فصل: تفسير الآيات (29- 32):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الدر المنثور في التفسير بالمأثور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (25- 28):

{إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28)}
أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة رضي الله عنه في قوله: {إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى} قال: هم أعداء الله أهل الكتاب يعرفون نعت محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه عندهم ويجدونه مكتوباً في التوراة والإِنجيل، ثم يكفرون به {الشيطان سوّل لهم} قال: زين لهم {ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله} قال: هم المنافقون.
وأخرج ابن المنذر عن ابن جرير رضي الله عنه في قوله: {إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى} قال: اليهود ارتدوا عن الهدى بعد أن عرفوا أن محمداً صلى الله عليه وسلم نبي، {الشيطان سوّل لهم وأملى لهم} قال: أملى الله لهم ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله قال: يهود تقول للمنافقين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا يسرون إليهم إنا {سنطيعكم في بعض الأمر} وكان بعض الأمر أنهم يعلمون أن محمداً نبي وقالوا اليهودية الدين فكان المنافقون يطيعون اليهود بما أمرتهم {والله يعلم إسرارهم} قال: ذلك سر القول {فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم} قال: عند الموت.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما {إن الذين ارتدوا على أدبارهم... إلى إسرارهم} هم أهل النفاق.
وأخرج ابن المنذر عن مجاهد رضي الله عنه في قوله: {يضربون وجوههم وأدبارهم} قال: يضربون وجوههم وأستاهم، ولكن الله كريم يكني.

.تفسير الآيات (29- 32):

{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32)}
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم} قال: أعمالهم. خبثهم والحسد الذي في قلوبهم، ثم دل الله النبي صلى الله عليه وسلم بعد على المنافقين، فكان يدعو باسم الرجل من أهل النفاق.
وأخرج ابن مردويه وابن عساكر عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في قوله: {ولتعرفنهم في لحن القول} قال: ببغضهم علي بن أبي طالب.
وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: ما كنا نعرف المنافقين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ببغضهم علي بن أبي طالب.
وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد رضي الله عنه أنه تلا هذه الآية {ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين} الآية فقال: اللهم عافنا واسترنا ولا تبل أخبارنا.
وأخرج عبد بن حميد عن عاصم رضي الله عنه أنه قرأ {أو ليبلونكم} بالياء {حتى يعلم} بالياء {ويبلو} بالياء ونصب الواو والله أعلم.

.تفسير الآيات (33- 38):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35) إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)}
أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة رضي الله عنه في الآية قال: من استطاع منكم أن لا يبطل عملاً صالحاً بعمل سوء فليفعل ولا قوّة إلا بالله فإن الخير ينسخ الشر، فإنما ملاك الأعمال خواتيمها.
وأخرج عبد بن حميد ومحمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة وابن أبي حاتم عن أبي العالية قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرون أنه لا يضر مع لا إله إلا الله ذنب، كما لا ينفع من الشرك عمل حتى نزلت {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم} فخافوا أن يبطل الذنب العمل، ولفظ عبد بن حميد: فخافوا الكبائر أن تحبط أعمالكم.
وأخرج ابن نصر وابن جرير وابن مردويه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا معشر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم نرى أنه ليس شيء من الحسنات إلا مقبولاً حتى نزلت {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم} فلما نزلت هذه الآية قلنا: ما هذا الذي يبطل أعمالنا؟ فقال: الكبائر الموجبات والفواحش، فكنا إذا رأينا من أصاب شيئاً منها قلنا: هلك، حتى نزلت هذه الآية {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [ النساء: 48] فلما نزلت كففنا عن القول في ذلك، وكنا إذا رأينا أحداً أصاب منها شيئاً خفنا عليه وإن لم يصب منها شيئاً رجونا له.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن قتادة رضي الله عنه {فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون} يقول: ولا تكونوا أول الطائفتين صرعت صاحبتها ودعتها إلى الموادعة، وأنتم أولى بالله منهم {ولن يتركم أعمالكم} يقول: لن يظلمكم.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد رضي الله عنه {فلا تهنوا} قال: لا تضعفوا {وأنتم الأعلون} قال: الغالبون {ولن يتركم} قال: لن ينقصكم.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: {يتركم} قال: يظلمكم.
وأخرج الخطيب عن النعمان بن بشير رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ {فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم} قال: محمد بن المنتشر منتصبة السين.
وأخرج أبو نصر السجزي في الإِنابة عن عبد الرحمن بن أبزى قال: كان النبي صل الله عليه وسلم يقرأ هؤلاء الأحرف {ادخلوا في السلم} [ البقرة: 208] {وإن جنحوا للسلم} [ الأنفال: 61] {وتدعوا إلى السلم} بنصب السين.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة رضي الله عنه في قوله: {إن يسألكموها} قال: علم الله في مسألة الأموال خروج الأضغان.
قوله تعالى: {وإن تتولوا} الآية.
أخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلت {وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم} قيل: من هؤلاء وسلمان رضي الله عنه إلى جنب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «هم الفرس وهذا وقومه».
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد والترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط والبيهقي في الدلائل عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية {وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم} فقالوا يا رسول الله: من هؤلاء الذين إن تولينا استبدلوا بنا ثم لا يكونوا أمثالنا فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على منكب سلمان ثم قال: «هذا وقومه والذي نفسي بيده لو كان الإِيمان منوطاً بالثريا لتناوله رجال من فارس».
وأخرج ابن مردويه عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية {وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم} الآية فسئل من هم، قال: «فارس لو كان الدين بالثريا لتناوله رجال من فارس».
وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد رضي الله عنه في قوله: {يستبدل قوماً غيركم} قال: من شاء.

.سورة الفتح:

.تفسير الآيات (1- 3):

{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3)}
أخرج أحمد والبخاري والترمذي والنسائي وابن حبان وابن مردويه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فسألته عن شيء ثلاث مرات فلم يرد عليَّ فقلت في نفسي: ثكلتك أمك يا ابن الخطاب نزرت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات فلم يردّ عليك، فحركت بعيري ثم تقدمت أمام الناس، وخشيت أن ينزل فيَّ القرآن، فما نشبت أن سمعت صارخاً يصرخ بي، فرجعت، وأنا أظن أنه نزل فيَّ شيء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لقد أنزلت عليَّ سورة أحب إليَّ من الدنيا وما فيها {إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر}».
وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وأبو داود وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن مجمع ابن جارية الأنصاري قال: شهدنا الحديبية فلما انصرفنا عنها إلى كراع الغميم إذا الناس يوجفون الأباعر فقال الناس بعضهم لبعض: ما للناس؟ قالوا: أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرجنا مع الناس نوجف، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته على كراع الغميم فاجتمع الناس عليه، فقرأ عليهم: {إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً} فقال رجل: يا رسول الله: أو فتح هو؟ قال: «والذي نفس محمد بيده إنه لفتح» فقسمت خيبر على أهل الحديبية لم يدخل معهم فيها أحد إلا من شهد الحديبية، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية عشر سهماً، وكان الجيش ألفاً وخمسمائة منهم ثلثمائة فارس، فأعطى الفارس سهمين وأعطى الراجل سهماً.
وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والبخاري في تاريخه وأبو داود والنسائي وابن جرير والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: أقبلنا من الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فبينا نحن نسير إذ أتاه الوحي، وكان إذا أتاه اشتد عليه فسرّي عنه وبه من السرور ما شاء الله، فأخبرنا أنه أنزل عليه {إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً}.
وأخرج ابن أبي شيبة والبخاري وابن مردويه والبيهقي عن أنس رضي الله عنه في قوله: {إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً} قال: الحديبية.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر والحاكم وابن مردويه عن أنس رضي الله عنه في قوله: {إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً} قال: فتح خيبر.
وأخرج البخاري وابن جرير وابن مردويه عن البراء رضي الله عنه قال: تعدون أنتم الفتح فتح مكة، وقد كان فتح مكة فتحاً ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية.
كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عشرة مائة، والحديبية بئر، فنزحناها، فلم نترك فيها قطرة، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتاها فجلس على شفيرها ثم دعا بإناء من ماء فتوضأ ثم تمضمض، ودعا ثم صبه فيها تركناها غير بعيد ثم إنها أصدرتنا ما شئنا نحن وركابنا.
وأخرج البيهقي عن عروة رضي الله عنه قال: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية راجعاً، فقال رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله ما هذا بفتح، لقد صددنا عن البيت وصدَّ هدينا، وعكف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية ورد رجلين من المسلمين خرجا، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قول رجال من أصحابه: إنّ هذا ليس بفتح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بئس الكلام، هذا أعظم الفتح، لقد رضي المشركون أن يدفعوكم بالراح عن بلادهم ويسألوكم القضية ويرغبون إليكم في الإِياب، وقد كرهوا منكم ما كرهوا، وقد أظفركم الله عليهم، وردكم سالمين غانمين مأجورين، فهذا أعظم الفتح. أنسيتم يوم أحد إذ تصعدون ولا تلوون على أحد، وأنا أدعوكم في أخراكم، أنسيتم يوم الأحزاب إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا؟» قال المسلمون: صدق الله ورسوله هو أعظم الفتوح والله يا نبي الله ما فكرنا فيما فكرت فيه ولأنت أعلم بالله وبالأمور منا. فأنزل الله سورة الفتح.
وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في البعث في قوله: {إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً} قال: نزلت في الحديبية، وأصاب في تلك الغزوة ما لم يصب في غزوة، أصاب أن بويع بيعة الرضوان فتح الحديبية، وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وبايعوا بيعة الرضوان، وأطعموا نخيل خيبر، وبلغ الهدي محله، وظهرت الروم على فارس، وفرح المؤمنون بتصديق كتاب الله وظهور أهل الكتاب على المجوس.
وأخرج البيهقي عن المسور ومروان في قصة الحديبية قالا: ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعاً فلما كان بين مكة والمدينة نزلت سورة الفتح من أولها إلى آخرها، فلما أمن الناس وتفاوضوا لم يكلم أحداً بالإِسلام إلا دخل فيه، فلقد دخل في تلك السنين في الإِسلام أكثر مما كان فيه قبل ذلك، فكان صلح الحديبية فتحاً عظيماً.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد رضي الله عنه {إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً} قال: إنا قضينا لك قضاء بيناً، نزلت عام الحديبية للنحر الذي بالحديبية وحلقة رأسه.
وأخرج عبد بن حميد وعبد الرزاق وابن جرير عن قتادة رضي الله عنه {إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً} قال: قضينا لك قضاء بيناً.
وأخرج عبد بن حميد عن عامر الشعبي رضي الله عنه «أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية: أفتح هذا؟ قال: وأنزلت عليه {إنا فتحا لك فتحاً مبيناً} فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم عظيم»، قال: وكان فصل ما بين الهجرتين فتح الحديبية قال: {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل} [ الحديد: 10] الآية.
وأخرج ابن مردويه عن عائشة رضي الله عنها قالت: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {إنا فتحا لك فتحاً مبيناً} قال: فتح مكة».
وأخرج ابن عساكر من طريق أبي خالد الواسطي عن زيد بن علي بن الحسين عن أبيه عن جده عن علي رضي الله عنه قال: صلّى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر ذات يوم بغلس وكان يغلس ويسفر ويقول: ما بين هذين وقت لكيلا يختلف المؤمنون فصلّى بنا ذات يوم بغلس فلما قضى الصلاة التفت إلينا كأن وجهه ورقة مصحف، فقال: «أفيكم من رأى الليلة شيئاً؟» قلنا: لا يا رسول الله. قال: «لكني رأيت ملكين أتياني الليلة فأخذا بضبعي فانطلقا بي إلى السماء الدنيا فمررت بملك وأمامه آدمي وبيده صخرة فيضرب بهامة الآدمي فيقع دماغه جانباً وتقع الصخرة جانباً. قلت: ما هذا؟ قالا لي: أمضه. فمضيت فإذا أنا بملك وأمامه آدمي وبيد الملك كلوب من حديد فيضعه في شدقه الأيمن فيشقه حتى ينتهي إلى أذنه ثم يأخذ في الأيسر فيلتئم الأيمن قلت: ما هذا؟ قالا: أمضه. فمضيت فإذا أنا بنهر من دم يمور كمور المرجل على فيه قوم عراة على حافة النهر ملائكة بأيديهم مدرتان كلما طلع طالع قذفوه بمدرة فيقع في فيه ويسيل إلى أسفل ذلك النهر، قلت: ما هذا؟ قالا: أمضه فمضيت فإذا أنا ببيت أسفله أضيق من أعلاه فيه قوم عراة توقد من تحتهم النار أمسكت على أنفي من نتن ما أجد من ريحهم، قلت: من هؤلاء؟ قالا: أمضه. فمضيت فإذا أنا بتل أسود عليه قوم مخبلون تنفخ النار في أدبارهم فتخرج من أفواههم ومناخرهم وآذانهم وأعينهم قلت: ما هذا؟ قالا: أمضه، فمضيت فإذا أنا بنار مطبقة موكل بها ملك لا يخرج منها شيء إلا أتبعه حتى يعيده فيها، قلت: ما هذا؟ قالا لي: أمضه، فمضيت فإذا أنا بروضة وإذا فيها شيخ جميل لا أجمل منه وإذا حوله الولدان وإذا شجرة ورقها كآذان الفيلة فصعدت ما شاء الله من تلك الشجرة وإذا أنا بمنازل لا أحسن منها من زمردة جوفاء وزبرجدة خضراء وياقوته حمراء. قلت: ما هذا؟ قالا: أمضه. فمضيت، فإذا أنا بنهر عليه جسران من ذهب وفضة على حافتي النهر منازل لا منازل أحسن منها من درة جوفاء وياقوته حمراء وفيه قدحان وأباريق تطرد قلت: ما هذا؟ قالا لي: أنزل فنزلت فضربت بيدي إلى إناء منها فغرفت ثم شربت فإذا أحلى من عسل، وأشد بياضاً من اللبن وألين من الزبد، فقالا لي: أما صاحب الصخرة التي رأيت يضرب بها هامته فيقع دماغه جانباً وتقع الصخرة جانباً، فأولئك الذين كانوا ينامون عن صلاة العشاء الآخرة ويصلون الصلاة لغير مواقيتها يضربون بها حتى يصيروا إلى النار، وأما صاحب الكلوب الذي رأيت ملكاً موكلاً بيده كلوب من حديد يشق شدقه الأيمن حتى ينتهي إلى أذنه ثم يأخذ في الأيسر فيلتئم الأيمن فأولئك الذين كانوا يمشون بين المؤمنين بالنميمة فيفسدون بينهم فهم يعذبون بها حتى يصيروا إلى النار، وأما ملائكة بأيديهم مدرتان من النار كلما طلع طالع قذفوه بمدرة فتقع في فيه فينفتل إلى أسفل ذلك النهر فأولئك أكلة الربا يعذبون حتى يصيروا إلى النار، وأما البيت الذي رأيت أسفله أضيق من أعلاه فيه قوم عراة تتوقد من تحتهم النار أمسكت على أنفك من نتن ما وجدت من ريحهم، فأولئك الزناة وذلك نتن فروجهم يعذبون حتى يصيروا إلى النار، وأما التل الأسود الذي رأيت عليه قوماً مخبلين تنفخ النار في أدبارهم فتخرج من أفواههم ومناخرهم وأعينهم وآذانهم فأولئك الذين يعملون عمل قوم لوط الفاعل والمفعول به، فهم يعذبون حتى يصيروا إلى النار وأما النار المطبقة التي رأيت ملكاً موكلاً بها كلما خرج منها شيء أتبعه حتى يعيده فيها، فتلك جهنم تفرق بين أهل الجنة وأهل النار، وأما الروضة التي رأيت فتلك جنة المأوى، وأما الشيخ الذي رأيت ومن حوله من الولدان فهو إبراهيم وهم بنوه. وأما الشجرة التي رأيت فطلعت إليها فيها منازل لا منازل أحسن منها من زمردة جوفاء وزبرجدة خضراء وياقوته حمراء فتلك منازل أهل عليين من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً. وأما النهر فهو نهرك الذي أعطاك الله الكوثر، وهذه منازلك وأهل بيتك. قال: فنوديت من فوقي يا محمد سل تُعْطه، فارتعدت فرائصي ورجف فؤادي واضطرب كل عضو مني ولم أستطع أن أجيب شيئاً فأخذ أحد الملكين بيده اليمنى، فوضعها في يدي والآخر يده اليمنى فوضعها بين كتفي فسكن ذلك مني ثم نوديت من فوقي: يا محمد سل تعط. قال: قلت: اللهم إني أسألك أن تثبت شفاعتي وأن تلحق بي أهل بيتي وأن ألقاك ولا ذنب لي قال: ثم ولي بي» ونزلت عليه هذه الآية {إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطاً مستقيماً} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فكما أعطيت هذه كذلك أعطانيها إن شاء الله تعالى».
وأخرج السلفي في الطيوريات من طريق يزيد بن هارون رضي الله عنه قال: سمعت المسعودي رضي الله عنه يقول: بلغني أن من قرأ أول ليلة من رمضان {إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً} في التطوع حفظ ذلك العام.
قوله تعالى: {ليغفر لك الله ما تقدم} الآية.
وأخرج ابن المنذر عن عامر وأبي جعفر رضي الله عنه في قوله: {ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك} قال: في الجاهلية {وما تأخر} قال: في الإِسلام.
وأخرج عبد بن حميد عن سفيان رضي الله عنه قال: بلغنا في قول الله: {ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر} قال: ما تقدم ما كان في الجاهلية، وما تأخر: ما كان في الإِسلام ما لم يفعله بعد.
وأخرج ابن سعد عن مجمع بن جارية رضي الله عنه قال: لما كنا بضجنان رأيت الناس يركضون، وإذا هم يقولون: أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فركضت مع الناس حتى توافينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو يقرأ {إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً} فلما نزل بها جبريل عليه السلام قال: ليهنك يا رسول الله، فلما هنأه جبريل عليه السلام هنأه المسلمون.
وأخرج ابن المنذر وابن مردويه وابن عساكر عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم {إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً} الآية، اجتهد في العبادة فقيل يا رسول الله: ما هذا الإِجتهاد؟ وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر قال: «أفلا أكون عبداً شكوراً؟».
وأخرج ابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات وابن عساكر عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت {إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر} صام وصلّى حتى انتفخت قدماه، وتعبد حتى صار كالشن البالي، فقيل له: أتفعل هذا بنفسك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: «أفلا أكون عبداً شكوراً؟».
وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد في الزهد عن الحسن رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم تأخذه العبادة حتى يخرج على الناس كالشن البالي فقيل له: يا رسول الله أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: «أفلا أكون عبداً شكوراً؟».
وأخرج ابن عساكر عن أبي جحيفة رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم حتى تفطر قدماه فقيل له: أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: «أفلا أكون عبداً شكوراً؟».
وأخرج أبو يعلى وابن عساكر عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قام يصلي حتى تورمت قدماه فقيل له: أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: «أفلا أكون عبداً شكوراً؟».
وأخرج ابن عساكر عن النعمان بن بشير رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي حتى ترم قدماه.
وأخرج البيهقي في شعب الإِيمان وابن عساكر عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي حتى ترم قدماه، فقيل له: أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: «أفلا أكون عبداً شكوراً؟».
وأخرج الحسن بن سفيان وابن عساكر عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي حتى ترم قدماه، قلت يا رسول الله: أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: «أفلا أكون عبداً شكوراً؟».
وأخرج ابن عساكر عن أحمد بن إسحاق بن إبراهيم بن نبيط بن شريط الأشجعي رضي الله عنه قال: حدثني أبي عن أبيه عن جده رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى حتى تورمت قدماه، فقيل له يا رسول الله: أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: «أفلا أكون عبداً شكوراً؟».
وأخرج ابن عدي وابن عساكر عن أنس رضي الله عنه قال: تعبد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صار كالشن البالي، فقالوا: يا رسول الله، ما يحملك على هذا الإِجتهاد كله وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: «أفلا أكون عبداً شكوراً؟».
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في الليل أربع ركعات ثم يتروح، فطال حتى رحمته، فقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، قال: «أفلا أكون عبداً شكوراً؟».
أما قوله تعالى: {وينصرك الله نصراً عزيزاً}.
أخرج ابن المنذر عن ابن جريج رضي الله عنه في قوله: {وينصرك الله نصراً عزيزاً} قال: يريد بذلك فتح مكة وخيبر والطائف.