54):

{وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54)}
وقوله سبحانه: {وَأَنَّ إلى رَبِّكَ المنتهى} أي: مُنْتَهَى الخلق ومصيرُهم، اللَّهمَّ أطلعنا على خيرك بفضلك، ولا تفضحْنا بين خلقك، وجُدْ علينا بسترك في الدارين! وَحُقَّ لعبد يعلم أَنَّه إلى ربه منتهاه؛ أَنْ يرفض هواه؛ ويزهدَ في دنياه، ويُقْبِلَ بقلبه على مولاه؛ ويقتدي بنبيٍّ فَضَّلَهُ اللَّهُ على خلقه وارتضاه؛ ويتأمل كيف كان زهده صلى الله عليه وسلم في دنياه؛ وإِقباله على مولاه؛ قال عياض في شفاه: وأما زُهْدُهُ صلى الله عليه وسلم، فقد قدمنا من الأخبار أثناء هذه السيرة ما يكفي، وحَسْبُكَ من تقلُّله منها وإِعراضِهِ عَنْهَا وعن زَهْرَتِها، وقد سِيقَتْ إليه بحذافيرها، وترادفَتْ عليه فُتُوحَاتُهَا أَنَّهُ تُوُفِّيَ صلى الله عليه وسلم ودِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهُودِيٍّ، وهو يدعو، ويقول: «اللَّهُمَّ اجعل رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتاً».
وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: «ما شَبِعَ آلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ تِبَاعاً حتى مضى لِسَبِيلِهِ». وعنها- رضي اللَّه عنها- قالت: لَمْ يَمْتَلِئ جَوْفُ نَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شِبَعاً قَطُّ، وَلَمْ يَبُثَّ شكوى إلى أَحَدٍ، وَكَانَتِ الْفَاقَةُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنَ الغنى، وَإِنْ كَانَ لَيَظَلُّ جَائِعاً يَلْتَوِي طُولَ لَيْلَتِهِ مِنَ الْجُوعِ، فَلاَ يَمْنَعُهُ ذَلِكَ صِيَامَ يَوْمِهِ، وَلَوْ شَاءَ سَأَلَ رَبَّهُ جَمِيعَ كُنُوزِ الأَرْضِ وَثِمَارِهَا وَرَغْدِ عَيْشِهَا، وَلَقَدْ كُنْتُ أَبْكِي لَهُ؛ رَحْمَةً مِمَّا أرى بِهِ، وَأَمْسَحُ بِيَدِي على بَطْنِهِ مِمَّا بِهِ مِنَ الْجُوعِ، وَأَقُولُ: نَفْسِ لَكَ الْفِدَاءُ لَوْ تَبَلَّغْتَ مِنَ الدُّنْيَا بِمَا يَقُوتُكَ! فَيَقُولُ: يَا عَائِشَةُ، مَا لِي وَلِلدُّنْيَا! إخْوَانِي مِنْ أُولي الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ صَبَرُوا على مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْ هذا، فَمَضَوْا على حَالِهِمْ، فَقَدِمُوا على رَبِّهِمْ فَأَكْرَمَ مَآبَهُمْ، وَأَجْزَلَ ثَوَابَهُمْ، فَأَجِدُنِي أَسْتَحِيي إنْ تَرَفَّهْتُ فِي مَعِيشَتِي أنْ يُقَصِّرَ بِي غَداً دُونَهُمْ، وَمَا مِنْ شَيْءٍ هُوَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنَ اللُّحُوقِ بإخْوَانِي وأَخِلاَّئِي، قَالَتْ: فَمَا أَقَامَ بَعْدُ إلاَّ أَشْهُراً حتى تُوُفِّيَ صلواتُ اللَّهُ وسَلاَمُهُ عليه انتهى، وباقي الآية دَلالة على التوحيد واضحة، و{النشأة الأخرى}: هي إعادة الأجسام إلى الحشر بعد البِلَى، {وأقنى} معناه: أَكْسَبَ ما يُقْتَنَى؛ تقول: قنيت المالَ، أي: كسبْته، وقال ابن عباس: {وأقنى}: قنَّع، قال * ع *: والقناعة خير قُنْيَةٍ، والغِنَى عرض زائل، فَلِلَّهِ دَرُّ ابن عباس! و{الشعرى}: نجم في السماء، قال مجاهد وابن زيد: هو مرزم الجَوْزاء، وهما شِعْرَيَانِ: إحداهما الغُمَيْصَاءُ، والأُخرى العَبُور؛ لأَنَّها عَبَرَتِ المجرَّةَ، وكانت خُزَاعَةُ مِمَّنْ يَعْبُدُ هذه الشعْرَى العَبُورَ، ومعنى الآية: وَأَنَّ اللَّه سبحانه رَبُّ هذا المعبودِ الذي لكم و{عَاداً الأولى}: اختلف في معنى وصفها بالأُولى، فقال الجمهور: سُمِّيتْ {أولى} بالإضافة إلى الأمم المتأخِرة عنها، وقال الطبريُّ وغيره: سُمِّيتْ أولى؛ لأَنَّ ثَمَّ عاداً آخرةً، وهي قبيلة كانت بمكَّةَ مع العماليق، وهم بنو لقيم بن هزال، واللَّه أعلم، وقرأ الجمهور: {وَثَمُودَا} بالنصب؛ عطفاً على {عاداً} {وقومَ نوحٍ} عطفاً على {ثمود}.
وقوله: {مِّن قَبْلُ} لأَنَّهم كانوا أَوَّلَ أُمَّة كَذَّبت من أهل الأرض، {والمؤتفكة}: قرية قومِ لوطٍ {أهوى} أي: طرحها من هواء عالٍ إلى سفل.

.تفسير الآيات (55- 58):

{فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55) هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56) أَزِفَتِ الْآَزِفَةُ (57) لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58)}
وقوله سبحانه: {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكَ تتمارى} مخاطبة للإنسان الكافر؛ كأَنَّه قيل له: هذا هو اللَّه الذي له هذه الأفعال، وهو خالِقُكَ المُنْعِمُ عليكَ بكُلِّ النِّعَمِ، ففي أَيّها تشك وتتمارى؟! معناه: تشكك، وقال مالك الغفاريُّ: إنَّ قوله: {أَلاَّ تَزِرُ} إلى قوله: {تتمارى} هو في صحف إِبراهيم وموسى.
وقوله سبحانه: {هذا نَذِيرٌ} يحتمل أَنْ يشير إلى نَبِيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم، وهو قول قتادة وغيره، وهذا هو الأشبه، ويحتمل أنْ يشير إلى القرآن، وهو تأويل قوم، و{نَذِيرٌ} يحتمل أَنْ يكونَ بناء اسم فاعل، ويحتمل أَنْ يكون مصدراً، ونُذُر جمع نذير.
وقوله تعالى: {أَزِفَتِ الأزفة} معناه: قربت القريبة، والآزفة: عبارة عن القيامة بإجماعٍ من المفسرين، وأَزِفَ معناه قَرُبَ جدًّا؛ قال كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ: [البسيط]
بَانَ الشَّبَابُ وَآهَا الشَّيْب قَدْ أَزِفَا ** وَلاَ أَرَى لشَبَابٍ ذَاهِبٍ خَلَفَا

و{كَاشِفَةٌ} يحتمل أَنْ تكون صفة لمؤنث التقدير: حال كاشفة ونحو هذا التقدير، ويحتمل أَنْ تكونَ بمعنى: كاشف؛ قال الطبريُّ والزَّجَّاج: هو من كشف السِّرّ، أي: ليس من دون اللَّه مَنْ يشكف وَقْتَهَا ويعلمه، وقال منذر بن سعيد: هو من كشف الضُّرّ ودفعه، أي: ليس مَنْ يكشف خَطْبَهَا وهولها إِلاَّ اللَّهُ.

.تفسير الآيات (59- 62):

{أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)}
وقوله سبحانه: {أَفَمِنْ هذا الحديث تَعْجَبُونَ...} الآية: روى سعد بن أَبي وَقَّاص أنَّ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ هذا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ بِخَوْفٍ، فَإذَا قَرَأْتُمُوهُ فَابْكُوا، فَإِنْ لَمْ تَبْكُوا فَتَبَاكَوا» ذكره الثعلبيُّ، وأخرج الترمذي والنسائيُّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّه قَالَ: «لاَ يَلِجُ النَّارَ مَنْ بكى مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، حتى يَعُودَ اللَّبَنُ في الضَّرْعِ، وَلاَ يَجْتَمِعُ غُبَارٌ في سَبِيلِ اللَّهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ في مَنْخِرٍ أبَدًا» قال النسائيُّ: ويروى: «في جَوْفٍ أبَدًا»: «وَلاَ يَجْتَمِعُ الشُّحُّ وَالإيمَانُ في قَلْبٍ أَبَدًا» قال الترمذي: وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «عَيْنَانِ لاَ تَمَسُّهُمَا النَّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ في سَبِيلِ اللَّهِ» انتهى من مصابيح البَغَوِيِّ. قال أبو عمر بن عبد البر: رُوِيَ عنِ النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّه قال: «إيَّاكُمْ وَكَثْرَةَ الضَّحِكِ؛ فَإنَّهُ يُمِيتُ الْقَلْبَ، وَيَذْهَبُ بِنُورِ الْوَجْهِ» انتهى من بهجة المجالس، وروى الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «مَنْ يَأْخُذُ عَنِّي هؤلاء الكَلِمَاتِ؛ فَيَعْمَلَ بِهِنَّ، أَوْ يُعَلِّمَ مَنْ يَعْمَلُ بِهِنَّ؟ فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَقُلْتُ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَخَذَ بِيَدِي، فَعَدَّ خَمْسَاً، وَقَالَ: اتَّقِ الْمَحَارِمَ، تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ، وارض بِمَا قَسَّمَ اللَّهُ لَكَ، تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ، وَأَحْسِنْ إلى جَارِكَ، تَكُنْ مُؤْمِناً، وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ، تَكُنْ مُسْلِماً، وَلاَ تُكْثِرِ الضَّحِكَ؛ فَإنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ يُمِيتُ الْقَلْبَ» انتهى، والسامد: اللاعب اللاهي، وبهذا فسَّرَ ابن عباس وغيره من المفسرين، وسمد بلغة حمير: غَنِيَ، وهو كُلُّه معنى قريب بعضُه من بعض، ثم أمر تعالى بالسجود له والعبادة؛ تخويفاً وتحذيراً، وههنا سجدةٌ في قول كثير من العلماء، ووردت بها أحاديثُ صحاح، ولم يَرَ مالك بالسجود هنا، وقال زيد بن ثابت: إنَّهُ قَرَأ بِهَا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَسْجُدْ. قال ابن العربيِّ في أحكامه: وكان مالكٌ يَسْجُدُهَا في خاصَّة نَفْسِهِ، انتهى.

.تفسير سورة اقتربت الساعة:

وهي مكية بإجماع إلا آية واحدة قوله: {سيهزم الجمع} الآية، ففيها خلاف.
والجمهور أنها أيضا مكية.
بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 8):

{اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آَيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8)}
قوله سبحانه: {اقتربت الساعة وانشق القمر} معناه: قربت الساعة، وهي القيامة، وأمرها مجهول التحديد، وكل ما يُرْوَى في عمر الدنيا من التحديد فضعيف.
وقوله: {وانشق القمر} إخبار عمَّا وقع؛ وذلك أَنَّ قريشاً سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم آيةً فَأَرَاهُمُ اللَّهُ انشقاق الْقَمَرِ، فَرَآهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالكُفَّارِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اشهدوا.
وقوله: {وَإِن يَرَوْاْ}: جاء اللفظ مستقبلاً، لينتظمَ ما مضى وما يأتي، فهو إخبار بأنَّ حالهم هكذا.
وقوله: {مُّسْتَمِرٌّ}: قال الزَّجَّاجُ: قيل معناه: دائم متمادٍ، وقال قتادة وغيره: معناه: مارٌّ ذاهب عن قريب يزول، ثم قال سبحانه على جهة جزم الخبر: {وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ} كأَنَّه يقول: وكل شيء إِلى غاية عنده سبحانه، و{مُزْدَجَرٌ} معناه: موضع زجر.
وقوله: {فَمَا تُغْنِى النذر}: يحتمل أنْ تكون ما نافية، ويحتمل أنْ تكون استفهاميَّة.
ثم سَلَّى سبحانه نِبِيَّه عليه السلام بقوله: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} أي: لا تذهب نفسك عليهم حسراتٍ، وتَمَّ القولُ في قوله: {عَنْهُمْ} ثم ابتدأ وعيدَهم بقوله: {يَوْمَ} والعامل في [{يَوْمَ}] قوله {يَخْرُجُونَ} وقال الرُّمَّانِيُّ: المعنى: فتولّ عنهم، واذكر يوم، وقال الحسن: المعنى: فتَولَّ عنهم إلى يوم.
وقرأ الجمهور: {نُكُرِ} بضم الكاف؛ قال الخليل: النُكُر: نعت للأمر الشديد والرجل الداهية، وخَصَّ الأبصارَ بالخشوع، لأَنَّهُ فيها أظهرُ منه في سائر الجوارح، وكذلك سائر ما في نفس الإنسان من حياء أَو صَلَفٍ أو خوف ونحو، إِنَّما يظهرُ في الأبصار، و{الأجداث}: جمع جَدَثٍ وهو القبر، وشَبَّهَهُمْ سبحانه بالجراد المنتشر، وقد شبههم سبحانه في آية أخرى بالفراش المبثوث، وفيهم من كل هذا شَبَهٌ، وذهب بعض المفسرين إلى أَنَّهم أَوَّلاً كالفراش حين يَمُوجُ بعضُهم في بعض؛ ثم في رتبة أُخرى كالجراد إذا توجَّهُوا نحو المَحْشَرِ والداعي، والمُهْطِعُ: المُسْرِعُ في مشيه نحو الشيء مع هَزٍّ ورَهَقٍ ومَدِّ بَصَرٍ نحو المَقْصِدِ، إِمَّا لخوف، أو طمع ونحوه؛ قال أبو حيان: {مُهْطِعِينَ} أي: مسرعين، وقيل: فاتحين آذانهم للصوت، انتهى.
و{يَقُولُ الكافرون هذا يَوْمٌ عَسِرٌ} لما يرون من مخايل هَوْلِهِ وعلامات مشقته.

.تفسير الآيات (9- 15):

{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آَيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15)}
وقوله سبحانه: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ...} الآية: وعيدٌ لقريشٍ، وضَرْبُ مَثَلٍ لهم.
وقوله: {وازدجر}: إِخبار من اللَّه عز وجل أَنَّهُمْ زَجَرُوا نوحاً عليه السلام بالسَّبِّ والنَّجْهِ والتخويف، قاله ابن زيد.
وقوله: {فانتصر} أي: فانتصر لي منهم بأن تهلِكَهُمْ.
وقوله: {فَفَتَحْنَا أبواب السماء} قال الجمهور: هذا مجاز وتشبيه؛ لأَنَّ المطر كأَنَّه من أبواب، وهذا مبدأ الانتصار من الكفار، والمُنْهَمِرُ: الشديد الوقوع الغزِيرُ، وقرأ الجمهور: {فَالْتَقَى الماء} يعني: ماءَ السماء وماءَ العيون.
وقوله سبحانه: {على أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} أي: قد قُضِيَ وَقُدِّرَ في الأَزَلِ، و{ذَاتِ ألواح وَدُسُرٍ}: هي السفينة، والدَّسُرُ: المسامير، واحدها: دِسار؛ وهذا هو قول الجمهور، وقال مجاهد: الدُّسُرُ: أضلاع السفينة، قال العراقيُّ: والدِّسَار أيضاً: ما تُشَدُّ به السفينة، انتهى.
وقوله تعالى: {تَجْرِى بِأَعْيُنِنَا} معناه: بحفظنا وتحتَ نظرٍ مِنَّا، قال البخاريُّ: قال قتادة: أبقى اللَّه عز وجل سفينةَ نوح حتَّى أدركها أَوائِلُ هذه الأُمَّةِ، انتهى، وقرأ جمهور الناس: {جَزَاءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ} مبنيًّا للمفعول، قال مكيُّ: قيل: {مَنْ} يرادُ بها نوحٌ والمؤمنون؛ لأنَّهم كُفِروا من حيثُ كُفِرَ بهم، فجزاهم اللَّه بالنجاة، وقُرِئ شاذًّا: كَفَرَ مبنيًّا للفاعل، والضمير في {تركناها} قالَ مَكِّيّ: هو عائد على هذه الفِعْلَةِ والقِصَّةِ، وقال قتادة وغيره: هو عائد على السفينة، و{مُّدَّكِرٍ} أصله: مدتكر؛ أبدلوا من التَّاءِ دالاً، ثم أدغموا الذَّالَ في الدَّالِ، وهذه قراءة الناس، قال أبو حاتم: ورُوِيَتْ عنِ النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد صحيح.