فصل: تفسير الآيات (18- 29):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (18- 29):

{يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29)}
وقوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ} خطابٌ لجميعِ العَالَمِ، وفي الحديثِ الصحيحِ: «يُعْرَضُ النَّاسُ ثَلاَثَ عَرْضَاتٍ، فَأَمَّا عَرْضَتَانِ؛ فَجِدَالٌ وَمَعَاذِيرُ، وَأَمَّا الثَّالِثَةُ، فَعِنْدَهَا تَتَطَايَرُ الصُّحُفُ في الأَيْدِي، فَآخِذٌ بِيَمِينِهِ، وآخِذٌ بِشِمَالِهِ»، قال الغَزَّالِيُّ: يَجِبُ على كُلِّ مُسْلِمٍ البِدَارُ، إلى مُحَاسَبَةِ نفسِه؛ كما قال عمرُ رضي اللَّه عنه: حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا، وَزِنُوهَا قَبْلَ أَنْ تُوزَنُوا، وإنَّمَا حِسَابُهُ لِنَفْسِهِ، أَنْ يَتُوبَ مِنْ كُلِّ مَعْصِيَةٍ قَبْلَ المَوْتِ تَوْبَةً نَصُوحاً، وَيَتَدَارَكَ مَا فَرَّطَ فِيهِ مِنْ تَقْصِيرٍ في فَرَائِضِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ويردَّ المظالمَ حَبَّةً حَبَّةً، ويستحلَّ كلَّ مَنْ تَعَرَّضَ له بلسانِه ويدِه، وسوء ظِنّه بقلبِه، ويُطَيِّبَ قلوبَهم حتى يموتَ، ولم يَبْقَ عليه فريضةٌ ولاَ مظلمةٌ، فَهَذَا يدخلُ الجنةَ بغيرِ حِسَابٍ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تعالى، انتهى من آخِر الإحياء، ونَقَلَ القرطبيُّ في تذكرَتِه هذه الألفاظَ بعينها.
وقوله: {هَاؤُمُ اقرؤا كتابيه} معناه تَعَالُوا، وقَوْله: {اقرؤا كتابيه} هُو استبشارٌ وسرورٌ * ص *: {هَاؤُمُ} ها بمعنَى خُذْ، قَالَ الكسائي: والعربُ تقول: هَاءِ يَا رَجُلُ، وللاثنين؛ رجلين أو امرأتين: هَاؤُمَا، وللرجال: هَاؤُمْ، وللمرأَةِ: هَاءِ بهمزة مكسورة من غير ياء، وللنساء: هَاؤُنَّ، وزعم القُتَبِيُّ أَنَّ الهمزةَ بَدَلٌ من الكافِ، وهو ضعيفٌ، إلا أنْ يعني أنها تحلُّ محلَّها في لغةِ مَنْ قال: هَاكَ وهَاكِ، وهَاكُمَا وهَاكُمْ وَهَاكُنَّ، فذلكَ مُمْكِنٌ، لا أَنَّه بَدَلٌ صناعيٌّ؛ لأَنّ الكافَ لاَ تُبْدَلُ من الهمزةِ ولا الهمزةُ منها. انتهى.
وقوله: {إِنّى ظَنَنتُ أَنّى ملاق حِسَابِيَهْ} عبارةٌ عن إيمانِه بالبعثِ وغيرهِ، و{ظَنَنتُ} هنا واقَعةٌ موقع: تَيَقَّنْتُ، وهي في مُتَيَقَّنٍ لم يقعْ بَعْدُ ولا خرج إلى الحسِّ، وهذا هُو باب الظنِّ الذي يوقع موقعَ اليقين، و{رَّاضِيَةٍ} بمعنى مَرْضِيَّة، والقُطُوفُ: جمع قَطْفٍ وهو ما يُجْتَنَى من الثمارِ، ويقطفُ، ودنوُّها هُوَ أَنهَا تأتي طَوْعَ التَّمَنِّي فيأكلُها القائِمُ والقاعدُ والمضطجعُ بفِيه من شجرتها، و{بِمَا أَسْلَفْتُمْ} معناه بِمَا قَدَّمْتُمْ من الأَعْمَالِ الصالحةِ، و{الايام الخالية} هي أيام الدنيا: لأنها في الآخرة قَدْ خَلَتْ وذَهَبَتْ، وقال وكيع وغيره: المرادُ ب {ما أسلفتم} من الصوم، وعموم الآية في كل الأعمال أوْلى وأحسن، * ت *: ويدلُّ على ذلك الآيةُ الأخرى {كُلُواْ واشربوا هنيائا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [المرسلات: 43] قال ابن المبارك في رقائقه: أخبرنا مالك بن مغول أنّه بلغَه أنّ عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه قال: حَاسِبُوا أنفُسَكم قبل أن تحاسَبُوا؛ فإنَّه أهْونُ أو أيْسَرُ لحسابِكم، وزنوا أنفسَكم قبل أن تُوزَنُوا، وتجهَّزُوا للعرْضِ الأَكْبَرِ {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تخفى مِنكُمْ خَافِيَةٌ} قال ابن المبارك: أخبرنا معمر عن يحيى بن المختارِ، عن الحسن قال: إن المؤمِنَ قَوَّامٌ على نفسه، يحاسبُ نفسَه للَّه، وإنما خَفَّ الحسابُ يوم القيامة عَلَى قومٍ حَاسَبُوا أنفسهم في الدنيا، وإنَّما شَقَّ الحسابُ يومَ القيامةِ على قومٍ أَخَذُوا هذا الأَمْرَ عن غير محاسبةٍ، انتهى، والذينَ يُؤتَوْنَ كتبَهم بشمائِلهم هم المخلَّدُونَ في النارِ أهلُ الكفرِ، فيتمنَّوْن أن لو كانوا مَعْدُومِينَ.
وقوله: {ياليتها كَانَتِ القاضية} إشارةٌ إلى مؤنةِ الدنيا، أي: ليتها لم يكن بعدها رجُوع، * ص *: {مَا أغنى} ما نافيةٌ أو استفهاميةٌ انتهى، والسلطانُ في الآيةِ الحجةُ، وقيل: إنه يَنْطِقُ بذلكَ مُلُوكُ الدنيا، والظاهر أنَّ سلطانَ كلِّ أحَدٍ حَالُه في الدنيا من عَدَدٍ وعُدَدٍ، ومنْه قوله صلى الله عليه وسلم «لاَ يُؤُمَّنَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ في سُلْطَانِهِ، وَلاَ يَجْلِسُ على تَكْرِمَتِهِ إلاَّ بِإذْنِهِ».

.تفسير الآيات (30- 33):

{خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33)}
وقوله سبحانه: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ} الآية، المعنى يقول اللَّه تعالى، أو الملك بأمره للزبانيةِ: خذوه واجْعَلُوا في عنقه غلاًّ، قال ابن جُرَيْجٍ: نزلَتْ في أبي جَهْلٍ.
وقوله تعالى: {فَاسْلُكُوهُ} معناه: أدْخِلوه، ورُوِيَ أن هذه السلسلةَ تدخلُ في فَمِ الكافرِ وتخرجُ من دُبُرِه، فهي في الحقيقةِ التي تَسْلُكُ فيه، لكنَّ الكلامَ جَرَى مَجْرَى: أدْخَلْتُ القَلَنْسُوةَ في رَأْسِي، ورُوي أن هذه السلسلةَ تلوى حَوْلَ الكافرِ حتى تعمَّه وتَضْغَطَه، فالكلامُ على هذا على وجهه وهو المسلوكُ.

.تفسير الآيات (34- 37):

{وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37)}
وقوله تعالى: {وَلاَ يَحُضُّ على طَعَامِ المسكين} خُصَّتْ هذه الخلةُ بالذكرِ، لأنَّها من أضَرِّ الخِلاَلِ بالبشر؛ إذا كثُرَتْ في قوم هَلَكَ مساكينُهم، * ت *: ونَقَلَ الفخرُ عن بعض الناس أنه قال في قوله تعالى: {وَلاَ يَحُضُّ على طَعَامِ المسكين}: دليلانِ قويَّانِ على عِظَمِ الجرْمِ في حِرْمَانِ المساكين، أحدهما: عَطْفُه على الكفرِ وجَعْلُه قريناً له، والثاني: ذِكْرُ الحضِّ دُونَ الفِعْلِ ليعلمَ أنَّه إذا كانَ تاركَ الحضِّ بهذه المنزلةِ، فكيفَ بمن ترك الفِعْل، قال الفخر: ودلتِ الآية على أنَّ الكفارَ يُعَاقَبُونَ على ترك الصلاةِ والزكاةِ، وهو المرادُ من قولنا: إنهم مخاطَبُون بفروعِ الشريعة وعن أبي الدَّرْدَاءِ أنه: كانَ يَحُضُّ امرأتَه على تكثيرِ المَرَقِ؛ لأجْلِ المساكينِ، ويقول: خَلَعْنَا نصفَ السلسلةِ بالإيمَانِ، أَفَلاَ نَخْلَعُ النصفَ الثاني، انتهى.
وقوله: {فَلَيْسَ لَهُ اليوم هاهنا حَمِيمٌ} أي صَدِيقٌ لطيفُ المودةِ؛ قاله الجمهور، وقيلَ: الحميمُ الماءُ السُّخْنُ، فكأنه تعالى أخبرَ أنَّ الكافرَ ليس له ماءٌ ولا شيءٌ مائعٌ ولا طَعَامٌ إلا مِنْ غِسْلينٍ، وهو ما يَجْرِي من الجَرَاحِ، إذا غَسِلَتْ، وقال ابن عباس: الغسلينُ هو صَدِيدُ أهْلِ النار، وقال قَوم: الغسلينُ: شيءٌ يجري من ضَرِيع النارِ، * ص *: {إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ} أبو البقاء النونُ في: غسلين زائدةٌ: لأنه غُسَالَةُ أهلِ النار، انتهى، والخاطئ الذي يفعل ضدَّ الصوابِ.

.تفسير الآيات (38- 40):

{فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40)}
وقوله تعالى: {فَلاَ أُقْسِمُ} قيل: لا زائدةٌ وقيل: لا رَدٌّ لما تَقَدَّمَ من أَقوالِ الكفار، والبَدْأَة: أقْسِمُ.
وقوله: {بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ} قَال قتادة: أرادَ اللَّه تعالى أن يَعُمَّ بهذا القسمِ جميعَ مخلوقاتهِ، والرسولُ الكريمُ قيل: هو جبريلٌ، وقيل: هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

.تفسير الآيات (41- 44):

{وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44)}
وقوله تعالى: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ} نَفى سبحانه أن يكونَ القرآن من قولِ شاعرٍ؛ كما زعمَتْ قريشٌ، و{قَلِيلاً} نَصْبٌ بفعلِ مَضْمَر يدل عليه {تُؤْمِنُونَ} وما يحتملُ أنْ تكونَ نافيةً فينتفي إيمَانُهم أَلْبَتَّةَ، ويحتملُ أَن تكونَ مصدريةً فيتَّصِفُ إيمانهم بالقلةِ، ويكونُ إيماناً لُغَوِيًّا؛ لأنهم قَدْ صَدَّقُوا بأشياءَ يسيرةٍ لاَ تُغْنِي عَنْهم شيئاً، ثم أخبرَ سبحانه أن محمداً عليه السلام لَوْ تَقَوَّلَ عليه لعَاقَبَه بما ذكر، * ص *: الأَقَاويلُ جمع أقوالٍ، وأقْوَالٌ جَمْعُ قَوْلٍ، فهو جَمْع الجمعِ، انتهى.

.تفسير الآيات (45- 52):

{لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)}
وقوله سبحانه: {لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين} قال ابن عباس: المعنى لأَخَذْنا منه بالقوةِ، أي لَنِلْنَا منه عقَابَه بقوةٍ منا، وقيل: معناه لأَخَذْنَا بيدهِ اليمنى؛ على جهةِ الهَوانِ، كما يقال لِمَنْ يسجنُ أو يقامُ لعقوبةٍ: خُذُوا بيدِه أو بيمينه، والوَتِينُ نِيَاطُ القلبِ؛ قاله ابن عباس، وهُو عِرْقٌ غَلِيظٌ تصادفُه شفرةُ الناحِرِ، فمعنى الآيةِ: لأَذْهَبْنَا حياتَه معجَّلاً، والحاجِزُ: المانِعُ والضمير في قوله: {وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ} عائدٌ على القرآنِ، وقيل: على النبي صلى الله عليه وسلم، * ص *: {وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ}: ضمير إنه يعودُ على التكذيبِ المفهومِ من {مُّكَذِّبِينَ}، انتهى، وقال الفخر: الضميرُ في قوله: {وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ} فيه وجهانِ: أحدهما أنه يعودُ على القرآن، أي: هو على الكافرينَ حَسْرَةً، إمَّا يوم القيامةِ إذَا رَأَوا ثَوَابَ المصدِّقينَ به، أو في الدنيا إذا رأوا دَوْلَةَ المؤمنِين،، والثاني: قال مقاتلٌ: وإنَّ تكذيبَهم بالقرآن لَحَسْرَةٌ عليهم يَدلُّ عَلَيْه قوله: {أَنَّ مِنكُم مُّكَذِّبِينَ}، انتهى، ثم أمَرَ تعالى نبيه بالتسبيحِ باسْمِه العظيم، ولمّا نَزَلت قَال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: اجْعَلُوها في رُكُوعِكم.

.تفسير سورة سأل وسائل:

وهي مكية بلا خلاف.
بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 3):

{سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3)}
قوله عز وجل: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ} قرأ جمهور السبعة: {سَأَلَ} بهمزة محقَّقةٍ، قالوا: والمعنى دَعَا داعٍ، والإشارةُ إلى مَنْ قال من قريشٍ: {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السماء}، [الأنفال: 32] الآية، وقولهم: {عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا} [ص: 16] ونحو ذلك، وقال بعضهم: المعنى بَحَثَ بَاحِثٌ واسْتَفْهَمَ مُسْتَفْهِم، قالوا: والإشارةُ إلى قول قريشٍ: {متى هذا الوعد} [الملك: 25] وَمَا جَرى مَجْراه؛ قاله الحسن وقتادة، والباء على هذا التأويل في قوله: {بِعَذَابٍ} بمعنى عن وقرأ نافع وابن عامر: {سَال سَائِلٌ} ساكنَةَ الأَلِفِ، واختلفَ القراء بها فقال بعضهم: هي سأل المهموزةُ إلاَّ أنَّ الهمزةَ سُهِّلَتْ، وقال بعضهم هي لغة من يقول: سَلْتُ أَسَالُ وَيَتَسَاوَلاَنِ، وهي لغةٌ مشهورة، وقال بعضهم في الآية: هي من سَالَ يَسِيلُ إذا جَرَى، وليست من معنى السؤال، قال زيد بن ثابت وغيره: في جهنمَ وادٍ يسمَّى سَائِلاً؛ والإخبارُ هنا عنه، وقرأ ابن عباس: {سَال سيل} بسكون الياءِ وسؤَال الكفارِ عن العذابِ حَسَبَ قراءة الجماعة إنما كانَ على أنه كَذِبٌ، فوصفَه اللَّه تعالى بأنهُ وَاقِعٌ وعيداً لهم.
وقوله: {للكافرين} قال بعض النحاة: اللامُ بمعنى على، ورُويَ: أنه كذلِكَ في مصحف أُبَيٍّ: {على الكافرين} والمعارجُ في اللُّغةِ الدَّرَجُ في الأجْرَام، وهي هنا مستَعارَةٌ في الرُّتَبِ والفضائِل، والصفاتِ الحميدة؛ قاله ابن عباس وقتادة، وقال الحسن: هي المَرَاقي في السماء، قال عياض، في مشارق الأنوار: قوله صلى الله عليه وسلم «فَعَرَجَ بي إلى السَّماء»، أي: ارْتَقَى بي، والمعراجُ الدَّرَجُ وقيل: سُلَّمٌ تَعْرُج فيه الأرواحُ، وقيل: هو أحْسَنُ شيءٍ لا تتمالكُ النفسُ إذا رأته أنْ تَخْرُجَ، وإليه يَشْخَصُ بَصَرُ الميْتِ مِنْ حُسْنِهِ، وقيل: هو الذي تَصْعَدُ فيه الأَعْمَالُ، وقيل: قوله: {ذِي المعارج} مَعَارِجِ الملائكةِ، وقيل: ذي الفواضِلِ، انتهى.

.تفسير الآية رقم (4):

{تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)}
وقوله تعالى: {تَعْرُجُ الملئكة} معناه تَصْعَدُ، والرُّوحُ عِنْدَ الجمهورِ هو جبريلُ عليه السلام وقال مجاهد: الرُّوحُ ملائِكَةٌ حَفَظَةٌ للملائِكَةِ الحافظين لبني آدم لا تَراهم الملائكةُ؛ كَمَا لا نرى نحن الملائكة، وقال بعض المفسرين: هو اسم جنسِ لأرواحِ الحيوان.
وقوله سبحانه: {فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} قال ابن عباس وغيره: هو يومُ القيامةِ، ثم اختلفُوا؛ فقال بعضُهم: قُدْرُه في الطولِ قَدْرَ خمسينَ ألفَ سَنَةٍ، وقال بعضهم: بل قَدْرُه في الشدّة، والأولُ هو الظاهر، وهو ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: «ما مِنْ رجلٍ لا يؤَدِّي زكاةَ مالِه إلا جُعِلَ له صفائحُ مِن نارٍ يوم القيامةِ تكْوَى بها جَبْهَتُه وظهرُه وجَنْبَاه في يومٍ كان مقدارُه خمسين ألفَ سنةٍ» قال أبو سعيدِ الخدريُّ: «قيل: يا رسولَ اللَّه! مَا أطْوَلَ يَوْماً مِقْدَارُهُ خَمْسُونَ أَلْفَ سَنَة! فقالَ: والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إنَّهُ لَيَخِفُّ عَلَى المُؤْمِنِ حَتَّى يَكُونَ أَخَفَّ عَلَيْهِ مِنْ صَلاَةٍ مَكْتُوبَةٍ»، قال ابن المبارك: أَخبرنا معمر عن قتادة عن زُرَارَةَ بْنِ أوفى عن أبي هريرةَ قال: يَقْصُرُ يومئذٍ على المؤْمِنِ حتى يكونَ كوقتِ الصَّلاَةِ، انتهى، قال * ع *: وَقَدْ ورد في يوم القيامةِ أنه كألْفِ سنةٍ، وهذا يشبه أن يكونَ في طوائفَ دونَ طوائفَ، * ت *: قال عبد الحق في العاقبة له: اعْلَمْ رَحِمَكَ اللَّهُ؛ أن يومَ القيامةِ لَيْسَ طولُه كما عَهِدْتَ من طول الأيامْ، بَلْ هو آلافٌ من الأعوامْ، يَتَصَرَّفُ فيه هذا الأنامْ، على الوُجُوهِ والأَقْدَامْ، حَتَّى يَنْفُذَ فيهم مَا كُتِبَ لَهُمْ وعليهم من الأَحْكَامِ، وليس يكونُ خَلاَصُه دفعةً وَاحِدَةً، ولا فراغُهم في مرةٍ واحدةٍ؛ بل يَتَخَلَّصُونَ ويَفْرُغُونَ شَيْئاً بعد شيءٍ، لَكِنَّ طولَ ذلك اليومِ خمسون ألفَ سنة، فَيَفْرَغُونَ بِفَرَاغِ اليومِ، ويفرغُ اليومُ بِفَرَاغِهِم، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يطولُ مقامُه وحبْسُه إلى آخر اليومِ، ومنهم من يكونُ انفصَالُه في ذلك اليوم في مقدار يَوْمٍ من أيام الدنيا، أو في ساعةٍ من ساعاتِه، أو في أقَلَّ من ذلك، ويكون رائحاً في ظلِّ كَسْبهِ وعَرْشِ ربه، ومنهم من يُؤْمَرُ به إلى الجنةِ بغير حسابٍ ولا عذاب، كما أنَّ منهم مَنْ يُؤمَرُ به إلى النارِ في أول الأمْر من غير وقوفٍ ولا انتظار، أو بعدَ يسير من ذلك، انتهى.

.تفسير الآيات (5- 18):

{فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18)}
وقوله سبحانه: {فاصبر صَبْراً جَمِيلاً} أمرٌ للنبيّ صلى الله عليه وسلم بالصبرِ على أذَى قومِه، والصبرُ الجميلُ الذي لا يَلْحَقُه عَيْبٌ ولا شَكٌّ ولا قِلَّةُ رِضًى، ولا غيرُ ذلك، والأمْرُ بالصبرِ الجميلِ مُحْكَمٌ في كل حالة، أعني: لاَ نَسْخَ فيه، وقيل: إن الآيةَ نزلتْ قبل الأمْرِ بالقِتَالِ؛ فهي منسوخة، * ت *: ولو قيلَ: هذا خطابٌ لجنسِ الإنْسَانِ في شَأْنِ هَوْلِ ذلكَ اليومِ؛ مَا بَعُدَ.
وقوله تعالى: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً} يعني يوم القيامة، والمهْلُ: عَكَرُ الزَّيْتِ؛ قاله ابن عباس وغيره، فَهِي لسوادِها وانكدارِ أَنوارِها، تشبهُ ذلكَ، والمهلُ أيضاً: ما أُذِيبَ من فضَّةٍ ونحوها؛ قاله ابن مسعود وغيره، والعِهْنُ الصوفُ، وقيل: هو الصوفُ المصْبُوغ، أيَّ لَوْنٍ كَانَ، والحميمُ في هذا الموضع: القريبُ والوَليُّ، والمعنى: ولا يَسْأَلُهُ نصرةً ولا منفعةً، ولا يجدُها عنده، وقال قتادة: المعنى: ولا يَسْأَلُهُ عن حالِه؛ لأَنَّها ظاهرةٌ قَدْ بَصُرَ كلُّ أحَدٍ حَالَةَ الجميعِ، وشُغِلَ بنفسهِ، قال الفخرُ: قوله تعالى: {يُبَصَّرُونَهُمْ} تقول: بَصَّرَني زيدٌ كَذَا، وبَصَّرَنيِ بِكَذَا، فإذا بَنَيْتَ الفِعل للمَفْعُولِ وحَذَفْتَ الجارَّ، قلتَ: بُصِّرْتُ زَيْداً، وهكذا معنى: {يُبَصَّرُونَهُمْ} وكأَنَّه لما قال: {وَلاَ يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً} قيل: لعله لاَ يُبْصِرُه؛ فَقَال: {يُبَصَّرُونَهُمْ} ولَكِنْ لاِشْتِغَالِهم بأنفسِهم لا يَتَمَكَّنُونَ من تساؤلهِم، انتهى، وقرأ ابن كثير بخلافٍ عنه: {ولاَ يُسْئَلُ} عَلَى بِنَاءِ الفعلِ للمفعول، فالمعنى: وَلاَ يُسْأَلُ إحْضَارَهُ؛ لأنَّ كلَّ مُجْرِمٍ له سِيمَا يُعْرَفُ بها، كما أنَّ كُلَّ مُؤْمِنٍ لَهُ سِيمَا خَيْرٍ، والصَّاحِبَةُ هنا: الزوجةُ، والفصيلة هنا: قرابَةُ الرجل.
وقوله تعالى: {كَلاَّ إِنَّهَا لظى} ردُّ لما وَدُّوه، أي: ليس الأَمْرُ كذلك، و{لَظَى} طَبَقَةٌ مِنْ طبقاتِ جهنم، والشَّوَى جلدُ الإنسانِ وقيل: جلدُ الرأس.
{تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ وتولى} يريدُ الكفارَ، قال ابن عباس وغيره: تدعوهُم بأسمائهم وأسماء آبائهم، {وَجَمَعَ} أي جمعَ المالَ و{فأوعى} جَعَلَه في الأوْعِية، أي: جمعُوه من غيرِ حلٍّ ومَنَعُوه من حقوقِ اللَّهِ، وكان عبدُ اللَّهِ بن عكيم لاَ يَرْبِطُ كيسَه، ويقول: سمعتُ اللَّهُ تعالى يقول: {وَجَمَعَ فأوعى}.