فصل: سنة سبعمائة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: السلوك لمعرفة دول الملوك (نسخة منقحة)



.سنة سبعمائة:

أهلت هذه السنة وقد ورد الخبر بحركة غازان إلى بلاد الشام، فوقع الاهتمام بالسفر. واستدعى السلطان الوزير شمس الدين سنقر الأعسر والأمير ناصر الدين محمد ابن الشيخي والى القاهرة وأمرا باستخراج الأموال من الناس، وكتب إلى الشام بذلك. فشرعا في الاستخراج، وألزم أرباب العقارات، والأغنياء. بمال تقرر على كل منهم، وجلسا بدار العدل تحت القلعة حيث الطبلخاناه الآن، والناس تحمل المال أولاً بأول، حتى أخذا مائة ألف دينار جبيت من القاهرة ومصر والوجهين القبلي والبحري، فنزل بالناس ضرر عظيم. وطلب من شهود القاهرة ومصر الجالسين بالحوانيت مبلغ أربعين دينارًا من كل عائد، وعشرين ديناراً من كل شاهد، فقام في أمرهم قاضي القضاة زين الدين على بن مخلوف المالكي حتى أعفوا منه. وانطلقت الألسن بالشام ومصر في حق أهل الدولة، واستخف العامة بالأجناد، وأكثروا من قولهم للجند: بالأمس كنتم هاربين واليوم تريدون أخذ أموالنا، فإن أجابهم الجندي قالوا له: لم لا كانت هذه الحرمة في المغل الذين فعلوا بكم كيت وكيت، وهربتم منهم فلما فحش أمر العامة في تجرئهم على الأجناد، نودي في القاهرة ومصر: أي عامي تكلم مع جندي كانت روحه وماله للسلطان.
واستخرج من دمشق أجرة الأملاك والأوقاف لأربعة أشهر، فأخذ ذلك من سائر ما في المدينة وضواحيها، وأخذ من الضياع عن كل مدى ستة دراهم وثلثا درهم، والمد أربعون ذراعاً في مثلها، وتكسيره ألف وستمائة ذراع بذراع العمل، وطلب من الفلاحين نظير مغل سنة ثمان وتسعين، وأخذ من الأغنياء ثلث أموالهم.
فنزلت بالناس شدائد، وقطعوا الأشجار المثمرة وباعوها حطبًا، حتى أبيع القنطار الحطب الدمشقي بثلاثة دراهم، يخرج منها في أجرة قطعه درهم ونصف. فخربت الغوطة من ذلك، وفر كثير من الناس إلى مصر.
فلما جبيت الأموال بدمشق استخدم السلطان عدة ثمانمائة من التركمان والأكراد، ودفع لكل واحد ستمائة درهم، فهرب أكثرهم لما علموا بوصول التتار الفرات، وذهب المال ولم يجد نفعاً.
واستخدم السلطان بمصر عدة كبيرة من أهل الصنائع ونحوهم. ونزل الأمراء في الخيم. بميدان القبق لعرض العسكر بخيولهم ورماحهم حتى تعتبر أحوالهم، وعرضوا في كل يوم عشرة مقدمين من الحلقة. بمضافيهم فقطعوا يسيرا منهم، ثم أبقوا الجميع لما داجى عليهم المقدمون في أمر الجند حتى اقروا من هو دخيل فيهم. وأنهوا العرض في عشرين يوماً، ورميت الإقامات. وهذا وقد امتلأت أرض مصر بالجفلى من البلاد الشامية، ورخصت الأسعار عند قدومهم حتى أبيع القمح بعد عشرين درهماً الإردب بخمسة عشر.
وخرج السلطان من القلعة يوم السبت ثالث عشر صفر إلى الريدانية خارج القاهرة، وتلاحقت به الأمراء والعساكر، فسار إلى غزة وأقام بها يومين.
فورد الخبر. بمسير غازان بعد عبوره من الفرات إلى نحو أنطاكية، وقد جفل الناس بين يديه. وخلت بلاد حلب وفر قرا سنقر نائبها إلى حماة، وبرز كتبغا نائب حماة ظاهرها في ثاني عشرى ربيع الأول، ووصل إليهم عساكر مصر والشام فأقاموا خارج حماة. وأمر السلطان الجيوش بالمسير من غزة، فوقع الرحيل إلى العوجاء. وأصاب العسكر فيها شدائد من الأمطار التي توالت أحداً وأربعين يوماً حتى عدم فيها الواصل واشتد الغلاء. وأضعف البرد الدواب والغلمان، وبلغ الحمل التبن إلى أربعين درهما والعليقة الشعير ثلاثة دراهم، والخبز كل ثلاثة أرغفة بدرهم، واللحم كل رطل بثلاثة دراهم. وعقب المطر سيل عظيم أتلف معظم الأثقال، ومات جماعة من الغلمان وأربعة من الجند لشدة البرد. ثم وقع الرحيل في الأوحال العظيمة.
فقدم البريد من حلب بأن غازان توجه من جبال أنطاكية إلى جبال السماق وأنه عاد على قرون حماة وشيزر، فنهب وسبى عظيماً، وأخذ مالاً كبيراً من المواشي وغيرها، وأنه قصد التوجه إلى دمشق، فأرسل الله عليه ثلوجاً وأمطاراً لم يعهد مثلها، ووقع في خيول عساكره وجمالهم الموتان حتى كانت عدة جشار غازان اثنى عشر ألف فرس فلم يبق منها إلا نحو الألفي فرس، وبقي معظم عساكره بغير خيول، فرجع وأكثرهم مرتدفون بعضهم بعضا، وأن غازان خاض الفرات في حادي عشر جمادى الأولى، فسر الناس سروراً عظيماً.
وسار الأمير سيف الدين بكتمر السلاح دار بمضافيه، والأمير بهاء الدين يعقوبا بمضافيه، إلى حلب في ألفي فارس، لتكون السمعة وتطمئن أهل البلاد، وعاد السلطان ببقية العساكر إلى مصر سلخ ربيع الآخر. واستقر الأمير سيف الذين بدخاص في نيابة صفد، عوضاً عن كراي لاستعفائه منها، وأنعم على كراي بإقطاع الأمير بلبان الطباخي بعد موته، واستقر بلبان الجوكندار حاجب دمشق شاد الدواوين بها. فقدم العسكر إلى دمشق في سابع جمادى الأولى، وقدم السلطان قلعة الجبل في يوم الإثنين حادي عشر.
وكان الناس لما بلغهم بدمشق عود السلطان إلى مصر اشتد خوفهم، وخرج معظمهم يريدون القاهرة، ونودي بدمشق في تاسع جمادى الأولى: من أقام بدمشق بعد هدا النداء فدمه في عنقه، ومن عجز عن السفر فليتحصن بقلعه دمشق، فخرج بقية الناس على وجوههم. وغلت الأسعار بدمشق حتى أبيعت الغرارة القمح بثلاثمائة درهم، والرطل اللحم بتسعة دراهم، فلما خرج الجفل نزلت الغرارة إلى مائتي درهم.
وفي جمادى الآخرة: كثر الإرجاف بعود التتر، وقد خلت البلاد الشامية من أهلها ونزحوا إلى مصر.
وفي رجب: كانت وقعة أهل الذمة: وهى أنهم كانوا قد تزايد ترفهم بالقاهرة ومصر، وتفننوا في ركوب الخيل المسومة والبغلات الرائعة بالحلي الفاخرة، ولبسوا الثياب السرية، وولوا الأعمال الجليلة. فاتفق قدوم وزير ملك المغرب يريد الحج، واجتمع بالسلطان والأمراء، وبينما هو تحت القلعة إذا برجل راكب فرساً وحوله عدة من الناس مشاة في ركابه، يتضرعون له ويسألونه ويقبلون رجليه، وهو معرض عنهم لا يعبأ بهم بل ينهرهم ويصيح في غلمانه بطردهم. فقيل للمغربي أن هذا الراكب نصراني فشق عليه، واجتمع بالأميرين بيبرس وسلار وحدثهما بما رآه، وأنكر ذلك وبكى بكاء كثيراً، وشنع في أمر النصارى وقال: كيف ترجون النصر والنصارى تركب عندكم الخيول وتلبس العمائم البيض، وتذل المسلمين وتشبههم في خدمتكم وأطال القول في الإنكار وما يلزم ولاة الأمور من إهانة أهل الذمة وتغيير زيهم. فأثر كلامه في نفوس الأمراء، فرسم أن يعقد مجلس بحضور الحكام، واستدعيت القضاة والفقهاء، وطلب بطرك النصارى، وبرز مرسوم السلطان بحمل أهل الذمة على ما يقتضيه الشرع المحمدي. فاجتمع القضاة بالمدرسة الصالحية بين القصرين، وندب لذلك من بينهم قاضي القضاة شمس الدين أحمد السروجي الحنفي، وطلب بطرك النصارى، وجماعة من أساقفتهم وأكابر قسيسيهم وأعيان ملتهم، وديان اليهود وأكابر ملتهم، وسئلوا عما أقروا عليه في خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه من عقد الذمة، فلم يأتوا عن ذلك بجواب. وطال الكلام معهم إلى أن استقر الحال على أن النصارى تتميز بلباس العمائم الزرق، واليهود بلبس العمائم الصفر، ومنعوا من ركوب الخيل والبغال، ومن كل ما منعهم منه الشارع صلى اله عليه وسلم، وألزموا بما شرطه عليهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه. فالتزموا ذلك وأشهد عليه البطرك أنه حرم على جميع النصرانية مخالفة ذلك والعدول عنه، وقال رئيس اليهود ودانهم: أوقعت الكلمة على سائر اليهود في مخالفة ذلك والخروج عنه وانفض المجلس، وطولع السلطان والأمراء. مما وقع، فكتب إلى أعمال مصر والشام به.
ولما كان يوم خميس العهد وهو العشرون من شهر رجب: جمع النصارى واليهود بالقاهرة ومصر وظواهرها، ورسم ألا يستخدم أحد منهم بديوان السلطان ولا بدواوين الأمراء، وألا يركبوا خيلاً وبغالاً، وأن يلتزموا سائر ما شرط عليهم. ونودي بذلك في القاهرة ومصر، وهدد من خالفه بسفك دمه. فانحصر النصارى من دلك، وسعوا بالأموال في إبطال ما تقرر، فقام الأمير بيبرس الجاشنكير في إمضاء ما ذكر قياماً محموداً، وصمم تصميماً زائداً. فاضطر الحال بالنصارى إلى الإذعان، وأسلم أمين الملك عبد الله بن العنام مستوفي الصحبة وخلق كثير، حرصاً منهم على بقاء رياستهم، وأنفة من لبس العمائم الزرق وركوب الحمير. وخرج البريد بحمل النصارى اليهود فيما بين دمقلة من النوبة والفرات على ما تقدم ذكره.
وامتدت أيدي العامة إلى كنائس اليهود والنصارى، فهدموها بفتوى الشيخ الفقيه نجم الدين أحمد بن محمد بن الرفعة. فطلب الأمراء القضاة والفقهاء للنظر في أمر الكنائس، فصرح ابن الرفعة بوجوب هدمها، وامتنع من ذلك قاضي القضاة تقي الدين محمد بن دقيق العيد، واحتج بأنه إذا قامت البينة بأنها أحدثت في الإسلام تهدم، وإلا فلا يتعرض لها، ووافقه البقية على هذا وانفضوا.
وكان أهل الإسكندرية لما ورد عليهم مرسوم السلطان في أمر الذمة ثاروا بالنصارى وهدموا لهم كنيستين، وهدموا دور اليهود والنصارى التي تعلو على دور جيرانهم المسلمين، وحطوا مساطب حوانيتهم حتى صارت أسفل من حوانيت المسلمين. وهدم بالفيوم أيضاً كنيستان.
وقدم البريد في أمر الذمة إلى دمشق يوم الإثنين سابع شعبان، فاجتمع القضاة والأعيان عند الأمير أقش الأفرم وقرئ عليهم مرسوم السلطان بذلك، فنودي في خامس عشريه أن يلبس النصارى العمائم الزرق واليهود العمائم الصفر والسامرة العمائم الحمر، وهددوا على المخالفة. فالتزم النصارى واليهود بسائر مملكة مصر والشام ما أمروا به، وصبغوا عمائمهم إلا أهل الكرك، فإن الأمير جمال الدين أقش الأفرم الأشرفي النائب بها رأى إبقاءهم على حالتهم، واعتذر بأن أكثر أهل الكرك نصارى، فلم يغير أهل الكرك والشوبك من النصارى العمائم البيض.
وبقيت الكنائس بأرض مصر مدة سنة مغلقة حتى قدمت رسل الأشكري ملك الفرنج تشفع في فتحها، ففتحت كنيسة المعلقة بمدينة مصر، وكنيسة ميكائيل الملكية ثم قدمت رسل ملوك آخر، ففتحت كنيسة حارة وزويلة، وكنيسة نقولا.
وفيها فنيت أبقار أرض مصر: وذلك إنه وقع فيها وباء من أخريات السنة الماضية، وتزايد الأمر حتى تعطلت الدواليب ووقفت أحوال السواقي، وتضرر الناس من ذلك. وكان لرجل من أهل أشمون طناح ألف وأحد وعشرون رأساً من البقر، مات منها ألف وثلاثة أرؤس وبقي له ثمانية عشر رأساً لا غير. واضطر الناس لتعويض البقر بالجمال والحمير، وبلغ الثور ألف درهم.
وفيها استقر الأمير أسندمر كرجي في نيابة طرابلس، لاستعفاء الأميرة قطلوبك المنصوري.
وفيها اختلف عربان البحيرة، واقتتلت طائفتا جابر وبرديس حتى فني بينهما بشر كثير، واستظهرت برديس.
فخرج الأمير بيبرس الدوادار في عشرين أميراً من الطبلخاناه إلى تروجة، فانهزم العرب منهم، فتبعوهم إلى الليونة وأخذوا جمالهم وأغنامهم، واستدعوا أكابرهم ووفقوا بينهم وعادوا.
وفيها خرج الوزير شمس الدين سنقر الأعسر في عدة مائة من المماليك السلطانية إلى الوجه القبلي لحسم العربان، وقد كان كثر عيثهم وفسادهم، ومنع كثير منهم الخراج لما كان من الاشتغال بحركات غازان. فأوقع الوزير شمس الدين بكثير من بلاد الصعيد الكبسات، وقتل جماعات من المفسدين، وأخذ سائر الخيول التي ببلاد الصعيد، فلم يدع بها فرساً لفلاح ولا بدوي ولا قاض ولا فقيه ولا كاتب، وتتبع السلاح الذي مع الفلاحين والعربان فأخذه عن آخره، وأخذ الجمال. وعاد من قوص إلى القاهرة، ومعه ألف وستون فرساً، وثمانمائة وسبعون جملاً، وألف وستمائة رمح، وألف ومائتا سيف، وسبعمائة درقة، وستة آلاف رأس من الغنم، فسكن ما كان بالبلاد من الشر، وذلت الفلاحون، وأعطوا الخراج.
واتفق أن بعض النصارى فتح كنيسة، فاجتمع العامة ووقفوا إلى الأمير سلار النائب، وشكوا النصارى أنهم فتحوا كنيسة بغير إذن، وأن فيهم من امتنع من لبس العمامة الزرقاء واحتمى بالأمراء. فنودي بالقاهرة ومصر أن من امتنع من النصارى من لبس العمامة الزرقاء نهب وحل ماله وحريمه، وألا يستخدم نصراني عند أمير ولا في شيء من الأشغال السلطانية ولا فيما فيه نفع. فامتدت أيدي العامة إلى اليهود والنصارى، وكادوا يقتلونهم من كثرة الصفع في رقابهم بالأكف والنعال، فامتنع الكثير منهم من المضي في الأسواق خوفاًُعلى نفسه.
وقدمت رسل غازان إلى الفرات، فورد البريد بذلك، فخرج إليهم الأمير سيف الدين كراي على البريد لإحضارهم، فقدموا دمشق يوم الثلائاء ثالث عشرى ذي القعدة، وهم نحو العشرين رجلاً، فأنزلوا بقلعتها. وحمل ثلاثة منهم إلى مصر في ثامن عشريه، وهم كمال الدين موسى بن يونس قاضي الموصل وناصر الدين على خواجا ورفيقه، فوصلوا إلى القاهرة ليلة الإثنين خامس ذي الحجة، وأكرموا غاية الإكرام.
فلما كان وقت العصر من يوم الثلاثاء سادس عشره: واجتمع الأمراء والعسكر بقلعة الجبل، وألبست المماليك السلطانية الكلفيات الزركش والطرز الزركش على أفخر الملابس، وجلس السلطان بعد العشاء الآخرة وبين يديه ألف شمعة تعد، وقد وقفت المماليك من باب القلعة من باب الإيوان صفين. وأحضرت الرسل فسلموا وقام قاضي الموصل وعلى رأسه طرحة، فخطب خطبة بليغة وجيزة في معنى الصلح، ودعا للسلطان ولغازان وللأمراء وأخرج كتاباً من غازان مختوماً فلم يفتح.
وأخرج بالرسل إلى مكانهم إلى ليلة الخميس، ففتح الكتاب الذي من عند غازا، وهو في قطع نصف البغدادي، فإذا هو بالخط المغلي، فعرب وقرئ من الغد بحضرة أهل الدولة فإذا هو يتضمن أن عساكر مصر دخلت في العام الماضي أطراف بلاده وأفسدت، فأنف من ذلك وقدم إلى الشام وهزم العساكر، ثم عاد فلم يخرج إليه أحد، فرجع إبقاء على البلاد لئلا تخرب، وأنه مستعد للحرب، ودعا إلى الصلح، فكتب جوابه، وجهز الأمير شمس الدين محمد بن التيتي وعماد الدين على بن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن عبد العلي بن السكري خطب جامع الحاكم والأمير حسام الدين أزدمر المجيري، للسفر بالجواب مع الرسل الواصلين من عند غازان.
وكان هذا عام: سائر أقطار الأرض مشتغلة بالحرب، فكان الملك المسعود علاء الدين سنجر- عتيق شمس الدين أيتمش، عتيق السلطان غياث الدين- وهو ملك دله بالهند، قد حارب قوماً في السنة الماضية، فأتوا في هذه السنة إلى دله ونهبوا وأسروا، وخرج عليه طائفة التتر فحاربهم حروباً عظيمة وهزمهم. وقام بأرض الحبشة في السنة الماضية رجل يقال له أبو عبد الله محمد يدعو إلى الإسلام، فاجتمع عليه نحو المائتي ألف رجل. وحارب الأمحري في هذه السنة حروباً كثيرة. وكان ببلاد اليمن بين ملكها الملك المؤيد هزبر الدين وبين الزيدية عدة حروب.
وفيها ثقلت وطأة الأمير الوزير سنقر الأعسر على الأمراء، لشد تعاظمه وكثر شمعه وتزايد كبره ووفور حرمته وقوة مهابته، ولما كان من ضربه للتاج بن سعيد الدولة مستوفي الدولة بالمقارع حتى أسلم، وتغريمه مالا كبيراً، وكان من ألزام الأمير الجاشنكير وفيه حمق ورقاعة زائدة. فلما فعل به الوزير ما فعل نحلى عن المباشرة وانقطع بزاوية الشيخ نصر المنبجي خارج باب النصر، حتى تحدث الشيخ نصر مع الأمير بيبرس في إعفائه من المباشر فأجابه، وكان له فيه اعتقاد ولكلامه عنده قبول.
فأحب الأمراء إخراج الوزير من الوزارة، وكانت في الناس بقايا من حشمة، فأحبوا مراعاته والتجمل معه، وعينوه لكشف القلاع الشامية وإصلاح أمرها وترتيب سائر أحوالها وتفقد حواصلها، كانت حينئذ عامرة بالرجال والأموال والسلاح، فسار ذلك.
وفيها تزوج السلطان بخوند أردكين بنت نوكاي امرأة أخيه الملك الأشرف، وعمل له مهم عظيم أنعم فيه على سائر أهل الدولة بالخلع وغيرها.
وبلغ النيل في هذه السنة سبعة عشر ذراعاً وخمسة عشر أصبعاً، وكانت سنة مقبلة رخية الأسعار.
وحج فيها الأمير بكتمر الجوكندار، وأنفق في حجته خمسة وثمانين ألف دينار، وصنع معروفا كثيراً: من جملته أنه جهز سبعة مراكب في بحر القلزم قد شحنها بالغلال والدقيق وأنواع الإدام من العسل والسكر والزيت والحلوى ونحو ذلك، فوجد بالينبع أنه قد وصل منها ثلاثة مراكب، فعمل ما فيها أكواماً ونادى في الحج من كان محتاجاً إلى مئونة أو حلوى فليحضر، فأتاه المحتاجون فلم يرد منهم أحداً، وفرق ما بقي على الناس ممن لم يحضر لغناه، وأعطى أهل الينبع، ووصلت بقية المراكب إلى جدة، ففعل بمكة كذلك، وفرق على سائر أهلها والفقراء بها وعلى حاج الشام.
وفي هده السنة أيضاً كانت ملوك الأقطار كلها شباب لم يبلغوا الثلاثين سنة.

.ومات في هذه السنة ممن له ذكر:

الأمير عز الدين أيدمر الظاهري، وهو أحد من ولى نيابة دمشق في الأيام الظاهرية، وقد استقر بها أميراً حتى مات في يوم الأربعاء ثاني ربيع الأول.
ومات الأمير عز الدين أيبك كرجي الظاهري، أحد أمراء الألوف بدمشق، في عاشر ذي القعدة.
ومات الأمير سيف الدين بلبان الطباخي، نائب حلب في غرة صفر بغزة، وهر عائد من التجريدة.
ومات الأمير جمال الدين أقوش الشريفي نائب قلعة الصلت وبر الكرك والشوبك، وكان مهيباً.
ومات الأمير عز الدين محمد بن أبي الهيجاء الهمذاني الأربلي، متولي نظر دمشق، بطريق مصر وهو عائد منها، عن ثمانين سنة، وكان عالماً بالأدب والتاريخ مشكور السيرة.
ومات الشيخ شمس الدين محمود بن أبي بكر أبي العلاء الكلاباذي البخاري الفرضي الحنفي، في أول ربيع الأول بدمشق، وقد قدم القاهرة، وكان فاضلاً.
ومات تاج الدين محمد بن أحمد بن هبة الله بن قلس الأرمنتي، إمام المدرسة الظاهرية بين القصرين، وله شعر منه:
احفظ لسانك لا أقول فإن أقل ** فنصيحة تخفى على الجلاس

وأعيذ نفسي من هجائك فالذي ** يهجي يكون معظماً في الناس

وقال:
قد قلت إذ لج في معاتبتي ** وظن أن الملال من قبلي

خدك ذا الأشعري حنفني ** وكان من أحمد المذاهب لي

حسنك مازال شافعي ** أبداً يا مالكي كيف صرت معتزلي

وكان مقربا فاضلاً.

.سنة إحدى في سبعمائة:

في المحرم: عادت رسل غازان مع الرسل السلطان بجوابه.
وفي عاشره: استقر في الوزارة الأمير عز الدين أيبك البغدادي المنصوري، عوضاً عن سنقر الأعسر وهو غائب بالشام. واستقر الأمير بيبرس التاجي أحد الأمراء البرجية في ولاية القاهرة، عوضاً عن ناصر الدين محمد بن الشيخي، ونقل ابن الشيخي إلى ولاية الجيزة في عشريه.
وفيه توجه السلطان إلى الصيد في هذا اليوم.
وفيه توجه الأمير أسندمر كرجي إلى نيابة طرابلس، عوضاً عن الأمير قطلوبك بحكم استعفائه، فقدم دمشق في حادي عشر المحرم.
وفي شهر المحرم: أيضاً استقر الأمير سيف الدين بلبان الجوكندار شاد الدواوين بدمشق، عوضاً عن الأمير سيف الدين أقجبا، ونقل أقجبا إلى نيابة السلطنة بدمشق، عوضاً عن الأمير ركن الدين بيبرس الموفقي. وظهر بالقاهرة رجل ادعى أنه المهدي، فعزر ثم خلى عنه.
وفيها مات الخليفة الإمام الحاكم بأمر الله أبو العباس أحمد في ثامن عشر جمادى الأولى،. بمناظر الكبش، فغسله الشيخ كريم الدين عبد الكريم الأبلي شيخ الشيوخ بخانقاه سعيد السعداء، وحضر الأمراء والناس جنازته، وصلى عليه بجامع ابن طولون، ودفن بجوار المشهد النفيسي. وكانت خلافته. بمصر أربعين سنة. وترك من الأولاد أبا الربيع سليمان ولي عهده، وإبراهيم بن أبي عبد الله محمد المستمسك بن الحاكم أحمد. فأقيم بعده أبو الربيع وعمره عشرون سنة، ولقب المستكفي بالله، وكتب تقليده وقرئ بحضرة السلطان في يوم الأحد عشرى جمادى الأولى، وكان يوماً مشهوداً. وخطب له على عادة أبيه، واستمر يركب مع السلطان في اللعب بالكرة ويخرج معه للصيد، وصارا كأخوين، وكان الحاكم قد عهد بالخلافة إلى ابنه الأمير أبي عبد الله محمد ولقبه المستمسك بالله، وجعل أبا الربيع من بعده. فمات المستمسك، واشتد حزن أبيه الحاكم عليه، فعهد لابنه إبراهيم بن محمد المستمسك من بعده. فلما مات الحاكم لم يقدم بعده إلا أبا الربيع، وترك إبراهيم.
وفيها كثر فساد العربان بالوجه القبلي، وتعدى شرهم في قطع الطريق إلى أن فرضوا على التجار وأرباب المعايش بأسيوط ومنفلوط فرائض جبوها شبه الجمالية. واستخفوا بالولاة ومنعوا الخراج، وتسموا بأسماء الأمراء، وجعلوا لهم كبيرين أحدهما سموه بيبرس والآخر سلار، ولبسوا الأسلحة وأخرجوا أهل السجون بأيديهم. فاستدعى الأمراء القضاة والفقهاء، واستفتوهم في قتالهم، فأفتوهم بجواز ذلك. فاتفق الأمراء على الخروج لقتالهم وأخذ الطرق عليهم، لئلا يمتنعوا بالجبال والمفاوز فيفوت الغرض فيهم، فاستدعوا الأمير ناصر محمد بن الشيخي متولي الجيزية- وغيره من ولاة العمل، وتقدموا إليه بمنع الناس بأسرهم من السفر إلى الصعيد في البر والبحر، ومن ظهر أنه سافر كانت أرواح الولاة قبالة ذلك، فاشتد حرصهم.
وأشاع الأمراء إنهم يريدون السفر إلى الشام، وكتبت أوراق الأمراء المسافرين، وهم عشرون مقدماً بمضافيهم، وعينوا أربعة أقسام: قسم يتوجه في البر الغربي من النيل، وقسم في البر الشرقي، وقسم يركب النيل، وقسم يمضى في الطريق السالكة. وتوجه الأمير شمس الدين سنقر الأعسر- وقد قدم من الشام بعد عزله من الوزارة، واستقراره في جملة الأمراء المقدمين- إلى جهة ألواح في خمسة أمراء، وقرر أن يتأخر مع السلطان أربعة أمراء من المقدمين، وتقدم إلى كل من تعين لجهة أن يضع السيف في الكبير والصغير والجليل والحقير، ولا يبقوا شيخاً ولا صبياً، ويحتاطوا على سائر الأموال.
وسار الأمير سلار في رابع جمادى الآخرة ومعه جماعة من الأمراء في البر الغربي، وسار الأمير بيبرس بمن معه في الحاجر في البر الغربي على طريق الواحات، وسار الأمير بكتاش أمير سلاح بمن معه إلى الفيوم وسار الأمير بكتمر الجوكندار بمن معه في البر الشرقي، وسار قتال السبع وبيبرس الدوادار وبلبان الغلشي وعرب الشرقية إلى السويس والطور، وسار الأمير قبجق ومن معه إلى عقبة السيل، وسار طقصبا وإلى قوص بعرب الطاعة وأخذ عليهم المفازات.
وضرب الأمراء على الوجه القبلي حلقة كحلقة الصيد، وفد عميت أخبارهم على أهل الصعيد، فطرقوا البلاد على حين غفلة من أهلها، ووضعوا السيف في الجيزية بالبر الغربي والإطفيحية من الشرق، فلم يتركوا أحداً حتى قتلوه، ووسطوا نحو عشرة آلاف رجل، وما منهم إلا من أخذوا ماله وسبوا حريمه، فإذا ادعى أحد إنه حضري قيل له قل: دقيق، فإن قال بقاف العرب قتل.
ووقع الرعب في قلوب العربان حتى طبق عليهم الأمراء، وأخذوهم من كل جهة فروا إليها، وأخرجوهم من مخابئهم حتى قتلوا من بجانبي النيل إلى قوص، وجافت الأرض بالقتلى. واختفى كثير منهم بمغائر الجبال، فأوقدت عليهم النيران حتى هلكوا عن آخرهم، وأسر منهم نحو ألف وستمائة لهم فلاحات وزروع، وحصل من أموالهم؟؟؟ شيء عظيم جداً تفرقته الأيدي. وأحضر منه للديوان ستة عشر ألف رأس من الغنم، من جملة ثمانين ألف رأس ما بين ضأن وماعز، ونحو أربعة آلاف فرس واثنين وثلاثين ألف جمل، وثمانية آلاف رأس من البقر، غير ما أرصد في المعاصر، ومن السلاح نحو مائتين وستين حملا ما بين سيوف ورماح، ومن الأموال على بغال محملة مائتين وثمانين بغلاً. وصار لكثرة ما حصل للأجناد والغلمان والفقراء الذين اتبعوا العسكر يباع الكبش السمين من ثلاثة دراهم إلى درهمين، والمعز بدرهم الرأس، والجزة الصوف بنصف درهم، والكساء بخمسة دراهم، والرطل السمن بربع درهم، ولم يوجد من يشتري الغلال من كثرتها، فإن البلاد طرقت وأهلها آمنون، وقد كسروا الخراج.
ثم عاد العسكر في سادس عشر رجب، وقد خلت البلاد بحيث كان الرجل يمشي فلا يجد في طريقه أحداً، وينزل بالقرية فلا يرى ألا النساء والصبيان والصغار، فأفرجوا عن المأسورين وأعادوهم لحفظ البلاد. وكان الزرع في هذه السنة بالوجه القبلي عظيماً إلى الغاية، تحصل منه ما لم يقدر قدره كثرة.
وفيها قدم البريد بحضور علاء الدين بن شرف الدين محمد بن القلانسي إلى دمشق، وصحبته شرف الدين، بن الأثير، في تاسع عشرى جمادى الأولى من بلاد التتر، وكانا قد أخذا لما دخل التتر إلى بلاد الشام، ففرا ولقيا مشقة زائدة في طريقهما.
وفيها ورد البريد من حلب بأن تكفور متملك سيس منع الحمل وخرج عن الطاعة وانتمى لغازان، فرسم بخروج العسكر لمحاربته، وخرج الأمير بدر الدين بكتاش الفخري أمير سلاح والأمير عز الدين أيبك الخازندار بمضافيهما من الأمراء والمفاردة في رمضان وساروا إلى حماة، فتوجه معهم العادل كتبغا في خامس عشرى شوال، وقدموا حلب في أول ذي القعدة ورحلوا منها في ثالثه، ودخلوا دربند بغراس في سابعه. وانتشروا في بلاد سيس، فحرقوا المزروع انتهبوا ما قدروا عليه، وحاصروا مدينة سيس وغنموا من سفح قلعتها شيثاً كثيراً من جفال الأرمن، وعادوا من الدربند إلى مرج أنطاكية. فقدموا حلب في تاسع عشره، ونزلوا حماة في سابع عشريه، وقد ابتدأ بالعادل كتبغا مرض.
وفيها قدم البريد من طرابلس بأن الفرنج أنشئوا جزيرة تجاه طرابلس تعرف بجريرة أرواد، وعمروها بالعدد والآلات وكثر فيها جمعهم، وصاروا يركبون البحر ويأخذون المراكب، فرسم للوزير بعمارة أربعة شواني حربية، فشرع في ذلك.
وفيها ضرب عنق فتح الدين أحمد البققي الحمري على الزندقة، في يوم الإثنين رابع عشر ربيع الأول، وكانت البينة قد قامت عليه قبل ذلك. مما يوجب قتله، من النقض بالقرآن وبالرسول، وتحليل المحرمات والاستهانة بالعلماء والقدح فيهم، وغير ذلك.
وفيها أخرج الأمير بكتمر الحسامي من الأمير أخورية من حنق الأمراء عليه، فإنه أكثر الكلام مع السلطان، وكان غرضهم أن السلطان لا يتعرف به أحد. فأقام الأمير بكتمر معطلاً مدة حمى وفاة مغلطاى التقوي، أحد أمراء دمشق بها، فأخرج على إقطاعه واستقر عوضه أمير أخور علم الدين سنجر الصالحي.
وفيها قدم البريد من حماة بوقوع مطر فيما بينها وبين حصن الأكراد، عقبه قطع برد كبار في صورة الآدميين من ذكر وأنثى، وفيه شبه صورة القرود، وعمل بذلك مشروح. وكثر بدمشق الجراد، وأكل أوراق الأشجار وفواكهها.
وفيها أضيف إلى بدر الدين محمد بن جماعة قاضي القضاة بدمشق مشيخة الشيوخ بها، بعد موت الفخر يرسف بن حمويه.
وفيها حج الأمير بيبرس الجاشنكير ومعه ثلاثون أميراً ساروا ركباً بمفردهم، ومن ورائهم بقية الحاج في ركبين، وأمير الحاج الأمير بيبرس المنصوري الدوادار. وخرج بيبرس الجاشنكير من القاهرة أول ذي القعدة، فحضر إليه بمكة الشريفان عطفة وأبو الغيث من أولاد أبي نمى، وشكيا من أخيهما أسد الدين رميثة وأخيه عز الدين حميضة إنهما وثبا بعد وفاة أبيهم عليهما، واعتقلاهما ففرا من الاعتقال. فقبض على رميثة وخميضة، وحملا إلى القاهرة، واستقر عوضهما في إمارة مكة عطفة وأبو الغيث.

.ومات في هذه السنة من الأعيان:

مسند العصر شهاب الدين أحمد بن رفيع الدين إسحاق بن محمد المؤيد الأبرقوهي، بمكة في العشرين من ذي الحجة، عن سبع وثمانين سنة، ومولده سنة خمس عشرة وستمائة بأبرقوه من شيراز.
ومات الحافظ شرف الدين أبو الحسين على ابن الإمام عبد الله محمد بن أبي الحسين أحمد بن عبد الله بن عيسى بن أحمد بن اليونيني، في يوم الخميس حادي عشرى رمضان ببعلبك، ومولده في حادي عشر رجب سنة إحدى وعشرىن وستمائة ببعلبك.
ومات الأمير علم الدين سنجر أرجواش المنصوري نائب قلعة دمشق، في ثاني عشرى ذي الحجة.
ومات ضياء الدين أحمد بن الحسين بن شيخ السلامية بدمشق، في يوم الثلاثاء عشرى ذي القعدة، وهو أبو قطب الدين موسى وفخر الدين.
ومات فتح الدين أحمد بن محمد، البققي الحموي مقتولاً بسيف الشرع، في رابع عشرى ربيع الأول، ورفع رأسه على رمح، وسحب بدنه إلى باب زويلة فصلب هناك، وسبب ذلك إنه كان ذكياً حاد الخاطر له معرفة بالأدب والعلوم القديمة، فحفظت عنه سقطات: منها أنه قال: لو كان لصاحب مقامات الحريري حظ لتليت مقاماته في المحاريب، وأنه كان ينكر على من يصوم شهر رمضان ولا يصوم هو، وأنه كان إذا تناول حاجة من الرف صعد بقدميه على الربعة، وكان مع ذلك جريئاً بلسانه، مستخفاً بالقضاة يطنز بهم ويستجهلهم، حتى أنه بحث مع قاضي القضاة تقي الدين محمد بن دقيق العيد مرة وكأنه لم يجبه، فقام وهو يقول: وقف الهوى يريد قول أبي الشيص الخزاعي:
وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي ** في متأخز عنه ولا متقدم

يعنى أن القاضي انقطع. فقال ابن دقيق العيد للفتح بن سيد الناس: يا فتح الدين عقبي هذا الرجل إلى التلف، فلم يتأخر ذلك سوى عشرين يوماً، وقتل في الحادي والعشرين منه. ذلك أنه أكثر من الوقيعة في حق زين الدين على بن مخلوف قاضي قضاة المالكية وتنقصه وسبه، فلما بلغه ذلك عنه اشتد حنقه وقام في أمره، فتقرب الناس إليه بالشهادة على ابن البققي، فاستدعاه وأحضر الشهود فشهدوا وحكم بقتله، وأراد من ابن دقيق العيد تنفيذ ما حكم به فتوقف. وقام في مساعدة ابن البققي ناصر الدين محمد بن الشيخي وجماعة من الكتاب، وأرادوا إثبات جنه ليعفى من القتل، فصمم ابن مخلوف على قتله، واجتمع بالسلطان ومعه قاضي القضاة شمس الدين السروجي الحنفي، ومازالا به حتى أذن في قتله. فنزلا إلى المدرسة الصالحية بين القصرين ومعهما ابن الشيخي والحاجب، وأحضر ابن البققي من السجن في الحديد ليقتل، فصار يصيح ويقول: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله ويتشهد؟ فلم يلتفتوا إلى ذلك، وضرب عنقه وطيف برأسه على رمح، وعلق جسده على باب زويلة. وفيه يقول شهاب الدين أحمد بن عبد الملك الأعزازي يحرض على قتله، وكتب بها إلى ابن دقيق العيد:
قل للإمام العادل المرتضى ** وكاشف المشكل والمبهم

لاتمهل الكافرواعمل بما ** قد جاء في الكافر عن مسلم

ومن شعر ابن البققي ما كتب به إلى القاضي المالكي من السجن، وهو من جملة حماقاته:
يا لابساً لي حلةً من مكره ** بسلاسة نعمت كلمس الأرقم

اعتد لي زرداً تضايق نسجه ** وعلى خرق عيونها بالأسهم

فلما وقف عليهما القاضي المالكي، قال: نرجو أن الله لا يمهله لذلك.
ومن شعره أيضاً:
جبلت على حبي لها وألفته ** ولابدأن ألقى به الله معلنا

ولم يخل قلبي من هواها بقدرما ** أقول وقلبي خاليا فتمكنا

ومات جمال الدين عثمان بن أحمد بن عثمان بن هبة الله بن أبي الحوافز رئيس الأطباء في مستهل صفر، ومولده سنة تسع وعشرين وستمائة.
ومات الأمير علاء الدين على التقوي، أحد أمراء دمشق بها.
ومات الشريف أبو نمى محمد بن أبي سعد حسن بن على بن قتادة بن إدريس بن مطاعن بن عبد الكريم بن عيسى بن حسين بن سليمان بن على بن الحسن بن على بن أبي طالب، أمير مكة، في يوم الأحد رابع صفر، وقد أقام في الإمارة أربعين سنة، وقدم القاهرة مراراً، وكان يقال لولا إنه زيدي لصلح للخلافة لحسن صفاته.
ومات مجد الدين يوسف بن محمد بن على بن القباقيبي الأنصاري، موقع طرابلس، وله شعر وترسل.
ومات الأمير عز الدين النجيبي والي البر بدمشق، في سادس عشر ربيع الأول بدمشق.
ومات شمس الدين سعيد بن محمد بن سعيد بن الأثير، في سابع عشر ذي القعدة بدمشق، وكان يكتب الإنشاء بها.
ومات بدمشق شيخ الخانكاة السميساطية، وهو شيخ الشيوخ شرف الدين أبي بكر عبد الله بن تاج الدين أبي محمد ابن حمويه، في يوم الإثنين سابع عشر ربيع الأول، واستقر عوضه قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة باتفاق الصوفية.
ومات الأمير علاء الدين مغلطاى التقوي المنصوري أحد أمراء دمشق بها، في رابع عشرى رجب، فانعم بخبزه على الأمير سيف الدين بكتمر الحسامي أمير أخور.