فصل: الفصل الأول: في الأدلة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الذخيرة في فروع المالكية ***


الفصل السابع‏:‏ فيما يدخله القياس

وهو ثمانية أنواع‏:‏

الأول‏:‏ اتفق أكثر المتكلمين على جوازه في العقليات، ويسمونه إلحاق الغائب بالشاهد‏.‏

الثاني‏:‏ أجاز الإمام فخر الدين، وجماعة القياس في اللغات، وقال ابن جني هو قول أكثر الأدباء خلافا للحنفية، وجماعة من الفقهاء‏.‏

الثالث‏:‏ المشهور أنه لا يجوز إجراء القياس في الأسباب كقياس اللواط على الزنا في وجوب الحد به لأنه لا يحسن أن يقال في طلوع الشمس إنه موجب للعبادة كغروبها‏.‏

الرابع‏:‏ اختلفوا في دخول القياس في العدم الأصلي‏.‏ قال الإمام‏:‏ والحق أنه يدخله قياس الاستدلال بعدم خواص الشيء على عدمه دون قياس العلة، وهذا بخلاف الإعدام، فإنه حكم شرعي‏.‏

الخامس‏:‏ قال الجبائي، والكرخي‏:‏ لا يجوز إثبات أصول العبادات بالقياس‏.‏

السادس‏:‏ يجوز عند ابن القصار، والباجي، والشافعي جريان القياس في المقدرات، والحدود، والكفارات خلافا لأبي حنيفة، وأصحابه لأنها أحكام شرعية‏.‏

السابع‏:‏ يجوز القياس عند الشافعي على الرخص خلافا لأبي حنيفة، وأصحابه‏.‏

الثامن‏:‏ لا يدخل القياس فيما طريقه الخلقة، والعادة كالحيض، ولا فيما لا يتعلق به عمل كفتح مكة عنوة، ونحوه‏.‏

الباب الثامن عشر‏:‏ في التعارض، والترجيح

وفيه خمسة فصول

الفصل الأول‏:‏ هل يجوز تساوي الأمارتين

اختلفوا فمنعه الكرخي، وجوزه الباقون، والمجوزون اختلفوا، فقال القاضي أبو بكر منا، وأبو علي، وأبو هاشم، وبعض الشافعية، وبعض الحنفية‏:‏ يتخير، ويتساقطان عند بعض الفقهاء‏.‏

قال الإمام فخر الدين - رحمه الله -‏:‏ إن وقع التعارض في فعل واحد باعتبار حكمين، فهذا متعذر، وإن وقع في فعلين، والحكم واحد كالتوجه إلى جهتين للكعبة، فيتخير‏.‏

وقال الباجي في القسم الأول‏:‏ إذا تعارضا في الحظر، والإباحة تخير، وقال الأبهري‏:‏ يتعين الحظر بناء على أصله أن الأشياء على الحظر، وقال أبو الفرج‏:‏ يتعين الإباحة بناء على أصله أن الأشياء على الإباحة، فالثلاثة رجعوا إلى حكم العقل على أصولهم‏.‏

وإذا نقل عن مجتهد قولان، فإن كانا موضعين، وعلم التاريخ عد الثاني رجوعا عن الأول، وإن لم يعلم حكي عنه القولان، ولا يحكم عليه برجوع، وإن كانا في موضع واحد بأن يقول‏:‏ في المسألة قولان، فإن أشار إلى تقوية أحدهما، فهو قوله، وإن لم يعلم، فقيل يتخير السامع بينهما‏.‏

الفصل الثاني‏:‏ في الترجيح‏:‏

والأكثرون اتفقوا على التمسك به، وأنكره بعضهم، وقال يلزم التخيير، أو التوقف‏.‏

ويمتنع الترجيح في العقليات لتعذر التفاوت بين القطعيين‏.‏

ومذهبنا، ومذهب الشافعي‏:‏ الترجيح بكثرة الأدلة خلافا لقوم‏.‏

وإذا تعارض دليلان، فالعمل بكل واحد منهما من وجه أولى من العمل بأحدهما دون الآخر‏.‏

وهما إن كانا عامين معلومين، والتاريخ معلوم نسخ المتأخر المتقدم، وإن كان مجهولا سقطا، وإن علمت المقارنة خير بينهما‏.‏

وإن كانا مظنونين، فإن علم المتأخر نسخ المتقدم، وإلا رجع إلى الترجيح‏.‏

وإن كان أحدهما معلوما، والآخر مظنونا، والمتأخر المعلوم نسخ، أو المظنون لم ينسخ، وإن جهل الحال تعين المعلوم‏.‏

وإن كانا خاصين، فحكمهما حكم العامين‏.‏

وإن كان أحدهما عاما، والآخر خاصا قدم الخاص على العام لأنه لا يقتضي عدم إلغاء أحدهما بخلاف العكس‏.‏

وإن كان أحدهما عاما من وجه كما في قوله تعالى‏:‏ ‏(‏وأن تجمعوا بين الأختين‏)‏‏.‏ مع قوله تعالى‏:‏ ‏(‏أو ما ملكت أيمانكم‏)‏‏.‏ وجب الترجيح إن كانا مظنونين‏.‏

الفصل الثالث‏:‏ في ترجيحات الأخبار‏:‏

وهي إما في الإسناد، أو في المتن‏.‏

فالأول‏:‏ قال الباجي - رحمه الله -‏:‏ يترجح بأنه في قضية مشهورة، والآخر ليس كذلك، أو رواته أحفظ، أو أكثر، أو مسموع منه عليه السلام، والآخر مكتوب به، أو متفق على رفعه إليه عليه السلام، أو اتفق رواته عند إثبات الحكم به، أو رواية صاحب القضية، أو إجماع أهل المدينة على العمل به، أو روايته أحسن نسقا، أو سالم من الاضطرابات، أو موافق لظاهر الكتاب، والآخر ليس كذلك‏.‏

قال الإمام فخر الدين - رحمه الله -‏:‏ أو يكون راويه فقيها، أو عالما بالعربية، أو عرفت عدالته بالاختبار، أو علمت بالعدد الكثير، أو ذكر سبب عدالته، أو لم يختلط عقله في بعض الأوقات، أو كونه من أكابر الصحابة، أو له اسم واحد، أو لم تعرف له رواية في زمن الصبا، والآخر ليس كذلك، أو يكون مدنيا، والآخر مكيا، أو راويه متأخر الإسلام‏.‏

وأما ترجيح المتن‏:‏ قال الباجي - رحمه الله -‏:‏ يترجح السالم من الاضطرابات، والنص في المراد، أو غير متفق على تخصيصه، أو ورد على غير سبب، أو قضى به على الآخر في موضع، أو ورد بعبارات مختلفة، أو يتضمن نفي النقص عن الصحابة رضوان الله عليهم، والآخر ليس كذلك‏.‏

قال الإمام فخر الدين - رحمه الله -‏:‏ أو يكون فصيح اللفظ، أو لفظه حقيقة، أو يدل على المراد من وجهين، أو يؤكد لفظه بالتكرار، أو يكون ناقلا عن حكم العقل، أو لم يعمل بعض الصحابة، أو السلف على خلافه مع الاطلاع عليه، أو كان فيما لا تعم به البلوى، والآخر ليس كذلك‏.‏

الفصل الرابع‏:‏ في ترجيح الأقيسة‏:‏

قال الباجي - رحمه الله -‏:‏ يترجح أحد القياسين على الآخر بالنص على علته، أو لأنه يعود على أصله بالتخصيص، أو علته مطردة منعكسة، أو تشهد لها أصول كثيرة، والآخر على خلافها في جميع ذلك، أو يكون أحد القياسين فرعه من جنس أصله، أو علته متعدية، أو تعم فروعها، أو هي أعم، أو هي منتزعة من أصل منصوص عليه، أو أقل أوصافا، والقياس الآخر ليس كذلك‏.‏

قال الإمام فخر الدين - رحمه الله -‏:‏ أو يكون أحد القياسين متفقا على علته، أو أقل خلافا، أو بعض مقدماته يقينية، أو علته وصف حقيقي‏.‏

ويترجح التعليل بالحكمة على العدم، والإضافي، والحكم الشرعي، والتقديري‏.‏

والتعليل بالعدم أولى من التقديري، وتعليل الحكم الوجودي بالوصف الوجودي أولى من العدمي بالعدمي، ومن العدمي بالوجودي، والوجودي بالعدمي لأن التعليل بالعدم يستدعي تقدير الوجود‏.‏

وبالحكم الشرعي أولى من التقديري لكون التقدير على خلاف الأصل، والقياس الذي يكون ثبوت الحكم في أصله أقوى‏.‏

أو بالإجماع، أو بالتواتر أقوى مما ليس كذلك‏.‏

الفصل الخامس‏:‏ في ترجيح طرق العلة‏:‏

قال الإمام فخر الدين - رحمه الله -‏:‏ المناسبة أقوى من الدوران خلافا لقوم، ومن التأثير، والسبر المظنون، والشبه، والطرد‏.‏

ويترجح المناسب الذي اعتبر نوعه في نوع الحكم على ما اعتبر جنسه في نوعه، أو نوع الحكم في جنسه، أو جنسه في جنسه لأن الأخص بالشيء أرجح، وأولى به‏.‏

والثاني، والثالث‏:‏ متعارضان، والثلاثة راجحة على الرابع‏.‏

ثم الأجناس عالية، وسافلة، ومتوسطة، وكلما قرب كان أرجح‏.‏

والدوران في صورة أرجح منه في صورتين‏.‏

والشبه في الصفة أقوى منه في الحكم، وفيه خلاف‏.‏

الباب التاسع عشر‏:‏ في الاجتهاد

وهو‏:‏ استفراغ الوسع في المطلوب لغة‏.‏

واستفراغ الوسع في النظر فيما يلحقه فيه لوم شرعي اصطلاحا، وفيه تسعة فصول‏:‏

الفصل الأول‏:‏ في النظر‏:‏

وهو‏:‏ الفكر، وقيل‏:‏ تردد الذهن بين أنحاء الضروريات، وقيل‏:‏ تحديق العقل إلى جهة الضروريات، وقيل‏:‏ ترتيب تصديقات يتوصل بها إلى علم، أو ظن، وقيل ترتيب تصديقين، وقيل‏:‏ ترتيب معلومات، وقيل‏:‏ ترتيب معلومين‏.‏

فهذه سبعة مذاهب، وأصحها الثلاثة الأول‏.‏

وهو يكون في التصورات لتحصيل الحدود الكاشفة عن الحقائق المفردة على ترتيب خاص كما تقدم أول الكتاب‏.‏

وفي التصديقات لتحصيل المطالب التصديقية على ترتيب خاص، وشروط خاصة حررت في علم المنطق‏.‏

ومتى كان في الدليل مقدمة سالبة، أو جزئية، أو مظنونة كانت النتيجة كذلك لأنها تتبع أخس المقدمات، ولا يلتفت إلى ما صحبها من أشرفها‏.‏

الفصل الثاني‏:‏ في حكمه‏:‏

ومذهب مالك، وجمهور العلماء رضوان الله عليهم وجوبه، وإبطال التقليد لقوله تعالى‏:‏ ‏(‏فاتقوا الله ما استطعتم‏)‏‏.‏ وقد استثنى مالك - رحمه الله - أربع عشرة صورة لأجل الضرورة‏.‏

الأولى‏:‏ قال ابن القصار‏:‏ قال مالك‏:‏ يجب على العوام تقليد المجتهدين في الأحكام، ويجب عليهم الاجتهاد في أعيان المجتهدين كما يجب على المجتهدين الاجتهاد في أعيان الأدلة، وهو قول جمهور العلماء خلافا لمعتزلة بغداد‏.‏

وقال الجبائي‏:‏ يجوز في مسائل الاجتهاد فقط‏.‏

فروع ثلاثة‏:‏

الأول‏:‏ قال ابن القصار‏:‏ إذا استفتى العامي في نازلة، ثم عادت له يحتمل أن يعتمد على تلك الفتوى لأنها حق، ويحتمل أن يعيد الاستفتاء لاحتمال تغير الاجتهاد‏.‏

الثاني‏:‏ قال الزناتي‏:‏ يجوز تقليد المذاهب في النوازل، والانتقال من مذهب إلى مذهب بثلاثة شروط‏:‏ ألا يجمع بينها على وجه يخالف الإجماع كمن تزوج بغير صداق، ولا ولي، ولا شهود، فإن هذه الصورة لم يقل بها أحد‏.‏

وأن يعتقد، فيمن يقلده الفضل بوصول أخباره إليه، ولا يقلده رميا في عماية، وألا يتتبع رخص المذاهب‏.‏

قال‏:‏ والمذاهب كلها مسالك إلى الجنة، وطرق إلى السعادة، فمن سلك منها طريقا وصله‏.‏

تنبيه‏:‏

قال غيره يجوز تقليد المذاهب، والانتقال إليها في كل ما لا ينقض فيه حكم الحاكم، وهو أربعة‏:‏

ما خالف الإجماع، أو القواعد، أو النص، أو القياس الجلي‏.‏

فإن أراد - رحمه الله - بالرخص هذه الأربعة، فهو حسن متعين، فإن ما لا نقره مع تأكده بحكم الحاكم، فأولى أن لا نقره قبل ذلك‏.‏

وإن أراد بالرخص ما فيه سهولة على المكلف كيف كان يلزمه أن يكون من قلد مالكا في المياه، والأرواث، وترك الألفاظ في العقود مخالفا لتقوى الله تعالى، وليس كذلك‏.‏

قاعدة‏:‏

انعقد الإجماع على أن من أسلم، فله أن يقلد من شاء من العلماء بغير حجر‏.‏

وأجمع الصحابة رضوان الله عليهم‏:‏ على أن من استفتى أبا بكر، وعمر رضي الله عنهما، أو قلدهما، فله أن يستفتي أبا هريرة، ومعاذ بن جبل، وغيرهما، ويعمل بقولهما من غير نكير، فمن ادعى رفع هذين الإجماعين فعليه الدليل‏.‏

الثالث‏:‏ إذا فعل المكلف فعلا مختلفا في تحريمه غير مقلد لأحد، فهل نؤثمه بناء على القول بالتحريم، أو لا نؤثمه بناء على القول بالتحليل مع أنه ليس إضافته إلى أحد المذهبين أولى من الآخر، ولم يسألنا عن مذهبنا، فنجيبه، ولم أر لأصحابنا فيه نصا، وكان الشيخ الإمام عز الدين بن عبد السلام من الشافعية قدس الله روحه يقول في هذا الفرع‏:‏ إنه آثم من جهة أن كل أحد يجب عليه ألا يقدم على فعل حتى يعلم حكم الله تعالى فيه، وهذا أقدم غير عالم، فهو آثم بترك التعلم‏.‏

وأما تأثيمه بالفعل نفسه، فإن كان مما علم من الشرع قبحه أثمناه، وإلا فلا‏.‏

الثانية‏:‏ قال ابن القصار‏:‏ ويقلد القائف العدل عند مالك - رحمه الله -، وروي لا بد من اثنين‏.‏

الثالثة‏:‏ قال يجوز عنده تقليد التاجر في قيم المتلفات إلا أن تتعلق القيمة بحد من حدود الله تعالى، فلا بد من اثنين لدربة التاجر بالقيم، وروي عنه أنه لا بد من اثنين في كل موضع‏.‏

الرابعة‏:‏ قال‏:‏ ويجوز تقليد القاسم بين اثنين عنده، وابن القاسم لا يقبل قول القاسم لأنه شاهد على فعل نفسه‏.‏

الخامسة‏:‏ قال‏:‏ يقلد المقوم لأرش الجنايات عنده‏.‏

السادسة‏:‏ قال‏:‏ يقلد الخارص الواحد فيما يخرصه عند مالك - رحمه الله -‏.‏

السابعة‏:‏ قال‏:‏ يقلد عنده الراوي فيما يرويه‏.‏

الثامنة‏:‏ قال‏:‏ يقلد الطبيب عنده فيما يدعيه‏.‏

التاسعة‏:‏ قال‏:‏ يقلد الملاح في القبلة إذا خفيت أدلتها، وكان عدلا دريا بالسير في البحر، وكذلك كل من كانت صناعته في الصحراء، وهو عدل‏.‏

العاشرة‏:‏ قال‏:‏ ولا يجوز عنده أن يقلد عامي عاميا إلا في رؤية الهلال لضبط التاريخ دون العبادة‏.‏

الحادية عشرة‏:‏ قال‏:‏ ويجوز عنده تقليد الصبي، والأنثى، والكافر، والواحد في الهدية، والاستئذان‏.‏

الثانية عشرة‏:‏ قال‏:‏ يقلد القصاب في الذكاة ذكرا كان، أو أنثى مسلما، أو كتابيا، ومن مثله يذبح‏.‏

الثالثة عشرة‏:‏ قال‏:‏ يقلد محاريب البلاد العامرة التي تتكرر الصلاة فيها، ويعلم أن إمام المسلمين بناها، ونصبها، أو اجتمع أهل البلدة على بنائها‏.‏

قال‏:‏ لأنه قد علم أنها لم تنصب إلا بعد اجتهاد العلماء في ذلك، ويقلدها العالم، والجاهل، وأما غير تلك فعلى العالم الاجتهاد، فإن تعذرت عليه الأدلة صلى إلى المحراب إذا كان البلد عامرا لأنه أقوى من الاجتهاد بغير دليل، وأما العامي، فيصلي في سائر المساجد‏.‏

الرابعة عشرة‏:‏ قال‏:‏ يقلد العامي في ترجمة الفتوى باللسان العربي أو العجمي، وفي قراءاتها أيضا، ولا يجوز لعالم، ولا لجاهل التقليد في زوال الشمس لأنه مشاهد‏.‏

الفصل الثالث‏:‏ فيمن يتعين عليه الاجتهاد

أفتى أصحابنا رضي الله عنهم بأن العلم على قسمين‏:‏ فرض عين، وفرض كفاية، وحكى الشافعي في رسالته، والغزالي في إحياء علوم الدين الإجماع على ذلك‏.‏

ففرض العين الواجب على كل أحد هو علمه بحالته التي هو فيها مثاله‏:‏ رجل أسلم، ودخل في وقت الصلاة، فيجب عليه أن يتعلم الوضوء، والصلاة‏.‏

فإن أراد أن يشتري طعاما لغذائه قلنا‏:‏ يجب عليه أن يتعلم ما يعتمده في ذلك، أو أراد الزواج وجب عليه أن يتعلم ما يعتمده في ذلك، أو إن أراد أن يؤدي شهادة، فيجب عليه أن يتعلم شروط التحمل، والأداء‏.‏

فإن أراد أن يصرف ذهبا، فيجب عليه أن يتعلم حكم الصرف‏.‏

فكل حالة يتصف بها يجب عليه أن يعلم حكم الله تعالى عليه فيها‏.‏

فعلى هذا لا ينحصر فرض العين في العبادات، ولا في باب من أبواب الفقه كما يعتقد كثير من الأغبياء‏.‏

وعلى هذا القسم يحمل قوله - صلى الله عليه وسلم -‏:‏ طلب العلم فريضة على كل مسلم‏.‏

فمن توجهت عليه حالة فعلم، وعمل بمقتضى علمه، فقد أطاع الله تعالى طاعتين، ومن لم يعلم، ولم يعمل، فقد عصى الله معصيتين، ومن علم، ولم يعمل، فقد أطاع الله طاعة، وعصى الله معصية‏.‏

ففي هذا المقام يكون العالم خيرا من الجاهل‏.‏

والمقام الذي يكون الجاهل فيه خيرا من العالم‏:‏ من شرب خمرا يعلمه، وشربه آخر يجهله، فإن العالم يأثم بخلاف الجاهل، فهو أحسن حالا من العالم‏.‏

وكذلك من اتسع في العلم باعه تعظم مؤاخذته لعلو منزلته بخلاف الجاهل، فهو أسعد حالا من العالم في هذين الوجهين‏.‏

وأما فرض الكفاية، فهو العلم الذي لا يتعلق بحالة الإنسان، فيجب على الأمة أن يكون منهم طائفة يتفقهون في الدين ليكونوا قدوة للمسلمين حفظا للشرع من الضياع‏.‏

والذي يتعين لهذا من الناس من جاد حفظه، وحسن إدراكه، وطابت سجيته، وسريرته، ومن لا فلا‏.‏

الفصل الرابع‏:‏ في زمانه

اتفقوا على جواز الاجتهاد بعد، وفاته عليه السلام‏.‏

وأما في زمنه، فوقوعه منه عليه السلام قال به الشافعي، وأبو يوسف‏.‏

وقال أبو علي، وأبو هاشم‏:‏ لم يكن متعبدا به، ولقوله تعالى‏:‏ ‏(‏إن هو إلا وحي يوحى‏)‏‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ كان له أن يجتهد في الحروب دون الأحكام‏.‏ قال الإمام فخر الدين‏:‏ وتوقف أكثر المحققين في الكل‏.‏

وأما وقوع الاجتهاد في زمنه عليه السلام، ومن غيره، فقليل، وهو جائز عقلا في الحاضر عنده عليه السلام، والغائب عنه، وقد قال له معاذ - رضي الله عنه - أجتهد رأيي‏.‏

الفصل الخامس‏:‏ في شرائطه

وهي‏:‏ أن يكون عالما بمعاني الألفاظ، وعوارضها من التخصيص، والنسخ، وأصول الفقه، ومن كتاب الله تعالى ما يتضمن الأحكام، وهو خمسمائة آية، ولا يشترط الحفظ بل العلم بمواضعها لينظرها عند الحاجة إليها، ومن السنة مواضع أحاديث الأحكام دون حفظها، ومواضع الإجماع، والاختلاف، والبراءة الأصلية، وشرائط الحد، والبرهان، والنحو، واللغة، والتصريف، وأحوال الرواة، ويقلد من تقدم في ذلك‏.‏

ولا يشترط عموم النظر بل يجوز أن يحصل صفة الاجتهاد في فن دون فن، وفي مسألة دون مسألة خلافا لبعضهم‏.‏

الفصل السادس‏:‏ في التصويب

قال الجاحظ، وعبد الله بن الحسين العنبري بتصويب المجتهدين في أصول الدين، بمعنى نفي الإثم لا بمعنى مطابقة الاعتقاد، واتفق سائر العلماء على فساده‏.‏

وأما في الأحكام الشرعية، فاختلفوا هل لله تعالى في نفس الأمر حكم معين في الواقع أم لا‏.‏

والثاني‏:‏ قول من قال‏:‏ كل مجتهد مصيب، وهو قول جمهور المتكلمين، ومنهم الأشعري، والقاضي أبو بكر منا، وأبو علي، وأبو هاشم من المعتزلة‏.‏

وإذا لم يكن لله تعالى حكم معين، فهل في الواقعة حكم لو كان لله تعالى حكم معين لحكم به أم لا‏.‏

والأول‏:‏ هو القول بالأشبه، وهو قول جماعة من المصوبين‏.‏

والثاني‏:‏ قول بعضهم‏.‏

وإذا قلنا بالمعين‏:‏ فإما أن يكون عليه دليل ظني، أو قطعي، أو ليس عليه واحد منهما، والثاني‏:‏ هو قول جماعة من الفقهاء، والمتكلمين، ونقل عن الشافعي، وهو عندهم كدفين يعثر عليه بالاتفاق‏.‏

وعلى القول بأن عليه دليلا ظنيا‏:‏ فهل كلف الإنسان بطلب ذلك الدليل، فإن أخطأه تعين التكليف إلى ما غلب على ظنه، وهو قول، أو لم يكلف بطلبه لخفائه، وهو قول كافة الفقهاء منهم الشافعي، وأبو حنيفة رضي الله عنهم‏.‏

والقائلون بأن عليه دليلا قطعيا اتفقوا على أن المكلف مأمور بطلبه، وقال بشر المريسي إن أخطأه استحق العقاب، وقال غيره لا يستحق العقاب‏.‏

واختلفوا أيضا هل ينقض قضاء القاضي إذا خالفه‏؟‏ قال الأصم‏:‏ ينقض، وقال الباقون‏:‏ لا ينقض‏.‏

والمنقول عن مالك - رحمه الله - أن المصيب واحد، واختاره الإمام فخر الدين‏.‏

وقال عليه دليل ظني، ومخالفه معذور، والقضاء لا ينقض‏.‏

لنا‏:‏ أن الله تعالى شرع الشرائع لتحصيل المصالح الخالصة، أو الراجحة، أو درء المفاسد الخالصة، أو الراجحة، ويستحيل وجودها في النقيضين، فيتحد الحكم‏.‏

احتجوا بانعقاد الإجماع على أن المجتهد يجب عليه أن يتبع ما غلب على ظنه، ولو خالف الإجماع، وكذلك من قلده، ولا نعني بحكم الله إلا ذلك، فكل مجتهد مصيب، وتكون ظنون المجتهدين تتبعها الأحكام كأحوال المضطرين، والمختارين بالنسبة إلى الميتة، فيكون الفعل الواحد حلالا حراما بالنسبة إلى شخصين كالميتة‏.‏

الفصل السابع‏:‏ في نقض الاجتهاد‏:‏

أما في المجتهد في نفسه‏:‏ فلو تزوج امرأة علق طلاقها الثلاث على الملك بالاجتهاد، فإن حكم به حاكم، ثم تغير اجتهاده لم ينقض، وإن لم يحكم نقض، ولم يجز له إمساك المرأة‏.‏

وأما العامي‏:‏ إذا فعل ذلك بقول المفتي، ثم تغير اجتهاده، فالصحيح أنه تجب المفارقة‏.‏ قاله الإمام‏.‏

وكل حكم اتصل به قضاء القاضي استقر إلا أن يكون ذلك القضاء مما ينقض في نفسه‏.‏

الفصل الثامن‏:‏ في الاستفتاء‏:‏

إذا استفتي مجتهد، فأفتى، ثم سئل ثانية عن تلك الحادثة، فإن كان ذاكرا لاجتهاده الأول أفتى، وإن نسي استأنف الاجتهاد، فإن أداه إلى خلاف الأول أفتى بالثاني‏.‏

قال الإمام، والأحسن أن يعرف العامي ليرجع عن ذلك القول‏.‏

ولا يجوز لأحد الاستفتاء إلا إذا غلب على ظنه أن الذي يستفتيه من أهل العلم، والدين، والورع، فإن اختلف عليه العلماء في الفتوى، فقال قوم يجب عليه الاجتهاد في أعلمهم، وأورعهم لتمكنه من ذلك‏.‏

وقال قوم‏:‏ لا يجب ذلك لأن الكل طرق إلى الله تعالى، ولم ينكر أحد على العوام في عصر ترك النظر في أحوال العلماء‏.‏

وإذا فرعنا على الأول‏:‏ فإن حصل ظن الاستواء مطلقا، فأمكن أن يقال ذلك متعذر كما قيل في الأمارات، وأمكن أن يقال يسقط عنه التكليف، ويفعل ما يشاء‏.‏

وإن حصل ظن الرجحان مطلقا، تعين العمل بالراجح‏.‏

وإن حصل من وجه، فإن كان في العلم، والاستواء في الدين، فمنهم من خير، ومنهم من أوجب الأخذ بقول الأعلم‏.‏ قال الإمام‏:‏ وهو الأقرب، ولذلك قدم في إمامة الصلاة‏.‏

وإن كان في الدين، والاستواء في العلم، فيتعين الأدين‏.‏

فإن رجح أحدهما في دينه، والآخر في علمه، فقيل يتعين الأدين، وقيل الأعلم‏.‏ قال‏:‏ وهو الأرجح كما مر‏.‏

الفصل التاسع‏:‏ فيمن يتعين عليه الاستفتاء‏:‏

الذي تنزل به الواقعة إن كان عاميا وجب عليه الاستفتاء‏.‏

وإن كان عالما لم يبلغ درجة الاجتهاد قال‏:‏ فالأقرب أنه يجوز له الاستفتاء‏.‏

وإن بلغ درجة الاجتهاد، وكان قد اجتهد، وغلب على ظنه حكم، فاتفقوا على تعينه في حقه، وإن كان لم يجتهد، فأكثر أهل السنة على أنه لا يجوز له التقليد، وهو مذهب مالك - رحمه الله -‏.‏

وقال ابن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وسفيان الثوري رحمهم الله‏:‏ يجوز مطلقا‏.‏

وقيل‏:‏ يجوز للعالم تقليد الأعلم، وهو قول محمد بن الحسن‏.‏

وقيل‏:‏ يجوز فيما يخصه دون ما يفتي به، وقال ابن سريج‏:‏ إن ضاق وقته عن الاجتهاد جاز، وإلا فلا، فهذه خمسة أقوال‏.‏

لنا‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏(‏فاتقوا الله ما استطعتم‏)‏‏.‏

ولا يجوز التقليد في أصول الدين لمجتهد، ولا للعوام عند الجمهور لقوله تعالى‏:‏ ‏(‏ولا تقف ما ليس لك به علم‏)‏‏.‏ ولعظم الخطر في الخطأ في جانب الربوبية بخلاف الفروع، فإنه ربما كفر في الأول، ويثاب في الثاني جزما‏.‏

الباب العشرون‏:‏ في جميع أدلة المجتهدين، وتصرفات المكلفين

وفيه فصلان

الفصل الأول‏:‏ في الأدلة

وهي على قسمين‏:‏ أدلة مشروعيتها، وأدلة وقوعها‏.‏

فأما أدلة مشروعيتها‏:‏ فتسعة عشر بالاستقراء‏.‏

وأما أدلة وقوعها، فلا يحصرها عدد، فلنتكلم أولا على أدلة مشروعيتها، فنقول‏:‏

هي الكتاب، والسنة، وإجماع الأمة، وإجماع أهل المدينة، والقياس، وقول الصحابي، والمصلحة المرسلة، والاستصحاب، والبراءة الأصلية، والعوائد، والاستقراء، وسد الذرائع، والاستدلال، والاستحسان، والأخذ بالأخف، والعصمة، وإجماع أهل الكوفة، وإجماع العشرة، وإجماع الخلفاء الأربعة‏.‏

فأما الخمسة الأولى، فقد تقدم الكلام عليها‏.‏

وأما قول الصحابي، فهو حجة عند مالك، والشافعي في قوله القديم مطلقا لقوله عليه السلام‏:‏ أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم‏.‏

ومنهم من قال‏:‏ إن خالف القياس، فهو حجة، وإلا فلا‏.‏

ومنهم من قال‏:‏ قول أبي بكر، وعمر رضي الله عنهما حجة دون غيرهما‏.‏

وقيل‏:‏ قول الخلفاء الأربعة حجة إذا اتفقوا‏.‏

المصلحة المرسلة‏:‏ والمصالح بالإضافة إلى شهادة الشرع لها بالاعتبار على ثلاثة أقسام‏:‏

ما شهد الشرع باعتباره، وهو القياس الذي تقدم‏.‏

وما شهد الشرع بعدم اعتباره نحو المنع من زراعة العنب لئلا يعصر منه الخمر‏.‏

وما لم يشهد له باعتبار، ولا بإلغاء، وهو المصلحة المرسلة، وهي عند مالك - رحمه الله - حجة‏.‏

وقال الغزالي‏:‏ إن وقعت في محل الحاجة، أو التتمة، فلا تعتبر، وإن وقعت في محل الضرورة، فيجوز أن يؤدي إليها اجتهاد مجتهد‏.‏

ومثاله‏:‏ تترس الكفار بجماعة من المسلمين، فلو كففنا عنهم لصدمونا، واستولوا علينا وقتلوا المسلمين كافة، ولو رميناهم لقتلنا الترس معهم‏.‏

قال‏:‏ فيشترط في هذه المصلحة أن تكون كلية قطعية ضرورية‏.‏

فالكلية‏:‏ احتراز عما إذا تترسوا في قلعة بمسلمين، فلا يحل رمي المسلمين إذ لا يلزم من ترك تلك القلعة، فساد عام‏.‏

والقطعية‏:‏ احتراز عما إذا لم يقطع باستيلاء الكفار علينا إذا لم نقصد الترس، وعن المضطر يأكل قطعة من فخذه‏.‏

والضرورية‏:‏ احتراز عن المناسب الكائن في محل الحاجة، والتتمة‏.‏

لنا‏:‏ أن الله تعالى إنما بعث الرسل لتحصيل مصالح العباد عملا بالاستقراء، فمهما وجدنا مصلحة غلب على الظن أنها مطلوبة للشرع‏.‏

الاستصحاب‏:‏

ومعناه‏:‏ أن اعتقاد كون الشيء في الماضي، أو الحاضر يوجب ظن ثبوته في الحال، أو الاستقبال‏.‏

وهذا الظن عند مالك، والإمام فخر الدين، والمزني، وأبي بكر الصيرفي رحمة الله عليهم حجة خلافا لجمهور الحنفية، والمتكلمين‏.‏

لنا‏:‏ أنه قضاء بالطرف الراجح، فيصح كأروش الجنايات، واتباع الشهادات‏.‏

البراءة الأصلية‏:‏

وهي استصحاب حكم العقل في عدم الأحكام خلافا للمعتزلة، والأبهري، وأبي الفرج منا، وثبوت عدم الحكم في الماضي يوجب ظن عدمه في الحال، فيجب الاعتماد على هذا الظن بعد الفحص عن رافعه، وعدم وجوده عندنا، وعند طائفة من الفقهاء‏.‏

العوائد‏:‏

والعادة‏:‏ غلبة معنى من المعاني على الناس، وقد تكون هذه الغلبة في سائر الأقاليم كالحاجة للغذاء، والتنفس في الهواء، وقد تكون خاصة ببعض البلاد كالنقود، والعيوب، وقد تكون خاصة ببعض الفرق كالأذان للإسلام، والناقوس للنصارى، فهذه العادة يقضى بها عندنا لما تقدم في الاستصحاب‏.‏

الاستقراء‏:‏

وهو‏:‏ تتبع الحكم في جزئياته على حالة يغلب على الظن أنه في صورة النزاع على تلك الحالة كاستقرائنا الفرض في جزئياته بأنه لا يؤدى على الرحلة، فيغلب على الظن أن الوتر لو كان فرضا لما أدي على الراحلة، وهذا الظن حجة عندنا، وعند الفقهاء‏.‏

سد الذرائع‏:‏

الذريعة‏:‏ الوسيلة للشيء، ومعنى ذلك حسم مادة وسائل الفساد دفعا له، فمتى كان الفعل السالم من المفسدة وسيلة إلى المفسدة منعنا من ذلك الفعل، وهو مذهب مالك - رحمه الله - عليه‏.‏

تنبيه‏:‏

ينقل عن مذهبنا‏:‏ أن من خواصه اعتبار العوائد، والمصلحة المرسلة، وسد الذرائع، وليس كذلك‏.‏

أما العرف، فمشترك بين المذاهب، ومن استقرأها وجدهم يصرحون بذلك فيها‏.‏

وأما المصلحة المرسلة‏:‏ فغيرنا يصرح بإنكارها، ولكنهم عند التفريع تجدهم يعللون بمطلق المصلحة، ولا يطالبون أنفسهم عند الفوارق، والجوامع بإبداء الشاهد لها بالاعتبار بل يعتمدون على مجرد المناسبة، وهذا هو المصلحة المرسلة‏.‏

وأما الذرائع‏:‏ فقد أجمعت الأمة على أنها على ثلاثة أقسام‏:‏

أحدها‏:‏ معتبر إجماعا كحفر الآبار في طرق المسلمين، وإلقاء السم في أطعمتهم، وسب الأصنام عند من يعلم من حاله أنه يسب الله تعالى حينئذ‏.‏

وثانيها‏:‏ ملغى إجماعا كزراعة العنب، فإنه لا يمنع خشية الخمر، والشركة في سكنى الآدر خشية الزنا‏.‏

وثالثها‏:‏ مختلف فيه كبيوع الآجال اعتبرنا نحن الذريعة فيها، وخالفنا غيرنا‏.‏

فحاصل القضية‏:‏ أنا قلنا بسد الذرائع أكثر من غيرنا لا أنها خاصة بنا‏.‏

واعلم‏:‏ أن الذريعة كما يجب سدها يجب فتحها، ويكره، ويندب، ويباح، فإن الذريعة هي الوسيلة، فكما أن وسيلة المحرم محرمة، فوسيلة الواجب، واجبة كالسعي للمجمعة، والحج‏.‏

وموارد الأحكام على قسمين‏:‏

مقاصد‏:‏ وهي المتضمنة للمصالح، والمفاسد في أنفسها‏.‏

ووسائل‏:‏ وهي الطرق المفضية إليها، وحكمها حكم ما أفضت إليه من تحريم، أو تحليل غير أنها أخفض رتبة من المقاصد في حكمها‏.‏

فالوسيلة إلى أفضل المقاصد أفضل الوسائل، وإلى أقبح المقاصد أقبح الوسائل، وإلى ما هو متوسط متوسطة‏.‏

وينبه على اعتبار الوسائل قوله تعالى‏:‏ ‏(‏ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح‏)‏‏.‏ فأثابهم على الظمأ، والنصب، وإن لم يكونا من فعلهم لأنهما حصلا لهم بسبب التوسل إلى الجهاد الذي هو وسيلة لإعزاز الدين، وصون المسلمين، فالاستعداد وسيلة إلى الوسيلة‏.‏

قاعدة‏:‏

كلما سقط اعتبار المقصد سقط اعتبار الوسيلة، فإنها تبع، وقد خولفت هذه القاعدة في الحج في إمرار الموسى على رأس من لا شعر له مع أنه وسيلة إلى إزالة الشعر، فيحتاج إلى ما يدل على أنه مقصود في نفسه، وإلا فهو مشكل‏.‏

تنبيه‏:‏

قد تكون وسيلة المحرم غير محرمة إذا أفضت إلى مصلحة راجحة كالتوسل إلى فداء الأسرى بدفع المال إلى العدو الذي حرم عليهم الانتفاع به لكونهم مخاطبين بفروع الشريعة عندنا، وكدفع مال لرجل يأكله حراما حتى لا يزني بامرأة إذا عجز عن ذلك إلا به، وكدفع المال للمحارب حتى لا يقتتل هو وصاحب المال، واشترط مالك فيه اليسارة‏.‏

ومما يشنع به على مالك - رحمه الله - عليه مخالفته لحديث بيع الخيار مع روايته له، وهو مهيع متسع، ومسلك غير ممتنع، فلا يوجد عالم إلا وقد خالف من كتاب الله تعالى، وسنة نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - أدلة كثيرة، ولكن لمعارض راجح عليها عند مخالفها‏.‏

وكذلك ترك مالك هذا الحديث لمعارض راجح عنده، وهو عمل أهل المدينة، فليس هذا بابا اخترعه، ولا بدعا ابتدعه‏.‏

ومن هذا الباب ما يروى عن الشافعي - رضي الله عنه - أنه قال‏:‏ إذا صح الحديث، فهو مذهبي، أو فاضربوا بمذهبي عرض الحائط، فإن كان مراده مع عدم المعارض، فهذا مذهب العلماء كافة، وليس خاصا به، وإن كان مع وجود المعارض، فهو خلاف الإجماع، وليس هذا القول خاصا بمذهبه كما ظنه بعضهم‏.‏

الاستدلال‏:‏

وهو محاولة الدليل المفضي إلى الحكم الشرعي من جهة القواعد لا من الأدلة المنصوبة، وفيه قاعدتان‏:‏

القاعدة الأولى‏:‏ في الملازمات‏.‏

وضابط الملزوم‏:‏ ما يحسن فيه لو، واللازم‏:‏ ما يحسن فيه اللام نحو قوله تعالى‏:‏ ‏(‏لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا‏)‏‏.‏ وكقولنا إن كان هذا الطعام مهلكا، فهو حرام تقديره لو كان مهلكا لكان حراما‏.‏

فالاستدلال‏:‏ إما بوجود الملزوم، أو بعدمه، أو بوجود اللازم، أو بعدمه‏.‏

فهذه الأربعة‏:‏ منها اثنان منتجان، واثنان عقيمان‏.‏

فالمنتجان‏:‏ الاستدلال بوجود الملزوم على وجود اللازم، وبعدم اللازم على عدم الملزوم، فكل ما أنتج وجوده، فعدمه عقيم، وكل ما أنتج عدمه، فوجوده عقيم إلا أن يكون اللازم مساويا للملزوم، فتنتج الأربعة نحو قولنا‏:‏ لو كان هذا إنسانا لكان ضاحكا بالقوة‏.‏

ثم الملازمة قد تكون قطعية‏:‏ كالعشرة مع الزوجية، وظنية‏:‏ كالنجاسة مع كأس الحجام، وقد تكون كلية‏:‏ كالتكليف مع العقل، فكل مكلف عاقل في سائر الأزمان، والأحوال، فكليتها باعتبار ذلك لا باعتبار الأشخاص‏.‏

وجزئية‏:‏ كالوضوء مع الغسل، فالوضوء لازم للغسل إذا سلم من النواقض حال إيقاعه فقط، فلا جرم لم يلزم من انتفاء اللازم الذي هو الوضوء انتفاء الملزوم الذي هو الغسل لأنه ليس كليا بخلاف انتفاء العقل، فإنه يوجب انتفاء التكليف في سائر الصور‏.‏

القاعدة الثانية‏:‏

أن الأصل في المنافع‏:‏ الإذن، وفي المضار‏:‏ المنع بأدلة السمع لا بالعقل خلافا للمعتزلة‏.‏

وقد تعظم المنفعة، فيصحبها الندب، أو الوجوب مع الإذن‏.‏

وقد تعظم المضرة، فيصحبها التحريم على قدر رتبتها، فيستدل على الأحكام بهذه القاعدة‏.‏

الاستحسان‏:‏

قال الباجي‏:‏ هو القول بأقوى الدليلين، وعلى هذا يكون حجة إجماعا، وليس كذلك‏.‏

وقيل‏:‏ هو الحكم بغير دليل، وهذا اتباع للهوى، فيكون حراما إجماعا‏.‏

وقال الكرخي‏:‏ هو العدول عما حكم به في نظائر مسألة إلى خلافه لوجه أقوى منه، وهذا يقتضي أن يكون العدول عن العموم إلى الخصوص استحسانا، ومن الناسخ إلى المنسوخ‏.‏

وقال أبو الحسين‏:‏ هو ترك وجه من وجوه الاجتهاد غير شامل شمول الألفاظ لوجه أقوى منه، وهو في حكم الطارئ على الأول، فبالأول خرج العموم، وبالثاني خرج ترك القياس المرجوح للقياس الراجح لعدم طريانه عليه، وهو حجة عند الحنفية، وبعض البصريين منا، وأنكره العراقيون‏.‏

الأخذ بالأخف‏.‏

هو عند الشافعي - رحمه الله - حجة كما قيل في دية اليهودي إنها مساوية لدية المسلم‏.‏

ومنهم من قال‏:‏ نصف دية المسلم، وهو قولنا، ومنهم من قال‏:‏ ثلثها أخذا بالأقل، فأوجب الثلث فقط لأنه مجمع عليه، وما زاد منفي بالبراءة الأصلية‏.‏

العصمة‏:‏

وهي‏:‏ أن العلماء اختلفوا‏:‏ هل يجوز أن يقول الله تعالى لنبي، أو لعالم احكم، فإنك لا تحكم إلا بالصواب فقطع بوقوع ذلك موسى بن عمران من العلماء، وقطع جمهور المعتزلة بامتناعه، وتوقف الشافعي في امتناعه وجوازه، ووافقه الإمام فخر الدين - رحمه الله -‏.‏

إجماع أهل الكوفة‏:‏

ذهب قوم إلى أنه حجة لكثرة من وردها من الصحابة رضي الله عنهم كما قال مالك في إجماع المدينة‏.‏

فهذه أدلة مشروعية الأحكام‏.‏

قاعدة‏:‏

يقع التعارض في الشرع بين الدليلين، والبينتين، والأصلين، والظاهرين، والأصل، والظاهر، ويختلف العلماء في جميع ذلك‏.‏

فالدليلان‏:‏ نحو قوله تعالى‏:‏ ‏(‏إلا ما ملكت إيمانكم‏)‏‏.‏ وهو يتناول الجمع بين الأختين في الملك، وقوله‏:‏ وأن تجمعوا بين الأختين‏.‏ يقتضي تحريم الجمع مطلقا، ولذلك قال علي - رضي الله عنه - حرمتهما آية، وأحلتهما آية، وذلك كثير في الكتاب، والسنة‏.‏

واختلف العلماء هل يخير بينهما، أو يسقطان‏.‏

والبينتان‏:‏ نحو شهادة بينة بأن هذه الدار لزيد، وشهادة أخرى بأنها لعمرو، فهل تترجح إحدى البينتين خلاف‏.‏

والأصلان‏:‏ نحو رجل قطع رجلا ملفوفا نصفين، ثم نازع أولياؤه في أنه كان حيا حالة القطع، فالأصل براءة الذمة من القصاص، والأصل بقاء الحياة‏.‏

فاختلف العلماء في نفي القصاص، وثبوته، أو التفرقة بين أن يكون ملفوفا في ثياب الأموات، أو الأحياء، ونحو العبد إذا انقطع خبره، فهل تجب زكاة فطره لأن الأصل بقاء حياته، أو لا تجب لأن الأصل براءة الذمة خلاف‏.‏

والظاهران‏:‏ نحو اختلاف الزوجين في متاع البيت، فإن اليد ظاهرة في الملك، ولكل واحد منهما يد، فسوى الشافعي بينهما، ورجحنا نحن أحدهما بالعادة‏.‏

ونحو شهادة عدلين منفردين برؤية الهلال، والسماء مصحية، فظاهر العدالة الصدق، وظاهر الصحو اشتراك الناس في الرؤية، فرجح مالك العدالة، ورجح سحنون الصحو‏.‏

والأصل، والظاهر‏:‏ كالمقبرة القديمة الظاهر تنجيسها، فتحرم الصلاة فيها، والأصل عدم النجاسة‏.‏

وكذلك اختلاف الزوجين في النفقة ظاهر العادة دفعها، والأصل بقاؤها، فغلبنا نحن الأول، والشافعي الثاني‏.‏

ونحو اختلاف الجاني مع المجني عليه في سلامة العضو، أو وجوده الظاهر سلامة أعضاء الناس، ووجودها، والأصل براءة الذمة، فاختلف العلماء في جميع ذلك، واتفقوا على تغليب الأصل على الغالب في الدعاوى، فإن الأصل براءة الذمة، والغالب المعاملات لا سيما إذا كان المدعي من أهل الدين، والورع‏.‏

واتفقوا على تغليب الغالب على الأصل في البينة، فإن الغالب صدقها، والأصل براءة الذمة‏.‏

فائدة‏:‏ الأصل أن يحكم الشرع بالاستصحاب، أو بالظهور إذا انفرد عن المعارض‏.‏

وقد استثني من ذلك أمور لا يحكم فيها إلا بمزيد ترجيح يضم إليه أحدها ضم اليمين إلى النكول، فيجتمع الظاهران، وثانيها‏:‏ تحليف المدعى عليه، فيجتمع استصحاب البراءة مع ظهور اليمين‏.‏

وثالثها‏:‏ اشتباه الأواني، والأثواب يجتهد فيها على الخلاف، فيجتمع الأصل مع ظهور الاجتهاد، ويكتفى في القبلة بمجرد الاجتهاد لتعذر انحصار القبلة في جهة حتى يستصحب فيها، فهذه أدلة مشروعية الأحكام، وتفاصيل أحوالها‏.‏

وأما أدلة وقوع الأحكام بعد مشروعيتها، فلا تعد، ولا تقف عند حد، فهي أدلة وقوع أسبابها، وحصول شروطها، وانتفاء موانعها، وهي غير محصورة‏.‏

وهي إما معلومة بالضرورة‏:‏ كدلالة زيادة الظل على الزوال، أو كمال العدة على الهلال، وإما مظنونة‏:‏ كالأقارير، والبينات، والأيمان، والنكولات، والأيدي على الأملاك، وشعائر الإسلام عليه الذي هو شرط في الميراث، وشعائر الكفر عليه، وهو مانع من الميراث، وهذا باب لا يعد، ولا يحصى‏.‏

الفصل الثاني‏:‏ في تصرفات المكلفين في الأعيان‏:‏

وهي إما نقل، أو إسقاط، أو قبض، أو إقباض، أو التزام، أو خلط، أو إنشاء ملك، أو اختصاص، أو إذن، أو إتلاف، أو تأديب، وزجر‏.‏

النقل‏:‏

ينقسم إلى ما هو بعوض في الأعيان كالبيع، والقرض، أو في المنافع كالإجارة، وتندرج فيها المساقاة، والقراض، والمزارعة، والجعالة‏.‏

وإلى ما هو بغير عوض كالهدايا، والوصايا، والعمري، والهبات، والصدقات، والكفارات، والزكوات، والغنيمة، والمسروق من أموال الكفار‏.‏

الإسقاط‏:‏

إما بعوض كالخلع، والعفو على مال، والكتابة، وبيع العبد من نفسه، والصلح على الدين، والتعزير، فجميع هذه تسقط الثابت، ولا تنقله إلى الباذل‏.‏

أو بغير عوض كالإبراء من الديون، والقصاص، والتعزيز، وحد القذف، والطلاق، والعتاق، وإيقاف المساجد، فجميع هذه تسقط الثابت، ولا تنقله‏.‏

القبض‏:‏

وهو إما بإذن الشرع، وحده كاللقطة، والثوب إذا ألقته الريح في دار إنسان، ومال اللقيط، وقبض الإمام المغصوب من الغاصب، وأموال الغائبين، وأموال بيت المال، والمحجور عليهم، والزكوات، أو بإذن غير الشرع كقبض المبيع بإذن البائع، والمستام، والبيع الفاسد، والرهون، والهبات، والصدقات، والعوارى، والودائع، أو بغير إذن لا من الشرع، ولا من غيره كالغصب‏.‏

الإقباض‏:‏ كالمناولة في العروض، والنقود، وبالوزن، والكيل في الموزونات، والمكيلات، وبالتمكين في العقار، والأشجار، وبالنية فقط كقبض الوالد، وإقباضه لنفسه من نفسه لولده‏.‏

الالتزام‏:‏ بغير عوض كالنذور، والضمان بالوجه، أو بالمال‏.‏

الخلط‏:‏ إما بشائع، وإما بين الأمثال، وكلاهما شركة‏.‏

انشاء الأملاك في غير مملوك‏:‏ كإرقاق الكفار، وإحياء الموات، والاصطياد، والحيازة في الحشيش، ونحوه‏.‏

الاختصاص بالمنافع‏:‏ كالإقطاع، والسبق إلى المباحثات، ومقاعد الأسواق، والمساجد، ومواضع النسك كالمطاف، والمسعى، وعرفة، ومزدلفة، ومنى، ومرمى الجمار، والمدارس، والربط، والأوقاف‏.‏

الإذن‏:‏ إما في الأعيان كالضيافات، أو في المنائح، أو في المنافع كالعواري، والاصطناع بالحلق، والحجامة، أو في التصرف كالتوكيل، والإيصاء‏.‏

الإتلاف‏:‏ إما للإصلاح في الأجساد، والأرواح كالأطعمة، والأدوية، والذبائح، وقطع الأعضاء المتآكلة، أو للدفع كقتل الصوال، والمؤذي من الحيوان، أو لتعظيم الله تعالى كقتل الكفار لمحو الكفر من قلوبهم، وإفساد الصلبان، أو لنظم الكلمة كقتال البغاة، أو للزجر كرجم الزناة وقتل الجناة‏.‏

التأديب، والزجر‏:‏ إما مقدر كالحدود، أو غير مقدر كالتعزيز، وهو مع الإثم في المكلفين، أو بدونه في الصبيان، والمجانين، والدواب‏.‏

فهذه أبواب مختلفة الحقائق، والأحكام، فينبغي للفقيه الإحاطة بها لتنشأ له الفروق، والمدارك في الفروع‏.‏

وهذا تمام المقدمة، وحسبنا الله، ونعم الوكيل‏.‏

كتاب الطهارة

الباب الأول‏:‏ في الطهارة

الطهارة في اللغة‏:‏ التبرئة من الأدناس، ويقال طهر بضم الهاء، وفتحها طهارة فيهما، والطهر، وهو أيضا ضد الحيض، والمرأة طاهرة من الدنس، والعيوب، وطاهر من الحيض بالتاء في الأول دون الثاني، والمطهرة الإداوات‏:‏ بفتح الميم، وكسرها، والفتح أفصح، وتستعمل الطهارة مجازا في التنزه عن العيوب، فيقال قلب طاهر، وعرض طاهر تشبيها للدنس المعلوم بالدنس المحسوس‏.‏

وأما الطهارة في الشرع، فليست شيئا من أنواع العلاج بالماء، ولا بغيره لجزمنا بطهارة بطون الجبال، وتخوم الأرض بل هي حكم شرعي قديم، وهي إباحة، فالمعنى بطهارة العين إباحة الله تعالى لعباده ملابستها في صلواتهم، وأغذيتهم، ونحو ذلك، وتطلق على العلاج بالماء، وغيره مجازا، وهي على قسمين‏:‏ طهارة حدث، وطهارة خبث، والنجاسة في اللغة‏:‏ ملابسة الأدناس، وتستعمل مجازا في العيوب كقوله تعالى‏:‏ ‏(‏إنما المشركون نجس‏)‏‏.‏ تشبيها للدنس المعلوم بالمحسوس، ويقال نجس الشيء بكسر الجيم ينجس بفتحها نجسا بفتحها أيضا، فهو نجس بكسرها‏.‏

وهي في الشرع‏:‏ حكم شرعي قديم، وهي تحريم، فمعنى نجاسة العين تحريم الله تعالى على عباده ملابستها في صلواتهم، وأغذيتهم، ونحوها، ثم يطلق على المعفو عنه أنه نجس نحو دم الجراح السائلة، وبول السلس تغليبا لحكم جنسها عليها مجازا، ولأجل هذا التحديد لا تكون العذرة قبل ورود الشرع نجسة، ولا طاهرة لعدم الأحكام الشرعية في الأفعال قبل ورود الشرع‏.‏

تتميم‏:‏ كل حكم شرعي لا بد له من سبب شرعي، وسبب الطهارة عدم سبب النجاسة لأن عدم العلة علة لعدم المعلول، ولما كانت علة النجاسة الاستقذار عملا بالمناسبة، والاستقراء، والدوران، وكانت النجاسة تحريما كان عدم الاستقذار علة لعدم ذلك التحريم، وإذا عدم التحريم ثبتت الإباحة، وهي الطهارة كما تقدم، وهذه قاعدة مطردة في الشرع، وغيره، فكل علة لتحريم يكون عدمها علة للإباحة كالإسكار لما كان علة لتحريم الخمر كان عدمه علة لإباحتها‏.‏

فإن قيل‏:‏ تعليل النجاسة بالاستقذار غير مطرد، ولا منعكس أما الأول‏:‏ فبدليل المخاط، والبصاق، والعرق المنتن، ونحو ذلك، فإنها مستقذرة، وليست نجسة، وأما الثاني‏:‏ فلنجاسة الخمر، وليست مستقذرة‏.‏

قلنا‏:‏ أما الأول‏:‏ فمستثنى لضرورة الملابسة، وأما الثاني‏:‏ فالعكس غير لازم في العلل الشرعية لأن بعضها يخلف بعضا، ونجاسة الخمر معللة بالإسكار، وبطلب الإبعاد، والقول بنجاستها يفضي إلى إبعادها، وما أفضى إلى المطلوب، فهو مطلوب، فيكون التنجيس مطلوبا‏.‏

وقدمت هذه المقدمة تكميلا لفائدة الكلام على لفظ الطهارة، والاكتفاء به عند الكلام على النجاسة‏.‏

وهذا الكتاب مشتمل على مقاصد، ووسائل لتلك المقاصد، والوسائل يتقدم فعلها شرعا، فيجب تقدم الكلام عليها وضعا‏.‏

فأول الوسائل‏:‏ محل الماء، ولما كان استعمال الماء في الأعضاء يتوقف على طهارتها حتى يلاقي الماء الطهور الأعضاء الطاهرة وجب بيان الأعيان النجسة ما هي، ثم كيفية إزالتها، فهذه أربع وسائل‏.‏

الوسيلة الأولى‏:‏ محل الماء، وهو الإناء، وهو في اللغة مشتق من أنى يأنى إنا، وهو التناهي قال الله تعالى‏:‏ ‏(‏غير ناظرين إناه‏)‏‏.‏ أي انتهاءه عين آنية أي متناه حدها، وحميم آن أي متناه حره، ولما كان الإناء لا بد أن يتناهى خرطه، أو حرزه، أو سبكه على حسب جوهره في نفسه سمي إناء لذلك، وفيه ثلاثة فصول‏:‏

الفصل الأول‏:‏ في الجلود وفي الجواهر

ولا بد في استعمالها من طهارتها، ولطهارتها سببان‏:‏

السبب الأول‏:‏ الذكاة مطهرة لسائر أجزاء الحيوان لحمه، وعظمه، وجلده، وإن كان مختلفا في إباحة أكله كالحمر، والكلاب، والسباع على روايتي الإباحة، والمنع لإزالة الذكاة الفضلات المستقذرة الموجبة للتنجيس على سائر الوجوه على الحيوان إلا الخنزير لقوله تعالى‏:‏ ‏(‏قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس‏)‏‏.‏ والرجس في اللغة القذر، فكما أن العذرة لا تقبل التطهير، فكذلك الخنزير لأنه سوى بينه، وبين الدم، ولحم الميتة، وهما لا يقبلان التطهير، فكذلك هو‏.‏

ولأن الذكاة في الشرع سبب لحكمين‏:‏ إباحة الأكل، والطهارة، والذكاة لا تفيد الإباحة فيه إجماعا، فكذلك الطهارة، ولهذا المدرك منع ابن حبيب تطهيرالذكاة لما لم يؤكل لحمه، ووافقه الشافعي، ولابن حبيب أيضا التفرقة بين العادية، وغيرها، وزاد أبو حنيفة علينا بطهارة اللحم مع الجلد، وإن قال بتحريم أكله‏.‏

ومنع مالك - رحمه الله - الصلاة على جلود الحمر الأهلية، وإن ذكيت، وتوقف في الكيمخت في الكتاب قال‏.‏ صاحب الطراز، وروي عنه الجواز، ومنشأ الخلاف هل هي محرمة، فلا تؤثر الذكاة فيها كالخنزير، أو مكروهة، فتؤثر كالسباع‏؟‏ والكيمخت يكون من جلود الحمر، ومن جلود البغال قال‏:‏ وقد أباحه مرة، وأجاز الصلاة فيه على ما في العتبية‏.‏

السبب الثاني‏:‏ الدباغ في الجواهر، وهو استعمال ما فيه قبض، وقوة على نزع الفضلات، وهو مختلف بحسب غلظ الجلد، ورقته، ولينه، وصلابته قال ابن نافع، ولا يكفي التشميس، وهو مطهر لجملة الجلود إلا الخنزير للآية المتقدمة، ولأن الذكاة أقوى من الدباغ لاقتضائها إباحة الأكل مع التطهير، ولنزعها الفضلات من معادنها قبل تشبثها بأجزاء الحيوان، وغلظها، وقد سقط اعتبارها في الخنزير، فكذلك الدباغ‏.‏

وطهارة غير الخنزير مخصوصة عنده بالماء، واليابسات دون المائعات، والصلاة، والبيع لأن قوله عليه السلام‏:‏ أيما إهاب دبغ، فقد طهر‏.‏ مطلق في الطهارة، وإن كان عاما في الأهب، والأصل في الميتة النجاسة، فيتعين الماء لمطلق الطهارة لقوته، واليابسات لعدم مخالطها، وبقي ما عدا ذلك على الأصل‏.‏

وعنه أنها عامة لزوال السبب المنجس، وهو الفضلات المستقذرة، ولأن الدباغ يرد الأشياء إلى أصولها قبل الموت، والحيوانات عندنا طاهرة قبله، فكذلك بعده بالدباغ، ولهذا المدرك قال الشافعي - رضي الله عنه -‏:‏ لا يطهر الكلب، والخنزير بالدباغ لأنهما نجسان قبل الموت عنده، وقال أبو يوسف، وداود‏:‏ يؤثر الدباغ في جلد الخنزير، وقال الأوزاعي، وأبو ثور‏:‏ لا يؤثر إلا فيما يؤكل لحمه، ومنشأ الخلاف هل يشبه الدباغ بالحياة، أو بالذكاة، وهو مذهبنا‏.‏

قاعدة‏:‏ إزالة النجاسة تارة تكون بالإزالة كالغسل بالماء، وتارة بالإحالة كالخمر إذا صار خلا، أو العذرة إذا صارت لحم كبش، وتارة بهما كالدباغ، فإنه يزيل الفضلات، ويحيل الهيئات، أو لأنه يمنعه من الفساد كالحياة‏.‏

الفصل الثاني‏:‏ العظام

وكل عظم طاهر يجوز استعماله، وبيان ذلك في الوسيلة الثالثة‏.‏

الفصل الثالث‏:‏ أواني الذهب والفضة

وفي الجواهر محرمة الاستعمال للرجال، والنساء لقوله عليه السلام‏:‏ الذي يشرب من آنية الذهب، والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم‏.‏ وعلته السرف، أو الخيلاء على الفقراء، أو الأمران، ويتخرج على ذلك القولان في الذهب المموه بالرصاص، أو غيره، وإلحاق القاضي أبي بكر أواني الياقوت، واللؤلؤ، والمرجان بالذهب، والفضة بطريق الأولى، وعدم إلحاق أبي الوليد لها لأن المفاخرة بها خاصة بالخواص، وكراهة ابن سابق لذلك لوجود جزء العلة‏.‏

فرعان‏:‏

الأول‏:‏ قال‏:‏ استعمال المضبب، والشعوب، والذي فيه حلقة فضة، أو ذهب من مرآة، أو آنية مكروه عنده، وممنوع عند أبي الوليد، وغير ممنوع عند القاضي أبي بكر نظرا إلى وجود المحرم، فيمنع، أو إلى اليسارة، فلا يمنع، أو إليهما، فيكره‏.‏

الثاني‏:‏ قال‏:‏ تحريم اقتناء أواني الذهب، والفضة عن ابن الجلاب لأنه وسيلة لاستعمالها قال القاضي أبو الوليد‏:‏ لو لم يجز الاتخاذ لفسخ بيعها، وقد أجازه في المدونة في مسائل قال أبو بكر بن سابق‏:‏ هذا الاستدلال باطل لجواز ملكها إجماعا بخلاف اتخاذها، وإنما يظهر الخلاف في الإجارة على عملها، والضمان على مفسد صنعتها، والمخالف يجيز ذلك أيضا‏.‏

الوسيلة الثانية‏:‏ الماء، وهو إما مطهر، أو منجس، أو لا مطهر، ولا منجس، أو مختلط من هذه الأقسام، فهذه أربعة أقسام‏.‏

القسم الأول‏:‏ المطهر، وهو الباقي على أصل خلقته على أي صفة كان من السماء، أو الأرض، أو البحر لقوله تعالى‏:‏ ‏(‏وأنزلنا من السماء ماء طهورا‏)‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏(‏ليطهركم به‏)‏‏.‏ وقوله عليه السلام في الموطأ لما سأله رجل إنا نركب البحر، ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا منه عطشنا أفنتوضأ من ماء البحر قال عليه السلام‏:‏ هو الطهور ماؤه الحل ميتته‏.‏

قاعدة‏:‏ فعول عند العرب يكون صفة نحو غفور، وشكور، ويكون للذي يفعل به الفعل نحو الحنوط، والسحور، والبخور لما يتحنط به، ويتسحر به، ويبتخر به، فالطهور عندنا للذي يتطهر به متعد خلافا ح، فإن معناه عنده طاهر، وفائدة الخلاف كونه سبب الطهارة عندنا، فينحصر المطهر فيه بسبب تخصيص الشرع له بالذكر، ومنع القياس في الأسباب، ولو سلم المنع هاهنا لكونه ذرع الجامع الذي هو علة في الأصل، والأصل هاهنا ليس معللا لوجوب تطهير ما هو في غاية النظافة، فيسقط اعتبار النبيذ، وغيره عن مقام التطهير، أو ليس سببا، فيشاركه في الطاهرية غيره، فلا يختص التطهير به لنا قوله تعالى‏:‏ ‏(‏ليطهركم به‏)‏‏.‏ وهو نص في الباب، ولو صح ما ذكروه لما صح جوابه عليه السلام في ماء البحر لعدم الفائدة، ولبطل معنى قوله عليه السلام‏:‏ جعلت لي الأرض مسجدا، وترابها طهورا‏.‏ لأن طهارة التراب لم تختص به عليه السلام، وإنما الذي اختص به المطهر به‏.‏

احتجوا بقوله تعالى‏:‏ ‏(‏وسقاهم ربهم شرابا طهورا‏)‏‏.‏ وليس في الجنة ما يتطهر به، وبقول جرير‏:‏

عذاب الثنايا ريقهن طهور

والريق لا يطهر، ولأن الأصل في فعول أن يجري على فاعل في تعديته، وقصره، وطاهر قاصر، فطهور مثله‏.‏

والجواب عن الأول‏:‏ أنه مجاز للمبالغة لأن الذي يتطهر به أفضل أنواع الماء، فاستعير لشراب الجنة ترغيبا فيه، وهذا هو الجواب عن الثاني، وعن الثالث‏:‏ لا نسلم أن الطهور هاهنا جار على طاهر بل معزل عنه، ويوضحه استحالة قبول الطهارة للزيادة في المطر، والبحر، فلا يمكن إلحاقه بصبور، وشكور، ثم إنا لو سلمنا إمكان القياس على الماء بناء على أنه بمعنى طاهر لاندفع القياس بالفارق، وهو ما اشتمل عليه الماء من الرقة، واللطافة‏.‏

فإن قالوا‏:‏ الخل، وماء الليمون ألطف منه‏.‏

قلنا‏:‏ لا نسلم، ويدل على خلاف ذلك أن الإنسان إذا أدخل يده فيهما أحس من الممانعة ليده ما لا يحس في الماء، ولأن أجزاء الخبز لا يفرقها واحد منهما بخلافه، ولأن ماء الليمون إذا استعمل لزوال العرق سد المسام، ومنع انبعاث العرق، وأما إحالة الألوان، فليس لرقته، وإنما هو بإحالته لها‏.‏

إذا تقرر هذا البحث، فيلحق بالطهور لأجل الحاجة، والأصالة المتغير بجريه على المعادن، أو بطول المكث، والطحلب، والطين الكائن فيه، وكل ما هو من قراره من التبصرة، وما يكون عن البرد، والجليد، والندى، ولا فرق بين ما تغير بالمعادن الجاري عليها، والآنية المصنوعة منها، وقد فرق أهل العلم بينهما، ولا فرق، وقد كان عليه السلام يتوضأ من الصفر، ولم يكره أحد الوضوء من الحديد مع سرعة التغيير فيهما لا سيما في البلاد الحارة، وكان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنهما يسخن له الماء في الصفر‏.‏

فروع أحد عشر‏:‏

الأول‏:‏ في الجواهر‏:‏

التراب المطروح عمدا في الماء لا يسلبه الطهورية إلحاقا للطارئ بالأصلي، وقيل لا يلحق به لفارق الضرورة‏.‏

الثاني‏:‏ الملح ملحق بالتراب عند ابن أبي زيد، وبالأطعمة عن الشيخ أبي الحسن، وقيل‏:‏ المعدني كالتراب نظرا إلى الأصل، والمصنوع كالطعام لإضافة غيره إليه غالبا‏.‏

الثالث‏:‏ قال‏:‏ الملازم للماء إذا اختص ببعض المياه قيل‏:‏ ليس يطهر لعدم العموم، وقيل‏:‏ مطهر لعدم الانفكاك‏.‏

الرابع‏:‏ قال‏:‏ الماء القليل إذا وقع فيه طاهر لم يغيره قال أبو الحسن القابسي‏:‏ يسلبه التطهير كما قال ابن القاسم في النجاسة مع الماء القليل، والمذهب خلافه‏.‏

الخامس‏:‏ من الطراز‏:‏ المسخن بالشمس مكروه، وقاله ش خلافا ح، وذلك من جهة الطب لما رواه مالك - رضي الله عنه - عن عائشة رضي الله عنها أنه عليه السلام دخل عليها، وقد سخنت ماء في الشمس، فقال عليه السلام‏:‏ لا تفعلي هذا يا حميراء، فإنه يورث البرص‏.‏ ونحوه عن عمر - رضي الله عنه - قال عبد الحق‏:‏ ولم يصح فيه حديث قال الغزالي‏:‏ يخرج من الإناء في الشمس مثل الهباء بسبب التشميس في النحاس، والرصاص، فيعلق بالأجسام، فيورث البرص، ولا يكون ذلك في الذهب، والفضة لصفائهما، وقال ابن الحاجب، والمسخن بالنار، والشمس كغيره‏.‏

السادس‏:‏ قال في الكتاب‏:‏ يجوز الوضوء بما يقع البصاق فيه، والمخاط، وخشاش الأرض مثل الزنبور، والعقرب، والصرار، وبنات وردان‏.‏ من التنبيهات‏:‏ الخشاش بفتح الخاء، وكسرها، وضمها، وتخفيف الشين المعجمة، وهو صغار دواب الأرض، والزنبور بضم الزاي، والخنفساء بضم الخاء ممدودة، والصرار بالصاد المهملة، وتشديد الراء

الأولى سمي بذلك لما يسمع من صوته، فإن لم تفرق أجزاء ذلك، أو يطول مكثه، فما وقع فيه طاهر، فإن تفرق، أو طال مكثه، فالماء مضاف، وقال أشهب ينجس‏.‏

وأما الطعام، فإن تفرق فيه، أو غلب، فلا يؤكل لاحتياجه إلى الذكاة، وقيل يؤكل لعدم احتياجه إليها على الخلاف‏.‏

السابع‏:‏ قال المازري في شرح التلقين‏:‏ إذا شك فيما يفسد الماء، فالأصل بقاؤه على الطهورية، وقد نهى مالك - رحمه الله - عن استعمال البئر القريبة من المراحيض، فقال تترك يومين، أو ثلاثة، فإن طابت، وإلا تركت، ووجهه‏:‏ أن الظاهر إضافة التغير إلى المراحيض‏.‏

الثامن‏:‏ من الطراز‏:‏ إذا راعينا وصف الماء دون مخالطه، وكان معه دون الماء الكافي، فكلمه بماء ريحان، أو نحوه مما لا يتغير به، فهل يتطهر به لعدم التغير، أو لا يتطهر به لكونه متطهرا بغير الماء المطلق جزما، وهو الطاهر، وفرق بعض الشافعية بين هذه، وبين ما إذا خلط بما يكفيه مائعا لم يغيره، وتوضأ به، وفضل قدر ذلك المائع أنه يجزيه، وقال بعضهم‏:‏ لا يجزئ‏.‏ قال صاحب تهذيب الطالب‏:‏ قال الشيخ أبو الحسن‏:‏ إذا دهن الدلو الجديد بالزيت، واستنجى منه لا يجزيه، فيغسل ما أصاب من ثيابه لأن المضاف عنده لا يجزئ في غسل النجاسات، وقال ابن أبي زيد‏:‏ يعيد الاستنجاء دون غسل ثيابه لاختلاف الناس في المضاف قال‏:‏ واختلف الأصحاب هل يزيل المضاف حكم النجاسة، أو عينها فقط، وهو الصواب لأنه لا يتوضأ به، ومن أزال به حكم النجاسة، فلضعفها لإزالتها بغير نية، والاختلاف في وجوبها مع الاختلاف في المضاف هل يرفع الحدث أم لا، وأما قول من ينجس الثياب ببل موضع النجاسة إذا زال عينها، فبعيد لأن الباقي في الموضع حكم ليس لعين، فلا ينجس إنما تنجس الأعيان‏.‏

التاسع‏:‏ منه أيضا القطران تبقى رائحته في الوعاء، وليس له جسم يخالط الماء لا بأس به للحاجة إليه في البوادي‏.‏

العاشر‏:‏ منه أيضا الحشيش، وورق الشجر يتساقط في الماء، فيغيره لا بأس به عند العراقيين منا‏.‏

الحادي عشر‏:‏ قال‏:‏ إذا وقعت في الماء الكثير نجاسة، أو عين طاهرة، وبقي على أصل خلقته، فهو مطهر، ولا يشترط وصوله القلتين خلافا ش لأن الاستدلال بحديث القلتين، وإن صححناه، فهو بالمفهوم، واستدلالنا بظاهر القرآن، وحديث بئر بضاعة استدلال بالمنطوق، وهو مقدم على المفهوم إجماعا، وإذا ظهر بطلان مذهب الشافعي، فمذهب أبي حنيفة بطريق الأولى في قوله‏:‏ إن الماء وإن كان فوق القلتين، ويمكن وصول النجاسة إلى أجزائه بالحركة، فهو نجس لأن أدلتنا، وأدلة الشافعي ترد عليه رضي الله عنهم أجمعين‏.‏

القسم الثاني‏:‏ المنجس‏:‏ وهو ما تغير لونه، أو طعمه، أو ريحه بنجس، وفي الجواهر‏:‏ خالف عبد الملك في الرائحة، وقيل‏:‏ قوله منزل على المجاورة دون الحلول لما في الترمذي قيل له عليه السلام أنتوضأ من بئر بضاعة، وهي بئر يلقى فيها الحيض، ولحوم الكلاب، والنتن، فقال عليه السلام‏:‏ ‏(‏إن الماء طهور لا ينجسه شيء‏.‏ يعني إلا ما غيره، وقال فيه حديث حسن، وروى فيه البغداديون إلا ما غير لونه، أو طعمه، أو ريحه وجه قول عبد الملك أن الثياب لا تنجس بروائح النجاسات، فكذلك الماء لأنه أقوى في الدفع عن نفسه، ولأن الرائحة لو كان تغيرها معتبرا لذكر في الحديث من التبصرة إن كانت الرائحة عن المجاورة لم يخرج عن الطهورية، وإن كانت عما حل فيه من الطيب كان مضافا، وكذلك البخور لأن النار تصعد بأجزائه، ويوجد طعمه فيه، ولهذا قيل لا يؤكل المطبوخ بالميتة، ووافقه صاحب الطراز على ذلك‏.‏

فرعان‏:‏

الأول من شرح التلقين‏:‏ تثبت النجاسة بخبر الواحد إذا بينها، أو كان مذهبه كمذهبه لاحتمال أن يعتقد ما ليس نجسا نجسا، ولا تشترط الشهادة لما في الموطأ أن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - سأل صاحب الحوض هل ترد حوضك السباع، فلولا أن خبره يقبل لما سأله‏.‏

الثاني‏:‏ في الماء القليل إذا وقعت فيه نجاسة أربعة أقوال‏:‏ قال مالك - رحمه الله - في الكتاب‏:‏ مطهر لحديث الترمذي السابق، وقال ابن القاسم في الكتاب‏:‏ يتيمم، ويتركه، وإن توضأ، وصلى، ولم يعلم أعاد في الوقت، فحمل أبو الحسن قوله على التنجيس لإباحته التيمم، والإعادة في الوقت مراعاة للخلاف، وحمله ابن رشد في المقدمات على الكراهة لتخصيصه الإعادة بالوقت، والتيمم مراعاة للخلاف، وقال مالك في المجموعة‏:‏ يجتنب، وفي السنن سئل عليه السلام عن الماء، وما يؤثر فيه من الدواب، والسباع، فقال عليه السلام‏:‏ إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث‏.‏ مفهومه أن ما دون ذلك يحمل الخبث، ولأن النفوس تعاف القليل إذا وقعت فيه النجاسة، وما لم يرضه الإنسان لنفسه أولى ألا يرضاه لربه، والكراهة لابن الحاجب، والمدنيين، وقال ابن مسلمة‏:‏ هو مشكوك فيه لا يعلم أنه طهور، ولا نجس لتعارض المآخذ، فيجمع بينه، وبين التيمم ليخرج عن العهدة إجماعا‏.‏

فرع‏:‏ في الجواهر‏:‏ على هذا قال محمد بن سحنون، وأبو الحسن‏:‏ يتيمم، ويصلي أولا، ثم يتوضأ، ويصلي صلاة أخرى ليسلم أولا من النجاسة المتوهمة وقيل‏:‏ يجمع بينهما، ويصلي صلاة واحدة لعدم تحقق النجاسة، فإن أحدث جمع بينهما، وصلى واحدة على القولين لحصول ملاقاة الماء للأعضاء أولا‏.‏

من التبصرة‏:‏ وإن لم يحدث، وفرعنا على أنه يصلي صلاتين، ثم حضرت صلاة أخرى تيمم، وصلى صلاة واحدة‏.‏

والماء القليل كالجرة، والإناء، والبئر القليلة الماء‏.‏

القسم الثالث‏:‏ الماء الذي لا يطهر، ولا ينجس، وهو ما تغير أحد أوصافه بطاهر غير لازم له، وخالف عبد الملك في الرائحة، وكذلك مياه النبات كماء الورد، ونحوه‏.‏

فرعان‏:‏

الأول‏:‏ الماء المستعمل في الحدث إذا لم يكن على الأعضاء نجاسة، ولا وسخ قال مالك - رحمه الله - في الكتاب‏:‏ لا يتوضأ بماء توضئ به مرة قال ابن القاسم‏:‏ إن لم يجد غيره توضأ‏.‏

من التنبيهات‏:‏

حمل قول مالك غير واحد من شيوخنا على وجود غيره، فإذا لم يجد غيره، فما قاله ابن القاسم، فهما متفقان، وعلى ذلك أكثر المختصرين، وقال ابن رشد‏:‏ هما مختلفان، وقال في كتاب ابن القصار‏:‏ يتيمم من لم يجد سواه قال ابن بشير‏:‏ المشهور أنه مطهر مكروه للخلاف فيه، وقيل‏:‏ طاهر غير مطهر لثلاثة أوجه الأول‏:‏ عدم سلامته من الأوساخ، ودهنية البدن الثاني‏:‏ أنه أديت به عبادة، فلا تؤدى به عبادة كالرقبة في الكفارة، ولا يلزم الثوب الذي صلى به، فإن مصلحته ستر العورة، وهي باقية الثالث‏:‏ أن الأولين لم يجمعوا ما سقط عن أعضائهم في أسفارهم مع شدة ضروراتهم لقلة الماء، وذلك يدل على عدم جواز استعماله‏.‏

القول الثالث‏:‏ أنه مشكوك فيه يجمع بينه، وبين التيمم قال ابن شاس، ويصلي صلاة واحدة‏.‏

واعلم أن المتنازع فيه إنما هو المجموع عن الأعضاء لا الذي يفضل في الإناء بعد الطهارة، ولا المستعمل في بعض العضو إذا جرى للبعض الآخر‏.‏

تحرير‏:‏ إذا قلنا بسقوط الطهورية قال بعض العلماء سببه أمران‏:‏ أحدهما‏:‏ كونه أديت به عبادة، والثاني‏:‏ إزالته المانع، فإن انتفيا معا كالرابعة في الوضوء، فلا منع، وإن وجد أحدهما دون الآخر احتمل الخلاف كالمستعمل في المرة الثانية، والثالثة، أو في التجديد، فإنه لم يزل مانعا، وإن أديت به عبادة، وغسل الذمية من الحيض أزال مانع وطئها لزوجها المسلم، ولم تؤد به عبادة، وفي قول مالك - رحمه الله - نص صريح بهذا المعنى في قوله‏:‏ ولا يتوضأ بما توضىء به مرة إشارة للعبادة، وإزالة المانع معا، ونقل صاحب الطراز عند التفرقة بين الحدث، والتجديد قال‏:‏ وسوى أبو حنيفة في المنع، ويرد على من قال بنجاسته أن السلف الصالح كانوا يتوضئون، والغالب تطاير البلل على ثيابهم، والتصاق ثيابهم بأعضائهم وهي مبلولة، وما نقل عنهم التحرز عنه، فدل ذلك على طهارته‏.‏

الفرع الثاني من التبصرة‏:‏ قال مالك في البئر يقع فيها سعف النخل، وورق الزيتون، فيتغير لون الماء‏:‏ إن توضأ به أعاد في الوقت لأنه لا يتغير إلا وقد تغير طعمه، وكذلك قال في الغدير ترده الماشية، فتغيره بروثها‏:‏ ما يعجبني، ولا أحرمه، والمعروف من المذهب أنه غير مطهر‏.‏

القسم الرابع‏:‏ المختلط من الطهور، وغيره، ويتصور ذلك، وإن قلنا إن الباقي على خلقته طهور، وغير الباقي غير طهور بأن يكون متغيرا بقراره، أو لازمه إلى لون نجاسة وقعت في بعضه، فالتبس بالبعض الآخر، أو بصيرورة ماء بعض النبات كماء الورد، أو غيره على صفة الطهور، ثم يلتبس بالطهور‏.‏

وفي الجواهر‏:‏ فإن وجد ما يتيقن طهوريته لم يجتهد، وإن لم يجد، فللأصحاب أربعة أقوال‏:‏

قال محمد بن مسلمة‏:‏ يتوضأ بالإناءين، وضوءين، ويصلي صلاتين، ويغسل أعضاء وضوئه من الإناء الثاني قبل وضوئه منه إن كان أحدهما نجسا لإمكان الوصول إلى اليقين كمن نسي صلاة من خمس، قال الأصحاب‏:‏ وهو الأشبه بقول مالك - رحمه الله -‏.‏

وقال عبد الملك مثله إلا الغسل من الإناء الثاني قبل الوضوء لعدم تيقن النجاسة‏.‏

وقال ابن المواز‏:‏ يتحرى أحدهما، فيتوضأ به كما يصلي إلى جهة من الجهات عند التباس جهة الكعبة‏.‏

فرع‏:‏ على هذا قال بعض العلماء الاجتهاد في الأواني يختص بالبصير، وقيل لا يختص بل يصح من الأعمى لإدراكه الطعم، والرائحة، وزيادة الإناء بعد نقصه‏.‏

وقال سحنون أيضا‏:‏ يتيمم، ويتركها، ولا يشرع له التحري كأخته من الرضاع إذا اختلط بأجنبية قال الطرطوشي في تعليقه بخلاف الثياب المشتبهة، فإنه لا بدل لها، وهاهنا بدل، وهو التيمم، وقال صاحب الطراز إذا أصابت النجاسة أحد الثوبين وجهل لا يصلي فيهما حتى يغسلهما، وإنما يتحرى فيهما عند الضرورة، فلو شك في موضع من الثوب، وتيقن الإصابة في موضع آخر غسل المتيقن، ونضح المشكوك، وإذا قلنا بالتحري في الثوبين، فلا يتحرى في جهات الثوب إذا اختلط عليه النجس بالطاهر من الجهتين، والفرق أن التحري في الثوبين يوجب الصلاة في أحدهما بغير غسل، ولا بد من الغسل في الثوب نعم لو لم يجد من الماء ما يعم الثوب، ولم يجد غير الثوب، وضاق الوقت تحرى، وفي الجواهر يتحرى بين الثوبين، ولم يشترط الضرورة قال‏:‏ وقيل إنه يصلي بكل واحد صلاة قال‏:‏ وقال القاضي أبو بكر‏:‏ والصحيح الأول قال‏:‏ فلو أصاب بعض ثوبه نجاسة لم يجز التحري، ولو قسمه بنصفين لم يجز التحري بينهما لجواز انقسام النجاسة فيهما، ولو أصابت أحد الكمين قال القاضي أبو بكر‏:‏ جاز الاجتهاد كالثوبين باختلاف بين العلماء قال‏:‏ فإن فصلهما جاز الاجتهاد إجماعا‏.‏

بيان‏:‏ النضح بالحاء المهملة ينطلق على الغسل، ومنه سمي البعير الذي يستقي ناضحا، وينطلق على الرش، وبالخاء المعجمة على ما يكثر صب الماء فيه، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏(‏عينان نضاختان‏)‏‏.‏ وقيل ينطلق على ما يفور من السفل كالفوران‏.‏

فرع‏:‏ إذا قلنا يصلي بكل إناء صلاة، فهل يفرق بين ما قل، وبين ما كثر كما فرقنا في ترتيب الصلوات أشار الطرطوشي إلى الفرق‏.‏

قاعدة‏:‏ الأصل ألا تبنى الأحكام إلا على العلم لقوله تعالى‏:‏ ‏(‏ولا تقف ما ليس لك به علم‏)‏‏.‏ لكن دعت الضرورة للعمل بالظن لتعذر العلم في أكثر الصور، فتثبت عليه الأحكام لندرة خطئه، وغلبة إصابته، والغالب لا يترك للنادر، وبقي الشك غير معتبر إجماعا، ثم شرط العمل بالظن اقتباسه من الأمارات المعتبرة شرعا، ثم حيث ظفرنا بالعلم لا نعدل عنه إلى الظن كتحصيل صلاة من خمس بفعل الخمس، وحيث لم نظفر به اتبعنا الظن‏.‏

ثم الظن قد ينشأ عن أمارة شرعية، وتتعدد موارده، فيتخير كإخبار بينات متعددة بما يستفاد من الشهادة، وقد لا تتعدد موارده بل تنحصر جهة الظن الناشىء عن الأمارة في مورد، فيتعين علينا اتباع ذلك المورد كجهة الكعبة، فإن المظنون عن الأمارة فيها ليس إلا جهة واحدة، وما عدا تلك الجهة يغلب على الظن عدم كون الكعبة فيها‏.‏

وقد لا ينشأ عن أمارة شرعية، فلا يعتبر شرعا، وإن كان أرجح في النفس من الناشىء عن الأمارة الشرعية كشهادة ألف من عباد أهل الكتاب بفلس، فإنا لا نتبع هذا الظن، ولا يثبت الفلس، وإن قوي في أنفسنا صدقهم، وكذلك الأخت مع الأجنبية لما لم ينصب الشرع عليها أمارة وجب التوقف، وعلى هذه القاعدة تتخرج مسألة الأواني، وكثير من مسائل المذهب‏.‏

فروع أربعة‏:‏

الأول‏:‏ لو صلى بما يغلب على طنه طهوريته، ثم تيقن نجاسته غسل أعضاءه، وتوضأ، وأعاد، وإن ظن ذلك فقولان مبنيان على نقض الظن بالظن كالمصلي إلى القبلة يظن خطأ فعله‏.‏

الثاني‏:‏ قال‏:‏ يترتب على قول محمد بن مسلمة إذا توضأ بالإناءين، وصلى، وحضر صلاة أخرى، وطهارته باقية، والذي توضأ به ثانيا معلوم صلى بطهارته، وغسل أعضاءه من الذي توضأ به أولا، وتوضأ منه، وصلى، وإن لم تكن طهارته باقية، أو كانت لكنه لا يعلم الذي توضأ به آخرا توضأ بالإناءين كما تقدم‏.‏

الثالث‏:‏ قال الإمام أبو عبد الله لا تصح صلاة من صلى خلف من يعتقد أنه توضأ بنجس، ولو كثرت الأواني، والمجتهدون قال صاحب القبس‏:‏ إذا اختلف ثلاثة في ثلاثة أوان نجس، وطاهرين توضأ كل واحد مما يراه طاهرا، ويؤم أحدهم، ثم الثاني، ولا يؤمهم الثالث، لأن إمامة الأول يحتمل أن يكون النجس مع أحد المأمومين، أو معه، والثاني يحتمل أن يقول الثالث‏:‏ يجوز أن يكون النجس وقع في حقي فصلاة إمامي صحيحة، وإمامة الثالث تتعين النجاسة له، فلم تجز، ومتى زاد عدد الأواني، أو عدد الرجال إذا بقي واحد طاهر جازت الإمامة أبدا حتى يبقى واحد منها، فيمتنع، فإن كانت الأواني اثنتين، وأم أحدهما الآخر، فلا يجوز أن يؤم الثاني عند علماء الأمصار إلا أبا ثور لعدم تيقن الخطأ، ولأن المأموم يرى أن صلاة الإمام صحيحة في حقه، فيجوز له اتباعها، وهذه المسألة مبنية على تصويب المجتهدين كما قال، فقد قال أصحاب الشافعي في هذه المسألة الأولى ثلاثة أقوال قال صاحب التلخيص‏:‏ لا يصح الاقتداء مطلقا لأجل الشك في صلاة الإمام، وقال أبو إسحاق‏:‏ الصلاة الأولى صحيحة لكل واحد في اقتدائه، وفي الاقتداء الثاني تبطل إحدى صلاتيه، فيلزمه قضاؤهما ليخرج عن الصلاة بيقين، وقال ابن الحداد‏:‏ الاقتداء الثاني في حق كل واحد باطل لأن فيه يتعين تقدير النجاسة‏.‏

الرابع‏:‏ قال حيث قلنا بالاجتهاد بين الماءين، فقد خرج القاضي أبو محمد عليه جواز الاجتهاد بين الماء، والبول خلافا ش، وح، لأن حقيقة الاجتهاد تميز الحق عن الباطل، وهاهنا كذلك قال القاضي أبو بكر‏:‏ هو الذي تقتضيه أصولنا، وبه أقول‏.‏

الوسيلة الثانية‏:‏ تمييز النجس من غيره‏.‏

والعالم إما جماد، أو نبات، أو حيوان، وفي الجواهر، والأولان طاهران إلا المسكرات للإسكار لأنها مطلوبة الإبعاد، والقول بتنجيسها يفضي إلى إبعادها، والمفضي إلى المطلوب مطلوب‏.‏