فصل: سنة سبع وسبعين وخمسمائة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: السلوك لمعرفة دول الملوك (نسخة منقحة)



.سنة أربع وسبعين وخمسمائة:

وفى أوائل شهر ربيع الآخر سنة أربع وسبعين، هجم العدو من الفرنج على مدينة حماة، فنهض إليهم المسلمون وأسروا مقدمهم في جماعة، وبعثوا بهم إلى السلطان بدمشق، فضرب أعناقهم.
وفيها جهز السلطان أخاه شمس الدولة تورانشاه إلى محاربة شمس الدين بن المقدم ببعلبك، في جيش كثيف، فحاصرها مدة، ثم سار إليه السلطان، وأقام على الحصار حتى دخل الشتاء، فوقع الصلح وتسلمها السلطان، وسلمها لأخيه تورانشاه في شوال، فبنى الفرنج في مدة اشتغال السلطان ببعلبك حصنا على مخاضة بيت الأحزان، وهو بيت يعقوب عليه السلام، وبينه وبين دمشق نحو يوم، ومنه إلى طبرية وصفد نصف يوم. فعاد السلطان إلى دمشق، وقدم عليه من الديوان العزيز خادم اسمه فاضل فأصحبه معه للغزو، حي وقف على الحصن، وتخطف من حوله من الفرنج، ثم عاد إلى دمشق فتواترت الأخبار باجتماع الفرنج لغزو بلاد المسلمين، فأخرج السلطان ابن أخيه الأمير عز الدين فرخشاه أمامه، فواقعه الفرنج وقعة قتل فيها جماعة من مقدمي الفرنج وغيرهم، منهم الهنفرى وصاحب الناصرة، فانهزموا وأسر منهم جماعة. فبرز السلطان من دمشق إلى الكسوة لنجدة عز الدين، فوافته الأسرى والرءوس، فسر بدذك وعاد إلى دمشق.
وفيها أغار أبرنس مالك الفرنج بأنطاكية على شيزر، وغدر القومص ملك طرابلس بالتركمان.
وفيها سار شمس الدولة إلى مصر بعدة من العسكر لجدب الشام فى سادس عشري ذي القعدة، وأغار السلطان على حصن بيت الأحزان وعاد بالغنائم والأسرى، ووالى الغارة والبعث إلى بلاد الفرنج.
وفيها قوي قراقوش التقوى وإبراهيم السلاح دار ببلاد المغرب، وأخذا عدة حصون.

.سنة خمس وسبعين وخمسمائة:

ودخلت سنة خمس وسبعين وخمسمائة:
والسلطان مواصل الإغارة على بلاد الفرنج، وكان نازلا على بانياس، وسرح العساكر ومقدمها عز الدين فرخشاه بن أيوب، فأكثر من قتلهم وأسرهم. وفتح بيت الأحزان في رابع عشري ربيع الآخر، بعد قتال وحصار، فغنم منهم مائة ألف قطعة حديد من أنواع الأسلحة، وشيئا كثيرا من الأقوات وغيرها، وأسر عدة نحو السبعمائة، وخرب الحصن حتى سوى به الأرض، وسد البئر التي كانت به، وعاد بعدما أقام عليه أربعة عشر يوما، فأغار على طبرية وصور وبيروت ثم رجع إلى دمشق، وقد مرض كثير من العسكر ومات عدة من الأمراء.
وفي يوم الأحد ثامن المحرم: ركب السلطان ومعه صمصام الدين أجك وإلى بانياس في عسكره، فلقيه الفرنج في ألف رمح وعشرة آلاف مقاتل ما بين فارس وراجل، فاقتتلوا قتالا كثيرا انهزم فيه الفرنج، وركب المسلمون أقفيتهم يقتلون ويأسرون حتى حال بينهم الليل، وعاد السلطان إلى مخيمه، وقد مض أكثر الليل، وعرض الأسرى، فقدم أولهم بادين بن بارزان، ثم أود مقدم الداوية، وابن القومصية، وأخو صاحب جبيل في آخرين، فقيدوا بأجمعهم وهم نحو المائتين وسبعين، وحملوا إلى دمشق فاعتقلوا بها، وعاد السلطان إلى دمشق، ففدى ابن بارزان بعد سنة بمائة وخمسين ألف دينار وألف أسير من المسلمين، وفدى ابن القومصية بخمسة وخمسين ألف دينار صورية، ومات أود فأخذت جيفته بأسير أفرج عنه. وقدم الخبر بان الملك المظفر تقي الدين أوقع بعسكر قلج أرسلان صاحب الروم السلجوقية فهزمهم وأسر منهم جماعة، فكتب السلطان البشائر بظفره بالفرنج على مرج عيون وبظفر أخيه بعسكر الروم وسيرها إلى الأقطار فأتته تهاني الشعراء من الأمصار، ثم اهتم السلطان بأمر بيت الأحزان، وكتب إلى الفرنج يأمرهم بهدمه فأبوا، فراجعهم مرة ثانية فطلبوا منه ما غرموا عليه، فبذل لهم حتى وصلهم إلى مائة ألف دنيار فلم يقبلوا. فكتب حينئذ إلى التركمان وأجناد البلاد يستدعيهم، وحمل إليهم الأموال والخيول والتشاريف، فقدم إليه خلق كثر، وسار الملك المظفر من حماة، فقدم دمشق أول شهر ربيع الآخر، وقد تلقاه السلطان، ثم سار السلطان من دمشق يوم الخميس خامسه، في عسكر عظيم، ونزل على حصن بيت الأحزان يوم الثلاثاء حادي عشره، وكانت قلعة صفد للداوية، فأمر بقطع كروم ضياع صفد، وحاصر الحصن ونقبه من جهات، وحشاه بالحطب وأحرقه، حتى سقط في رابع عشريه، وأخذه فقتل من فيه وأسرهم، ووجد فيه مائة أسير من المسلمين، فقتل عدة من أسرى الفرنج، وبعث باقيهم في الحديد إلى دمشق، وأخرب الحصن حتى سوى به الأرض، فكانت إقامته عليه أربعة عشر يوما وعاد إلى دمشق، فمدحه عدة من الأمراء والشعراء وهنأوه بالفتح.
وفي صفر: ظهر قدام المقياس بمصر وسط النيل الحائط الذي كان في جوفه قبر يوسف الصديق وتابوته، ولم ينكشف قط منذ نقله موسى عليه السلام إلا حينئذ، عند نقصان الماء في قاع المقياس، فإن الرمل انكشف عنه وظهر للناس، وأكثر الناس ما علموا ما هو.
وفيها نافق جلدك الشهابي بالواحات، فأخذه العادل بالأمان وسيره إلى دمشق.
وفيها أغار عز الدين فرخشاه على صفد فأكثر من القتل والسبي وأحرق الربض في رابع عشر ذي القعدة، وعاد إلى دمشق.
وفيها مات الخليفة المستضيء بأمر الله أبو المظفر يوسف بن المقتفي لأمر الله محمد، يوم الجمعة لاثنتي عشرة مضت من شوال، وكانت خلافته عشر سنين غير أربعة أشهر. واستخلف من بعده ابنه الناصر لدين الله أبو العباس أحمد، فخرج الشيخ صدر الدين شيخ الشيوخ عبد الرحيم بن إسماعيل من بغداد رسولا إلى الملوك وإلى السلطان صلاح الدين وسار معه إلى مصر شهاب الدين بشير الخاص كما يأتي ذكره.
وفيها ختن السطان ابنه الملك العزيز عثمان، وسلمه إلى صدر الدين بن المجاور معلما له.
وفيها فشا الموت بمصر والقاهرة وعامة أعمال مصر، وتغيرت رائحة الهواء، ومات بالقاهرة ومصر في أيام يسيرة سبعة عشر ألف إنسان.

.سنة ست وسبعين وخمسمائة:

ودخلت سنة ست وسبعين وخمسمائة:
وفيها سار السلطان إلى حرب عز الدين قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان السلجوقي صاحب قونية وعاد بغير قتال، فدخل دمشق أول شهر رجب.
وفيها مات السلطان سيف الدين غازي بن السلطان قطب الدين مودود بن عماد الدين زنكي بن أقسنقر صاحب الموصل في ثالث صفر، وجلس أخوه عز الدين مسعود مكانه، فكتب السلطان صلاح الدين إلى الخليفة الناصر يسأل أن يفوض إليه، فوصل شيخ الشيوخ صدر الدين أبو القاسم عبد الرحمن وشهاب الدين بشير الخاص، بالتفويض والتقليد والتشريف في رجب، فتلقاهم السلطان وترجل لهم، ونزلوا له وبلغوه سلام الخليفة، فقبل الأرض، ودخل دمشق بالخلع، وأعاد الجواب مع بشير، وصحبته ضياء الدين الشهرزورى. وسار السلطان إلى بلاد الأرمن لقمع ملكهم، فأوغل فيها وأطاعه ملكهم، ثم عاد بعدما وصل إلى بهسنا وأحرق حصنا وخربه، وخرج من دمشق يريد مصر في ثامن عشر رجب، ومعه شيخ الشيوخ صدر الدين، فوصل إلى القاهرة ثالث عشر شعبان، وخرج شيخ الشيوخ إلى مكة في البحر، وعاد منها إلى بغداد.
وفيها مات الحافظ أبو الطاهر أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن إبراهيم بن سلفة السلفي في يوم الجمعة خامس ربيع الآخر بالإسكندرية عن نحو مائة سنة.
ومات الملك المعظم شمس الدولة تورانشاه بن أيوب بن شادي في خامس صفر بالإسكندرية، وحمل إلى دمشق فدفن بها.
وفيها ولدت امرأة غرابا.
وفيها كان قاع النيل ثلاثة أذرع وعشرين إصبعا، وبلغت الزيادة ستة عشرة ذراعا وثلثي ذراع.

.سنة سبع وسبعين وخمسمائة:

ثم دخلت سنة سبع وسبعين وخمسمائة:
في محرم خرج الأمر بالحوطة على مستغلات العربان بالشرقية، وأمروا بالتعدية إلى البحيرة، ووقعت الحوطة على إقطاع جذام وثعلبة، لكثرة حملهم الغلال إلى بلاد الفرنج، وكثر الفار بالمقاثي والغلال بعد حصادها، فأتلف شيئا كثيرا، واحترق النيل حتى صار يخاض، وتشمر الماء عن ساحل المقس ومصر، وربى جزائر رملة خيف منها على المقياس أن يتقلص الماء عنه، ويحتاج إلى عمل غيره، وبعد الماء عن السور بالمقس، وصارت قوته من بر الغرب، وخيم السلطان في بركة الجب للصيد ولعب الأكرة، وعاد بعد ستة أيام وورد الخبر بأن الأبرنس أرناط ملك الفرنج بالكرك جمع وعزم على المسير إلى تيماء ودخول المدينة النبوية، فخرج عز الدين فرخشاه من دمشق بعساكره إلى الكرك، ونهب وحرق، وعاد إلى أطراف بلاد الإسلام فأقام به، وورد الخبر من نائب قلعة أيلة بشدة الخوف من الفرنج.
وفي صفر: قدم رسول ملك القسطنطينية إلى القاهرة، فوقع الصلح مع صاحبها، وأطلق في جمادى الآخرة مائة وثمانين أسيرا من المسلمين، وسار صارم الدين خطلبا إلى الفيوم، وقد أضيفت إليه ولايتها، وأفردت برسمه الخاص، ونقل عنها مقطوعها، ثم صرف عن ولاية الفيوم بابن شمس الخلافة، وأحضر خطلبا ليسير إلى اليمن، وكتب إلى دمياط بترتيب المقاتلة على البرجين، وسد مراكب السلسلة وتسييرها ليقاتل عليها، ويدافع عن الدخول من بين البرجين بها.
وفي ربيع الأول: طرق الفرنج ساحل تنيس وأخذوا مركبا للتجار، ووصلت مراكب من دمياط كانت استدعيت من خمسين مركبا لتكون في ساحل مصر وكمل بناء برج بالسويس يسع عشرين فارسا، ورتب فيه الفرسان لحفظ طريق الصعيد، التي يجلب منها الشب إلى بلاد الفرنج، وأمر بعمارة قلعة تنيس، وورد تجار الكارم من عدن، فطلب منهم زكاة أربع سنين. وكثرت بيوت المزر بالإسكندرية، فهدم منها مائة وعشرون بيتا.
ووصل المفرد في حادي عشرين ربيع الأول بالوفاء في سابع عشره، فأوفى النيل بمصر في سادس عشريه الموافق يوم السادس عشر من مسرى، ولا يعرف وفاؤه بهذا التاريخ في زمن متقدم، فركب السلطان لتخليق المقياس في غده، وخلع على ابن أبى الرداد في سلخه، وفتح الخليج في رابع ربيع الآخر، والماء على خمسة عشر إصبعا من سبعة عشر ذراعا، بمحضر والي القاهرة.
وفيه أنفق السلطان في الأجناد البطالين وجردهم إلى الثغور، وأنفق في رجال الشواني وجردهم للغزو، وورد الخبر بكثرة ولادة الحيوان الناطق والصامت للتوأم، وأن ذلك خرج عن الحد في الزيادة على المعهود، وأن الغزال في البرية كله أتأم، وكذلك النسوان أتأمن أكثر من الإفراد، وكذلك الطير فإنه كثر ظهوره كثرة ظهرت.
وفيه ماتت امرأة الصالح بن رزيك عن سن كبيرة وضعف حال وعمى، بعد الدنيا والملك الذي كانت فيه.
وركب السلطان في أول جمادى الأولى لفتح بحر أبي المنجا، وعاد إلى قلعة الجبل، وركب منها إلى المخيم بالبركة. وسار متسلم الأمير صارم الدين خطلبا إلى اليمن، وانتصب السلطان ليلا ونهارا في ترتيب أحوال الأجناد، واقتطع من إقطاعات العربان الثلثين، وعوض به مقطعو الفيوم، وصارت أعمال الفيوم كلها للسلطان.
وفيه قرر ديوان الأسطول وفيه الفيوم والحبس الجيوشي والخراجي والنطرون، وضمن الخراج بثمانية آلاف دينار.
وفي هذه السنة: رتبت المقاتلة على البرجين بدمياط وجهزت خمسمائة دينار لعمارة سورها والنظر في السلسلة التي بين البرجين، وعمل تقدير برسم ما يحتاج إليه سور تنيس وإعادته كما كان في القديم، فجاء ثلاثة آلاف دينار، وكتب إلى قوص بإبطال المكوس التي تستأدي من الحجاج وتجار اليمن.
وورد كتاب إبراهيم السلاح دار من المغرب أنه فتح بلاد هوارة، وزواوة ولواتة، وجبل نفوسة، وغدامس، وأعمالا طولها وعرضها خمسة وعشرون يوما، وأنه خطب على منابرها للسلطان وضربت السكة باسمه، وانه إذا أنعم عليه بتقوية بلغ أغراضا بعيدة، وسير أموالا عتيدة. وأنشئت أربع حراريق بصناعة مصر برسم من تجرد إلى بلاد اليمن وجردت أمراء العسكر السائرين إلى اليمن، وكبر في بحر تنيس تعدي العربان على المراكب، وعمرت عليهم حراريق فيها، فلم يظفر بهم لإيوائهم إلى الهيش. وفي جمادى الآخرة: قطع الفرنج أكثر نخل العريش وحملوه إلى بلادهم، وسيرت مراكب بالزاد والعلوفات والأسلحة إلى اليمن، وأسند أمر الجسور إلى والي الغربية ووالي الشرقية، ليتوفرا على عمارتها، وكتب إلى الأمير فخر الدين نشر الملك بن فرحون والي البحيرة ومشارفها بذلك.
وفي رجب: استقرت عدة الأجناد ثمانية آلاف وستمائة وأربعين، وأمراء مائة أحد عشر، وطواشية ستة آلاف وتسعمائة وستة وسبعين، وقرا غلامية ألف وخمسمائة وثلاثة وخمسين. والمستقر لهم من المال ثلاثة آلاف وستمائة ألف وسبعون ألفا وخمسمائة دينار، خارج عن المحلولين وعن العربان المقطعين بالشرقية والبحيرة، والكنانيين والمضريين والفقهاء والقضاة والصوفية والدواوين، ولا يقصر ما معهم عن ألف ألف دينار. ووصل الإبرنس أرناط إلى أيلة، وسار عسكره إلى تبوك.
وفي شعبان: كثر المطر بأيلة حتى تهدمت قلعتها، وشرع في بناء سور دمياط، وذرعه أربعة آلاف وستمائة وثلاثون ذراعا، وشرع أيضا في بناء برج بها.
وفي شوال:مات منكورس الأسدي أحد الأمراء المماليك، وأخذ إقطاعه يازكج الأسدي، وقبض على سيف الدولة مبارك بن منقذ بن كامل الكناني، نائب شمس الدولة ببلاد اليمن، وأخذ منه ثمانون ألف دينار وأفرج عنه. وسار خطلبا والي مصر واليا على زبيد، وصحبته خمسمائة رجل، ومعهم الأمير باخل، وقد بلغت النفقة فيهم عشرين ألف دينار، وكتب للطواشية بنفقة عشرة دنانير لكل منهم على اليمن، إن كان من الإقطاعية، وللبطالين والمترجلة في الشهر ثلاثة وثلاثون دينارا، وسيرت الحراريق وهى خمس وقد شحنت بالرماة.
وفي سابع عشره:سار السلطان إلى الإسكندرية، فدخل خامس عشري شوال، وشرع في قراءة الموطأ يوم الخميس ثاني يوم دخوله على الفقيه أبي الطاهر بن عوف، وأنشأ بها مارستانا ودارا للمغاربة، ومدرسة على ضريح المعظم توران شاه، وشرع في عمارة الخليج، ونقل فوهته إلى مكان أخر، وسار منها أول ذي القعدة إلى دمياط، وعاد إلى القاهرة في سابعه.
وفي تاسعه: أمر بفتح المارستان الصلاحي، وأفرد برسمه من أجرة الرباع الديوانية مشاهرة مبلغها مائتا دينار، وغلات جهتها الفيوم، واستخدم له أطباء وغيرهم.
وفي جمادى الآخرة: قطع الفرنج أكثر نخل العريش وحملوه إلى بلادهم، وسيرت مراكب بالزاد والعلوفات والأسلحة إلى اليمن، وأسند أمر الجسور إلى والي الغربية ووالي الشرقية، ليتوفرا على عمارتها، وكتب إلى الأمير فخر الدين نشر الملك بن فرحون والي البحيرة ومشارفها بذلك.
وفي رجب: استقرت عدة الأجناد ثمانية آلاف وستمائة وأربعين، وأمراء مائة أحد عشر، وطواشية ستة آلاف وتسعمائة وستة وسبعين، وقرا غلامية ألف وخمسمائة وثلاثة وخمسين. والمستقر لهم من المال ثلاثة آلاف وستمائة ألف وسبعون ألفا وخمسمائة دينار، خارج عن المحلولين وعن العربان المقطعين بالشرقية والبحيرة، والكنانيين والمضريين والفقهاء والقضاة والصوفية والدواوين، ولا يقصر ما معهم عن ألف ألف دينار. ووصل الإبرنس أرناط إلى أيلة، وسار عسكره إلى تبوك.
وفي شعبان: كثر المطر بأيلة حتى تهدمت قلعتها، وشرع في بناء سور دمياط، وذرعه أربعة آلاف وستمائة وثلاثون ذراعا، وشرع أيضا في بناء برج بها.
وفي شوال:مات منكورس الأسدي أحد الأمراء المماليك، وأخذ إقطاعه يازكج الأسدي، وقبض على سيف الدولة مبارك بن منقذ بن كامل الكناني، نائب شمس الدولة ببلاد اليمن، وأخذ منه ثمانون ألف دينار وأفرج عنه. وسار خطلبا والي مصر واليا على زبيد، وصحبته خمسمائة رجل، ومعهم الأمير باخل، وقد بلغت النفقة فيهم عشرين ألف دينار، وكتب للطواشية بنفقة عشرة دنانير لكل منهم على اليمن، إن كان من الإقطاعية، وللبطالين والمترجلة في الشهر ثلاثة وثلاثون دينارا، وسيرت الحراريق وهى خمس وقد شحنت بالرماة.
وفي سابع عشره:سار السلطان إلى الإسكندرية، فدخل خامس عشري شوال، وشرع في قراءة الموطأ يوم الخميس ثاني يوم دخوله على الفقيه أبي الطاهر بن عوف، وأنشأ بها مارستانا ودارا للمغاربة، ومدرسة على ضريح المعظم توران شاه، وشرع في عمارة الخليج، ونقل فوهته إلى مكان أخر، وسار منها أول ذي القعدة إلى دمياط، وعاد إلى القاهرة في سابعه.
وفي تاسعه: أمر بفتح المارستان الصلاحي، وأفرد برسمه من أجرة الرباع الديوانية مشاهرة مبلغها مائتا دينار، وغلات جهتها الفيوم، واستخدم له أطباء وغيرهم.
وفي حادي عشره: خرج السلطان إلى بركة الجب، لتجريد العساكر والمسير إلى الشام، وخرج الملك العادل في ثالث عشره إلى المخيم، ونزل ناحية بركة الجب وسومح برسوم للولاة بمصر والقاهرة، ورسوم الفيوم ورسوم الصيد الأعلى، وأخرجت منجنيقات إلى الخيام برسم الغزاة.
وفي حادي عشره: سار سيف الإسلام طغتكين أخو السلطان صلاح الدين إلى أخميم، لجباية الجوالي والنظر في أمر الشب.
وظفر والي قوص برجلين من أهل إسنا يدعوان الى مذهب الباطنية.
وفي ثالث عشريه: عقد نكاح بنات العادل على أبناء السلطان صلاح الدين، وهم: غياث الدين غازي، ومظفر الدين خضر، ونجم الدين مسعود، وشرف الدين يعقوب، والصداق في كل كتاب عشرون ألف دينار.
وعقد السلطان الهدنة مع رسول القومص ملك الفرنج بطرابلس، ونودي بمنع أهل الذمة من ركوب الخيل والبغال، من غير استثناء طبيب ولا كاتب.
ومات الملك الصالح مجير الدين إسماعيل بن العادل نور الدين محمود بن زنكي بن آقسنقر الأتابكي صاحب حلب في يوم الجمعة خامس عشري رجب، فقام من بعده ابن عمه السلطان عز الدين مسعود بن مودود بن زنكي. وكان موت الصالح هو المحرك للسلطان صلاح الدين على السفر، وكتب لابن أخيه المظفر تقي الدين عمر صاحب حماة وغيره من النواب بالتأهب، وكاتب الخليفة الناصر يسأل ولاية حلب.

.سنة ثمان وسبعين وخمسمائة:

وأهلت سنة ثمان وسبعين، والسلطان مبرز بظاهر القاهرة، فلما خرج الناس لوداعه، وقد اجتمع عنده من العلماء والفضلاء كثير، وهم يتناشدون ما قيل في الوداع، فأخرج بعض مؤدبي أولاد السلطان رأسه من الخيمة، وقال:
تمتع من شميم عرار نجد ** فما بعد العشية من عرار

فتطير الحاضرون من ذلك، وصحت الطيرة، فإن السلطان رحل من ظاهر القاهرة.
في خامس المحرم من هذه السنة، ولم يعد بعد ذلك إلى القاهرة، فسلك في طريقه على أيلة، فأغار على بلاد الفرنج، وسار على سمت الكرك، وبعث أخاه تاج الملوك بالعسكر على الدرب، وخرج عز الدين فرخشاه من دمشق، فأغار على طبرية وعكا، وأخذ الشقيف أرنون، وعاد بألف أسير وعشرين ألف رأس غنم، وأنزل فيه طائفة من المسلمين وألفى الريح بطسة للفرنج إلى بر دمياط، فأسر منها ألف وستمائة وتسعون نفسا سوى من غرق، فدخل السلطان إلى دمشق، يوم الإثنين لثلاث عشرة بقيت من صفر، فأقام بها يسيرا، ثم أغار على طبرية، واشتد القتال مع الفرنج تحت قلعة كوكب، واستشهد جماعة من المسلمين، وعاد إلى دمشق في رابع عشر ربيع الأول، وخيم بالفوار من عمل حوران، وأقام به حتى رحل إلى حلب وخرج سيف الإسلام ظهير الدين طغتكين بن أيوب بن شادي، من القاهرة إلى اليمن، بعد مسير السلطان، ووصل إلى زبيد فملكها، وأخذ منها ما قيمته ألف ألف دينار، واحتوى على عدن أيضا.
وخرج السلطان من دمشق يريد حلب، فنزل عليها يوم الأحد ثامن عشر جمادى الأولى، ونازلها ثلاثة أيام، ثم رحل إلى الفرات، فخيم على غربي البيرة، ومد الجسر، وكاتب ملوك الأطراف، ورحل إلى الرها فتسلمها، وسار عنها إلى حران فرتبها، وانفصل عنها إلى الرقة فملكها وما حولها، ونازل نصيبين حتى ملكها وقلعتها، فورد الخبر بقصد الفرنج دمشق ونهبهم القرى، فسار ونازل الموصل في يوم الخميس حادي عشر رجب، وألح في القتال فلم ينل غرضا، ورحل يريد سنجار، فنازلها وضايقها من يوم الأربعاء سادس عشري شعبان.
ودخل رمضان: فكف عن القتال، ثم تسلمها بالأمان يوم الخميس ثانيه، وأعطاها ابن أخيه الملك المظفر تقي الدين عمر، ورحل إلى نصيبين فأقام بها لشدة البرد، وسار عنها إلى حران، ثم رحل ونزل على آمد، لثلاث عشرة بقيت من ذي الحجة.
وفيها قصد الفرنج بلاد الحجاز، وأنشأ البرنس أرناط صاحب الكرك سفنا، وحملها على البر إلى بحر القلزم، وأركب فيها الرجال، وأوقف منها مركبين على حرزة قلعة القلزم، لمنع أهلها من استقاء الماء.
وسارت البقية نحو عيذاب، فقتلوا وأسروا، وأحرقوا في بحر القلزم نحو ست عشرة مركبا وأخذوا بعيذاب مركبا ياتي بالحجاج من جدة، وأخذوا في الأسر قافلة كبيرة من الحجاج فيما بين قوص وعيذاب، وقتلوا الجميع، وأخذوا مركبين فيهما بضائع جاءت من اليمن، وأخذوا أطعمة كثيرة من الساحل كانت معدة لميرة الحرمين، وأحدثوا حوادث لم يسمع في الإسلام بمثلها، ولا وصل قبلهم رومي إلى ذلك الموضع، فإنه لم يبق بينهم وبين المدينة النبوية سوى مسيرة يوم واحد، ومضوا إلى الحجاز يريدون المدينة النبوية. فجهز الملك العادل، وهو يخلف السلطان بالقاهرة، الحاجب حسام الدين لؤلؤ إلى القلزم فعمر مراكب بمصر والإسكندرية، وسار إلى أيلة، وظفر بمراكب للفرنج، فحرقها وأسر من فيها، وسار إلى عيذاب، وتبع مراكب الفرنج، فوقع بها بعد أيام واستولى عليها، وأطلق من فيها من التجار المأسورين، ورد عليهم ما أخذ لهم، وصعد البر، موكب خيل العرب حتى أدرك من فر من الفرنج وأخذهم، فساق منهم اثنين إلى منى ونحرهما بها كما تنحر البدن، وعاد إلى القاهرة بالأسرى في ذي الحجة، فضربت أعناقهم كلهم. وعاد الأسطول من بحر الروم بعد نكاية أهل الجزائر، ومعه بطسة للفرنج كانت تريد عكا، بها أخشاب ونيف وسبعون رجلا.
ومات عز الدين فرخشاه الملقب بالملك المنصور في دمشق في أول جمادى الآخرة. ومات الشيخ الزاهد روزبهار بن أبي بكر بن محمد أبي القاسم الفارسي الصوفي، يوم الأربعاء الخامس من ذي القعدة، ودفن بقرافة مصر.
وفيها انقرضت دولة آل سبكتكين، وكان ابتداؤها سنة ست وستين وثلاثمائة، فملكوا مائتي سنة وثلاث عشرة سنة. وأولهم محمود بن سبكتكين، وآخرهم خسروشاه بن بهرام بن شاه بن مسعود بن مسعود بن إبراهيم بن محمود بن سبكتكين. وقام بعدهم الغورية وأولهم عز الدين حسن، صاحب بلاد الغور.
وفيها ورد الخبر بأن الماء الذي في زقاق سبتة قل، حتى ظهرت القنطرة التي كان يعبر الناس عليها في قديم الدهر إلى أن غلب عليها البحر وطمها، فلما قل الماء في هذه السنة عنها لم يبق عليها منه سوى قامتين، ورأى الناس آثار بنيانها، وأن مركبا انكسر عليها.

.سنة تسع وسبعين وخمسمائة:

وأهلت سنة تسع وسبعين والسلطان على آمد، فتسلمها في أوئل المحرم، فقدمت عليه رسل ملوك الأطراف يطلبون الأمان. وخرج الفرنج إلى نواحى الداروم ينهبون، فبرز إليهم عدة من المسلمين على طريق صدر وأيلة، فاظفرهم الله، وقتلوا وغنموا وعادوا سالمن.
وفيه سار الأسطول من مصر، فظفر ببطسة فيها ثلاثمائة وخمسة وسبعون علجا، قدموا بهم في خامس المحرم إلى القاهرة، وتوجه سعد الدين كمشبه الأسدي وعلم الدين قيصر إلى الداروم، فأوقعوا بالفرنج على ماء، وقتلوهم جميعا، وقدموا بالرءوس إلى القاهرة في رابع عشريه. ورحل السلطان عن آمد، وعبر الفرات يريد حلب، فملك عين تاب وغيرها، ونزل على حلب بكرة يوم السبت سادس عشري المحرم وقد خرب السلطان عماد الدين زنكي بن مودود بن زنكي قلعته في جمادى من سنة ثمان وسبعين وخمسمائة. وتسلمها صلاح الدين بصلح، يوم السبت ثامن عشر صفر، على أن تكون لعماد الدين منجار.
ومات تاج الملوك بوري بن أيوب بن شادي في يوم الخميس ثالث عشريه بحلب. وسار عماد الدين إلى سنجار، فولى السلطان قضاء حلب محيي الدين محمد بن الزكي علي القرشي قاضي دمشق، فاستناب بها زين الدين ندا بن الفضل بن سليمان البانياسي، وولي يازكج قلعتها، وجعل ابنه الملك الظاهر غياث الدين غازي ملكا بها، ورحل عنها لثمان بقين من ربيع الآخر فدخل دمشق ثالث جمادى الأولى، وأقام بها إلى سابع عشريه، وبرز وسار إلى بيسان، فعبر نهر الأردن في تاسع جمادى الآخرة، وأغار على بيسان فأحرقها ونهبها وفعل ذلك بعدة قلاع، وأوقع بكثير من الفرنج واجتمع بعين جالوت من الفرنج خلق كثير، ثم رحلوا، وأسر السلطان منهم كثيرا، وخرب من الحصون حصن بيسان وحصن عفر بلا وزرعين، ومن الأبراج والقرى عشرة، وعاد إلى دمشق لست بقين من جمادى الآخرة، ثم خرج في يوم السبت ثالث رجب يريد الكرك، فنازله مدة ولم ينل منه عرضا، فسار إلى دمشق، وقد وصل إليه أخوه الملك العادل من مصر في رابع شعبان. فاجتمع السلطان بأخيه الملك العادل على الكرك، وقد خرج إليه بعسكر مصر.
وفي يوم الخميس خامس عشره: رحل الملك المظفر تقي الدين من الكرك إلى مصر عوضا عن العادل، وارتجع عن العادل إقطاعه بمصر، وهو سبعمائة ألف دينار في كل سنة، فجهز إليها الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب ومعه القاضي الفاضل، وأنعم على تقي الدين بالفيوم وأعمالها مع القايات وبوش وأبقى عليه مدينة حماة وجميع أعمالها.
ووصل السلطان إلى دمشق لثمان بقين من رمضان، وبعث بالملك العادل إلى حلب في ثاني رمضان. فقدم الظاهر على أبيه بدمشق ومعه يازكج، وقدم شيخ الشيوخ صدر الدين وشهاب الدين بشير من عند الخليفة الناصر، ليصلحا بين السلطان وبين عز الدين صاحب الموصل، ومعهما القاضي محيي الدين أبو حامد بن كمال الدين الشهرزورى، وبهاء الدين بن شداد، فأقاموا مدة ورحلوا بغير طائل، في سابع ذي الحجة.
وفيها ظهر بقرية بوصير بيت هرمس، فخرج منه أشياء، منها كباش وقرود وضفادع بازهر ودهنج وأصنام من نحاس.
وفيها قتل شرف الدين برغش على الكرك في ثاني عشري رجب، فحمل إلى زرع ودفن في تربته.
وفي سنة تسع وسبعين هذه وقعت بالوجه البحري قطع برد كبيض الأوز أخربت ما صادفته من العامر، ودمرت الزروع، وأهلكت كثيرا من الماشية والناس.