فصل: سنة ستة وأربعين وستمائة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: السلوك لمعرفة دول الملوك (نسخة منقحة)



.سنة خمس وأربعين وستمائة:

فيها عاد السلطان الملك الصالح من دمشق إلى ديار مصر، بعد ما أخذ عسقلان وخربها في جمادى الآخرة، وبعد أن تسلم أيضاً قلعة بارزين من عمل حماة، في رمضان، وفي عوده إلى مصر عرض له- وهو بالرمل- وجع في حلقه، أشفى منه على الموت، ثم عوفي ودخل إلى قلعته سالماً، وزينت البلدان والقلعتان فرحاً به وكتب السلطان إلى الأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ أن يشر من بلاد الفرنج بالساحل إلى دمشق، فسار إليهما بمن معه من العسكر، وأنعم على من بها من الأمراء وغيرهم، وخلع عليهم، وأخذت عسقلان، يوم الخميس ثاني عشر جمادى الآخرة بعساكر السلطان.
وفيها تسلم نواب السلطان قلعة الصبيبة وحضر إلى حلب من حماة الطواشي شجاع الدين مرشد المنصوري، والأمير مجاهد الدين أمير جاندار، لإحضار سيدة الخواتين عصمة الدنيا والدين عائشة خاتون، ابنة الملك العزيز محمد بن الظاهر غازي بن صلاح الدين يوسف بن أيوب فسارت ومعها أمها الستر الرفيع فاطمة خاتون، ابنة الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب، في رمضان وهي في تجمل زائد، ومحفتها ملبسة ثوب حرير بذهب مكلل بالجواهر فتلقاها زوجها الملك المنصور صاحب حماة.
وفيها حكر الناس البستان الكافوري بالقاهرة، وعمروا فيه الدور.
وفيها قبض على الأمير عز الدين أيبك المعظمي بدمشق، وحمل إلى القاهرة تحت الحوطة، فاعتقل بها في دار صواب ورافعه ولده أن الذي حمله من صلخد كان مبلغ ثمانين خرجا أودعها، فلما بلغه ذلك سقط إلى الأرض، وقال: هذا آخر العهد بالدنيا، ولم يتكلم بعدها حتى مات.
وفيها سار السلطان من قلعة الجبل، ونزل بقصره في أشموم طناح.
وفيها خنق الملك العادل أبو بكر بن محمد الكامل، في ثاني عشر شوال.

.سنة ستة وأربعين وستمائة:

فيها كتب السلطان من أشموم طناح إلى نائبه بديار مصر الأمير حسام الدين بن أبي علي، أن يرحل بالحلقة السلطانية والدهليز السلطاني إلى دمشق، وأقام السلطان بدله في نيابة السلطنة بالقاهرة الأمير الجواد جمال الدين، وأبا الفتح موسى بن يغمور بن جلدك. فسار الأمير حسام الدين، ونزل بالقصور التي أنشأها السلطان الملك الصالح أيوب، وجعلها مدينة بالسانح في أول الرمل، وجعل فيها سوقاً جامعاً، ليكون مركز العساكر عند خروجهم من الرمل، وسماها الصالحية. وأقام حسام الدين بالصالحية مقام السلطان، وطال مقامه بها نحو أربعة أشهر، ثم سار ليحرك الملك الأشرف صاحب حمص، فإن الأخبار وردت بمسير عساكر حلب مع الأمير شمس الدين لؤلؤ الأسيفي، والملك الصالح إسماعيل، لأخذ حمص. فلم يدركه حسام الدين، وسلم الأشرف حمص، وصارت للناصر صاحب حلب، وتعوض الأشرف عن حمص تل باشر.
فلما بلغ السلطان ذلك عاد من أكوم طناح إلى القاهرة، وخرج منها إلى عسكره بالصالحية، وسار في محفة لما به من المرض، بسبب ورم مأبضه وكان قد اشتد به حتى حصل منه ناصور. وحدث قرحة في الصدر، إلا أن همته كانت قوية، فلم يلق نفسه وسار السلطان إلى دمشق، ونزل بقلعتها.
وبعث السلطان بالأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ، ومعه الأمراء والعساكر، وفيهم الأمير ابن أبي علي الهذباني، إلى حمص، فنازلها ورمى عليها بمنجنيق زنة حجره مائة وأربعون رطلاً، ومعه ثلاثة عشر منجنيقاً آخر، وسخر الناس في حمل هذه المجانيق من دمشق، حتى كان يحمل كل عود ثمنه نحو عشرين درهماً بألف درهم، فإن الوقت كان شتاء صعباً. وألح الأمير فخر الدين في الحصار إلى أن قدم من بغداد الشيخ نجم الدين البادرائي، رسولاً من الخليفة المستعصم بالله، بالصلح بين الحلبيين وبين السلطان، فتقرر الصلح، ورحل العساكر عن حمص، بعدما أشرف على أخذها.
وقدم من حلب الشيخ شمس الدين الخسروشاهي، فسأل السلطان على لسان الملك الناصر داود صاحب الكرك، أن يسلم الكرك إلى السلطان، ويعتاض عنها بالشوبك، فأجيب الناصر داود إلى ذلك، وتوجه من يتسلم منه الكرك، ثم رجع الناصر عن ذلك، لما بلغه من شدة مرض السلطان، وتحرك الفرنج لأخذ ديار مصر فخرج السلطان من دمشق في محفة، وسار إلى الغور، وقدم الأمير حسام الدين بن أبي علي إلى القاهرة، لينوب عنه بها، واستدعي بالأمير جمال الدين بن يغمور من القاهرة لينوب بدمشق، وعزل الصاحب جمال الدين بن مطروح عن دمشق، وعزل الطواشي شهاب الدين رشيد عن قلعة دمشق، وفوض ما كان بيدهما للأمير جمال الدين بن يغمور.
وفيها احترق المشهد الحسيني بالقاهرة، واحترقت المنارة الشرقية بجامع دمشق. وفيها مات قاضي القضاة أفضل الدين الخونجي، في شهر رمضان، فولي من بعده ابنه قاضي القضاة جمال الدين يحيى.
وفيها مات الملك المظفر شهاب الدين غازي بن العادل أبي بكر بن أيوب، صاحب الرها، وقام من بعده ابنه الكامل محمد في سلطة الرها وميافارقين.
وفيها عزل الملك المنصور نور الدين عمر بن علي بن رسول صاحب اليمن الأمير فخر الدين بن الشلاح عن مكة وأعمالها، وولي عوضه محمد بن أحمد بن المسيب، على مال يقوم به، وقود عدده مائة فرس كل سنة فقدم ابن المسيب مكة، وخرج الأمير فخر الدين فسار بنفسه ابن المسيب، وأعاد الجبايات والمكوس بمكة، وأخذ الصدقة الواردة من اليمن، عن مال السلطان وبنى حصناً بنخلة يسمى العطشان وحلف هذيلا لنفسه، ومنع الجند النفقة فوثب عليه الشريف أبو سعد بن علي بن قتادة، وقيده وأخذ ماله، وقال لأهل الحرم: إنما فعلت به هذا لأني تحققت أنه يريد الفرار بالمال إلى العراق، وأنا غلام مولانا السلطان والمال عندي محفوظ والخيل والعدد، إلى أن يصل مرسومه، فلم يكن غير أيام، وورد الخبر بموت السلطان نور الدين عمر بن رسول.

.سنة سبع وأربعين وستمائة:

فيها قدم السلطان من دمشق، وهو مريض في محفة، لما بلغه من حركة الفرنج. فنزل بأشموم طناح في المحرم، وجمع في دمياط من الأقوات والأسلحة شيئاً كثيراً، وبعث إلى الأمير حسام الدين بن أبي على نائبه بالقاهرة، أن يجهز الشواني من صناعة مصر، فشرع في تجهيزها، وسيرها شيئاً بعد شيء. وأمر السلطان الأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ أن ينزل على جيزة دمياط بالعساكر ليصير في مقابلة الفرنج إذا قدموا فتحول الأمير فخر الدين بالعساكر، فنزل بالجيزة تجاه دمياط، وصار النيل بينه وبينها، ولم يقدر السلطان على الحركة لمرضه، ونودي في مصر: من كان له على السلطان أو عنده له شيء، فليحضر ليأخذ حقه، فطلع الناس وأخذوا ما كان لهم.
وفي الساعة الثانية من يوم الجمعة لتسع بقين من صفر: وصلت مراكب الفرنج البحرية، وفيها جموعهم العظيمة صحبة ريدافرنس- ويقال له الفرنسيس، واسمه لويس ابن لويس. وريدافرنس لقب بلغة الفرنج، معناه ملك أفرنس- وقد انضم إليهم فرنج الساحل كله، فأرسوا في البحر بازاء المسلمين. وسير ملك الفرنج إلى السلطان كتاباً، نصه بعد كلمة كفرهم: أما بعد فإنه لم يخف عنك أني أمين الأمة العيسوية، كما أني أقول أنك أمين الأمة المحمدية. وإنه غير خاف عنك أن أهل جزائر الأندلس يحملون إلينا الأموال والهدايا، ونحن نسوقهم سوق البقر ولقتل منهم الرجل ونرمل النساء، ونستأسر البنات والصبيان، ونخلي منهم الديار، وقد أبديت لك ما فيه الكفاية، ونجلت لك النصح إلى النهاية، فلو حلفت لي بكل الأيمان، ودخلت على القسوس والرهبان، وحملت قدامي الشمع طاعة للصلبان، ما ردني ذلك عن الوصول إليك وقتلك في أعز البقاع عليك، فإن كانت البلاد لي، فيا هدية حصلت في يدي، وإن كانت البلاد لك والغلبة علي، فيدك العليا ممتدة إلي. وقد عرفتك وحذرتك من عساكر قد حضرت في طاعتي، تملأ السهل والجبل، وعددهم كعدد الحصى، وهم مرسلون إليك بأسياف القضا.
فلما وصل الكتاب إلى السلطان وقرئ عليه، اغرورقت عيناه بالدموع واسترجع. فكتب الجواب بخط القاضي بهاء الدين زهير بن محمد، كاتب الإنشاء، ونسخته بعد البسملة وصلواته على سيدنا محمد رسول الله وآله وصحبه أجمعين: أما بعد فإنه وصل كتابك، وأنت تهدد فيه بكثرة جيوشك وعدد أبطالك. فنحن أرباب السيوف، وما قتل منا قرن إلا جددناه، ولا بغى علينا باغ إلا دمرناه. فلو رأت عيناك- أيها المغرور- حد سيوفنا وعظم حروبنا، وفتحنا منكم الحصون والسواحل، وأخرابنا منكم ديار الأواخر والأوائل، لكان لك أن تعض على أناملك بالندم، ولابد أن تزل بك القدم، في يوم أوله لنا وآخره عليك. فهنالك تسيء بك الظنون، {وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون}. فإذا قرأت كتابي هذا، فكن فيه على أول سورة النحل: {أتى أمر الله فلا تستعجلوه}، وكن على آخر سورة ص: {ولتعلمن نبأه بعد حين} ونعود إلى قول الله تبارك وتعالى، وهو أصدق القائلين: {كم من فئة قليلة غلبت فئة كبيرة بإذن الله والله مع الصابرين}، وإلى قول الحكماء: إن الباغي له مصرع وبغيك يصرعك، وإلى البلاء يقلبك، والسلام.
وفي يوم السبت: نزل الفرنج في البر الذي عسكر المسلمين فيه، وضربت للملك ريدافرنس خيمة حمراء. فناوشهم المسلمون الحرب، واستشهد يومئذ الأمير نجم الدين ابن شيخ الإسلام وكان رجلاً صالحاً، ورتبه الملك داود مع الملك الصالح نجم الدين لما سجن بالكرك، لمؤانسته، وممن استشهد أيضاً الأمير صارم الدين أزبك الوزيري. فلما أمسى الليل رحل الأمير فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ ممن معه من عساكر المسلمين، وقطع بهم الجسر إلى الجانب الشرقي، الذي فيه مدينة دمياط. وخلا البر الغربي للفرنج، وسار فخر الدين بالعسكر يريد أشموم طناح.
فلما رأى أهل دمياط رحيل العسكر، خرجوا كإنما يسحبون على وجوههم طول الليل، ولم يبق بالمدينة أحد البتة، وصارت دمياط فارغة من الناس جملة. وفروا إلى أكوم مع العسكر، وهم حفاة عراة جياع فقراء حيارى بمن معهم من الأطفال النساء وساروا إلى القاهرة، فنهبهم الناس في الطريق، ولم يبق لهم ما يعيشون به فعدت هذه الفعلة من الأمير فخر الدين من أقبح ما يشنع به. وقد كانت دمياط في أيام لملك الكامل، لما نازلها الفرنج، أقل ذخائر وعدداً منها في هذه النوبة، ومع ذلك لم قدر الفرنج على أخذها إلا بعد سنة، عندما فني أهلها بالوباء والجوع، وكان فيها هذه المرة أيضاً جماعة من شجعان بني كنانة، فلم يغن ذلك شيئاً.
وأصبح الفرنج يوم الأحد لسبع بقين من صفر، سائرين إلى مدينة دمياط. فعندما رأوا أبوابها مفتحة ولا أحد يحميها، خشوا أن تكون مكيدة، فتمهلوا حتى ظهر أن ناس قد فروا وتركوها. فدخلوا المدينة بغير كلفة ولا مؤنة حصار، واستولوا على ما فيها من الآلات الحربية، والأسلحة العظيمة والعدد الكثيرة، والأقوات والأزواد والذخائر، والأموال والأمتعة وغير ذلك، صفواً عفواً.
وبلغ ذلك أهل القاهرة ومصر، فأنزعج الناس انزعاجاً عظيماً، ويئسوا من بقاء كلمة الإسلام بديار مصر. لتملك الفرنج مدينة دمياط، وهزيمة العساكر، وقوة الفرنج بما صار إليهم من الأموال والأزواد والأسلحة، والحصن الجليل الذي لا يقدر على أخذه بقوة، مع شدة مرض السلطان، وعدم حركته.
وعندما وصلت العساكر إلى أشموم طناح، ومعهم أهل دمياط، اشتد حنق السلطان على الكنانيين، وأمر بشنقهم، فقالوا: وما ذنبنا إذا كانت عساكره جميعهم وأمراؤه هربوا، وأحرقوا الزردخاناه، فأي شيء لعمل نحن؟ فشنقوا لكونهم خرجوا من المدينة بغير إذن، حتى تسلمها الفرنج، فكانت عدة من شنق زيادة على خمسين أميراً من الكنانيين. وكان فيهم أمير حشيم، وله ابن جميل الصورة. فقال أبوه: بالله اشنقوني قبل ابني. فقال السلطان: لا بل اشنقوه قبل أبيه. فشنق الابن، ثم شنق الأب من بعده، بعد أن استفتى السلطان الفقهاء فأفتوا بقتلهم.
وتغير السلطان على الأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ، وقال: أما قدرتم تقفون ساعة بين يدي الفرنج. هذا وما قتل منكم إلا هذا الضيف الشيخ نجم الدين. وكان الوقت لا يسع إلا الصبر والتغاضي، وقامت الشناعة من كل أحد على الأمير فخر الدين، فخاف كثير من الأمراء وغيرهم سطوة السلطان، وهموا بقتله، فأشار عليهم فخر الدين بالصبر، حتى يتبين أمر السلطان: فإنه على خطة، وإن مات كانت الراحة منه، وإلا فهو بين أيديكم.
ولما وقع ما ذكر السلطان بالرحيل إلى المنصورة، وحمل في حراقة حتى أنزل بقصر المنصورة على بحر النيل في يوم الثلاثاء لخمس بقين من صفر، فشرع كل أحد من العسكر في تجديد الأبنية للسكنى بالمنصورة، ونصبت بالأسواق، وأبراج السور الذي على البحر وستر بالستائر. وقدمت الشواني المصرية بالعدد الكاملة والرجالة، وجاءت الغزاة والرجال من عوام الناس الذين يريدون الجهاد، من كل النواحي، ووصلت عربان كثيرة جداً، وأخذوا في الغارة على الفرنج ومناوشتهم. وحصن الفرنج أسوار دمياط، وشحنوها بالمقاتلة.
فلما كان يوم الاثنين سلخ شهر ربيع الأول: وصل إلى القاهرة من أسرى الفرنج الذين تخطفهم العرب ستة وثلاثون أسيراً، منهم فارسان، وفي خامس شهر ربيع الآخر وصل سبعة وثلاثون أسيراً، وفي سابعه وصل اثنان وعشرون أسيراً، وفي سادس عشره وصل خمسة وأربعون أسيراً، منهم ثلاثة من الخيالة. ولما بلغ أهل دمشق أخذ الفرنج لمدينة دمياط ساروا منها، وأخذوا صيداء من الفرنج، بعد حصار وقتال فورد الخبر بذلك لخمس بقين من شهر ربيع الآخر، فسر الناس بذلك.
هذا والأسرى من الفرنج تصل في كل قليل إلى القاهرة، ووصل في ثامن عشر جمادى الأولى خمسون أسيراً. ومع ذلك والمرض يتزايد بالسلطان، وقواه خط، حتى وقع بأمر الأطباء من برئه وعافيته، لاجتماع مرضين عظيمين، هما الجراحة الناصورية في مأبضه والسل.
وأما الناصر داود صاحب الكرك فإنه لما ضاقت به الأمور استخلف ابنه الملك المعظم شرف الدين عيسى، وأخذ معه جواهره، وسار في البر إلى حلب مستجيراً بالملك الناصر يوسف بن الملك العزيز فأنزله وأكرمه وسير الناصر بجواهره إلى الخليفة المستعصم بالله، لتكون عنده وديعة، فقبض الخليفة ذلك، وسير إليه الخط بقبضه وأراد الناصر بذلك أن يكون الجوهر في مأمن، فإذا احتاج إليه طلبه، وكانت قيمته ما ينيف على مائة ألف دينار. فحنق ولدا الناصر- وهما الملك الظاهر شادي والملك الأمجد حسن- على أبيهما، لكونه قدم عليهما المعظم، وقبضا على المعظم، واستوليا على الكرك وأقام الملك- الظاهر شادي وهو أسن اخوته- بالكرك وسار الملك الأمجد حسن إلى الملك الصالح نجم الدين، فوصل إلى العسكر بالمنصورة، يوم السبت لتسع مضين من جمادى الآخرة، وبشره بأنه هو وأخوه الظاهر أخذا الكرك له، وسأله في خبز بديار مصر يقوم بهما. فأكرمه السلطان، وأعطاه مالاً كثيراً، وسير الطواشي بدر الدين الصوابي إلى الكرك نائباً بها وبالشوبك، فتسلمها بدر الدين، وسير أولاد الناصر داود جميعهم، وأخويه الملك القاهر عبد الملك، والملك المغيث عبد العزيز، ونساءهم وعيالاتهم كلها. إلى المعسكر بالمنصورة، فأقطعهم السلطان إقطاعاً جليلاً، ورتب لهم الرواتب، وأنزل أولاد الناصر في الجانب الغربي قبالة المنصورة.
وكان استيلاء نائب السلطان على الكرك يوم الاثنين، لاثنتي عشرة بقيت من جمادى الآخرة، وسر السلطان بأخذ الكرك سروراً عظيماً، وأمر فزينت القاهرة ومصر، وضربت البشائر بالقلعتين، وجهز السلطان إلى الكرك ألف ألف دينار مصرية، وجواهر وذخائر وأسلحة، وشيئاً كثيراً مما يعز عليه.
وفي ثالث عشر شهر رجب: وصل إلى القاهرة سبعة وأربعون أميراً من الفرنج، وأحد عشر فارساً منهم، وظفر المسلمون بعد أيام بمسطح للفرنج في البحر، فيه مقاتلة، بالقرب من نستراوة.
فلما كان ليلة الاثنين نصف شعبان: مات السلطان الملك الصالح بالمنصورة، وهو في مقابلة الفرنج، عن أربع وأربعين سنة، بعدما عهد لولده الملك المعظم تورانشاه، وحلف له فخر الدين بن الشيخ ومحسن الطواشي، ومن يثق به، وبعدما علم قبل موته عشرة آلاف علامة. يستعان بها في المكاتبات على كتمان موته، حتى يقدم ابنه تورانشاه من حصن كيفا وكانت أم السلطان الملك الصالح أم ولد، اسمها ورد المنى. وكانت مدة ملكه بمصر عشر سنين إلا خمسين يوماً، فغسله أحد الحكماء الذين تولوا علاجه، لكي يخفى موته. وحمل في تابوت إلى قلعة الروضة، وأخفى موته، فلم يشتهر إلى ثاني عشري رمضان، ثم نقل بعد ذلك بمدة إلى تربته بجوار المدارس الصالحية بالقاهرة.
والملك الصالح هو الذي أنشأ المماليك البحرية بديار مصر: وذلك أنه لما مر به ما تقدم ذكره، في الليلة التي زال عنه ملكه، بتفرق الأكراد وغيرهم من العسكر عنه حتى لم يثبت معه سوى مماليكه، رعي لهم ذلك. فلما استولى على مملكة مصر أكثر من شراء المماليك وجعلهم معظم عسكره، وقبض على الأمراء الذين كانوا عند أبيه وأخيه، واعتقلهم وقطع أخبازهم، وأعطى مماليكه الإمريات، فصاروا بطانته والمحيطين بدهليزه، وسماهم بالبحرية لسكناهم معه في قلعة الروضة على بحر النيل.
وكان ملكا شجاعاً حازماً مهيباً، لشدة سطوته وفخامة، مع عزة النفس وعلو الهمة، وكثرة الحياء والعفة وطهارة الفيل عن الخنا، وصيانة اللسان من الفحش في القول، والإعراض عن الهزل والعبث بالكلية، وشدة الوقار ولزوم الصمت، حتى أنه كان إذا خرج من عند حرمه إلى مماليكه، أخذتهم الرعدة عندما يشاهدونه- خوفاً منه- ولا يبقى أحد منهم مع أحد. وكان إذا جلس مع ندمائه كان صامتاً، لا يستفزه الطرب ولا يتحرك، وجلساؤه كأنما على رءوسهم الطير. وإذا تكلم مع أحد من خواصه، كان ما يقوله كلمات نزرة وهو في غاية الوقار، وتلك الكلمات لا تكون إلا في مهم عظيم، من استشارة أو تقدم بأمر من الأمور المهمة، لا يعدو حديثه قط هذا النحو، ولا يجسر أحد يتكلم بين يديه إلا جواباً. وما عرف أبداً عن أحد من خواصه أن تكلم في مجلسه ابتداء البتة، ولا أنه جسر على شفاعة ولا مشورة ولا ذكر نصيحة، ما لم يكن ذلك بابتداء من السلطان، فإذا انفرد بنفسه لا يدنو منه أحد. وكانت القصص ترد إليه مع الخدام فيوقع عليها، ويخرج بها الخدام إلى كاتب الإنشاء، ولا يستقل أحد من أرباب الدولة بانفراد بأمر، بل يراجع القصص مع الخدام. ومع هذه الشهامة والمهابة لا يرفع بصره إلى من يحادثه، حياء منه وخفراً، ولم يسمع منه قط في حق أحد من خدمه لفظة فحش، وأكثر ما يقول إذا شتم أحداً: متخلف، ولا يزيد على هذه الكلمة، ولا عرف قط من النكاح سوى زوجته وجواريه.
وكانت البلاد في أيامه آمنة مطمئنة والطرق سابلة، إلا أنه كان عظيم الكبر زائد الترفع بلغ من كبره وترفعه أن ابنه الملك المغيث عمر، لما حبسه الملك الصالح إسماعيل عنده، لم يسأله فيه ولا طلبه منه، حتى مات في حبسه. وكان يحب جمع المال، بحيث أنه عاقب عليه أم أخيه الملك العادل، إلى أن أخذ منها مالاً عظيماً وجواهر نفيسة.
وقيل السلطان الملك الصالح أيوب أخاه الملك العادل، ومن حين قتله ما انتفع بالحياة لا تهنى بها: فنزل به المرض، وطرقه الفرنج، وقبض على جميع أمراء الدولة، وأخذ أموالهم وذخائرهم. ومات في حبوسه ما ينيف على خمسة آلاف نفس، سوى من قتل غرق من الأشرفية في البحر ولم يكن له مع ذلك ميل إلى العلم ولا مطالعة الكتب، إلا أنه كان يجري على أهل العلم والصلاح المعاليم والجرايات، من غير أن يخالطهم. لم يخالط غيرهم. لمحبته في العزلة ورغبته في الانفراد، وملازمته للصمت ومداومته على الوقار والسكون.
وكان يحب العمارة ويباشر الأبنية بنفسه، وعمر بمصر ما لم يعمره أحد من ملوك بني أيوب: فأنشأ قلعة الروضة تجاه مدينة فسطاط مصر، وأنفق فيها أموالاً جمة، وهدم كنيسة كانت هناك لليعاقبة من النصارى، وأسكن بهذه القلعة ألف مملوك من الترك- وقيل ثمانمائة- سماهم البحرية وكان الماء حينئذ لا يحيط بها. فلم يزل يغرق السفن، ويرمي الحجارة فيما بين الجيزة والروضة، إلى أن صار الماء في طول السنة محيطاً الروضة وأقام جسراً من مصر إلى الروضة، يمر عليه الأمراء. وغيرهم إذا جاءوا إلى الخدمة، ولم يكن أحد يمر على هذا الجسر راكباً، احتراماً للسلطان فجاءت هذه القلعة من أجل مباني الملوك وبني أيضاً على النيل بناحية اللوق قصوراً بلغت الغاية في الحسن، جعلها إلى جانب ميدانه الذي يلعب فيه بالكرة، وكان مغرم بلعبها وبني قصراً عظيماً فيما بين القاهرة ومصر، سماه الكبش، على الجبل بجوار جامع ابن طولون. وبني قصراً بالقرب من العلاقمة في أرض السانح، وجعل حوله مدينة سماها الصالحية، فيها جامع وسوق، لتكون مركزاً للعساكر بأول الرمل الذي بين الشام ومصر.
وكان له من الأولاد الملك المغيث فتح الدين عمر، وهو أكبر أولاده، مات في سجن قلعة دمشق، والملك المعظم غياث الدين تورانشاه، وملك مصر بعده، والملك القاهر، ومات في حياته أيضاً وولد له أيضاً من شجر الدر ولد سماه خليلاً، مات صغيراً.
ولما طال مرضه من الجراحة الناصورية- وفسد مخرجه، وامتد الجرح إلى فخذه اليمين، وأكل جسمه- اجتهد في مداواتها، وحدث له مرض السل من غير أن يفطن به. فورد كتابه إلى الأمير حسام الدين بن أبي علي بالقاهرة: إن الجراحة قد صلحت وجفت رطوباتها، ولم يبق إلا ركوبي ولعبي بالصولجة، فتأخذ حظك من هذه البشرى. وفي الحقيقة لم تجف الجراحة إلا لفراغ المواد، وتزايد عليه بعد ذلك المرض حتى مات.
وقيل إنه لم يعهد إلى أحد بالملك، بل قال للأمير حسام الدين بن أبي علي: إذا مت لا تسلم البلاد إلا للخليفة المستعصم بالله، ليرى فيها رأيه، فإنه كان يعرف ما في ولده المعظم تورانشاه من الهوج فلما مات السلطان أحضرت زوجته شجر الدر الأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ، والطواشي جمال الدين محسن- وكان أقرب الناس إلى السلطان، وإليه القيام بأمر مماليكه وحاشيته- وأعلمتهما بموت السلطان، ووصتهما بكتمان موته، خوفاً من الفرنج. وكان الأمير فخر الدين عاقلاً مدبراً، خليقاً بالملك، جواداً محبوباً إلى الناس، فاتفقا مع شجر الدر على القيام بتدبر المملكة، إلى أن يقدم الملك المعظم تورانشاه، فأحضرت شجر الدر الأمراء الذين بالمعسكر، وقالت لهم: إن السلطان قد رسم بأن تحلفوا له، ولابنه الملك المعظم غياث الدين تورانشاه صاحب حصن كيفا أن يكون سلطاناً بعده، وللأمير فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ بالتقدمة على العساكر والقيام بالأتابكية وتدبير المملكة، فقالوا كلهم سمعاً وطاعة، ظناً أن السلطان حي، وحلفوا بأسرهم، وحلفوا سائر الأجناد والمماليك السلطانية.
وكتب على لسان السلطان إلى الأمير حسام الدين بن أبي علي الهذباني بالقاهرة، أن يحلف أكابر الدولة وأجنادها بالقاهرة، فحضر إلى دار الوزارة قاضي القضاء بدر الدين يوسف بن الحسن قاضي سنجار، والقاضي بهاء الدين زهير بن محمد كاتب الإنشاء- وكان الملك الصالح قد أبعده لأمر نقمه عليه- وحلفا من حضر من الأعيان على ما تقدم ذكره، وكان ذلك في يوم الخميس ثامن عشر شعبان. واستدعى القاضي بهاء الدين زهير من القاهرة إلى المعسكر بالمنصورة.
وقام الأمير فخر الدين بتدبير المملكة، واقطع البلاد بمناشيره، وأعاد إليها زهيراً إلى منصبه فكانت الكتب ترد من المعسكر وعليها علامة السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب، فقيل إنها كانت بخط خادم يقال له سهيل، ولا يشك من رآه أنه خط السلطان ومشى هذا على الأمير حسام الدين نائب السلطة محق، إلى أن أوقفه بعض أصحابه على اضطراب في العلامة، يخالف علامة السلطان ففحص عن خبر السلطان من بعض خواصه الذين بالمعسكر حتى عرف موته، فاشتد خوفه من الأمير فخر الدين، وخشي أن يتغلب على الملك، فاحتاط لنفسه.
وأخذ الأمير فخر الدين يطلق المسجونين، ويتصرف في إطلاق الأموال والخلع علم خواص الأمراء، وأطلق السكر والكتان إلى الشام فعلم الناس بموت السلطان من حينئذ غير أن أحداً لا يجسر أن يتفوه به.
وسار من المعسكر الفارس أقطاي، وهو يومئذ رأس المماليك البحرية، لإحضار الملك المعظم من حصن كيفا، وبعث الأمير حسام الدين محمد بن أبي علي، نائب السلطنة بالقاهرة، من عنده قاصداً من قبله أيضاً. فلما كان يوم الاثنين لثمان بقين من شعبان، أمر الأمير حسام الدين الخطباء بأن يدعوا يوم الجمعة للملك المعظم، بعد الدعاء لأبيه، وأن ينقش اسمه على السكة، بعد اسم أبيه وتوهم الأمير حسام الدين من الأمير فخر الدين أن يقيم الملك المغيث عمر بن العادل أبي بكر بن الكامل، ويستولي على الأمر، فنقله من عند عمات أبيه بنات الملك العادل أبي بكر بن أيوب، من القاهرة إلى قلعة الجبل، ووكل به من يحتاط عليه، ولا يسلمه لأحد.
هذا والمكاتبات ترد من الأمير فخر الدين، وعنوانها من فخر الدين الخادم يوسف فيجيب عنها الأمير حسام الدين، ويجعل العنوان المملوك أبو علي، فيتجاملان في ظاهر الأمر، وأما في الباطن فإن الأمير فخر الدين أخذ في الاستبداد والاستقلال بالمملكة، واختص بالصاحب جمال بن مطروح، وبالقاضي بهاء الدين زهيرة وصار يركب في موكب عظيم، وجميع الأمراء في خدمته، ويترجلون له عند النزول ويحضرون سماطه.
ووصل قاصد الأمير حسام الدين إلى حصن كيفا، وطالع الملك المعظم بأن المصلحة في السرعة، ومتى تأخر فات الفوت، وتغلب الأمير فخر الدين على البلاد، ثم وصل إليه بعد ذلك قصاد فخر الدين وشجر الدر. فخرج المعظم من حصن كيفا ليلة السبت لإحدى عشرة ليلة مضت من شهر رمضان في خمسين فارساً من إلزامه. وقص عانه ليعدي الفرات، وقد أقام له بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل جماعة، وأقام له الحلبيون أيضاً جماعة، يقبضون عليه فنجاه الله منهم وعدى الفرات من عانة، وسلك البرية، فخاطر بنفسه وكاد يهلك من العطش.
هذا وشجر الدر تدبر الأمور حتى لم يتغير شيء، وصار الدهليز السلطاني على حاله، والسماط في كل يوم يمد، والأمراء تحضر الخدمة، وهي تقول: السلطان مريض، ما يصل إليه أحد.
وأما الفرنج فما هم إلا أن فهموا أن السلطان قد مات حتى خرجوا من دمياط، فارسهم وراجلهم، ونزلوا على فارسكور، وشوانيهم في بحر النيل تحاذيهم، ورحلوا من فارسكور يوم الخميس لخمس بقين من شعبان فورد في يوم الجمعة إلى القاهرة من المعسكر كتاب، فيه حض الناس على الجهاد، أوله: {انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون}، وكان كتابا بليغاً فيه مواعظ جمة، فقرئ على الناس فوق منبر جامع القاهرة وحصل عند قراءته من البكاء والنحيب وارتفاع الأصوات بالضجيج ما لا يوصف. وارتجت القاهرة ومصر، لكثرة انزعاج الناس وحركتهم للمسير، فخرج من البلاد والنواحي لجهاد الفرنج عالم عظيم، وقد اشتد كرب الخلائق من تمكن الفرنج وقوتهم وأخذهم البلاد، مع موت السلطان.
فلما كان يوم الثلاثاء أول يوم من شهر رمضان: واقع الفرنج المسلمين، فاستشهد العلامي أمير مجلس، وجماعة من الأجناد، وقتل من الفرنج عدة ونزل الفرنج بشارمساح.
وفي يوم الاثنين سابعه: نزلوا البرمون، فاشتد الكرب وعظم الخطب، لدنوهم وقربهم من المعسكر. وفي يوم الأحد ثالث عشره وصلوا إلى طرف بر دمياط، ونزلوا تجاه المنصورة، وصار بينهم وبين المسلمين بحر أشموم. وكان معظم عسكر المسلمين في المنصورة بالبر الشرقي، وفي البر الغربي أولاد الملك الناصر داود صاحب الكرك: وهم الملك الأمجد، والملك الناصر، والملك المعظم، والملك الأوحد، وفي عدة من العسكر وكان أولاد الملك الناصر داود، الأكابر منهم والأصاغر الذين قدموا القاهرة، اثني عشر ولداً ذكراً. وكان بالبر الغربي أيضاً أخو الملك الناصر داود: وهما الملك القاهر عبد الملك، والملك المغيث عبد العزيز، فاستقر الفرنج بمنزلتهم هذه، وخندقوا عليهم خندقاً، وأداروا أسواراً وستروه بالستائر، ونصبوا المجانيق ليرموا بها على معسكر المسلمين، ونزلت شوانيهم بازائهم في بحر النيل، ووقفت شواني المسلمين بازاء المنصورة، ووقع القتال بين الفريقين براً وبحراً.
وفي يوم الأربعاء سادس عشره: قفز إلى عند المسلمين ستة خيالة، وأخبروا بضائقة الفرنج.
وفي يوم عيد الفطر: أسر كند كبير من الفرنج، له قرابة من الملك ريدافرنس. واستمر القتال، وما من يوم إلا ويقتل من الفرنج ويؤسر، وقد لقوا من عامة المسلمين وسوالهم نكاية عظيمة، وتخطفوا منهم وقتلوا كثيراً وكانوا إذا شعروا بالفرنج ألقوا أنفسهم في الماء، وسبحوا إلى أن يصيروا في بر المسلمين. وكانوا يتحيلون في خطفهم بكل حيلة حتى أن شخصاً أخذ بطيخة أدخل فيها رأسه، وغطس في الماء إلى أن قرب من الفرنج فظنوه بطيخة، فما هو إلا أن نزل أحدهم في الماء ليتناولها إذ اختطفه المسلم، وعام به حتى قدم به إلى المسلمين.
وفي يوم الأربعاء سابع شوال: أخذ المسلمون شينيا، فيه نحو مائتي رجل من الفرنج وكند كبير.
وفي يوم الخميس النصف منه: ركب الفرنج والمسلمون، فدخل المسلمون إليهم البر الذي هم فيه، وقاتلوهم قتالاً شديداً، قتل فيه من الفرنج أربعون فارساً، وقتلت خيولهم.
وفي يوم الجمعة تاليه: وصل القاهرة سبعة وستون أسير من الفرنج، منهم ثلاثة من أكابر الداوية.
وفي يوم الخميس ثاني عشريه: أحرقت للفرنج مرمة عظيمة في البحر، واستظهر عليهم استظهاراً عظيماً.
وما زال الأمر على ذلك إلى أن كان يوم الثلاثاء خامس ذي القعدة، دل بعض منافقي أهل الإسلام الفرنج على مخاض في بحر أشمون، فلم يشعر الناس إلا والفرنج معهم في المعسكر، وكان الأمير فخر الدين في الحمام، فأتاه الصريخ بأن الفرنج قد هجموا على العسكر، فخرج مدهوشاً وركب فرسه في غير اعتداد ولا تحفظ، وساق لينظر الخبر ويأمر الناس بالركوب، وليس معه سوى بعض مماليكه وأجناده فلقيه طلب الفرنج الحاوية وحملوا عليه، ففر من كان معه وتركوه وهو يدافع عن نفسه، فطعنه واحد برمح في جنبه، واعتورته السيوف من كل ناحية. فمات رحمه الله ونزل الفرنج على جديلة، وكانوا ألفاً وأربعمائة فارس ومقدمهم أخو الملك ريدافرنس.
وما هو إلا أن قتل الأمير فخر الدين، وإذا بالفرنج اقتحموا على المنصورة فتفرق الناس وانهزموا يميناً وشمالاً، وكانت الكسرة أن تكون، فإن الملك ريدافرنس وصل بنفسه إلى باب قصر السلطان إلا أن الله تدارك بلطفه، وأخرج إلى الفرنج الطائفة التركية، التي تعرف بالبحرية والجمدارية، وفيهم ركن الدين بيبرس البندقداري الذي تسلطن بعد هذه الأيام فحملوا على الفرنج حملة زعزعوهم بها، وأزاحوهم عن باب القصر فلما ولوا أخذتهم السيوف والدبابيس، حتى قتل منهم في هذه النوبة نحو ألف وخمسمائة من أعيانهم وشجعانهم. وكانت رجالة الفرنج قد أتوا الجسر ليعدوا منه، فلولا لطف الله لكان الأمر يتم لهم بتعديتهم الجسر. وكانت المعركة بين أزقة المنصورة، فانهزموا إلى جديلة منزلتهم، وقد حال بين الفريقين الليل، وأداروا عليهم سوراً وخندقوا خندقاً. وصارت منهم طائفة في البر الشرقي، ومعظمهم في الجزيرة المتصلة بدمياط فكانت هذه الواقعة أول ابتداء النصر على الفرنج.
وعندما هجم الفرنج على المعسكر سرح الطائر بذلك إلى القاهرة، فانزعج الناس انزعاجاً عظيماً، وقدم المنهزمون من السوقة والعسكر، فلم تغلق أبواب القاهرة في ليلة الأربعاء لتوارد المنهزمين.
وفي صبيحة يوم الأربعاء: وقعت البطاقة تبشر بالنصرة على الفرنج، فزينت القاهرة وضربت البشائر بقلعة الجبل، وكثر فرح الناس وسرورهم وبقي العسكر يدبر أمره شجر الدر، فكانت مدة تدبير الأمير فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ، بعد موت الملك الصالح لمملكة مصر خمسة وسبعين يوماً، وفي يوم قتله نهب مماليكه وبعض الأمراء داره، وكسروا صناديقه وخزائنه، وأخذوا أمواله وخيوله وأحرقوا داره.
السلطان الملك المعظم غياث الدين تورانشاه ابن الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب بن شادي ابن مروان، سار من حصن كيفا إلى دمشق، لإحدى عشرة ليلة مضت من شهر رمضان، فنزل عانة في خمسين فارساً من أصحابه، يوم الخميس النصف من شهر رمضان سنة سبع وأربعين، وخرج منها يوم الأحد يريد دمشق على طريق السماوة في البرية فنزل القصير في دهليز ضربه له الأمير جمال الدين موسى بن يغمور نائب دمشق يوم الجمعة لليلتين بقيتا من شهر رمضان.
ودخل المعظم تورانشاه من الغد- وهو يوم السبت سلخه- إلى دمشق، ونزل بقلعتها، فكان يوماً مشهوداً وقام الأمير جمال الدين بخدمته، وحلف له الأمراء، وتسلطن في يومئذ. وخلع المعظم على الأمراء وأعطاهم أموالاً جزيلة، بحيث أنه أنفق ما كان في قلعة دمشق، وهو ثلاثمائة ألف دينار. واستدعى من الكرك مالاً آخر حتى أنفقه، وأفرج عمن كان بدمشق في حبس أبيه، وأتته الرسل من حماة وحلب تهنئه بالقدوم.
ولأربع مضين من شوال: سقطت البطائق إلى العسكر والقاهرة، بوصول الملك المعظم إلى دمشق وسلطته بها فضربت البشائر بالمعسكر وبالقاهرة.
وسار السلطان من دمشق يوم الأربعاء سابع عشريه يريد مصر، بعدما خلع علي الأمير جمال الدين، وأقره على نيابة السلطة بدمشق. وقدم معه القاضي الأسعد شرف الدين هبة الله بن صاعد الفائزي، وكان مقيماً بدمشق عند الأمير جمال الدين. وقدم معه أيضاً هبة الله بن أبي الزهر بن حشيش الكاتب النصراني وقد وعده السلطان بوزارة مصر، فأسلم وتلقب بالقاضي معين الدين. وسيره السلطان أول يوم من ذي القعدة إلى قلعة الكرك ليحتاط على خزائنها، فأنهى أشغاله بها ولحقه في الرمل، وأسلم على يده هناك.
وعندما تواترت الأخبار في القاهرة بقدوم السلطان، خرج قاضي القضاة بدر الدين السنجاري، فلقيه بغزة وقدم معه وخرج الأمير حسام الدين بن أبي علي نائب السلطان إلى الصالحية، فلقيه بها يوم السبت لأربع عشرة ليلة بقيت من ذي القعدة، ونزل السلطان المعظم تورانشاه في قصر أبيه، ومنه يومئذ أعلن بموت الملك الصالح نجم الدين أيوب ولم يكن أحد قبل هذا اليوم ينطق بموته، بل كانت الأمور على حالها- والدهليز الصالحي والسماط ومجيء الأمراء للخدمة، على ما كان عليه الحال في أيام حياته، وشجر الدر تدبر أمور الدولة كلها، وتقول: السلطان مريض، ما إليه وصول- فلم يتغير عليها شيء، إلى أن استقر الملك المعظم بالصالحية.
فتسلم السلطان المعظم مملكة مصر، وخلع على الأمير حسام الدين بن أبي علي خلعة سنية، ومنطقة وسيفا فيهما ثلاثة آلاف دينار مصرية، وأنشده الشعراء عدة تهاني، وجرت بين يديه مباحثات ومناظرات في أنواع من العلوم وكان السلطان المعظم قد مهر في العلوم، وعرف الخلاف والفقه والأصول، وكان جده الملك الكامل يحبه لميله إلى العلم، ويلقي عليه من صغره المسائل المشكلة، ويأمره بعرضها وامتحان الفقهاء بها في مجلسه. ولازم المعظم الاشتغال إلى أن برع، إلا أنه فيه هوج وخفة، مع غرامه بمجالسة أهل العلم من الفقهاء والشعراء.
ثم إنه رحل من الصالحية ونزل تلبانة، ثم نزل بعدها منزلة ثالثة، وسار منها إلى المنصورة. وقد تلقاه الأمراء المماليك، فنزل في قصر أبيه وجده يوم الخميس لتسع بقين من ذي القعدة. فأول ما بدأ أن أخذ مماليك الأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ الصغار، وكثيراً من مخلفه، بدون القيمة، ولم يعط ورثته شيئاً، وكان ذلك بنحو الخمسة عشرة ألف دينار. وأخذ يسب فخر الدين ويقول: أطلق السكر والكتان، وأنفق المال وأطلق المحابيس إيش ترك لي.
وكانت الميرة ترد إلى الفرنج في منزلتهم من دمياط في بحر النيل، فصنع المسلمون عدة مراكب، وحملوها وهي مفصلة على الجمال إلى بحر المحلة، وطرحوها فيه وشحنوها بالمقاتلة، وكانت أيام زيادة النيل، فلما جاءت مراكب الفرنج لبحر المحلة، وهذه المراكب مكمنة فيه، خرجت عليها بغتة وقاتلتها وللحال قدم أسطول المسلمين من جهة المنصورة، فأخذت مراكب الفرنج أخذاً وبيلاً، وكانت اثنتين وخمسين مركباً، وقتل منها وأسر نحو ألف إفرنجي، وغنم سائر ما فيها من الأزواد والأقوات، وحملت الأسرى على الجمال إلى العسكر. فانقطع المدد من دمياط عن الفرنج، ووقع الغلاء عندهم، وصاروا محصورين لا يطيقون المقام ولا يقدرون على الذهاب، واستضرى المسلمون عليهم وطمعوا فيهم.
وفي أول ذي الحجة: أخذ الفرنج من المراكب التي في بحر المحلة سبع حراريق، ونجا من كان فيها من المسلمين. وفي ثاني ذي الحجة تقدم أمر السلطان إلى الأمير حسام الدين بن أبي علي بالسير إلى القاهرة، والإقامة بدار الوزارة على عادته في نيابة السلطة. وفيه وصل إلى السلطان جماعة من الفقهاء: منهم الشيخ عز الدين بن عبد السلام، وبهاء الدين بن الجميزي، الشريف عماد الدين، والقاضي عماد الدين القاسم ابن إبراهيم بن هبة الله بن إسماعيل بن نبهان بن محمد بن المقنشع الحموي- قاضي مصر، وكان قد ولي القضاء بعد موت الجمال يحيى، في جمادى الأولى-، وسراج الدين الأرموي فجلس السلطان المعظم معهم وناظرهم.
وفي يوم عرفة: وصلت مراكب فيها الميرة للفرنج، فالتقت بها شواني المسلمين عند مسجد النصر، فأخذت شواني المسلمين منها اثنتين وثلاثين مركباً، منها تسع شواني. فاشتد الغلاء عند الفرنج، وشرعوا في مراسلة السلطان يطلبون منه الهدنة، فاجتمع برسلهم الأمير زين الدين أمير جاندار، وقاضي القضاة بدر الدين السنجاري، فسألوا أن يسلموا دمياط، ويأخذوا عوضاً عنها مدينة القدس وبعض الساحل، فلم يجابوا إلى ذلك.
وفي يوم الجمعة، لثلاث بقين من ذي الحجة: أحرق الفرنج ما عندهم من الخشب، وأتلفوا مراكبهم ليفروا إلى دمياط، وخرجت السنة وهم في منزلتهم.
وفي هذه السنة: قدم إلى بغداد طائفة من التتر على حين غفلة، فقتلوا ونهبوا وجفل منهم الناس.
وفيها استولى علي بن قتادة على مكة، في ذي القعدة.
وفيها قتل الشريف شيخة أمير المدينة النبوية، وقام من بعده ابنه عيسى.
وفيها قتل المنصور نور الدين عمر بن علي بن رسول صاحب اليمن، وملك بعده ابنه المنصور شمس الدين يوسف.
وفيها مات متملك تونس أبو زكريا يحيى بن عبد الواحد بن أبي حفص، في آخر جمادى الآخرة، عن تسع وأربعين سنة. وكان أبو زكريا يحيى قد قام وملك تونس، واستبد بأمرها ودعا لنفسه، وقد ضعف أمر ملوك الموحدين من بني عبد المؤمن بن علي. فأقام أبو زكريا يحيى على مملكة إفريقية ثلاثاً وعشرين سنة، وامتدت مملكته إلى تلمسان وسجلمامة وسبته، وبايعه أهل إشبيلية وشاطبة والمرية ومالقة وغرناطة، وخلف مالاً جماً، فبويع بعده ابنه محمد المستنصر. وأبو زكريا هذا هو أول من ملك تونس من الملوك الحفصيين، وأما من كان قبله منهم فإنما كانوا عمالاً لبني عبد المؤمن.
وفيها قبض الشريف أبو سعد بن علي بن قتادة على الأمير أحمد بن محمد بن المسيب بمكة في آخر شوال، كما تقدم في السنة الخالية، وقام هو بإمرة مكة.