فصل: سنة عشر وستمائة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: السلوك لمعرفة دول الملوك (نسخة منقحة)



.سنة ثمان وستمائة:

فيها قبض الملك العادل على الأمير عز الدين أسامة الصلاحي، نائب كوكب وعجلون واعتقله وأخذ ماله، وسيره إلى الكرك فاعتقل فيها هو وولده، وتسلم المعظم قلعة كوكب وعجلون، وهدم قلعة كوكب، وعفى أثرها.
وفيها توجه الملك العادل إلى الإسكندرية، لكشف أحوالها.
وفيها قدم بهاء الدين بن شداد من حلب إلى القاهرة يخطب صفية خاتون ابنة العادل شقيقة الكامل، لابن عمها الظاهر، فأجيب إلى ذلك، وعاد مكرما.
وفيها ماتت أم الملك الكامل، يوم الأحد خامس عشري صفر، فدفنت عند قبر الإمام الشافعي، ورتب ابنها عند قبرها القراء والصدقات، وأجرى الماء من بركة الحبش إلى قبة الشافعي، ولم يكن قبل ذلك، فنقل الناس أبنية القرافة الكبرى إلى هذه القرافة من حينئذ، وعمروها.
وفيها خرج العادل من القاهرة، فسار إلى دمشق وبرز منها يريد الجزيرة، فوصل إليها ورتب أحوالها، وعاد إلى دمشق، ومعه كليام الفرنجي.
وفيها انقضى أمر الطائفة الصلاحية بانقضاء الأمير قراجا والأمير عز الدين أسامة، والأمير فخر الدين جهاركس، وصفت حصونهم للعادل وابنه المعظم.
وفيها نقل أولاد العاضد الفاطمي وأقاربه إلى قلعة الجبل في يوم الخميس ثاني عشري رمضان، وتولى وضع القيود في أرجلهم الأمير فخر الدين ألطونبا أبو شعرة بن الدويك، وإلى القاهرة، وكانت عدتهم ثلاثة وستون نفسا.
وفيها كانت بمصر زلزلة شديدة هدمت عدة دور بالقاهرة ومصر، وزلزت الكرك والشوبك، فمات تحت الهدم خلق كثير، وسقط عدة من أبراج قلعتها، ورؤي بدمشق دخان نازل من السماء إلى الأرض، فيما بي المغرب والعشاء عند أرض قصر عاتكة.
وفيها مات الموفق بن أبى الكرم التنيسي في يوم الأحد سابع عشر ربيع الأول.
ومات ظافر بن الأرسوفي بمصر في سلخ رجب.
وفيها اجتمع بالإسكندرية ثلاثة آلاف تاجر وملكان من الفرنج، فسار العادل وقبض على التجار، وأخذ أموالهم، وسجن الملكين.
وفيها أعني سنة ثمان وستمائة كانت فتنة بين حاج العراق وبين أهل مكة، سببها أن حشيشيا جاء لقتل الشريف قتادة، فقتل شريفا اسمه أبو هارون عزيز، ظنا منه أنه قتادة، فثارت الفتنة، وانهزم أمير الحاج، ونهب الحاج عن أخره، وفر من مكة من بمكة من نواب الخليفة، ومن المجاورين، فبعث الشريف قتادة ولده راجح بن قتادة إلى الخليفة يعتذر له عما جرى، فقبل عذره وعفي عنه.

.سنة تسع وستمائة:

فيها نزل العادل بعساكره حول قلعة الطور، وأحضر الصناع من كل بلد، استعمل جميع أمراء العسكر في البناء ونقل الحجارة، فكان في البناء خمسمائة بناء، سوى الفعلة والنحاتين، ومازال مقيما حتى كملت.
وفيها قدم ابن شداد من حلب إلى دمشق بمال كثير وخلع، برسم عقد نكاح صفية خاتون ابنة العادل على ابن عمها الظاهر صاحب حلب، فخرج إلى لقائه عامة الأمراء والأعيان، وعقد النكاح في المحرم على مبلغ خمسين ألف دينار، ونثر النثار على من حضر بقلعة دمشق، وذلك في المحرم، ثم جهزت إليه بحلب في تجمل عظيم، من جملة قماش وآلات ومصاغ يحمله خمسون بغلا، ومائة بختي، وثلاثمائة جمل، وجواري في المحامل على مائة جمل، منهن مائة مغنية يلعبن بأنواع الملهى، ومائة جارية يعملن أنواع الصنائع البديعة، فكان دخولها إلى حلب يوما عظيما، وقدم لها الظاهر تقادم: منها خمسة عقود جوهر بمائة وخمسين ألف درهم، وعصابة جوهر لا نظير لها، وعشر قلأئد عنبر مذهب، وخمس قلائد بغير ذهب، ومائة وسبعون قطعة من ذهب وفضة، وعشرون تختا من ثياب، وعشرون جارية، وعشرة خدام.
وفيها عزل الهمام بن هلال الدولة من ولاية القاهرة، وولى فخر الدين ألطونبا أبوشعرة مملوك المهراني في.
فيها تغير الملك العادل على الوزير صفي الدين بن شكر، ورفع يده من الوزارة، وأبقى عليه ماله وأخرجه إلى آمد، فلم يزل بها حتى مات العادل.
وفيها فوض العادل تدبير مصر، والنظر في أموالها ومصالحها إلى ولده الملك الكامل، فرتب الكامل القاضي الأعز فخر الدين مقدام بن شكر ناظر الدولتين.
وفيها خرج العادل من الشام يريد خلاط، فسار إليها ودخلها، وفيها ابنه الأشرف، وقد استولى على ما بها من الأموال.

.سنة عشر وستمائة:

فيها تخوف الظاهر صاحب حلب من عمه العادل، وأخذ في الاستعداد، ثم تراسلا حتى سكن الحال.
وفيها ولدت صفية ابنة العادل لابن عمها الظاهر مولودا سماه محمدا ولقبه بالملك العزيز غياث الدين، وذلك في خامس ذي الحجة، فزينت حلب، واحتفل الظاهر احتفالا زائدا، وأمر فصيغ له من الذهب والفضة جميع الصور والأشكال ما وزن بالقناطير، وصاغ له عشرة مهود من ذهب وفضة، سوى ما عمل من الأبنوس والصندل والعود وغيره، ونسج للصبي ثلاث فرجيات من لؤلؤ، في كل فرجية أربعون حبة ياقوت ولعل وزمرد، ودرعان وخوذتان وبركستوان، كل ذلك من لؤلؤ، وثلاثة سروج مجوهرة، في كل سرج عدة قطع من جوهر رائع وياقوت وزمرد، وثلاثة سيوف علائقها وقبضاتها من ذهب مرصع بأنواع الجواهر، وعدة رماح من ذهب أسنتها جوهر.
وفيها حج الظاهر خضر بن صلاح الدين يوسف بن أيوب من حلب، فلما قارب مكة صده قصاد الملك الكامل محمد بن العادل عن الحج، وقالوا: إنما جئت لأخذ بلاد اليمن، فقال الظاهر خضر: ياقوم! قيدوني، ودعوني أقضي مناسك الحج. فقالوا: ليس معنا مرسوم إلا بردك. فرد إلى الشام، من غير أن يحج، فتألم الناس لذلك.
وفيها مات الأمير فخر الدين إسماعيل والى مصر بها.
وفيها دخل بنو مرين إحدى قبائل زناتة من القفر، ونهبوا أعمال المغرب، وحاربوا الموحدين وهزموهم، وكان أمير بني مرين إذ ذاك عبد الحق بن محيو بن أبي بكر بن حمامة بن محمد بن ورصيص بن فكوس بن كوماط بن مرين.

.تتمة سنة عشر وستمائة:

فيها حفر خندق مدينة حلب، فوجد فيه بلاطة صوان عليها أحرف مكتوبة بالقلم السرياني، فترجموه بالعربية، فإذا هو: لما كان العالم محدثا دل أن له محدثا، لا كهو، وكتب تحت هذه الأحرف: لخمسة آلاف من السنين خلون من الأسطوان الصغير. فقلعت البلاطة، فوجد تحتها تسع عشرة قطعة من ذهب وفضة وصورى على هيئة اللبن، فاعتبرت فكان الحاصل منها ذهبا ثلاثة وستين رطلا بالحلبي، وكان منها فضة أربعة وعشرين رطلا، وحلقة ذهب وزنها رطلان ونصف رطل، وصورى عشرة أرطال ونصف، فكان الجمع زنته قنطار واحد بالحلبي.

.سنة إحدى عشر وستمائة:

فيها فر الملك المنصور بن العزيز عثمان بن صلاح الدين يوسف من اعتقال عم أبيه الملك العادل، ولحق بالظاهر صاحب حلب، ولاذ به هو وإخوته، فأكرمهم الظاهر.
وفيها تجمع فرنج قبرس وعكا وطرابلس وأنطاكية، وانضم إليهم عسكر ابن ملك الأرمن، لقصد بلاد المسلمين، فخافهم المسلمون، وكان أول ما بدأوا به بلاد الإسماعيلية، فنازلوا قلعة الخوابي، ثم ساروا عنها إلى أنطاكية.
وفيها ظفر السلطان عز الدين كيكاوس بن كيخسرو بن قلج أرسلان السلجوقي صاحب بلاد الروم بالأشكري ملك الروم.
وفيها خرج الملك العادل من الشام يريد مصر، فنزل في القاهرة بدار الوزارة، واستمر ابنه الكامل بقلعة الجبل، وأمر العادل أن يقيم معه كليام الفرنجي الجنوي بدار الوزارة.
وفيها ورد الخبر بموت سنقر أتابك اليمن، واستقر بعده الملك الناصر أيوب صاحب اليمن في ملكه، وقام بأتابكيته غازي.
وفيها شرع الملك العادل في تبليط جامع بني أمية بدمشق، وكانت أرضه حفرا وجورا، وتولى العمل الوزير صفي الدين بن شكر.
وفيها تعامل أهل دمشق وغيرها بالقراطيس السود العادلية، ثم بطلت بعد ذلك وفنيت.
وفيها تولى سهم الدين عيسى القاهرة في شوال، وتولى جمال الدين بن أبي المنصور وكالة بيت المال بها.
ومات سعد بن سعد الدين بن كوجيا في عشر ربيع الآخر.
وفيها حج الملك المعظم عيسى بن العادل من دمشق، وحج معه الشريف سالم بن قاسم بن مهنا الحسيني أمير المدينة النبوية، فعزم الشريف قتادة أمير مكة على مسكه فلم يتمكن منه، فعاد الشريف سالم صحبة الملك المعظم إلى دمشق، فبعثه المعظم على عسكر إلى مكة، فمات في الطريق قبل وصوله مكة فقام جماز بن قاسم وهو ابن أخيه بتدبير الجيش، فجمع قتادة، وسار إلى ينبع ولقيه، فهزم قتادة.

.سنة اثنتي عشرة وستمائة:

فيها نازل الفرنج قلعة الخوابي، وحاربوا الباطنية، ثم صالحوهم.
وفيها سير الخليفة الناصر لدين الله كتابه الذي ألفه وسماه روح العارفين إلى الشام ومصر وغيرها ليسمع.
وفيها ملك الفرنج أنطالية، وقتلوا من بها من المسلمين، وكانت بيد الملك غياث الدين كيخسرو منذ فتحها سنة اثنتين وستمائة إلى أن أجلاه الفرنج عنها سنة سبع وستمائة، ثم استردها منهم الملك الغالب عز الدين كيكاوس سنة ثلاث عشرة وستمائة، بعد أن بقيت بأيدي الفرنج تلك المدة.
وفي هذه السنة أيضا: سار عز الدين إلى بلاد الأرمن، وحاصر قلعة جابان، وهزم عندها جيوش الأرمن، ورجع إلى قيصرية قبل أن يستولي على قلعة جابان، ثم طلب الأرمن الصلح، وأجابهم إليه عز الدين، فأخذ في مقابل الصلح من بلاد الأرمن قلعة لؤلؤة ولوزاد.
وفيها مات الملك المعظم أبو الحسن علي ابن الخليفة الناصر لدين الله، وهو أصغر أولاده، فلما قدم نعيه على ملوك الأطراف جلسوا في العزاء، لابسين شعار الحزن خدمة للخليفة.
وفيها سير الملك الكامل ابنه الملك المسعود صلاح الدين يوسف إلى اليمن، فخرج في جيش كثيف من مصر، وسار إلى بلاد اليمن، فاستولى على معاقلها، وظفر بصاحبها الملك سليمان شاه بن سعد الدين شاهنشاه ابن الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن نجم الدين أيوب فسيره تحت الحوطة إلى مصر، فأقام بالقاهرة إلى سنة سبع وأربعين وستمائة، فخرج إلى المنصورة غازيا، فقتل شهيدا، ودانت بلاد اليمن للملك المسعود.
وفيها عاد الملك العادل من الشام إلى القاهرة، فلما قرىء عليه ما أنفق على الملك المسعود في خروجه إلى اليمن استكثره وأنكر العادل خروجه، فإنه كان بغير أمره، وأمر العادل بالقاضي الأعز فضرب وقيد، واعتقل بقلعة الجزيزة، ثم حمله إلى قلعة بصرى، فسجنه بها.
وفيها نقل العادل أمواله وذخائره وأولاده إلى الكرك.
وفيها أبطل الملك العادل ضمان الخمر والقيان.
وفيها مات تقي الدين اللر، شيخ الخانقاه الصلاحية، دار سعيد السعداء، في المحرم. وفيها مات ابن سوروس بن أبي غالب بطريق اليعاقبة في يوم الخميس عيد الغطاس سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة للشهداء وهو الرابع عشر من رمضان وله في البطركية مدة ست وعشرين سنة وأحد عشر شهرا وثلاثة عشر يوما، وكان أولا يتجر إلى بلاد اليمن، فغرق مرة، وجاء الخبر بأن لم يسلم سوى بحشاشته، وكان لأولاد الجباب معه مال، فأيسوا منه فلما اجتمع بهم أعلمهم أن مالهم سلم، فإنه كان قد عمله في مقابر من خشب، وسمرها في المراكب، وأحضره إليهم، فتميز عندهم بذلك، حتى مات البترك مرقص بن زرعة، فتحدث ابن سوروس في البتركية للقس أبي ياسر، وكان مقيما بالعدوية فحسن له بنو الجباب أن يقوم هو بأمر البتركية، فتحدث في ذلك، وزكوه فتولى، وكان معه يومئذ سبعة عشر ألف دينار مصرية، فرقها في مدة بطركيته على الفقراء، وأبطل الديارية، ومنع الشرطونية، ولم يأكل في ولايته كلها لأحد من النصارى خبزا، ولا قبل لصغير ولا لكبير منهم هدية، وكان القس داود بن يوحنا المعروف بابن لقلق، من أهل الفيوم ملازما للشيخ نشىء الخلافة أبي الفتوح بن الميقاط، كاتب الجيوش العادلية، وكان يسافر معه ويصلى به، فلما مات ابن سوروس سأل أبو الفتوح الملك العادل أن يولي القس داود البتركية، فأجابه وكتب له توقيعا بذلك، من غير أن يعلم الملك الكامل، فلم يعجب بعض النصارى ولاية داود، وقام منهم رجل يعرف بالأسعد بن صدقة، كاتب دار التفاح بمصر، وجمع كثيرا من النصارى العصارين بمصر، وطلع في الليلة التي وقع الاتفاق على تقدمة القس داود في صبيحتها، ومعه الجمع إلى تحت قلعة الجبل، واستغاثوا بالملك الكامل، وقالوا: إن هذا الذي يريد أبو الفتوح يعمله بطركا بغير أمرك ما يصلح، ونحن في شريعتنا لا يقدم البطرك إلا باتفاق الجمهور عليه. فخرج إليهم الأمر من عند الكامل بتطييب قلوبهم، وفي سحر النهار ركب القس داود، ومعه الأساقفة وعالم كبير من النصارى ليقدموه بكنيسة المعلقة بمصر، وكان ذلك يوم الأحد عيد الزيتونة. فركب الملك الكامل إلى أبيه، وعرفه أن النصارى لم يتفقوا على بطركية داود، ولا يجوز عندهم تقدمته إلا باتفاق جمهورهم. فسير الملك العادل إلى الأساقفة ليحضرهم حتى يتحقق الأمر، فوافاهم الرسل مع القس داود، عند زقاق كنيسة الحمراء، فأحضرت الأساقفة إلى الملك العادل، ودخل داود إلى كنيسة الحمراء، وانحل أمره، وخلا الكرسي من بطريق تسع عشرة سنة ومائة وستين يوما.
وفي جمادى الأولى: صرف الملك العادل زكي الدين الطاهر بن محيي الدين محمد بن علي القرشي عن قضاء دمشق، وألزم جال الدين عبد الصمد بن محمد بن أبي الفضل الحرستاني بولاية القضاء بها وله من العمر اثنتان وتسعون سنة.
وفيها قدم إلى القاهرة من الشرق رجل معه حمار له سنام كسنام الجمل، يرقص ويدور، ويستجيب له إذا دعاه.

.سنة ثلاث عشرة وستمائة:

فيها ولي بهاء الدين بن الجميزي خطابة القاهرة في ثالث عشر المحرم.
وولي أبو الطاهر المحلي خطابة مصر في ثاني صفر.
وفيها سار الملك العادل من القاهرة إلى الإسكندرية، فرتب أمورها وعاد.
وفيها قدم البهاء بن شداد برسالة الظاهر من حلب إلى العادل، وهو بالقاهرة، فمرض الظاهر في خامس عشري جمادى الأول، ومات في ليلة الثلاثاء العشرين من جمادى الآخرة عن أربع وأربعين سنة وأشهر، ومدة تملكه بحلب إحدى وثلاثون سنة، وكان قد سمع الحديث وأسمعه بحلب، وكان سفاكا للدماء، شهما يقظا صاحب سياسة، وله شعر حسن، وقام من بعده ابنه الملك العزيز غياث الدين محمد، وعمره يومئذ سنتان وأشهر، بعهد من أبيه، وكان الملك العادل عندما مرض الظاهر رتب بريدا من مصر إلى حلب يطالعه بخبره، فأتاه نعيه قبل كل أحد، فأحضر الملك العادل ابن شداد، وقال له: ياقاضي! صاحبك قد مات في ساعة كذا من يوم كذا. فعاد ابن شداد إلى حلب.
وفيها كان ابتداء خروج التتر من بلادهم الجوانية إلى بلاد العجم.
وفيها قدم الشريف قاسم من المدينة النبوية، فأغار على جدة، فخرج إليه الشريف قتادة أمير مكة، وكسره يوم عيد النحر.

.سنة أربع عشرة وستمائة:

فيها وصل الشيخ صدر الدين بن حمويه من بغداد، بجواب رسالة الملك العادل إلى، الخليفة الناصر لدين الله.
وفيها تتابعت أمداد الفرنج في البحر من روما وغيرها إلى عكا، وفيهم عدة من ملوكهم وقد نقضوا الصلح، وعزموا على أخذ القدس وسائر بلاد الساحل وغيرها فعظم جمعهم، فخرج العادل من مصر بعساكره، وسار إلى لد، فبرز الفرنج من عكا في خلق عظيم، فرحل العادل على نابلس، ونزل في بيسان، فقال له ابنه المعظم لما رحل: إلى أين يابه؟. فسبه العادل بالعجمية، وقال: بمن أقاتل؟ أقطعت الشام مماليك، وتركت من ينفعني من أبناء الناس الذين يرجعون إلى الأصول وذكر كلاما في هذا المعنى.
فقصده الفرنج، فلم يطق لقاءهم، لقلة من معه، فاندفع من بين أيديهم على عقبة فيق، وكتب بتحصين دمشق، ونقل الغلات من داريا إلى القلعة، وإرسال الماء على أراضي داريا وقصر حجاج والشاغور ففزع الناس وابتهلوا إلى الله، وكثر ضجيجهم بالجامع، فزحف الفرنج على بيسان وقد اطمأن أهلها بنزول العادل عليهم فانتهبوها وسائر أعمالها، وبذلوا في أهلها السيف، وأسروا وغنموا ما يجل وصفه، وانبثت سراياهم فيما هنالك حتى وصلت إلى نوى ونازلوا بانياس ثلاثة أيام، ثم عادوا إلى مرج عكا، وقد أنكوا في المسلمين أعظم نكاية، وامتلأت أيديهم بالأسر، والسبي والغنائم، وأتلفوا بالقتل والتحريق ما يتجاوز الوصف. فلم يمكثوا بالمرج سوى قليل، ثم أغاروا ثانيا، ونهبوا صيداء والشقيف ورجعوا، وذلك كله من نصف شهر رمضان إلى يوم عيد الفطر، ونزل العادل بمرج الصفر، ورأى في طريقه رجلا يحمل شيئا، وهو يمشي تارة ويقعد أخرى، فقال له: ياشيخ! لا تعجل، ارفق بنفسك. ففال له: ياسلطان المسلمين! أنت لا تعجل، أو أنا؟ إذا رأيناك قد سرت من بلادك، وتركتنا مع الأعداء، كيف لا نعجل؟. وعندما استقر بمرج الصفر، كتب إلى ملوك الشرق ليقدموا عليه: فأول من قدم عليه أسد الدين شيركوه صاحب حمص، وهو ابن ناصر الدين محمد بن أسد الدين شيركوه، عم السلطان صلاح الدين يوسف، ثم إن العادل جهز ابنه المعظم عيسى صاحب دمشق، بطائفة من العسكر إلى نابلس، كي يمنع الفرنج من بيت المقدس، فنازل الفرنج قلعة الطور التي أنشأها العادل، وجدوا في قتال أهلها، حتى تمكنوا من سورها، وأشرفوا على أخذها. فقدر الله أن بعض ملوكهم قتل، فانصرفوا عنها إلى عكا بعدما أقاموا عليها سبعة عشر يوما، وانقضت السنة والحال على ذلك، من إقامة الفرنج بمرج عكا، والعادل بمرج الصفر.
وفيها مات القاضي الأجل قاضي قضاة الشام أبو القاسم عبد الصمد بن محمد بن أبي الفضل بن علي بن عبد الواحد الأنصاري الخزرجي العبادي السعدي الدمشقي الشافعي جمال الدين الحرستاني، في رابع ذي الحجة، ومولده بدمشق في أحد الربيعين، سنة عشرين وخمسمائة.
ومات الأمير الكبير بدر الدين محمد بن أبي القاسم بن محمد الهكاري قتله الفرنج على حصن الطور، فنقل إلى القدس، ودفن بتربته.
ومات الشجاع محمود بن الدباغ، مضحك الملك العادل، وترك مالا جزيلا.

.سنة خمس عشرة وستمائة:

فيها اجتمع رأي الفرنج على الرحيل من عكا إلى مصر، والاجتهاد في تملكها، فأقلعوا في البحر، وأرسوا على دمياط، في يوم الثلاثاء رابع شهر ربيع الأول الموافق لثامن حزيران على بر جيزة دمياط، فصار النيل بينهم وبين البلد، وكان إذ ذاك على النيل برج منيع، في غاية القوة والامتناع، فيه سلاسل من حديد، عظام القدر والغلظ، تمتد في النيل لتمنع المراكب الواصلة في بحر الملح من عبور أرض مصر، وتمتد هذه السلاسل في برج آخر يقابله، وكانا مشحونين بالمقاتلة، ويعرف اليوم مكانهما في دمياط ببين البرجين. وصار الفرنج في غربي النيل، فأحاطوا على معسكرهم خندقا، وبنوا بدائره سورا. وأخذوا في محاربة أهل دمياط، وعملوا آلات ومرمات، وأبراجا متحركة يزحفون بها في المراكب إلى برج السلسة ليملكوه، حتى يتمكنوا من البلد، فخرج الكامل بمن بقي عنده من العسكر، في ثالث يوم من سقوط الطائر، لخمس خلون من ربيع الأول، وتقدم إلى والي الغربية بجمع سائر العربان، وسار في جمع كثير، وخرج الأسطول، فأقام تحت دمياط، ونزل السلطان الكامل بناحية العادلية، قريبا من دمياط، وسير البعوث ليمنع الفرنج من العبور، وصار يركب في كل يوم عدة مرار من العادلية إلى دمياط، بتدبير الأمور وإعمال الحيلة في مكايدة الفرنج.
وألح الفرنج في مقاتلة أهل البرج، فلم يظفروا بشيء، وكسرت مرماتهم وآلاتهم، وتمادى الأمر على ذلك أربعة اشهر، هذا والملك العادل يجهز عساكر الشام شيئا بعد شيء إلى دمياط، حتى صار عند الكامل من المقاتلة ما لا يكاد ينحصر عدده.
وفي أثناء ذلك ورد الخبر بحركة الملك الغالب عز الدين كيكاوس السلجوقي، سلطان الروم، إلى البلاد الشامية، بموافقة الملك الصالح صاحب آمد وغيره من ملوك الشام، وأنه وصل إلى منبج، وأخذ تل باشر واتفق كيكاوس مع الملك الأفضل علي بن صلاح الدين صاحب سميساط أنه يسلمه ما يفتحه من البلاد، فلم يف كيكاوس بما وعد، وسلم ما فتحه لنوابه، فتقاعد عنه كثير من الناس، وأوقع العرب بطائفة من عسكره، فقتلوا وأسروا منهم كثيرا، ونهبوا لهم شيئا له قدر، فرجع إلى بلاده بغير طائل. هذا والعادل بمرج الصفر، فبينا هو في الاهتمام بأمر الفرنج، إذ ورد عليه الخبر بأخذ الفرنج برج السلسلة بدمياط، فتأوه تأوها شديدا، ودق بيده على صدره أسفا وحزنا، ومرض من ساعته، فرحل من المرج إلى عالقين، وقد اشتد مرضه، فمات في سابع جمادى الآخرة يوم الخميس، فكتم أصحابه موته، وقالوا: قد أشار الطبيب بعبور دمشق ليتداوى، محمل في محفة، وعنده خادم، والطبيب راكب بجانب المحفة، والشربدار يصلح الأشربة، ويحملها إلى الخادم ليشربها السلطان، يوهم الناس بذلك أنه حي، إلى أن دخل قلعة دمشق، وصارت بها الخزائن والحرم وجميع البيوتات، فأعلم بموته، بعدما استولى ابنه الملك المعظم على جميع أمواله، التي كانت معه، وسائر رخته وثقله، ودفنه بالقلعة، فاختبط الناس حتى ركب المعظم، وسكن أمر الناس، ونادى في البلد: ترحموا على السلطان الملك العادل، وادعوا لسلطانكم الملك المعظم أبقاه الله فبكى الناس بكاء كثيرا، واشتد حزنهم لفقده.
وكان مولده في المحرم سنة أربعين وقيل سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة بدمشق، وسمع من السلفي وابن عوف، وعرفت مواقفه في جهاد العدو بثغر دمياط في سنة خمس وستين وخمسمائة، في أيام الخليفة العاضد، وفي مدينة عكا، وملك دمشق في سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة، وكانت مدة ملكه لها ثلاثا وعشرين سنة، وملك مصر، في سنة ست وتسعين، فكانت مدة ملكه لها تسع عشرة سنة وشهرا واحدا وتسعة عشر يوما، ورزق في أولاده سعادة قلما يتفق مثلها لملك، فبلعوا تسعة عشر ولدا ذكرا، سوى البنات، وهم: الملك الأوحد نجم الدين أيوب صاحب خلاط، وكان قصيرا في الغاية، شهما مقداما سفاكا للدماء، مات في حياة أبيه، والملك الفائز إبراهيم، والملك المغيث عمر وقد توفيا أيضا في حياته وترك عمر ابنا سمي بالملك المغيث وشهاب الدين محمود، رباه عمه الملك المعظم عيسى، والملك الجواد شمس الدين مودود، ومات في حياته أيضا وترك الملك الجواد ولدا اسمه مظفر الدين يونس بن مودود بقي عند عمه الملك الكامل بمصر، ثم ملك دمشق وغيرها، وكان جوادا شجاعا، والملك الكامل ناصر الدين محمد، صاحب مصر، والملك المعظم شرف الدين أبو العزائم عيسى صاحب دمشق، وشقيق الملك العزيز عماد الدين عثمان صاحب بانياس وكان جوادا شهما والملك الأمجد مجد الدين حسن، ومات في حياة أبيه بالقدس، ودفن في مدرسة بنيت له، ثم نقل إلى الكرك والملك الأشرف مظفر الدين موسى صاحب الشرق وخلاط، بعد أخيه الملك الأوحد، والملك المظفر شهاب الدين غازي صاحب ميافارتن، وشقيقاه الملك المعز مجير الدين يعقوب، والملك القاهر بهاء الدين تاج الملوك إسحاق، والملك الصا لح عماد الدين إسماعيل، صاحب بصرى، ثم دمشق، والملك المفضل قطب الدين أحمد، ومات بمصر في أيام أخيه الكامل بالفيوم، ووصل في تابوت إلى القاهرة، في نصف رجب سنة ثمان عشرة وستمائة، والملك الأمجد تقي الدين عباس، وهو أصغرهم، ولد في سنة ثلاث وستمائة، ومات آخرهم بدمشق، في سنة تسع وستين وستمائة، في أيام الملك الظاهر بيبرس، والملك الحافظ نور الدين أرسلان صاحب قلعة جعبر، والملك القاهر بهاء الدين خضر، والملك المغيث شهاب الدين محمود، والملك الناصر صلاح الدين خليل.
ووزر للملك العادل صنيعة الملك أبو سعيد بن أبي اليمن بن النحال مدة يسيرة، وكان نصرانيا فأسلم على يده بعد عوده مع الأفضل علي بن صلاح الدين إلى مصر في سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة، فلما مات ابن النحال استوزر العادل الصاحب صفي الدين عبد الله بن شكر الدميري، فتجبر وسطا، وتمكن من السلطان، واستولى عليه، وعظم قدره. وأوقع ابن شكر بعدة من الأكابر، وصادر أكابر كتاب الدولة، واستصفى أموالهم. ففر منه القاضي الأشرف ابن القاضي الفاضل إلى بغداد، واستشفع بالخليفة الناصر لدين الله، وأحضر كتاب شفاعته إلى العادل، وفر منه علم الدين بن أبي الحجاج، صاحب ديوان الجيش، والأسعد بن مماتي صاحب ديوان المال، إلى حلب، فأكرمهما الملك الظاهر، حتى ماتا عنده، وصادر بني حمدان وبني الجباب وبني الجليس، وأعيان الكتاب المستوفين، والعادل لا يعارضه في شيء، هذا وهو يتغضب على السلطان، واستمر على هذا الحال إلى أن غضب على السلطان مرة في سنة تسع وستمائة، وحلف أنه ما بقي يخدمه، فأخرجه السلطان العادل من مصر، بجميع أمواله وحرمه، فكان ثقله على ثلاثين جملا، وحسن أعداؤه للسلطان أن يأخذ ماله، فامتنع واكتفى بإخراجه إلى آمد. وسار صفي الدين إلى آمد، فأقام عند الصالح بن أرتق، فأقام العادل من بعده القاضي فخر الدين مقدام بن شكر، ثم نقم عليه في سنة اثنتي عشرة وستمائة، وضربه وقيده، وأخرجه من مصر، ولم يستوزر بعده أحدا.
من أعجب الاتفاقات أن الملك الأفضل علي بن صلاح الدين يوسف لم يملك مملكة إلا وأخذها عمه العادل منه: فأول ذلك أن أباه أقطعه حران والرها وميافارقن في سنة ست وثمانين وخمسمائة، فسار إليها، حتى إذا بلغ حلب رده أبوه، وبعث الملك العادل بدله، ثم ملك الأفضل بعد أبيه دمشق، فأخذها العادل منه، ثم ملك مصر بعد ذلك، فأخذها منه العادل، ثم ملك صرخد، فأخذها منه العادل، وعوضه قلعة نجم وسروج، ثم استرجعهما منه بعد ذلك.
فلما تمهدت للملك العادل الممالك قسمها بين أولاده، فملك هو وأولاده من خلاط إلى اليمن، ورأى العادل في أولاده ما يحب، من اتساع الممالك وكثرة الظفر بالأعداء، بحيث لم يسمع عن ملك أنه رأى في أولاده ما رآه العادل، فإنه اجتمع في كل منهم من النجابة والنبل، والكفاية والمعرفة، والفضيلة وعلو الهمة، ما لا مزيد عليه، ودانت لهم العباد، وملكوا خيار البلاد، وكان كثيرا ما يتردد العادل في ممالك أولاده، وأكثر أوقاته يصيف بدمشق، ويشتي بمصر، وكان أكولا نهما، يأكل خروفا مشويا بمفرده، وله اقتدار زائد على النكاح، ومتع في دنياه بأرغد عيش، وتمكن من السعادة في سائر أحواله، وكان حميد السيرة، حسن العقيدة، كثير السياسة، صاحب معرفة بدقائق الأمور، قد حنكته التجارب، فسعدت آراؤه، ونجحت تدبيراته، وكان لا يرى محاربة أعدائه، ويستعمل في مقاصده المكائد والخدع، فهادنته الفرنج لقوة حزمه وشدة تيقظه، وغزارة عقله وقوة كيده، ومكره ومداومته على المخادعة والمخاتلة، وكثرة صبره وحلمه وأناته، بحيث إنه كان إذا سمع مايكره يغضي عنه تجاوزا وصفحا، كأنه لم يبلغه، وكان لا يخرج المال إلا عند الاحتياج إلى إخراجه، فيسمح حينئذ ببدل الكثير منه، ولا يتوقف فيما ينفق، فإذا لم يحتج إلى أخرج المال ضن به وأمسكه، فثابت له بذلك أغراضه كما يجب، وانقادت له الأمور مثل ما يختار، وكان يحافظ على أداء الصلوات في أوقاتها، ويحب السنة، ويكرم العلماء، مع العظمة وقوة المهابة المتمكنة في القلوب، وله صنف الإمام فخر الدين الرازي كتاب تأسيس التقديس، وبعث به إليه من بلاد خراسان.
ومات الملك العادل عن خمس وسبعين وقيل ثلاث وسبعين سنة، وترك مالا كثيرا، منه في خزائنه التي استولى عليها ابنه المعظم سبعمائة ألف دينار مصرية، سوى ما كان له في الكرك، فاحتوى عليه أيضا الملك المعظم، وكتب المعظم إلى أخوته بموت أبيه، فجلس الملك الكامل للعزاء في معسكره بظاهر دمياط، وارتاع لموت أبيه خوفا من الفرنج.
السلطان الملك الكامل ناصر الدين أبو المعالي محمد بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب، سادس ملوك مصر من الأيوبيين، استقل بمملكة مصر بعد موت أبيه، بعهده إليه في حياته، وكانت سلطنته بعد السابع من جمادى الآخرة سنة خمس عشرة وستمائة عندما وصل إليه نعي أبيه، وهو بالمنزلة العادلية على محاربة الفرنج، وقد ملكوا البر الغربي، واستولوا على برج السلسلة، وقطعوا السلاسل المتصلة به، لتعبر مراكبهم في بحر النيل، ويتمكنوا من أرض مصر، فنصب الملك الكامل عوضا من السلاسل جسرا عظيما، يمنع الفرنج من عبور النيل، فقاتل الفرنج عليه قتالا كثيرا حتى قطعوه، وكان قد أنفق على هذا البرج والجسر ما ينيف على سبعين ألف دينار، فأمر الكامل بتغريق عدة من المراكب في النيل، منعت الفرنج من سلوكه، فعدل الفرنج إلى خليج هناك يعرف بالأزرق، كان النيل يجرى فيه قديما، فحفروه حفرا عميقا، وأجروا فيه الماء إلى البحر الملح، فجرت سفنهم فيه إلى ناحية بورة على أرض جيزة دمياط، تجاه المنزلة التي فيها الكامل، ليقاتلوه من هناك، فلما استقروا في بورة حاذوه، وقاتلوه في الماء، وزحفوا إليه غير مرة، فلم ينالوا منه غرضا طائلا، ولم يضر أهل دمياط ذلك، لتواصل الأمداد والميرة إليهم، وكون النيل يحجز بينهم وبين الفرنج، بحيث كانت أبواب المدينة مفتحة، وليس عليها حصر ولا ضيق ألبتة.
هذا والعربان تخطف الفرنج في كل ليلة، بحيث منعهم ذلك من الرقاد، خوفا من غاراتهم، فتكالب العرب عليهم حتى صاروا يختطفونهم نهارا، ويأخذون الخيم بمن فيها، فأكمن لهم الفرنج عدة كمناء، وقتلوا منهم خلقا كثيرا، وأدرك الناس الشتاء، فهاج البحر على معسكر المسلمين، وغرق الخيم، فعظم البلاء، واشتد الكرب، وألح الفرنج في القتال، ولم يبق إلا أن يملكوا البلاد، فأرسل الله سبحانه ريحا قطعت مراسي مرمة كانت للفرنج من عجائب الدنيا، فمرت تلك المرمة إلى البر الذي فيه المسلمون فملكوها، فإذا هي مصفحة بالحديد، لا تعمل فيها النار، ومساحتها خمسمائة ذراع، وفيها من المسامير ما زنة الواحد منها خمسة وعشرون رطلا، وبعث السلطان إلى الآفاق سبعين رسولا، يستنجد أهل الإسلام على قتال الفرنج، ويستحثهم على إنقاذ المسلمين منهم واغاثتهم، ويخوفهم من تغلب الفرنج على مصر، فإنه متى ملكوها لا يمتنع عليهم شيء من الممالك بعدها، فسارت الرسل في شوال، فقدمت النجدات من حماة وحلب، إلا أنه لما قدم على المعسكر موت العادل وقع الطمع في الملك الكامل، وثار العرب بنواحي أرض مصر، وكثر خلافهم واشتد ضررهم، واتفق مع ذلك قيام الأمير عماد الدين أحمد بن الأمير سيف الدين أبي الحسن علي بن أحمد الهكاري، والمعروف بابن المشطوب، وكان أجل الأمراء الأكابر، وله لفيف من الأكراد الهكارية، ينقادون إليه ويطيعونه، مع أنه كان وافر الحرمة عند الملوك، معدودا بينهم كواحد منهم، معروفا بعلو الهمة وكثرة الجود، وسعة الكرم والشجاعة، تهابه الملوك، وله وقائع مشهورة في القيام عليهم، ولما مات أبوه، وكانت نابلس إقطاعا له، أرصد ثلثها السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب لمصالح القدس، وأقطع ابنه عماد الدين هذا بقيتها، فلم يزل قائم الجاه من الأيام الصلاحية، فاتفق عماد الدين مع جماعة من الأكراد والجند على خلع الملك الكامل، وتمليك أخيه الفائز إبراهيم، ليصير لهم التحكم في المملكة، ووافقه على ذلك الأمير عز الدين الحميدي، والأمير أسد الدين الهكاري، والأمير مجاهد الدين، وعدة من الأمراء، فلما بلغ الكامل ذلك دخل عليهم، فإذا هم مجتمعون وبين أيديهم المصحف، وهم يحلفون لأخيه الفائز، فعندما رأوه تفرقوا، فخشي على نفسه منهم، وخرج، فاتفق قدوم الصاحب صفي الدين بن شكر من آمد، فإنه كان قد استدعاه الكامل بعد موت أبيه، فتلقاه الكامل وأكرمه، وأوقفه على ما فيه جماعة الأمراء، فشجعه وضمن له تحصيل المال وتدبير الأمور، فلما كان في الليل ركب الكامل من المنزلة العادلية، في الليل جريدة، وسار إلى أشموم طناح فنزل بها، وأصبح العسكر وقد فقدوا السلطان، فركب كل أحد هواه، ولم يعرج واحد منهم على آخر، وتركوا أثقالهم وخيامهم وأموالهم وأسلحتهم، ولم يأخذ كل أحد إلا ما خف حمله، فبادر الفرنج عند ذلك، وعبروا بر دمياط وهم آمنون، من غير منازع ولا مدافع، وأخذوا كل ما كان في معسكر المسلمين، وكان شيئا لا يقدر قدره، وذلك لبضع عشرة ليلة خلت من ذي القعدة، فكان نزول الفرنج قبالة دمياط في يوم الثلاثاء ثاني شهر ربيع الأول سنة خمس عشرة وستمائة، ونزولهم في البر الشرقي حيث مدينة دمياط يوم الثلاثاء سادس ذي القعدة سنة ست عشرة، فتزلزل الملك الكامل، وهم بمفارقة أرض مصر، ثم تثبت، فتلاحق به العسكر، وبعد يومين وصل إليه أخوه الملك المعظم عيسى صاحب دمشق وهو بأشموم في ثامن عشر ذي القعدة، فقويت به شوكته، وأعلمه بما كان من أمر ابن المشطو ب، فوعده بإزالته عنه. ثم ركب المعظم إلى خيمة ابن المشطوب، واستدعاه للركوب معه للمسايرة، فاستمهله حتى يلبس خفيه وثيابه، فلم يمهله وأعجله، فركب معه وهو آمن، وسايره حتى خرج به من المعسكر وبعد عنه، فالتفت إليه المعظم، وقال. يا عماد الدين! هذه البلاد لك، أشتهي أن تهبها لنا. وأعطاه نفقة، وأسلمه إلى جماعة من أصحابه يثق بهم، كان قد أعدهم لهذا الأمر، وأمرهم أن يلازموه إلى أن يخرج من الرمل، ويحتفظوا به إلى أن يدخل إلى الشام، فما وجد ابن المشطوب سبيلا إلى الامتناع، ولا قدر على المدافعة، لأنه بمفرده بينهم، فساروا به على تلك الحالة إلى الشام، فنزل بحماة عند الملك المنصور، وسه أربعة من خدمه، ولما سار ابن المشطوب رجع المعظم إلى أخيه الكامل، وتقدم إلى أخيه الفائز بأن يمضي إلى الملوك الأيوبية بالشام والشرق رسولا عن الملك الكامل، بسبب إرسال عساكر الإسلام، لاستنقاذ دمياط وأرض مصر من الفرنج، وكتب الكامل إلى أخيه الأشرف موسى شاه أرمن، يستحثه على سرعة الحضور، وصدر المكاتبة بهذه الأبيات:لمعظم إلى أخيه الكامل، وتقدم إلى أخيه الفائز بأن يمضي إلى الملوك الأيوبية بالشام والشرق رسولا عن الملك الكامل، بسبب إرسال عساكر الإسلام، لاستنقاذ دمياط وأرض مصر من الفرنج، وكتب الكامل إلى أخيه الأشرف موسى شاه أرمن، يستحثه على سرعة الحضور، وصدر المكاتبة بهذه الأبيات:
يامسعدي إن كنت حقا مسعفي ** فانهض بغير تلبث وتوقف

واحثث قلوصك مرقلا أو موجفا ** بتجشم في سيرها وتعسف

واطو المنازل ما استطعت ولا تنخ ** إلا على باب المليك الأشرف

واقر السلام عليه من عبد له ** متوقع لقدومه متشوف

وإذا وصلت إلى حماة فقل له ** عني بحسن توصل وتلطف

إن تأت عبدك عن قليل تلقه ** ما بين كل مهند ومثقف

أو تبط عن إنجاده فلقاؤه ** بل في القيامة في عراص الموقف

فسار الفائز وكان الغرض إخراجه من أرض مصر فمضى إلى دمشق، ورحل إلى حماة، ثم سار إلى الشرق، فانتظم أمر الكامل، وقوى ساعده، وترتبت قواعد ملكه، وسار عنه المعظم، هذا والفرنج قد أحاطوا بدمياط من البحر والبر، وأحدقوا بها وحصروها، وضيقوا على أهلها، ومنعوا الأقوات أن تصل إليهم، وحفروا على معسكرهم المحيط بدمياط خندقا، وبنوا عليه سورا، وأهل دمياط يقاتلونهم أشد قتال، وأنزل الله عليهم الصبر، فثبتوا مع قلة الأقوات عندهم وشدة غلاء الأسعار، وأخذ الكامل في محاربة الفرنج، وهم قد حالوا بينه وبينها، ولم يصل إليها أحد من عنده سوى رجل من الجاندارية، وكان هذا الرجل قد قدم إلى القاهرة من بعض قرى حماة، ويسمى شمايل، فتوصل حتى صار يخدم في الركاب السلطاني جاندار، وكان يخاطر بنفسه، ويسبح في النيل ومراكب الفرنج به محيطة، والنيل قد امتلأت به شواني الفرنج فيدخل إلى مدينة دمياط، ويأتي السلطان بأخبار أهلها، فإذا دخل إليها قوى قلوب أهلها، ووعدهم بقرب وصول النجدات، فحظي بذلك عند الكامل، وتقدم تقدما كثيرا، وجعله أمير جانداره وسيف نقمته، وولاه القاهرة، وإليه تنسب خزانة شمايل، وكان في دمياط من أهلها الأمير جمال الدين الكناني، فكتب هذه الأبيات، وألقاها إلى الملك الكامل في سهم نشاب، وهى:
يا مالكي دمياط ثغر هدمت ** الله ضامن أجره وكفيلهشرفاته

يقريك من أزكى السلام تحية ** كادت تجث أصوله

ويقول عن بعد وإنك سامع ** كالمسك طاب دقيقه وجليله

يأيها الملك الذي ما إن يرى ** حتى كأنك جاره ونزيله

هذا كتاب موضح من حالتي ** بي الملوك شبيهه وعديله

أشكو إليك عدو سوء أحدقت ** ما ليس يمكنني لديك أقوله

فالبر قد منعت إليه طريقه ** بجميعه فرسانه وخيوله

فخضوعه باد على أبراجه ** والبحر عز لنصره أسطوله

ولو استطاع لأم بابك لائذا ** وحنينه وبكاؤه وعويله

ورسوله في أن تجيب دعاءه ** لكنه سدت عليه سبيله

فقد انتهت أدواؤه وتحكمت ** دين الإله وخلقه ورسوله

وبقي له رمق يسيريرتجى ** علاته ونحا عليه نحوله

فاحرس حماك بعزمة تشفى بها ** أن يشتفي لما دعاك عليله

فالله أعطاك الكثير بفضله ** داء لمثلك يرتجى تعليله

فالعذر في نصر الإله ودينه ** ورضاه من هذا الكثير قليله

والثغر ناظره إليك محدق ** ما ساغ عند المسلمين قبوله

ولئن قعدت عن القيام بنصره ** ما إن يمل من الدموع هموله

ووهت قوى القرآن فيه ورفعت ** جفت نضارته وبان ذبوله

وعلا صدى الناقوس في أرجائه ** صلبانه وتلى به إنجيله

هذا وحقك وصف صورة حاله ** وخفي على سمع الورى تهليله

وكفاك يابن الأكرمين بأنه ** حقا وجملته وذا تفصيله

حقق رجاء فيك يا من لم يخع ** أضحى عليك من الورى تعويله

واذخر ليوم البعث فعلا صالحا ** أبدا لراجي جوده تأميله

فلما وقف السلطان على هذه الأبيات أمر أهل القاهرة ومصر بالنفير للجهاد، وخرجت السنة والحال على ذلك.
وفيها استدعى الملك الغالب كيكاوس بن كيخسرو بن قلج أرسلان، ملك الروم، بالملك الأفضل نور الدين علي بن صلاح الدين يوسف وكان بسميساط، ويخطب للملك الغالب، فلما قدم عليه أكرمه، وحمل إليه شيئا كثيرا من المال والخيل والسلاح وغيره، وتحالفا على المسير إلى المملكة الحلبية وأخذها، بشرط أن يدفعها الملك الغالب، هي وسائر ما يفتحه إلى الملك الأفضل، ليقيم له فيها الخطبة والسكة، ويصير في طاعته، فإذا تم ذلك سارا إلى الشرق، وأخذا حران والرها وغيرها، فسارا يالعساكر وأخذا قلعة رعبان فتسلمها الأفضل، ومال إليه الناس، واجتمعوا على الملك الغالب، لمحبتهم في الأفضل، ثم سار إلى قلعة تل باشر، فحصراها حتى ملكاها، فلم يسلمها الملك الغالب للأفضل، وأقام نائبا من قبله، فنفر منه الأفضل وفترت همته، وعلم أن هذأ أول الغدر، وأعرض أهل البلاد أيضا عن الملك الغالب، واستعد أهل حلب، واستدعوا الملك الأشرف من بحيرة قدس، وكان نازلا عليها تجاه الفرنج، فقدم إليهم بعساكره، وحضرت عرب طيء وغيرها، إلى ظاهر حلب، فحسن الأفضل للملك الغالب التوجه إلى منبج، فسارا إليها، فواقع العرب مقدمة الملك الغالب، فانهزمت، وأسر العرب وأصحاب الأشرف كثيرا منهم، فرجع عند ذلك الملك الغالب إلى بلاده، وسار الأشرف، فاستولى على رعبان وتل باشر.
وفيها مات الملك القاهر عز الدين مسعود بن أرسلان شاه بن مسعود بن مودود بن عماد الدين زنكي آقسنقر، صاحب الموصل، لثلاث بقين من ربيع الأول، وكانت مدة ملكه سبع سنين وتسعة أشهر، وقام من بعده ابنه نور الدين أرسلان شاه، وعمره عشر سنين، فدبر أمره الأمير بدر الدين لؤلؤ الأتابك، فأقرهما الخليفة الناصر.