فصل: ومات في هذه السنة ممن له ذكر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: السلوك لمعرفة دول الملوك (نسخة منقحة)



.سنة أربع عشر وسبعمائة:

مستهل المحرم: وافقه حادي عشري برمودة.
فيه اخضر ماء النيل، وتغير لونه تغيراً زائداً عن العادة، وتغير طعمه وريحه أيضاً، وجرت العادة أن يكون في هذه الأيام في غاية الصفاء.
وفي نصف المحرم: اتفق أنه كان للنصارى مجتمع بالكنيسة المعلقة بمصر، واستعاروا من قناديل الجامع العتيق جملة. فقام في إنكار ذلك الشيخ نور الدين علي بن عبد الوارث البكري، وجمع من البكرية وغيرهم خلائق، وتوجه إلى المعلقة وهجم على النصارى وهم في مجتمعهم وقناديلهم وشموعهم تزهر، فأخرق بهم وأطفأ الشموع وأنزل القناديل. وعاد البكري إلى الجامع، وقصد القومة، فاحتجوا فعله. وجمع البكري الناس معه على ذلك، وقصد الإخراق بالخطيب، فاختفى منه وتوجه إلى الفخر ناظر الجيش وعرفه بما وقع، وأن كريم الدين أكرم هو الذي أشار بعارية القناديل فلم يسعه إلا موافقته. فلما كان الغد عرف الفخر السلطان بما كان، وعلم البكري أن ذلك قد كان بإشارة كريم الدين، فسار بجمعه إلى القلعة واجتمع بالنائب وأكابر الأمراء، وشنع في القول وبالغ في الإنكار، وطلب الاجتماع بالسلطان، فأحضر السلطان القضاة والفقهاء وطلب البكري، فذكر البكري من الآيات والأحاديث التي تتضمن معاداة النصارى، وأخذ يحط عليهم، ثم أشار إلى السلطان بكلام فيه جفاء وغلظة حتى غضب منه عند قوله: أفضل المعروف كلمة حق عند سلطان جائر. وأنت وليت القبط المسالمة، وحكمتهم في دولتك وفي المسلمين، وأضعت أموال المسلمين في العمائر والإطلاقات التي لا تجوز، إلى غير ذلك، فقال السلطان له: ويلك! أنا جائر؟ فقال: نعم! أنت سلطت الأقباط على المسلمين، وقويت دينهم. فلم يتملك السلطان نفسه عند ذلك، وأخذ السيف وهم بضربه. فأمسك الأمير طغاى يده، فالتفت السلطان إلى قاضي القضاة زين الدين بن مخلوف، وقال: هكذا يا قاضي يتجرأ علي؟ إيش يجب أفعل به؟ قل لي!، وصاح به. فقال له ابن مخلوف: ما قال شيئاً ينكر عليه فيه، ولا يجب عليه شيء، فإنه نقل حديثاً صحيحاً. فصرخ السلطان فيه وقال: قم عني!. فقام بن فوره وخرج. فقال صدر الدين بن المرحل- وكان حاضراً- لقاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة الشافعي: يا مولانا! هذا الرجل تجرأ على السلطان وقد قال الله تعالى أمرا لموسى وهارون حين بعثهما إلى فرعون {فقولا له قولاً لينا لعله يتذكر أو يخشى} فقال ابن جماعة للسلطان: قد تجرأ ولم تبق إلا مراحم مولانا السلطان. فانزعج السلطان انزعاجاً عظيماً، ونهض عن الكرسي، وقصد ضرب البكري بالسيف، فتقدم إليه طغاي وأرغون في بقية الأمراء، وما زالوا به حتى أمسك عنه، وأمر بقطع لسانه، فأخرج البكري إلى الرحبة، وطرح إلى الأرض، والأمير طغاي يشير إليه أن يستغيث، فصرخ البكري وقال: إنا في جيرة رسول الله، وكررها مراراً حتى رق له الأمراء، فأشار إليهم طغاي بالشفاعة فيه، فنهضوا بأجمعهم وما زالوا بالسلطان حتى رسم بإطلاقه وخروجه من مصر. وأنكر الأمير أيدمر الخطيري كون البكري قوى نفسه أولا في مخاطبة السلطان، ثم إنه ذل بعد ذلك، ونسب إلى أنه لم يكن قيامه خالصاً لله.
وفيه قدم الركب من الحجاز، وقد كثرت الشكوى من الأمير بلبان الشمسي أمير الركب، وأنه كثير الطمع مفرط في أمر الحاج سيء السيرة، فقبض عليه.
وفيه أفرج عن الأمير برلغى صهره المظفر بيبرس.
وفيه قدم البريد من دمشق بأنه قد اجتمع على الناس بواق كثيرة من ضمانات ومقررات على أهل البلاد، وقد تضرروا منها. فكتب مثال بمسامحة أهل الشام بالبواقي لاستقبال سنة ثمان وتسعين وتسمائة وإلى آخر سنة ثلاث عشرة وسبعمائة، وسير إلى دمشق فقرئ بها على منبر الجامع في يوم الجمعة عاشر المحرم، وتلاه مثال آخر بإبطال المقرر على السجون، وإعفاء الفلاحين من السخر، وإبطال مقرر الأقصاب، ومقرر ضمان القواسين، ورسوم الشد والولاية. فأبطل ذلك كله من جميع ممالك البلاد الشامية بأسرها.
وفيه كتب لنواب حلب وحماة وحمص وطرابلس وصفد بأن أحداً منه لا يكاتب السلطان، وإنما يكاتب الأمير تنكر نائب الشام، ويكون هو المكاتب في أمرهم للسطان. فشق ذلك على النواب، وأخذ الأمير سيف الدين بلبان طرنا نائب صفد ينكر ذلك، فكاتب فيه تنكز السلطان حتى عزل في صفر، واستقر عوضه الأمير بلبان البدري، وحمل طرنا في القيد إلى مصر، وسجن بالقعلة.
وفيها استقر الأمير علاء الدين ألطنبغا الحاجب في نيابة حلب، بعد وفاة الأمير سيف الدين سودي في نصف رجب. وقدم زين الدين قراجا الخزنداري والخاص ترك من بلاد طقطاي، وأخبراً بموته، وهو طقطاى بن منكوتمر بن طغان بن باطو بن جوجى ابن جنكز خان ملك التتار ببلاد الشمال، أقام في الملك مدة ثلاث وعشرين سنة، وكان يعبد الأصنام على دين البخشية، وملك بعده أزبك خان بن طغرل بن منكوتمر بن طغان.
وفيها اهتم السلطان بعمارة جسور نواحي أرض مصر وترعها وندب الأمير عز الدين أيدمر الخطيري إلى الشرقية، والأمير علاء الدين أيدغدي شقير إلى البهنساوية، والأمير شرف الدين حسين بن حيدر إلى أسيوط ومنلفوط والأمير سيف الدين آقول الحاجب إلى الغربية، والأمير سيف الدين قلى أمير سلاح إلى الطحاوية وبلاد الأشمونين، والأمير بدر الدين جنكلى بن البابا إلى القليوبية، والأمير علاء الدين التليلي إلى البحيرة، والأمير بهاء الدين أصلم إلى قوص.
وفيها قدم الأمراء المجردون إلى الحجاز: وكان من خبرهم أنهم لما وصلوا صحبة الحاج من السنة الماضية فر الشريف حميضة نحو اليمن، وأقام بحلى بني يعقوب: فلما انقضى الموسم وخرج الحاج أقام الأمير طقصبا المغربي بالمعسكر حتى رتب الشريف أبا الغيث في إمارة مكة، ولم يزل مقيماً معه مدة شهرين بعد انقضاء الحج. ولم تمطر تلك السنة بمكة، وقل الجلب، فكثرت كلف العسرك، واحتاج طقصبا إلى السفر. فأشهد عليه أبو الغيث أنه أذن له في السفر، وكتب بذلك إلى السلطان. فلم يكن بعد توجه العسكر من مكة غير قليل حتى جمع حميضة وقدم، ففر منه أبو الغيث إلى هذيل بوادي نخلة، وملك حميضة منه مكة، وبعث حميضة إلى السلطان القود اثنى عشر فرساً وكتاباً، وهو يترفق ويبذل الطاعة ويعتذر؛ فلم يقبل منه العذر، وحبس رسوله.
وفيها توجه الأمير قجلس لقبض مال سودى نائب حلب وكشف أخبار مهنا، فأشار تنكز نائب الشام بإخراج مهنا من البلاد وأن عسكر الشام يكفيه، فبطل أمر التجريدة من مصر. وجرد من الشام الحاج أرقطاي وكجكن، ومن حماة ألف فارس مع عسكر طرابلس وحلب، وخرج طلب قجليس من القاهرة ليكون مقدم العساكر، فاجتمعت عنده العساكر والعربان بحلب. وبلغ ذلك منها فأجمع على الرحيل، وسارت إليه العساكر، فلما قاربته رحل وهي في إثره إلى عانة والحديثة من العراق، فجفلت أهل البلاد. وبلغ ذلك جوبان نائب خربندا ملك التتار، فظن أن السلطان قد نقض الصلح ويريد أخذ العراق، فانزعج لذلك إلى أن بلغه مجيء العسكر بسبب العرب، وأنه لم يتعد عانة ولا تعرض لزرع البلاد ولا كرومها، فسكن ما به. ورجع العسكر عن عانة إلى ضيعة تعرف بالعنقاء من ضياع منها، وأخذ ما كان بها من المغل، وسار كذلك إلى ضياع منها حتى وصل الرحبة، وقد حمل الغلال إليها. فبعث السلطان إلى قجليس بعود العساكر إلى بلادها، وإقامته على سلمية إلى أن يخزن مغلها بقلعة حلب، فاعتمد ذلك وأقام حتى استغل سلمية، وعاد قجليس إلى القاهرة فأخلع عليه.
وفيها خرج عسكر من القاهرة في أول ذي القعدة: فهي من الأمراء سيف الدين بكتمر البوبكرى السلاح دار وإليه تقدم العسكر وقلى السلاح دار، وعلم الدين سنجر الجمقدار، وركن الدين بيبرس الحاجب، وبكتمر البوبكري الجمدار، وبدر الدين محمد بن الوزيري، وأيتمش المحمدي، بمضافيهم من الأمراء ومقدمي الحلقة والأجناد. وكتب لنائب الشام الأمير تنكز بالمسير معهم بعسكر دمشق، وأن يكون المقدم على جميع العساكر، وكتب بخروج عساكر حماة وحلب وطرابلس، وأشيع أن ذلك لغزو سيس. فوصل عسكر مصر إلى دمشق في عشريه، وأقام بها حتى انقضت السنة.
واتفقت حادثة غريبة بالقاهرة: وهذا أن رجلاً من سكان الحسينية يقال له علي بن السارق ركب في يوم الجمعة فرساً وبيده سيفه، وشق القاهرة فما وجد بها يهودياً ولا نصرانياً إلا ضربه، فجرح جماعة، وقطع أيدي جماعة، وشج جماعة، ثم أمسك خارج باب زويلة، وضرب عنقه.

.ومات فيها ممن له ذكر:

رشيد الدين إسماعيل بن عثمان الدمشقي الحنفي، بمصر في رجب عن إحدى وتسعين سنة، أخذ القراءات عن السخاوي، وأفتى ودرس، وقدم القاهرة من سنة سبعمائة في الجفل.
ومات بدمشق العدل نجم الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الرحيم بن أحمد عرف جده بالقابوني السعدي الأنصاري الدمشقي، في ليلة الجمعة أول محرم، ومولده سنة ستين وستمائة، وسمع من أبي اليسر في آخرين، وحدث عن أبي عبد الله ابن أمين الدين سليمان الموصلي، وروى عنه شيخنا العماد بن كثير، وقال كن رجلاً جيداً يشهد على القضاء، وباشر استيفاء الأوقاف.
ومات الشريف أمين الدين أبو الفضل جعفر بن محمد بن عدلان بن الحسن الحسيني، نقيب الأشراف بدمشق، في ليلة الخميس ثالث رجب، ومولده أول رجب سنة خمس وخمسين وستمائة، وكان حسن السيرة عفيفاُ، وولى نظر الدواوين بدمشق أيضاً.
ومات الأمير سودي نائب حلب في نصف رجب، ووجد له من الذهب العين مبلغ أربعين ألف دينار، واشتملت تركته على ألف ألف درهم، حملت إلى القاهرة، وكان كريماً حشماً مشكور السيرة.
ومات الشيخ علاء الدين علي بن محمد بن خطاب الباجي، بمصر ليلة الجمعة سادس ذي القعدة عن ثلاث وثمانين سنة، وكان من أئمة الفقهاء الشافعية، درس وصنف وأفتى.
ومات جمال الدين عطية بن إسماعيل بن عبد الوهاب بن محمد بن عطية اللخمي الإسكندراني، عن ثمنين سنة بالإسكندرية، ومات شرف الدين يعقوب بن فخر الدين مظفر بن أحمد مزهر الحلى، ناظر حلب ودمشق، في ثامن عشري شعبان، عن ست وثمنين سنة بحلب، ومولده سنة ثمان وعشرين وستمائة، ولم تبق مملكة بالشام إلا باشرها، وكانت له مروءة.
ومات الأمير سيف الدين كهرداش المنصوري بدمشق.
ومات عماد الدين إسماعيل بن الملك المغيث شهاب الدين عبد العزيز بن المعظم عيسى بن العادل أبي بكر بن أيوب، بحماة في ثامن عشري ربيع الآخر.
ومات الأمير سيف الدين ملكتمر الناصري المعروف بالدم الأسود بدمشق، وكان ظالماً.
ومات الأمير فخر الدين أقجبا الظاهري بدمشق، وكان خيراً، ومات الشيخ تقي الدين رجب بن أشترك العجمي، صاحب زاوية تقي الدين تحت قلعة الجبل، في ثامن رجب، وكان له أتباع ومريديون، وله حرمة ووجاهة عند أهل الدولة، ومات الشيخ شرف الدين أبو الهدى أحمد بن قطب الدين محمد بن أحمد بن القسطلاني بالقاهرة، ومولده بمكة في جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين وستمائة، وكان ورعاً ديناً، ومات الشيخ المعمر محمد بن محمود بن الحسين بن الحسن المعروف بحياك الله الموصلي، في يوم الخميس تاسع ربيع الأول، بزاويته من سويقة الريش خارج القاهرة، عن مائة وستين سنة، وكان قد سئل عن مولده، فقال إنه قدم إلى القاهرة في أيام المعز أيبك، وعمره سنة، وكان قد سئل عن مولده، فقال إنه قدم إلى القاهرة في أيام المعز أيبك، وعمره يومئذ خمس وثمانون سنة، ومات سليم الحواس جيد القوة. ومات صرد الدين أحمد بن مجد الدين عيسى بن الخشاب، وكيل بيت المال، يوم الإثنين تاسع شعبان، وولي عوضه مجد الدين حرمي، ومات القاضي سعد الدين محمد بن فخر الدين عبد المجيد بن صفي الدين عبد الله الأقفهسي، ناظر الخزانة، يوم الجمعة ثامن عشري ذي الحجة فجأة، واستقر عوضه الصاحب ضياء الدين النشائي. ومات القاضي شمس الدين عبد الله بن الفخر ناظر الجيش يوم السبت ثالث عشر شعبان، وكان ناظر ديوان المماليك وأبوه غائب بالقدس، فقدم بعد موته ليلة رابع عشريه، فقررت جامكيته باسم ابنه، واستنيب عنه، ومات القاضي تقي الدين بن الفائزي، ليلة الجمعة ثاني عشري صفر. ومات الشيخ عمر الدماميني في ثاني عشري ذي القعدة. وقتل بدمشق في يوم الجمعة تاسع عشري رجب موسى بن سمعان النصراني، كاتب الأمير قطلوبك الجاشنكير بحران، وذلك أنه نصر مسلما، وكواه على يده مثال صليب، فحكم قاضي القضاة جمال الدين المالكي بقتله، فقتل.

.سنة خمس عشرة وسبعمائة:

في أول المحرم: سار العسكر من دمشق إلى حلب، وعليه الأمير سيف الدين تنكز نائب الشام، وقد استصحب معه قاضي القضاة نجم الدين بن صصرى وشرف الدين ابن فضل الله، وجماعة من الموقعين، وكان تنكز بزي الملوك من العصائب والكوسات، ولم تجر عادة نائب قبله بذلك، وتبعه عسكر صفد وحمص حماة وطرابلس. فلا مر الأمير تنكز إلى حلب فجرد منها الأمير قرطاي والأمير ملكتمر الجمدار إلى ملطية، وكان في الظن أن المسير إلى سيس.
وسبب غزو ملطية أن السلطان بعث فداوية من أهل مصياب لقتل قرا سنقر، فصار هناك رجل من الأكراد يقال له مندوه يدل على قصاد السلطان أخذ منهم جماعة، فشق ذلك على السلطان، وأخذ في العمل عليه. فبلغه أنه صار يجني خراج مطلية، وكان نائبها من جهة جوبان يقال له بدر الدين ميزامير بن نور الدين، فخاف من مندوه أن يأخذ منه نيابة ملطية، فما زال السلطان يتحيل حتى كاتبه ميزامير. وقرر معه أن يسلم البلد لعساكره. فجهز السلطان العساكر، وروى أنها تقصد سيس حتى نزلت بحلب، وسارت العساكر منها مع الأمير تنكز على عينتاب إلى أن وصل الدرنبد، فألبس الجميع السلاح وسلك الدرنبد إلى أن نزل على ملطية يوم الثلاثاء ثالث عشريه، وحاصرها ثلاثة أيام. فاتفق الأمير ميزامير مع أعيان ملطية على تسليمها، وخرج في عدة منم الأعيان إلى الأمير تنكز، فأمنهم وألبسهم التشاريف السلطانية المجهزة من القاهرة، وأعطى الأمير ميزامير سنجقا سلطانيا، ونودي في العسكر ألا يدخل أحد إلى المدينة. وسار الأمير ميزامير ومعه الأمير بيبرس الحاجب والأمير أركتمر حتى نزل بداره، وقبض على مندوه الكردي وسلم إلى الأمير قلى، وتكاثر العسكر ودخلوا إلى المدينة ونهبوها. وقتلوا عدة من أهلها. فشق ذلك على الأمير تنكز، وركب معه الأمراء، ووقف على الأبواب وأخذ النهوب من العسكر، ورحل من الغد وهو رابع عشري المحرم بالعسكر، الأبواب وأخذ النهوب من العسكر، ورحل من الغد وهو رابع عشري المحرم بالعسكر، وترك نائب حلب مقيماً عليها لهدم أسوارها. ففر مندوه قبل الدخول إلى الدربند. وفات أمره. فلما قطعوا الدربند أحضرت الأموال التي نهبت والأسرى، فسلم من فيهم من المسلمين إلى أهله، وأفرد الأرمن.
فلما فتحت ملطية سار الأمير قجليس إلى مصر بالبشارة، فقدم يوم الخميس ثالث صفر، ودقت البشائر بذلك. وتبعه الأمير تنكز بالعساكر- ومعه الأمير ميزامير وولده- حتى نزل عينتاب ثم دابق، فوجد بها تسعة عشر ألف نول تعمل الصوف، وتجلب كلها إلى حلب. ثم سار تنكز، فقدم دمشق في سادس عشر ربيع الأول، وسير ميزامير وابنه في ثلاثين رجلاً مع العسكر المصري إلى القاهرة فقدموا في خامس ربيع الآخر.
وفيها قبض على الأميرين علاء الدين أيدغدي شقير، وجمال الدين بكتمر الحسامي الحاجب، في أول ربيع الآخر، فقتل شقير من يومه لأنه اتهم بأنه يريد الفتك بالسلطان، وأخذ لبكتمر الحاجب مائة ألف دينار، وسجن. وكان قد قبض على الأمير بهادر المعزي في عاشر المحرم، وقبض أيضاً بعد القبض على شقير على الأمير طغاي، وقبض على تمر الساقي نائب طرابلس وحمل إلى قلعة الجبل، وقبض على الأمير بهادر آص وحمل إلى الكرك. واستقر الأمير سيف الدين كستاي الناصري في نيابة طرابلس.
وأفرج في مستهل ربيع الآخر عن داود وجبا أخوى الأمير سلار، وأفرج عن الأمير سيف الدين قجماس المنصوري أحد البرجية. وأخرج الأمير بدر الدين محمد الوزيري عن مصر ليقيم بدمشق، في يوم السبت سلخ ربيع الآخر، وأنعم عليه بما خص السلطان من خمس ملطية، وهو نحو الخمسين ألف درهم.
وفي ثامن عشري رجب: أفرج عن الأمير جمال الدين أقوش نائب الكرك، وخلع عليه، وأمر في ثامن عشري شهر رجب، ثم أنعم عليه في ثالث عشر شعبان بإقطاع الأمير حسام الدين لاجين أستادار بعد موته.
وفيه قدم محمد بن عيسى أخو الأمير مهنا، واعتذر عن أخيه مهنا، وقدم فرساً أصيلاً للسلطان، فقدمت الفرس للسلطان في شعبان، وعرفت ببنت الكزتا، بلغ ثمنها وكلفتها ستمائة ألف درهم. فكتب السلطان إلى مهنا بالرجوع إلى البلاد، وخلع على محمد بن عيسى، ثم بعث إلى مهنا باثنى عشر ألف دينار، وأنعم عليه بمائتي ألف درهم، وكتب له بضيعة من الخاص على سبيل الملك.
وفي يوم الجمعة عشري جمادى الأولى: وتاسع عشري مسرى كان وفاء النيل، وفتح الخليج على العادة.
وفي ثاني عشريه: عزل علاء الدين القطزى من ولاية مصر، وولى بعده ابن أمير حاجب، نقل إليها من ولاية الشرقية.
وفي ثالث جمادى الآخرة: حضر الشريف أسد الدين أبو غرارة رميثة ابن أبي نمى، من مكة فاراً من أخيه حميضة، وأخبر أنه قطع اسم السطان من الخطبة بمكة، وخطب لصاحب اليمن. فجرد السلطان معه الأمير سيف الدين طيدمر، والأمير نجم الين ذمرخان بن قرمان، وثلاثمائة فارس من أجناد الحلقة وأجناد الأمراء.
وفيها قدم الأمير سيف الدين الخاص تركي وزين الدين قراجا الخازندار من بلاد طقطاي، ومعهم رسل الملك أزبك القائم بعد طقطاي، وأخبروا بإسلامه ومعهم هدية. فأكرم السلطان الرسل، وكتب جوابه، وسفرهم، وبعث معهم الأمير علاء الدين أيدغدي الخوارزمي بهدية.
وفيها قدم البريد من حلب بقدوم والدة صاحب ماردين تريد الحج، فرسم للنواب بخدمتها والقيام بما يليق بها.
وفيها قدم البريد بخروج سليمان بن مهنا عن الطاعة، ونهبه القريتين، وتوجهه نحو العراق من أجل خروج إقطاعه عنه. فكتب إلى مهنا في ذلك، فأجاب بأنه خارج عن طاعته.
وفيها قدمت رسل صاحب اليمن، وهما بدر الدين حسن بن أبي المنجا، والطوشي جمال الدين فيوز، وقد خرج عليهما عرب صحراء عيذاب، وأخذوا منهما الهدية، فجرد السلطان من الأمراء علاء الدين مغلطاي بن أمير مجلس، وسيف الدين ساطي السلاح دار، وصارم الدين أزبك الجرمكي، وعز الدين أيدمر الدوادار، علاء الدين علي بن قرا سنقر، وعلم الدين سنجر الدنيسرى، في عدة من الأجناد ومقدمي الحلقة، وأمروا بالتوجه إلى دمقلة بالنوبة، فساروا في أول شوال.
وفي العشر الأخير من شعبان: وقع الشروع في روك أرض مصر وسبب ذلك أن السلطان استكثر أخبارز المماليك أًحاب بيبرس الجاشنكير وسلار النائب وبقية البرجية، وكان الخبرز الواحد ما بين ألف مثقال في السنة إلى ثمانمائة مثقال، وخشي السلطان من وقوع الفتنة بأخذ أخبازهم. فقرر السلطان مع الفخر محمد بن فضل الله ناظر الجيش روك البلاد وإخراج الأمراء إلى الأعمال فتعين الأمير بدر الدين جنكلي ابن البابا للغربية، ومعه آقول الحاجب ومكين الدين إبراهيم بن قروينة، وللشرقية الأمير عز الدين أيدمر الخطيري، ومعه أيتمش المحمدي وأمين الدين قرموط، وللمنوفية والبحيرة بلبان الصرخدي والقلنجي وابن طرنطاى وبيبرس الحمدار، وللصعيد التليلي والمرتيني.
وفيها توجه السلطان في شعبان إلى بلاد الصعيد، وقدم في يوم الخميس ثامن عشر شوال.
وفيها توجه من حلب ستمائة فارس عليهم الأمير شهاب الدين قرطاي للغارة على بلاد ماردين ودنيسر لقلة مراعاة صاحب ماردين لما يرسم به. فشن قرطاي الغارة على بلد ماردين يومين، فصادف قراوول التتار قد قدم إلى ماردين على عادته كل سنة لجباية القطيعة، وهم في ألفي فارس، فحاربهم قرطاي وقتل منهم ستمائة رجل، وأسر مائتين وستين، وقدم بالرءوس والأسرى إلى حلب، ومعهم عدة خيول. فلما قدم البريد سر السلطان سروراَ زائداً، وبعث بالتشريف لنائب حلب ولقرطاي.
وقدم الخبر من مكة بقتل أبي الغيث في حرب مع أخيه حميضة، وأن العسكر المجرد إلى مكة واقع حميضة وقتل عدة من أصحابه، فانهزم حميضة وسار يريد بلاد خربندا، فتلقاه خربندا وأكرمه، وأقام حميضة عنده شهراَ، وحسن له إرسال طائفة من المغل إلى بلاد الحجاز ليملكها، ويخطب له على منابرها. وقدم العسكر المجرد إلى الحجاز في ثامن عشري رجب، وكان السلطان قد أنعم على محمد بن مانع بإمرة مهنا، فشن الغارات وأخذ جمال مهنما وطرده. فسار مهنا أيضاً إلى خربندا، فسر به وأنعم عليه. وجرد خربندا مع الشريف حميضة من عسكر خراسان أربعة آلاف فارس، وسار حميضة بهم في رجب يريد مكة. وأخذ خربندا في جمع العساكر لعبور بلاد الشام، فقدر الله موته، فخاف مهنا من الإقامة بالعراق، فسار من بغداد وبلغ محمد بن عيسى أخا مهنا سير الشريف حميضة بعسكر المغل إلى مكة، فشق عليه استيلاؤهم على الحجاز، فلما علم بموت خربندا، وخروج أخيه مهنا من بغداد، سار في عربانه وكبس سكر حميضة ليلاً ووضع فيهم السيف، وهو يصيح باسم الملك الناصر، فقتل أكثرهم. ونجا حميضة، ووقع في الأسر من المغل أربعمائة رجل، وغنم العرب منهم مالاً كثيراً وخيولاً وجمالاً. وكتب بذلك إلى السلطان فسر به، وأعاد الإمرة إلى مهنا، واستدعى محمد بن عيسى، فقدم إلى مصر وشمله من إنعام السلطان شيء كثير.
وفيها وصل إلى السلطان مهرة تعرف ببنت الكرتا، كان قد بذل فيها نحو مائتي ألف وتسعين ألف درهم، وضيعة من بلاد حماة، ويقال إنها بلغت كلفها على السلطان ستمائة ألف درهم.
وفيها وعك السلطان أياماً، فلما عوفي ودخل الحمام حلق رأسه كله، فلم يبق أحد من الأمراء والمماليك الناصرية حتى حلق رأسه. ومن يومئذ بطل إرخاء العسكر ذوائب الشعر، واستمر إلى اليوم وجلس السلطان يوم عيد النحر بعد عافيته، وأفرج عن أهل السجون، وطلع الناس للهناء، ونودي بزينة القاهرة ومصر، فكان يوماً مشهوداً.
وفيه فرغ العمل من بناء الإيوان، وذلك أن السلطان هدم الإيوان الذي بناه أبوه الملك المنصور، وجدده أخوه الملك الأشرف، ثم أنشأ إيواناً جليلاً، وعمل به قبة عالية متسعة ورخمه رخاماً عظيماً، وجعل قدامه دركاة فسيحة، فجاء من أجل المباني الملوكية وأعظمها.
وأما الأمراء الذين توجهوا إلى روك أعمال مصر، فإن كلاً منهم لما نزل بأول عمله استدعى مشايخ البلاد ودللاءها وقياسيها وعدولها وسجلات كل بلد. وعرف متحصلها ومقدار فدنها ومبلغ عبرتها وما يتحصل للجند من العين والغلة والدجاج والخراف والبرسيم، والكشك والعدس والكعك، ثم قاس تلك الناحية، وكتب بذلك عدة نسخ، ولا يزال يعمل ذلك حتى انتهى أمر عمله. وعادوا بعد خمسة وسبعين يوماً بالأوراق، فتسلمها الفخر ناظر الجيش، ثم طلب السلطان الفخر ناظر الجيش والتقى الأسعد بن أمين الملك المعروف بكاتب برلغي وسائر مستوفي الدولة، وألزمهم بعمل أوراق تشتمل على بلاد الخاص السلطاني التي عينها لهم، وعلى إقطاعات الأمراء، وأضاف على عبرة كل بلد ما كان فلاحيها من الضيافة المقررة، وما في كل بلد من الجوالي وكانت الجوالي قبل ذلك إلى وقت الروك ديواناً مفرداً يختص بالسلطان، فأضيف جوالي كل بلد إلى متحصل خراجها.
وأبطلت عدة جهات من المكوس منها ساحل الغلة، وكانت هذه الجهة مقطعة لأربعمائة من أجناد الحلقة سوى الأمراء، ومتحصلها في السنة أربعة آلاف ألف وستمائة ألف درهم، وإقطاع الجند منها من عشرة آلاف درهم في السنة إلى ثلاثة آلاف، وللأمراء من أربعين ألف إلى عشرة آلاف، واقتنى منها المباشرون أموالاً عظيمة، فإنها أعظم الجهات الديوانية، وأجل معاملات مصر، وكان الناس منها في أنواع من الشدائد لكثرة المغارم والتعب والظم، فإن أمرها كان يدور ما بين ظلم نواتيه المراكب والكيالين والمشدين والكتاب، وكان المقرر على كل أردب مبلغ درهمين للسلطان، ويلحقه نصف درهم آخر سوى ما ينهب وكان له ديوان في بولاق خارج المقس، وقبله كان خص يعرف بخص الكيالة، فلما ولي ابن الشيخي شد هذه الجهة قبل أن يلي الوزارة عمر مكان الخص مقعداً وجلس فيه، وكان في هذه الجهة نحو الستين رجلاً ما بين نظار ومستوفين وكتاب وثلاثين جندياً، وكانت غلال الأقاليم لا تباع إلا فيه.
ومن المكوس التي أبطلها السلطان الناصر أيضاً نصف السمسرة الذي أحدثه ابن الشيخي في وزارته، وهو أن من باع شيئاً فإن دلالته على كل مائة درهم درهمين، يؤخذ منهما درهم للسلطان، فصار الدلال يحسب حسابه، ويخلص درهمه قبل درهم السلطان. ومنها رسوم الولايات والمقدمين والنواب والشرطية، وكانت جهة تتعلق بالولاة والمقدمين، قيجيبها المذكورون من عرفاء الأسواق وبيوت الفواحش، وعليها جند مستقطعة وأمراء، وكان فيها ممن الظلم والعسف والفساد وهتك الحرم وهجم البيوت ما لا يوصف. ومنها مقرر الحوائص والبغال، وهي تجبى من المدينة وسائر معاملات مصر كلها من الوجهين القبلي والبحري، فكان على كل من الولاة والمقدمين مقرر يحمل في كل قسط من أقساط السنة إلى بيت المال عن ثمن حياصة ثلاثمائة درهم، وعن ثمن بغل خمسمائة درهم، وكان عليها عدة مقطعين سوى ما يحمل، وكان فيها من الظلم بلاء عظيم، ومنها مقرر السجون، وهو على كل من يسجن ولو لحظة واحدة مبلغ ستة دراهم سوى ما يغرمه، وعلى هذه الجهة عدة من المقطعين ولها ضمان، وكانت تجبى من سائر السجون. ومنها مقر طرح الفراريج، ولها ضمان في سائر نواحي الإقليم، فتطرح على الناس في النواحي الفراريج وكان فيها من الظلم والعسف وأخذ الأموال من الأرامل والفقراء والأيتام ما لا يمكن شرحه، وعليها عدة مقطعين ومرتبات، ولكل إقليم ضامن مفرد، ولا يقدر أحد أن يشتري فروجاً فما فوقه إلا من الضامن. ومنها مقرر الفرسان، وهي شيء يستهديه الولاة والمقدمون من سائر الأقاليم، فيجئ من ذلك مال عظيم، ويؤخذ فيه الدرهم ثلاثة دراهم لكثرة الظالم. ومنها مقرر الأقصاب والمعاصر، وهو ما يجبى من مزارعي الأقصاب وأرباب المعاصر ورجال المعصرة. ومنها رسم الأفراح، هي تجبى من سائر البلاد، وهي جهة بذاتها لا يعرف لها أصل. ومنها حماية المراكب، وهي تجبى من سائر المراكب التي في النيل بتقرير معين على كل مركب يقال له مقرر الحماية، ويجبى من المسافرين في المراكب سواء إن كانوا أغنياء أو فقراء. ومنها حقوق القينات، وهي ما كان يأخذه مهتار الطشتخاناه من الغايا ويجمعه من المنكرات والفواحش من أباش مصر وضمان تجيب بمصر. ومنها شد الزعماء وحقوق السودان وكشف مراكب النوبة، فيؤخذ من كل عبد وجارية مقرر معلوم عند نزولهم في الخانات، وكانت جهة قبيحة شنعة. ومنها متوفر الجراريف، وتجبى من المهندسين والولاة بسائر الأقاليم، وعليها عدة من الأجناد، ومنها مقرر المشاعلية، وهي ما يؤخذ عن تنظيف أسربة البيوت والحمامات والمسامط وغيرها، وحمل ما يخرج منها من الوسخ إلى الكيمان، فإذا امتلأ سرب مدرسة أو مسجد أو بيت لا يمكن شيله حتى يحضر الضمن ويقرر أجرته بما يختار، فمتى لم يوافقه صاحب البيت تركه حتى يحتاج إليه ويبذل له ما طلب. ومنها ثمن العبى التي كانت تستأدى من البلاد،. ومنها مقرر الأتبان التي كانت تؤخذ لمعاصر الأقصاب بغير ثمن، ومنها زكاة الرجالة بالديار المصرية. وأبطل السلطان أيضاَ وظيفتي النظر والاستيفاء من سائر الأعمال في كل بلد ناظر ومستوف وعدة مباشرين، فرسم ألا يستخدم أحد في إقليم لا يكون للسلطان فيه مال، وما كان للسلطان فيه مال يكون في كل إقليم ناظر وأمين حكم لا غير. ورفع السلطان سائر المباشرين، ورسم بالمسامحة بالبواقي الديوانية والإقطاعية من سائر النواحي إلى آخر سنة أربع وسبعمائة. وجعل المال الهلالي لاستقبال صفر سنة ست عشرة، والمال الخراجي لاستقبال ثلث مغل سنة خمس عشرة وسبعمائة.
وأفرد السلطان لخاصة الجيزة وأعمالها وبلاد هو والكوم الأحمر ومنفلوط والمرج والخصوص وعدة بلاد. وأحرجت الجوالي من الخاص، وفرقت في البلاد، وأفردت جهات المكس كلها، وأضيف للوزارة، وأفردت للحاشية بلاد، ولجوامك المباشرين بلاد، ولأرباب الرواتب جهات. وارتجعت عدة بلاد كانت اشتريت، وأخلت في الإقطاعات. واعتد في سائر البلاد بما كان يهديه الفلاح، وحسب من جملة الإقطاع.
فلما فرغ العمل من ذلك نودي في الناس بالقاهرة ومصر وسائر الأعمال بإبطال ما أبطل من الجهات، وكتبت المراسيم إلى النواحي به، فسر الناس سروراً كبيراً.
وجلس السلطان بالإيوان الذي أنشأه لتفرقة المثالات في ويوم الخميس ثاني عشري ذي الحجة، بعدما دارت النقباء على جميع الأجناد وحضروا ورسم أن يفرق كل يوم على أميرين من المقدمين بمضافيهما. فكان المقدم يقف بمضافيه، ويستدعي السلطان المقدمين كل أحد باسمه، فإذا تقدم المطلوب سأله السلطان: من أين أنت؟ ومملوك من؟ حتى لا يخفى عليه شيء من أمره. ثم يعطيه مثالاً على ما قسم له من غير تأمل، وأنبأ السلطان في العرض عن معرفة تامة بأحوال الأجناد وأمراء الجيش.
وكان الأمراء عند العرض قد جلس أكابرهم بخدمته على العادة، وإذا أخذوا في شكر جندي عاكسهم وأعطاه دون ما كان في أملهم له، وأراد بذلك ألا يتكلم أحد في المجلس. فلما فطنوا لذلك أمسكوا عن الكلام والشكر، بحيث لم يتكلم أحد بعدها إلا جواباً له عما يسأل السلطان عنه منهم. وفعل في عرض المماليك مثل عرض الأجناد، فكان المملوك إذا تقدم إليه سأله عن اسم تاجره وعن أصله وفره، وكم حضر من مصاف، وكم رأى بيكارا، وأي قطعة حاصر، فإن أجابه بصدق أنصفه. وكان السلطان يخير الشيخ المسن بين الإقطاع والرواتب، فيعطيه ما يختار، ولم يقطع في العرض العاجز عن الحركة، بل كان يرتب له ما يقوم به عوضاً عن إقطاعه.
واتفق له في العرض أشياء: منها أنه تقدم إليه شاب تام الخلقة في وجهه أثر شبه ضربة سيف، فأعجبه وناوله مثالاً بإقطاع جيد، وقال له: في أي مصف وقع في وجهك هذا السيف؟. فقال لقلة سعادته: يا خوند! هذا ما هو أثر سيف، وإنما وقعت من سلم. فصار في وجهي هذا الأثر، فتبسم وتركه. فقال الفخر ناظر الجيش: يا خوند! ما بقي يصلح له هذا الخبز!. فقال السلطان لا! قد صدقني وقال الحق، وأخذ ززقه، فلو قا لأصبت في المصف الفلاني من الذي يكذبه؟ فدعت الأمراء له، وانصرف الشاب بالمثال. وتقدم إليه رجل ذميم الشكل، وله إقطاع ثقيل عبرة ثمانمائة دينار، فأعطاه مثالاً وانصرف. فإذا به عبرة نصف ما كان معه. فعاد وقبل الأرض. فسأله السلطان عن جاجته. فقال: الله يحفظ السلطان! فإنه غلط في حقي، فإن إقطاعي كانت عبرته ثمانمائة دينار، وهذا أربعمائة. فقال السلطان: بل الغلط كان في إقطاعك الأول، فمضى بما قسم له، فلما انتهت تفرقة المثالات في آخر المحرم سنة ست عشرة توفر منها نحو مائتي مثال.
ثم أخذ السلطان في عرض طباق المماليك، ووفر جوامك عدة منهم ورواتبهم، وأعطاهم الإقطاعات. وأفرد جهة قطيا للعاجزين من الأجناد، وقرر لكل ثلاثة آلاف درهم في السنة. وارتجع السلطان ما كانت البرجية قد اشترته من أراضي الجيزة وغيرها، وارتجع ما كان لبيبرس وبرلغي والجوكندار وغيرهم من المتاجر، وأضاف ذلك للخاص.
وبالغ السلطان في إقامة أيام العرض. وعرف النائب وأكابر الأمراء أنه من رد مثالاً أو تضرر أو شكا ضرب وحبس وقطع خبزه، وأن أحداً من الأمراء لا يتلكم مع السلطان في أمر جندي ولا مملوك، فلم يجسر أحد أن يخالف ما رسم به.
وعين في هذا العرض أكثر الأجناد، فإنهم أخذوا إقطاعات دون التي كانت معهم، وقصد الأمراء التحدث في ذلك مع السلطان، والنائب أرغون ينهاهم عنه. فقدر الله أن السلطان نزل إلى البركة لصيد الكركي، وجلس في البستان المنصروي ليستريح، فدخل بعض المرقدارية- وكان يقال له عزيز- ومن عاداته الهزل قدام السلطان والمزح معه، فأخذ يهزل على عادته قدام السلطان والأمراء جلوس، وهناك ساقية والسلطان ينظر إليها. فتمادى عزيز لشؤم بخته في الهزل إلى أن قال: وجدت جندي من جند الروك الناصري وهو راكب إكديش، وخرجه ومخلاة فرسه ورمحه على كتفه، وأراد أن يتم الكلام. فاشتد غضب السلطان. وصاح في المماليك: عروه ثيابه، فللحال خلعت عنه الثياب، وربط مع قواديس الساقية، وضربت الأبقار حتى أسرعت في الدوران، وعزيز تارة ينغمز في الماء وتارة يظهر، وهو يستغيث وقد عاين الموت، والسلطان يزداد غضباً. فلم تجسر الأمراء على الشفاعة فيه حتى مضى نحو ساعتين، وانقطع حسه، فتقدم إليه الأمير طغاي والأمير قطلوبغا الفخري وقالا: يا خوند! هذا المسكين لم يرد إلا أن يضحك السلطان، ويطيب خاطره، ولم يرد غير ذلك، وما زالا به حتى أخرج الرجل وقد أشفى على الموت، ورسم بنفيه من أرض مصر، فحمد الله سبحانه وتعالى الأمراء على سكوتهم وتركهم الشفاعة في تغيير مثالات الأجناد.
وفي هذه السنة: ظهر ببلاد الصعيد فأر عظيم يخرج عن الإحصاء، بحيث إن مباشري ناحية أم القصور من بالد منفلوط قتلوا في أيام قلائل من الفأر مبلغ ثلاثمائة وسبعة عشر أردباً ينقص ثلث أردب، واعتبروا أردباً فجاء عدة ثمانية آلاف وأربعمائة فأر، وكل ويبة ألف وأربعمائة فأر.
وفيها وقعت نار في البرج المنصوري من قلعة الجبل وطباق الجمدارية، فأحرقت شيئاً كثيراً، وذلك في تاسع عشري شعبان.
وفيها غلقت كنائس اليهود والنصارى بأجمعها في مصر والقاهرة، في يوم السبت سابع عشر شوال فلما كان يوم الثلاثاء العشرين من ذي الحجة فتحت الكنيسة المعلقة وخلع على بطرك النصارى.
وفيها حج الأمير سيف الدين أرغون النائب، وقاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة مع الركب، وكان أمير الركب عز الدين أيدمر الكوكندي.

.ومات في هذه السنة ممن له ذكر:

شهاب الدين أحمد بن حسين بن عبد الرحمن الأرمنتي المعروف بابن الأسعد، يوم الجمعة رابع عشري رمضان، وكان فقيهاً شافعياً مشكور السيرة.
ومات جلال الدين إسماعيل بن أحمد بن إسماعيل بن بريق بن برعس أبو الطاهر القوصي الفقيه الحنفي، كان متصدراً بجامع أحمد بن طولون، وله فضيلة في الفقه والقراءات والعربية، وصنف وحدث، وله شعر منه:
أقول له ودمعي ليس يرقا ** ولي من عبرتي إحدى الوسائل

حرمت الطيف منك ففاض دمعي ** وطرفي فيك محرم وسائل

ومات تقي الدين سليمان بن جمزة بن عمر بن أبي عمر محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي الحنبلي، قاضي الحنابلة، بدمشق في حادي عشر ذي القعدة، ومولده سنة ثمان وعشرين وستمائة، وكان فاضلاً واسع الرواية، له معجم في مجلدين، وتخرج به جماعة من الفقهاء، مع الدين والتواضع.
ومات شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي القاسم بن عبد السلام بن جميل التونسي المالكين بالقاهرة ليلة الحادي والعشرين من صفر، عن ست وتسعين سنة، ودفن بالقرافة، ومولده سنة تسع وثلاثين وستمائة، وناب في الحكم بالحسينية خارج القاهرة، ثم ولي قضاء الإسكندرية، وهو أول من درس بالمدرسة المنكوتمرية بالقاهرة.
ومات السيد الإمام العلامة ركن الدين أبو محمد الحسين بن شرف الدين شاه الحسيني العلوي الأستراباذي، عالم الموصل ومدرس الشافعية، وشارح المختصر لابن الحاجب ومقدمي ابن الحاجب والحاوي في المذهب، وله سبعون سنة، وأخذ عن النصير الطوسي، وتقدم عند التتار وتوفرت حرمته، وبرع في علوم المقولات، وكان يجيد الفقه وغيره.
ومات شرف الدين محمد بن نصر الله القلانسي التميميم الدمشقي، في ثاني عشر المحرم بدمشق ومولده بها سنة ست وأربعين وستمائة، وكان أحد الأعيان الأخيار.
ومات الشيخ صفي الدين محمد بن عبد الرحيم بن محمد الأرموي المعروف بالهندي الأرموي الفقيه الشافعي، في تاسع عشري صفر بدمشق، ومولده ثالث ربيع الآخر سنة أربع وتسعين وستمائة، وله تصانيف مفيدة، وقدم من الهند إلى مصر بعد حجة، وسار إلى الروم فأقام بها إحدى عشرة سنة وسكن دمشق من سنة خمس وثمانين وستمائة وسمع بها ودرس، وكان إماماً عالماً ديناً.
ومات شرف الدين محمد بن تميم الإسكندراني كاتب الملك المؤيد هزبر الدين صاحب اليمن بها، وكان إماماً في الإنشاء، وله نظم.
ومات عز الدين حسين بن عمر بن محمد بن صبرة، في تاسع عشر رجب بطرابلس، وولي حاجباً بدمشق مدة، وكان مشكوراً.
ومات الأمير علاء الدين أيدغدي شقير الحسامي، أحد مماليك الملك المنصور حسام الدين لاجين، وكان شجاعاً مقداماً عجولاً، أحمق متكبراً واسطة سوء، قتل فتى أول ربيع الأول.
ومات حسام الدين قرالاجين المنصوري الأستادار، ليلة الأربعاء ثالث عشر شعبان، وكان جواداً خيراً سليم الباطن، وأنعم بإقطاعه على الأمير جمال الدين أقوش الأشرفي، وتوفرت الأستادارية ومات الأمير سيف الدين جيرجين الخازن تحت العقوبة، يوم السبت عاشر ربيع الآخر.
ومات الأمير بدر الدين موسى بن الأمير سيف الدين أبي بكر محمد الأزكشي، بدمشق في ثامن شعبان، وكان شجاعاً شهماً.
ومات الملك خربندا بن أبغا بن أرغون في سادس شوال، وتسمى بمحمد، وكان رافضياً، قتل أهل السنة، وكان منهمكاً في شرب الخمر متشاغلاً باللهو، وقام بعده ابنه أبو سعيد بعهده إليه، وكان محولاً بإحدى عينيه، عادلاً في رعيته، ملك ثلاث عشرة سنة وأشهراً.
ومات الأمير سيف الدين كستاي الناصري نائب طرابلس بها، وكان جسوراً قوي النفس معجباً بنفسه شديد الكبر، إلا أنه باشر طرابلس بعفة وحرمة مدة شهرين، ثم طلب من الناس التقادم وأخذها.
ومات الأمير بدر الدين بن الملك المغيث، في ثاني شعبان.
مات بهاء الدين بن المحلى، في خامس شعبان.
ومات الشيخ جمال الدين محمد بن المهدي المالكي بمصر.
ومات الفقيه شرف الدين بن محيي الدين بن الفقيه نجيب الدين، في تاسع رجب.
ومات الشيخ ناصر الدين أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل يوسف بن محمد بن عبد الله بن المهتار الكاتب، بدمشق في سادس عشري ذي الحجة، انفرد برواية علوم الحديث بسماعه من مؤلفه ابن الصلاح، وبرواية الزهد لأحمد بن حنبل، وشيوخه كثيرة، ومولده في رجب سنة سبع وثلاثين وستمائة.
ومات الشيخ تاج الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن الشيخ مرهف، إمام الجامع الجديد الناصري خارج مصر، ليلة الأربعاء خامس عشر رجب.
ومات الشيخ المقرئ أمين الدين بن الصواف، المتصدر بجامع عمرو، بمصر ليلة الجمعة ثاني عشري شعبان.
ومات الشيخ ابن أبي مفصلة، ليلة الأحد سادس عشر رمضان.
ومات الشيخ زين الدين المهدوي، يوم الخميس تاسع رجب.
ومات الطواشي شبل الدولة كافرر الأقطوني الصالحي، شاد الخزانة السلطانية، ليلة الاثنين رابع عشر ذي القعدة.
ومات فتح الدين بن زين الدين بن وجيه الدين بن عبد السلام، في سابع عشري ذي القعدة.