فصل: سنة ست وعشرين وستمائة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: السلوك لمعرفة دول الملوك (نسخة منقحة)



.سنة عشرين وستمائة:

فيها أخذ المعظم عيسى المعرة وسليمة ونازل حماة، فشق ذلك على أخيه الأشرف- وكان بمصر- وتحدث مع الكامل في إنكار ذلك، فبعث السلطان الكامل إلى المعظم يسأله في الرحيل عن حماة، فتركها وهو حنق.
وفيها حج الملك الجواد والملك الفائز من القاهرة، وقدما علم الخليفة على علم السلطان الملك الكامل في طلوع عرفة.
وفيها خرج الأشرف من مصر إلى بلاده، ومعه خلع الملك الكامل والتقليد بسلطة حلب للعزيز ناصر الدين محمد بن الظاهر غازي، فوصل إلى حلب في شوال، وتلقاه العزيز- وعمره عشر سنين- فأفاض عليه الخلع الكاملية، وحمل الغاشية بين يديه، وأقام عنده أياماً، ثم سار إلى حران.
وفيها عم الجراد بلاد العراق والجزيرة، وديار بكر والشام. وفيها أوقع التتر بالروس.
وفيها شنق سهم الدين عيسى والي القاهرة نفسه- وهو معتقل بدار الوزارة- ليلة الخميس سادس شوال.

.سنة إحدى وعشرين وستمائة:

فيها ملك التتر قم وقاشان وهمذان.
وفيها اختلف الحال بين المظفر غازي، صاحب إربل وبين أخيه الأشرف، فخرج المعظم من دمشق يريد محاربة الأشرف، فبعث إليه الكامل يقول له: إن تحركت من بلدك سرت وأخذته منك. فخاف وعاد إلى دمشق.
وفيها مات الوزير الأعز أبو العباس أحمد، المعروف بفخر الدين مقدام بن شكر، في آخر شعبان بالقاهرة.
وفيها أخذ عسكر مصر ينبع من بني حسن، وكانوا قد اشتروها بأربعة آلاف مثقال، فلم تزل بيد المصريين إلى سنة ثلاثين.

.سنة اثنتين وعشرين وستمائة:

فيها فر الملك الجواد مظفر الدين يونس بن مودود من مصر في البحر، خوفاً من عمه الملك الكامل، ولحق بعده المعظم.
وفيها تخوف الكامل من أمرائه، لميلهم إلى أخيه الملك المعظم، فقبض على جماعة، وبعث إلى الطرقات من يحفظها، وبعث عدة رسل إلى الملوك الذين في خدمة أخيه الأشرف يأمرهم بالاتفاق وألا يخالفوه.
وفيها عاد السلطان جلال الدين بن خورازم شاه علاء الدين محمد بن تكش إلى بلاده، وقوي أمره على التتر، واستولى على عراق العجم، وسار إلى ماردين وأخذها، وسار إلى خوزستان، وشاقق جلال الدين الخليفة الناصر لدين الله، وسار حتى وصل بعقوبا، وبينها وبين بغداد سبعة فراسخ، فاستعد الخليفة للحصار، ونهب جلال الدين البلاد، وأخذ منها ما لا يقع عليه حصر، وفعل أشنع ما يفعله التتر، فكاتبه الملك المعظم، وأتفق معه معاندة لأخيه الكامل، ولأخيه الملك الأشرف، صاحب البلاد الشرقية، فسير السلطان جلال الدين بن القاضي مجد الدين- قاضي الممالك- في الرسالة إلى الملك الأشرف، ثم إلى الملك المعظم، ثم إلى الملك الكامل، فظاهر بأنواع الفسوق، وسار جلال الدين إلى عراق العجم، فملك همذان وتيريز، وأوقع بالكرج.
وفيها مات الملك الأفضل علي بن صلاح الدين يوسف، صاحب سميساط فجأة بسميساط في صفر، ومولده بمصر يوم عيد الفطر سنة خمس- وقيل ست- وستين وخمسمائة، وهو أكبر أولاد أبيه، وإليه كانت ولاية عهده، وسمع الأفضل من ابن عوف وابن بري، واستقل بمملكة دمشق بعد موت أبيه، فلم ينتظم له أمر لقلة حظه، وأخذها منه أخوه العزيز عثمان، صاحب مصر، ثم صار الأفضل أتابكاً للمنصور بن العزيز بمصر، وحصر دمشق، وبها عمه العادل، وأشرف على أخذها منه، فقطع عليه سوء الحظ، وعاد إلى مصر، وفي أثره عمه العادل، فانتزع منه مصر، ولم يبق معه سوى صرخد ثم قصد الأفضل دمشق ثانياً، مع أخيه الظاهر غازي صاحب حلب، فلم يتم أمرهما لاختلافهما، وصار بيده سميساط لا غير. فلما مات أخوه الظاهر طمع في حلب، وخرج إليها مع السلطان عز الدين كيكاوس السلجوقي ملك الروم، فلم يتم لهما أمر، وعاد الأفضل إلى سميساط، فلم يزل بها يتجرع الغصص حتى مات كمداً، وكان فاضلاً أديباً حليماً، حسن السيرة متجاوزاً، يكتب الخط المليح، جامعاً لعدة مناقب، إلا أنه كان قليل الحظ، وشعره جيلط كتب إلى الخليفة الناصر لدين الله- لما انتزع منه دمشق أخوه عثمان وعمه العادل أبو بكر- في سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة كتاباً يشكو إليه اغتصابهما ميراثه من أبيه، وأوله:
مولاي إن أبا بكر وصاحبه ** عثمان قد أخذ بالسيف إرث علي

فانظر إلى حظ ههذا اقسم كيف لقى ** من الأواخر ما لاقي من الأول

وله أيضاً في معناه:
أما آن للسعد الذي أنا طالب ** لإدراكه يوماً يرى وهو طالبي

ترى هل يريني الدهر أيدي شيعتي ** تمكن يوماً من نواصي النواصب

فأجابه الخليفة بقوله.
وافي كتابك يا بن يوسف معلناً ** بالود يخبر أن أصلك طاهر

غصبوا علياً حقه إذ لم يكن ** بعد النبي له بيثرب ناصر

فابشر فإن غداً يكون حسابهم ** واصبر فناصرك الإمام الناصر

ومن شعره:
أيا من يسود شعره بخضابه ** لعساه من أهل الشبيبة يحصل

ها فاختضب بسواد حظي مرة ** ولك اللمان بأنه لا ينصل

وقام من بعده بسميساط أخوه الملك المفضل قطب الدين موسى شقيقه، فاختلف عليه أولاد الأفضل.
وفيها مات الخليفة الناصر لدين الله أحمد بن المستضيئ بأمر الله الحسن بن المستنجد بالله يوسف، في ثاني شوال، ومولده في العاشر من شهر رجب سنة ثلاث وخمسين وخمسائة، وله في الحلافة سبع وأربعون سنة، غير ستة وثلاثين يوماً، وكانت أمه أم ولد يقال لها زمرد، وقيل نرجس، وكان شهماً أبي النفس، حازماً متيقظاً، صاحب فكر صائب، ودهاء ومكر، وكان مهيباً، وله أصحاب أخبار- بالعراق وفي الأطراف- يطالعونه بجزئيات الأمور وكلياتها، فكان لا يخفى عليه أكثر أحوال رعيته، حتى أن أهل العراق يخاف الرجل منهم أن يتحدث مع امرأته، لما يظن أن ذلك يطلع عليه الخليقة فيعاقب عليه، وعمل شخص دعوة ببغداد، وغسل يده قبل أضيافه، فعلم الخليفة بذلك من أصحاب أخباره، فكتب في الجواب: سوء أدب من صاحب البلد، وفضول من كاتب المطالعة. وكان رديء السيرة في رعيته، ظالماً عسوفاً، خرب العراق في أيامه، وتفرق أهله في البلاد، فأخذ أملاكهم وأموالهم، وكان يحب جمع المال، ويباشر الأمور بنفسه، ويركب بين الناس ويجتمع بهم، مع سفكه للدماء، وفعله للأشياء المتضادة: فيغتصب الأموال ويتصدق، وشغف برمي الطير بالبندق، ولبس سراويلات الفتوة، وحمل أهل الأمصار على ذلك، وعمل سالم بن نصر الله بن واصل الحموي في ذلك رسالة بديعة، وصنف الناصر لدين الله كتاباً في مروياته، سماه روح العارفين، وأعده للفقهاء بمصر والشام، وله شعر، وفي خلافته خرب التتر بلاد المشرق حتى وصلوا إلى همذان، وكان هو السبب في ذلك، فإنه كتب إليهم بالعبور إلى البلاد، خوفاً من السلطان علاء الدين محمد بن خوارزم شاه لما هم بالاستيلاء على بغداد، وأن يجعلها دار ملكه، كما كانت السلجوقية، ولم يمت الخليفة الناصر لدين الله حتى عمي، وقيل كان يبصر بإحدى عينيه، وقام من بعده في الخلافة ابنه الظاهر بأمر الله أبو نصر محمد- بعهد من أبيه- يوم مات أبوه، وعمره ما ينيف على خمسين سنة، وكان يقول من يفتح دكانه العصر متى يستفتح. ولما ولي أظهر العدل، وأزال عدة مظالم، وأطلق أهل السجون، وظهر للناس، وكان من قبله من الخلفاء لا يظهرون إلا نادراً.
وفيها وصل الملك المسعود من اليمن إلى مكة، ومضى إلى القاهرة من طريق عيذاب، فقدم على أبيه الكامل بقلعة الجبل، ومعه هدايا جليلة.
وفيها مات الوزير الصاحب صفي الدين عبد الله بن أبي الحسن علي بن الحسين بن عبد الخالق بن الحسين بن الحسن بن منصور بن إبراهيم بن عمار بن منصور بن علي الشيبي، أبو محمد المعروف بابن شكر، الفقيه الدميري المالكي، في يوم الجمعة ثامن شعبان- وقيل شوال- بالقاهرة، ودفن برباطه منها، وكان مولده بدميرة إحدى قرى مصر البحرية، في تاسع صفر سنة ثمان وأربعين وخمسمائة، وجمع من ابن عوف وغيره، وحدث، وكان جباراً جباها عاتياً، عانيا بتقدمة الأراذل وتأخر الأماثل، أفقر علقاً كثيراً.
وفيها قدم الشريف قاسم الحسيني أمير المدينة، بعسكر إلى مكة، وحصرها نحو شهر، وبها نواب الملك الكامل، فلم يتمكن منها، بل قتل.

.سنة ثلاث وعشرين وستمائة:

فيها تأكدت الوحشة بين المعظم وبين أخويه الكامل والأشرف.
وفيها بعث الخليفة الظاهر بأمر الله التشاريف لملوك بني أيوب، على يد محيي الدين أبي المظفر بن الحافظ جمال الدين أبي الفرج بن الجوزي: فبما بالأشرف موسى صاحب البلاد الشرقية، وأفاض عليه الخلع الخليفتية، ثم بالعزيز غياث الدين محمد بن الظاهر صاحب حلب، فأفاض عليه فرجية واسعة الكم سوداء، وعمامة سوداء مذهبة، وثوباً مطرزاً بالذهب أيضاً، ثم ألبس المعظم عيسى، صاحب دمشق، بدمشق. وسار إلى القاهرة بالتقليد والخلع للملك الكامل، ولأولاده الصالح نجم الدين أيوب والملك المسعود، وللصاحب صفي الدين بن شكر، فبرز الملك الكامل إلى ظاهر القاهرة، ولبس الخلع الخليفتية هو وولداه. وكان الصاحب صفي الدين قد مات، فألبس الكامل الخلعة التي باسمه للقاضي فخر الدين سليمان بن محمود بن أبي غالب أبي الربيع الدمشقي، كاتب الإنشاء، وعبر الكامل من باب النصر، وشق القاهرة إلى أن صعد قلعة الجبل، فكان يوماً مشهوداً.
وفيها قبض الملك الكامل على أولاد الصاحب صفي الدين بن شكر، وأحاط بجميع موجوده، واعتقل ابنيه تاج الدين يوسف وعز الدين محمد في قاعة سهم الدين، بدرب الأسواني من القاهرة، ولم يستوزر الكامل بعد ابن شكر أحداً.
وفيها سافر الملك المسعود من القاهرة إلى اليمن.
وفيها كثر وهم الملك الكامل من عسكره، فإن المعظم أرسل إليه في جملة كلام: وإن قصدتني لا آخذك إلا بعسكرك،. فوقع في نفسه الخوف ممن معه، وهم آن يخرج من مصر، فلم يجسر، وخرج المعظم فنازل حمص، وخرب قراها ومزارعها، ولم ينل من قلعتها شيئاً، لامتناعها هي والمدينة عليه، فلما طال مقامه على حمص رحل عنها، لما أصاب عسكره ودوابه من الموت، وقدم عليه أخوه الأشرف جريدة، فسر به سرور عظيماً وأكرمه زائداً.
وفيها مات الخليفة الظاهر بأمر الله أبو نصر محمد بن الناصر، في رابع عشر شهر رجب، فكانت خلافته تسعة أشهر وتسعة أيام، وكان حسن السيرة كثير المعروف، واستقر في الخلافة من بعده ابنه المستنصر بالله أبو جعفر المنصور، وعمره عشرون سنة، فوردت عليه رسل ملوك الأطراف، وبعث الملك الكامل في الرسالة معين الدين حسن بن شيخ الشيوخ صدر الدين بن حمويه فلما قدم بغداد قال نيابة عن الملك الكامل، وهو بين يدي الوزير مؤيد الدين أبي الحسن محمد بن محمد القمي: عبد الدولة المقدسة المستنصرية يقبل العتبات التي يستشفي بتقبيل ثراها، ويستكفي بتمسكه من عبوديتها بأوثق عراها، ويوالي شكر الله تعالى على إماطة ليل العزاء الذي عم مصابه، بصبح الهناء الذي تم نصابه، حتى تزحزح عن شمس الهدى شفق الإشفاق، فجعل كلمتها العليا، وكلمة معاديها السفلي، وزادها شرفاً في الآخرة والأولى.
وفيها قدم رسول علاء الدين كيقباد، ملك الروم، بتقدمة جليلة إلى الملك الكامل.

.سنة أربع وعشرين وستمائة:

فيها سافر الأشرف إلى بلاده من دمشق، بعدما حلف للمعظم أنه يعاضده على أخيه الملك الكامل، وعلى الملك المجاهد صاحب حمص، والناصر صاحب حماة.
وفيها سافر رسول علاء الدين كيقباد ملك الروم، من مصر إلى مخدومه.
وفيها تأكدت الوحشة بين الكامل وبين أخويه المعظم والأشرف، وخاف الكامل من انتماء أخيه المعظم إلى السلطان جلال الدين بن خوارزم شاه، فبعث الأمير فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ صدر الدين بن حمويه إلى ملك الفرنج، يريد منه أن يقدم إلى عكا، ووعده أن يعطه بعض ما بيد المسلمين من بلاد الساحل، ليشغل سر أخيه المعظم، فتجهز الإمبراطور ملك الفرنج لقصد الساحل، وبلغ ذلك المعظم، فكتب إلى السلطان جلال الدين يسأله النجدة على أخيه الكامل، ووعده أن يخطب له، ويضرب السكة بأسمه، فسير إليه جلال الدين خلعة لبسها، وشق بها دمشق، وقطع الخطبة للملك الكامل، فبلغ ذلك الكامل، فخرج من القاهرة بعساكره، ونزل بلبيس في شهر رمضان فبعث إليه المعظم: إني نذرت لله تعالى أن كل مرحلة ترحلها لقصدي أتصدق بألف دينار، فإن جميع عسكرك معي، وكتبهم عندي، وأنا آخذك بعسكرك، وكتب المعظم مكاتبة بهذا في السر، ومعها مكاتبة في الظاهر فيها: بأني مملوكك، وما خرجت عن محبتك وطاعتك، وحاشاك أن تخرج وتقابلني، وأنا أول من أنجدك وحضر إلى خدمتك من جميع ملوك الشام والشرق، فأظهر الكامل هذا بين الأمراء، ورجع من العباسة إلى قلعة الجبل، وقبض على عدة من الأمراء ومماليك أبيه، لمكاتبتهم المعظم: منهم فخر ألطبنا الحبيشي، وفخر الدين ألطن الفيومي- وكان أمير جانداره، وقبض أيضاً على عشرة أمراء من البحرية العادلية، واعتقلهم وأخذ سائر موجودهم، وأنفق في العسكر ليسير إلى دمشق.
وفيها وصل رسول ملك الفرنج بهدية سنية وتحف غريبة إلى الملك الكامل، وكان فيها عدة خيول، منها فرس الملك بمركب ذهب مرصع بجوهر فاخر، فتلقاه الكامل بالإقامات، من الإسكندرية إلى القاهرة، وتلقاه بالقرب من القاهرة بنفسه، وأكرمه إكراماً زائداً، وأنزله في دار الوزير صفي الدين بن شكر، واهتم الكامل بتجهيز هدية سنية إلى ملك الفرنج فيها من تحف الهند واليمن، والعراق والشام، ومصر والعجم ما قيمته أضعاف ما سيره، وفيها سرج من ذهب، وفيها جوهر بعشرة آلف دينار مصرية، وعين الكامل للسير بهذه الهدية جمال الدين بن منقذ الشيزري.
وفيها وصل رسول الأشكري في البحر إلى الملك الكامل، فسار المعظم من دمشق لتخريب القدس، فخرب قلاعا وعدة صهاريج بالقدس، لما بلغه من حركة ملك الفرنج. وفيها جهز الملك الكامل كمال الدين ومعين الدين، ولدى شيخ الشيوخ ابن حمويه- ومعهما الشريف شمس الدين الأرموي، قاضي العسكر- إلى المعظم، وأمر السلطان الكامل أن يسير الكمال بجواب المعظم إلى الملك المجاهد أسد الدين شركوه بحمص، ويعرفه الحال، وأن يتوجه المعين إلى بغداد، برسالة إلى الخليفة، فتوجها في شعبان. وفيها اتفق عيد الفطر يوم عيد اليهود وعيد النصارى.
وفيها ختن الملك العادل أبو بكر بن الملك الكامل في تاسع شوال.
وفيها مات الملك المعظم أبو الفتح عيسى بن الملك العادل، صاحب دمشق، يوم الجمعة سلخ ذي القعدة بدمشق، ودفن بقلعتها، ثم نقل إلى الصالحية، ومولده بدمشق، في سنة ثمان وسبعين وخمسمائة، وكان قد خافه الملك الكامل، فسر بموته، وكان كريماً شجاعاً، أديباً ليناً، فقيها متغالياً في التعصب لمنصب أبي حنيفة- رحمه الله- وشارك في النحو وغيره، وقال له أبوه مرة: كيف اخترت مذهب أبي حنيفة، وأهلك كلهم شافعية؟ فقال: ياخوند أما ترغبون أن يكون فيكم رجل واحد مسلم؟. وصنف كتاباً سماه السهم المصيب في الرد على الخطيب البغدادي أبي بكر أحمد بن ثابت، فيما تكلم به في حق أبي حنيفة، وفي تاريخ بغداد. وكان مقداماً، لا يفكر في عاقبة، جباراً مطرحاً للملابس، وهو الذي أطمع الخوارزمي في البلاد، وكانت مدة ملكه- بعد أبيه- ثماني سنين وسبعة أشهر غير ثمانية أيام، فقام من بعده ابنه الملك الناصر داود وعمره إحدى وعشرون سنة، وسير الناصر كتبه إلى عمه الملك الكامل، فجلس الكامل للعزاء، وشر إليه الأمير علاء الدين بن شجاع الدين جلدك المظفري التقوى بالخلعة وسنجق السلطة، وكتب معه بما طيب قلبه، فلبس الناصر خلعة الكامل، وركب بالسنجق، ثم أرسل إليه الكامل يريد منه أن يترك له قلعة الشوبك، ليجعلها خزانة له، فامتنع من ذلك، وبهذا وقعت الوحشة بينه وبين عمه الكامل.
وفيها أمر الملك الكامل بتخريب مدينة تنيس، فخربت أركانها الحصينة وعمائرها المكينة، ولم يكن بديار مصر أحسن منها، واستمرت من حينئذ خرابا.
وفي شهر رجب من هذه السنة: دعا لنفسه بتونس الأمير أبو زكريا يحيى بن عبد الواحد بن أبي حفص وتلقب بالسلطان السعيد فلم ينازعه أحد في مملكة إفريقية، وكان قد ضعف أمر بني عبد المؤمن.

.سنة خمس وعشرين وستمائة:

فيها سير الملك الكامل شيخ الشيوخ ابن حمويه بالخلع إلى ابن أخيه الناصر داود ابن المعظم، بدمشق، فحمل الرسول الغاشية بين يديه، ثم حلها عماه: الملك العزيز عثمان صاحب بانياس والملك الصالح عماد الدين إسماعيل صاحب بصرى.
وفيها جهز الملك الكامل أيضاً الخلع للمجاهد صاحب حمص.
وفيها استوحش الملك الكامل من أخيه الناصر داود، وعزم على قصده، وأخذ دمشق منه، وعهد الكامل إلى ابنه الملك الصالح نجم الدين أيوب بالسلطنة من بعده بديار مصر، وأركبه بشعار السلطنة- وشق الصالح القاهرة، وحملت الغاشية بين يديه، تداول حملها الأمراء بالنوبة- وأنزله بدار الوزارة، وعمره يومئذ نحو اثنتين وعشرين سنة.
وفيها ظلم الأمجد بهرام شاه بن عز الدين فرخشاه- صاحب بعلبك- وتعدى، وأخذ أموال أهل بعلبك وأولادهم، فقام عدة من جنده مع العزيز فخر الدين عثمان بن العادل في تسليمه بعلبك، فسار العزيز إليها ونازلها، فقبض الأمجد على أولئك الذين قاموا معه، وقتل بعضهم، واعتقل باقيهم، ثم إن الناصر داود صاحب دمشق، بعث إليه من رحله عن بعلبك قهراً، فغضب وسار إلى الملك الكامل ملتجئاً إليه، فسر به الكامل، ووعده بانتزاع بعلبك من الأمجد وتسليمها إليه.
وفيها ظلم الناصر داود أهل دمشق، وأخذ أموالهم، واشتغل باللهو، وأعرض عن مصالح الدولة، فشق ذلك على الكامل، وجعله سبباً يؤاخذه به، وتجهز في شهر رجب للسير لمحاربته، واستناب على مصر ابنه الملك الصالح نجم الدين أيوب، وأقام معه الأمير فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ، ليحصل الأموال ويدبر أمور المملكة، وخرج الكامل من القاهرة يوم الأحد تاسع عشر شعبان- في عساكره المتوافرة- ومعه المظفر تقي الدين محمود بن المنصور، وقد وعده أن يسلمه حماة، وكانت بيد أخيه قلج أرسلان، والملك الجواد مظفر الدين يونس بن مودود بن العادل، وكان قد رباه عمه الملك الكامل بعد موت أبيه، وأقطعه البحيرة من ديار مصر، فلما بلغ الناصر خروج عمه لم يمل إلى استعطافه، والتجأ إلى عمه الأشرف، فسار الكامل بالعسكر والعربان إلى تل العجول، وبعث منها إلى نابلس والقدس وأعمالها، وشر الكامل الأمير حسام الدين أبا علي بن محمد بن أبي علي الهذباني- أحد أصحاب المظفر تقي الدين محمود- إلى القاهرة، فاستخدمه الملك الصالح، وجعله أستاداره، فاستولت أصحاب الملك الكامل على نابلس والقدس، وبلغ ذلك الناصر، فحلف عسكره، واستعد للحرب، وقدم إليه عمه الصالح صاحب بصرى، والأمير عز الدين أيبك من صرخد، وأصله مملوك أبيه المعظم، فقويت بهما نفسه، وسير بالناصر يستدعي عمه الأشرف من لبلاد الشرقية، مع الأمير عماد الدين بن موسك، وفخر القضاة نصر الله بن بصاقة، وأردفهما بالأشرف بن القاضي الفاضل، فأجاب الأشرف إلى معاونته، واستناب في بلاده الملك الحافظ بن العادل، وسار إلى دمشق، فتلقاه قلج أرسلان صاحب حماة من سليمة بأموال وخيول، وتلقاه أسد الدين شركوه، صاحب حمص، وأولاده، وقدم لأشرف إلى دمشق، فتلقاه الناصر في أخريات شهر رمضان، وزين دمشق لقدومه، فدخل القلعة وعليه شاش علم كبير، وهو مشدود الوسط بمنديل، وقد سر الناصر به سروراً كبيراً، وحكمه في بلاده وأمواله، فأعجب الأشرف بدمشق، وعمل في الباطن على انتزاعها لنفسه من الناصر، ثم قدم إلى خدمة الأشرف بدمشق المجاهد أسد الدين شركوه بن محمد صاحب حمص، وسار العزيز بن العادل إلى خدمة الملك الكامل، وهو في الطريق، فسر بقدومه، وأعطاه شيئاً كثيراً، وسير الأشرف إلى الكامل الأمير سيف الدين علي بن قلج، يشفع في الناصر، ويطلب منه إبقاء دمشق عليه، ويقول: إنا كلنا في طاعتك، ولم نخرج عن موافقتك، فأكرم الملك الكامل الرسول، ثم سار الأشرف- ومعه الناصر- من دمشق، يريدان ملاقاة الملك الكامل والترامي عليه، ليصلح الأشرف الأمر بينهما، فلما بلغ الكامل مسيرهما شق عليه، ورحل من نابلس يريد العود إلى القاهرة فنزل الأشرف والناصر بنابلس، فأقام بها الناصر، ومضى الأشرف والمجاهد إلى الكامل، فبلغه قدوم الأشرف وهو بتل العجول، فقام إلى لقائه، وقدم به إلى معسكره، ونزلا، فكان الاتفاق بينهما على انتزاع دمشق من ابن أخيهما الناصر داود، وأن تكون للملك الأشرف وما معها إلى عقبة فيق، ويكون للكامل ما بين عقبة فيق وغزة من البلاد والحصون، وهو الفتح الصلاحي بأسره، ويكون للناصر عوضاً من دمشق- حران والرقة وسروج، رأس عين، وهي ما كان مع الأشرف، وأن تنزع بعلبك من الأمجد بهرام، وتعطى لأخيهما العزيز عثمان، وأن تنزع حماة من الملك الناصر قلج أرسلان بن المنصور، وتعطى للمظفر تقي الدين محمود بن المنصور، وأن تؤخذ من المظفر سليمة، وتضاف إلى المجاهد صاحب حمص.
وفيها مات طاغية المغل والتتر جنكزخان، بالقرب من صارو بالق، وحمل ميتاً إلى كرسي ملك الخطا. ورتب بعده ابنه الأصغر عوضه خاناً كبيراً، على كرسي مملكة الخطا، وأخذ إخوته الثلاثة بقية الأقاليم.
وفيها خرج التتار إلى بلاد الإسلام، فكانت لهم عدة حروب مع السلطان جلال الدين خوارزم شاه، كسر فيها غير مرة، ثم ظفر أخيراً بهم، وهزمهم، فلما خلا سره منهم سار إلى خلاط- من بلاد الأشرف- فنهب وسبي الحريم، واسترق الأولاد، وقتل الرجال، وخرب القرى، وفعل ما لا يفعله أهل الكفر، ثم عاد إلى بلاده، وقد زلزل بلاد حران والرها وما هنالك، ورحل أهل سروج إلى منبج، وكان قد عزم على قصد بلاد الشام، لكن صرفه الله عنها.
وفيها قم الإمبراطور ملك الفرنج إلى عكا، باستدعاء الملك الكامل له- كما تقدم- ليشغل سر أخيه المعظم، فاتفق موت المعظم، ولما وصل ملك الفرنج إلى عكا بعث رسوله إلى الملك الكامل، وأمره أن يقول له: الملك يقول لك كان الجيد والمصلحة للمسلمين أن يبلوا كل شيء، ولا أجيء إليهم، والآن فقد كنتم بذلتم لنائبي- في زمن حصار دمياط- الساحل كله، وإطلاق الحقوق بالإسكندرية، وما فعلنا، وقد فعل الله لكم ما فعل من ظفركم، وإعادتها إليكم. ومن نائبي إن هو إلا أقل غلماني، فلا أقل من إعطائي ما كنتم بذلتموه له. فتحير الملك الكامل، ولم يمكنه دفعه ولا محاربته، لما كان تقدم بينهما من الاتفاق، فراسله ولاطفه، وسفر بينهما الأمير فخر الدين بن الشيخ، وشرع الفرنج في عمارة صيداء- وكانت مناصفة بين المسلمين والفرنج، وسورها خراب- فعمروها وأزالوا من فيها من المسلمين، وخرجت السنة والكامل على تل العجول، وملك الفرنج بعكا، والرسل تتردد بينهما.

.سنة ست وعشرين وستمائة:

فيها غلت الأسعار بالساحل ودمشق، ووصلت نجدة من حلب إلى الغور.
وفيها قفز الأمير عز الدين أيدمر المعظمي إلى الملك الكامل، فأحسن إليه. ففارق الناصر داود من نابلس لما بلغه اتفاق الأشرف مع الكامل عليه، وعاد إلى دمشق، فبلغ الأشرف وهو بتل العجول ذلك، فسار ليدركه، فوافاه بقصير ابن معين الدين من الغور، تحت عقبة فيق، وأعلمه الأشرف- بحضور الملك الصالح إسماعيل، والملك المغيث، والأمير عز الدين أيبك المعظمي- أنه اجتمع بالملك الكامل للإصلاح بينهما. وأنه اجتهد وحرص على أن يرجع عنك، فامتنع وأبي إلا أن يأخذ دمشق، وأنت تعلم أنه سلطان البيت وكبيرهم، وصاحب الديار المصرية، ولا يمكن الخروج عما يأمر به وقد وقع الاتفاق على أن تسلم إليه دمشق، وتعوض عنها من الشرق كذا، وذكر ما وقع الاتفاق عليه، فلما فرغ الأشرف من كلامه قام الأمير عز الدين أيبك وهو أكبر أمير مع الناصر داود وقال: لا كيد ولا كرامة، ولا نسلم من البلاد حجراً واحداً، ونحن قادرون على دفع الجميع ومقاومتهم، ومعنا العساكر المتوافرة، وأمر الملك الناصر بالركوب فركبا، وقوضت الخيام، وسارا إلى دمشق، وتحالف على الناصر عمه الصالح، وابن عمه المغيث، ولما وصل الناصر إلى دمشق استعد للحصار، وقام معه أهل البلد، لمحبتهم في أبيه، وسار الأشرف بمن معه، وحاصر دمشق، وقطع عنها أنهارها- باناس، والقنوات، ويزيد وثورا- فخرج إليه العسكر وأهل البلد وحاربوه، وفي أثناء ذلك كثر تردد الأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ، والشريف شمس الدين الأرموي قاضي العسكر، بين الإمبراطور فردريك ملك الفرنج، إلى أن وقع الاتفاق أن ملك الفرنج يأخذ القدس من المسلمين، ويبقيها على ما هي من الخراب، ولا يجدد سورها، وأن يكون سائر قوى القدس للمسلمين، لا حكم فيها للفرنج، وأن الحرم بما حواه من الصخرة والمسجد الأقصى- يكون بأيدي المسلمين، لا يدخله الفرنج إلا للزيارة فقط، ويتولاه قوام من المسلمين، ويقيمون فيه شعار الإسلام من الأذان والصلاة، وأن تكون القرى التي فيما بين عكا وبين يافا، وبين القدس، بأيدي الفرنج، دون ما عداها من قرى القدس، وذلك أن الكامل تورط مع ملك الفرنج، وخاف من غائلته، عجزا عن مقاومته، فأرضاه بذلك، وصار يقول: إنا لم بسمح للفرنج إلا بكنائس وأدر خراب، والمسجد على حاله، وشعار الإسلام قائم، ووالي المسلمين متحكم في الأعمال والضياع. فلما اتفقا على ذلك عقدت الهدنة بينهما مدة عشر سنين وخمسة أشهر وأربعين يوماً، أولها ثامن عشري شهر ربيع الأول من هذه السنة، واعتذر ملك الفرنج للأمير فخر الدين بأنه لولا يخاف انكسار جاهه، ما كلف السلطان شيئاً من ذلك، وأنه ما له غرض في القدس ولا غيره، وإنما قصد حفظ ناموسه عند الفرنج، وحلف الملك الكامل وملك الفرنج على ما تقرر، وبعث السلطان فنودي بالقدس بخروج المسلمين منه، وتسليمه إلى الفرنج، فاشتد البكاء وعظم الصراخ والعويل، وحضر الأئمة والمؤذنون من القدس إلى مخيم الكامل، وأذنوا على بابه في غير وقت الأذان، فعز عليه ذلك، وأمر بأخذ ما كان معهم من الستور والقناديل الفضة والآلات، وزجرهم. وقيل لهم: امضوا إلى حيث شئتم، فعظم على أهل الإسلام هذا البلاء، واشتد الإنكار على الملك الكامل، وكثرت الشناعات عليه في سائر الأقطار، وبعث الإمبراطور بعد ذلك يطلب تبنين وأعمالها، فسلمها الكامل له، فبعث يستأذن في دخول القدس، فأجابه الكامل إلى ما طلبه، وسير القاضي شمس الدين قاضي نابلس في خدمته، فسار معه إلى المسجد بالقدس، وطاف معه ما فيه من المزارات، واعجب الأمبراطوار بالمسجد الأقصى وبقبة الصخرة، وصعد درج المنبر، فرأى قسيساً بيده الإنجيل، وقد قصد دخول المسجد الأقصى، فزجره وأنكر مجيئه، وأقسم لئن عاد أحد من الفرنج يدخل هنا بغير إذن ليأخذن ما فيه عيناه، فإنما نحن مماليك هنا السلطان الملك الكامل وعبيده، وقد نصدق علينا وعليكم بهذه الكنائس، على سبيل الأنعام منه، فلا يتعدى أحد منكم طوره، فانصرف القس وهو يرعد خوفاً منه. ثم نزل الملك في دار، وأمر شمس الدين قاضي نابلس المؤذنين إلا يؤذنوا تلك الليلة، فلم يؤذنوا البتة، لما اصبح قال الملك للقاضي: لم لم يؤذن المؤذنون على المنابر؟ فقال له القاضي: منعهم المملوك إعظاماً لمملك واحتراماً له. فقال له الإمبراطور: أخطأت فيما فعلت، والله إنه كان أكبر غرضي في المبيت بالقدس أن أسمع آذان المسلمين وتسبيحهم في الليل وتسبيحهم في الليل.
ثم رحل الإمبراطور إلى عكا، وكان هذا الملك عالماً متبحراً في علم الهندسة الحساب والرياضيات، وبعث إلى الملك الكامل بعدة مسائل مشكلة في الهندسة الحكمة والرياضة، فعرضها على الشيخ علم الدين قيصر الحنفي- المعروف بتعاسيف- غيره، فكتب جوابها، وعاد الإمبراطور من عكا إلى بلاده في البحر، آخر جمادى الآخرة، وسير الكامل جمال الدين الكاتب الأشرف إلى البلاد الشرقية وإلى الخليفة، في تسكين قلوب الناس وتطمين خواطرهم من انزعاجهم لأخذ الفرنج القدس.
وفي خامس جمادى الأولى- وهو يوم الأحد-: وقعت الحوطة على دار القاضي الأشرف أحمد بن القاضي الفاضل، وحملت خزائن الكتب، جميعها إلى قلعة الجبل، في سادس عشريه، وجملة الكتب ثمانية وستون ألف مجلدة، وحمل من داره- في ثالث جمادى الآخرة- خشب خزائن الكتب مفصلة، وحملها تسعة وأربعون جملاً، وكانت الجمال التي حملت الكتب تسعة وخمسون جملاً، ثلاث دفعات.
وفي يوم السبت ثاني عشري رجب منها: حملت الكتب والخزائن من القلعة إلى دار الفاضل، وقيل إن عدتها أحد عشر ألف كتاب وثمانمائة وثمانية كتب، ومن جملة الكتب المأخوذة كتاب الأيك والغصون لأبي العلاء المعري، في ستين مجلداً.
وفيها وصل ملك ملطية فكثرت غاراته وقتله وسبيه.
وفيها اشتد تشنيع الملك الناصر داود بدمشق على عمه الملك الكامل تسليمه القدس للفرنج، فنفرت قلوب الرعية، وجلس الحافظ شمس الدين سبط ابن الجوزي بجامع دمشق، وذكر فضائل بيت المقدس، وحزن الناس على استيلاء الفرنج عليه، وبشع القول في هذا الفعل، فاجتمع في ذلك المجلس ما لا يحصى عدده من الناس، وعلت أصواتهم بالصراخ، واشتد بكاؤهم، وانشد الحافظ شمس الدين قصيدة، أبياتها ثلاثمائة بيت، منها:
على قبة المعراج والصخرة التي ** تفاخر ما في الأرض من صخرات

مدارس آيات خلت من تلاوة ** ومنزل وحي مقفر العرصات

فلم ير بدمشق أكثر بكاء من ذلك اليوم، وكان الأشرف على منازلة دمشق، فبعث إلى الكامل يستحثه، فرحل الكامل من تل العجول بعد طول مقامه بها، فتلقاه في قرية يبنا أخوه العزيز عثمان، صاحب بانياس، بابنه الظاهر غازي، فوصل الكامل العزيز بخمسين ألف في ينار، وابنه غازي بعشرة آلاف دينار، وقماش وخلع سنية، وأمر الكامل فضربت له خيمة عظيمة، وحولها بيوتات، وسائر ما يحتاج إليه من الآلات والخيام، برسم أصحابه ومماليكه، ثم وصل إليه أيضاً الأمير عز الدين أيدمر المعظمي، فدفع إليه الكامل عشرة آلاف دينار- وقيل عشرين ألف دينار- وكتب له على الأعمال القوصية بعشرين ألف أردب غلة، وأعطاه أملاك الصاحب صفي الدين بن شكر، ورباعه وحمامه، وسار الكامل إلى دمشق، فنزل على ظاهرها في جمادى الأولى، وجد هو والأشرف في حصارها، حتى اشتد عطش الناس في دمشق، لانقطاع الأنهار عنهم، ومع ذلك فالحرب بينهم قائمة في كل يوم إلى آخر رجب، فغلت الأسعار ونفدت أموال الناصر، وفارقه جماعة من أصحابه، وصاروا إلى الكامل والأشرف، وأخذ الناصر في ضرب أوانيه من النصب والفضة دنانير ودراهم، وفرقها حتى نفد أكثر ما كان عنده من الذخائر، وناصحته العامة مناصحة كبيرة، وابلوا في عسكر الكامل والأشرف بلاء عظيماً.
وفي أثناء ذلك قدم القاضي بهاء الدين بن شداد ومعه أكابر حلب وعدولها، من عند الملك العزيز محمد بن الظاهر غازي صلاح الدين، صاحب حلب، لتزويج ابنة الملك الكامل بالملك العزيز، خرج الملك الكامل من مخيمه بمسجد القدم إلى لقائه، وأنزله قريباً منه، ثم أحضره فقدم لقدمة كانت معه من الملك العزيز، وعقد العقد للملك العزيز على الخاتون فاطمة ابنة الملك الكامل الأمير عماد الدين عمر بن شيخ الشيوخ، على صداق مبلغه خمسون ألف دينار، فقبل العقد ابن شداد في سادس عشر شهر رجب، فضعف قلب الملك الناصر داود، وقلت أمواله، فخرج ليلاً من قلعة دمشق في آخر شهر رجب، ومعه نفر يسير، وألقى نفسه على مخيم الكامل، فخرج إليه الكامل، وأكرمه إكراماً زائداً، وباسطه وطيب قلبه، بعد عتب كثير، وأمره أن يعود إلى القلعة، فعاد إليها، ثم بعد يومين بعث الكامل بالأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ إلى القلعة- وكان يوم جمعة- فصلى بها الجمعة، وخرج ومعه الناصر داود إلى الملك الكامل فتحالفاً، وعوضه الكامل عن دمشق بالكرك والشوبك وأعمالهما، مع الصلت والبلقاء والأغوار جميعها، ونابلس وأعمال القدس وبيت جبريل، ثم نزل الناصر عن الشوبك للكامل فقبلها، وصار للكامل مع الشوبك بلد الخليل عليه السلام، وطبرية وغزة، وعسقلان والرملة ولد وما بأيدي المسلمين من الساحل.
وفتحت أبواب دمشق في أول يوم من شعبان، فشق ذلك على أهل دمشق، وتأسفوا على مفارقة الناصر، وكثر بكاؤهم، ثم تسلمها الملك الأشرف، وبعث الكامل قصاده لتسلم بلاد الأشرف، وهم الأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ، والخادم شمس الدين صواب، وجماعة، فتسلما حران والرها وسروج، ورأس عين والرمة، وغير ذلك، وسافر الناصر داود بأهله إلى الكرك، وسار الكامل إلى حماة، وبها الناصر صلاح الدين قلج أرسلان بن المنصور محمد بن تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب.
وقدم مع الكامل المظفر تقي الدين محمود بن المنصور محمد بن تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب في جماعة، فنازل حماة حتى سلم صاحبها الناصر قلج أرسلان، وسبق إلى الملك الكامل وهو بسليمة، فأهانه واعتقله، وتسلم المظفر حماة، فكانت مدة الناصر بحماة تسع سنين تنقص شهرين، وبعث الكامل بالناصر صاحب حماة إلى مصر، فاعتقل بها، ثم سار الكامل يريد البلاد الشرقية، فقطع الفرات، ودخل قلعة جعبر، ثم توجه إلى الرقة، وخافه ملوك الشرق، فعيد بالرقة عيد الفطر، وسار إلى حران والرها، واستخدم بها عسكراً عدته نحو ألفي فارس، فقدمت عليه رسل ماردين وآمد، والموصل وإربل وحضر إليه أيضاً عدة ملوك، وبعث الكامل فخر الدين بن شيخ الشيوخ إلى الخليفة، وأطلق ابن أخيه الملك الناصر قلج ارسلان من اعتقاله، وخلع عليع، وأعطاه بارين، وكتب له بها توقيعاً، وأمر أن يحمل إليه ما كان في قلعة حماة- وهو أربعمائة ألف درهم- وكتب إلى المظفر تقي الدين بتسليم ذلك إليه.
فوصل الناصر إلى بارين وتسلمها، ثم ورد الخبر على الكامل بأن جلال الدين خورازم شاه نازل خلاط، ونصب عليها عشرين منجنيقاً، وكان وصوله إليها في نصف شوال، وكانت خلاط للملك الأشرف، وبها عسكره، فأرسلوا إلى الملك الكامل يسألون في نجدة، فلم يرسل الكامل إليهم أحداً، وورد الخبر بإقامة الخطبة في ماردين للملك الكامل، وضربت السكة بأحده هناك. ثم توالت الرسل من خلاط، وكلها تطلب إلى الكامل أن يبعث الأشرف لنجدة البلد فبعث الكامل يطلب عساكر حلب وحماة وحمص، فخرجت عساكر حلب إلى خلاط، ومعها الأشرف، ثم ورد الخبر بأن الفرنج قد أغارت على بارين، وأنهم نهبوا ما بها، وأسروا وسبوا.
وفيها مات الملك المسعود يوسف بن الملك الكامل بمكة، عن ست وعشرين سنة، منها مدة ملكه باليمن أربع عشرة سنة، وهو آخر ملوك بني أيوب ببلاد اليمن، وترك المسعود ابنا يقال له صلاح الدين يوسف، ولقب بالملك المسعود، ولقب أبيه، وبقي يوسف هذا حتى مات في سلطنة عمه الملك الصالح نجم الدين أيوب، صاحب مصر.
ثم ولي ابنه موسى بن يوسف بن يوسف بن الكامل مملكة مصر، ولقب بالأشرف، شركة مع المعز أيبك، كما سيأتي إن شاء الله تعالى، فاشتد حزن الملك الكامل على ولده يوسف، وتسلم مماليكه وخزائنه وأولاده، ولبس لشدة حزنه البياض، وكان المسعود قد استخلف على اليمن نور الدين علي بن رسول التركماني، فتغلب عليها، وبعث إلى الملك الكامل عدة هدايا، وقال: أنا نائب السلطان على البلاد، فاستمر ملك اليمن في عقبه بعد ذلك.