فصل: سنة ثمانين وخمسمائة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: السلوك لمعرفة دول الملوك (نسخة منقحة)



.سنة ثمانين وخمسمائة:

في خامس المحرم: توجهت قافلة بغلات وسلاح وبدل مجرد إلى قلعتي أيلة وصدر، وخرج من الشرقية جماعة يخفرونها مع قيصر وإلى الشرقية، فأوصلها إلى أيلة وصدر. وعاد في خامس عشريه، وكان العدو قد نهض إليها وعاد عنها.
وأهلت هذه السنة: والسلطان بدمشق، فبعث إلى الأطراف يطلب العساكر، فقدم عليه ابن أخيه تقي الدين بعساكر مصر، ومعه القاضي الفاضل وخرج السلطان من دمشق يوم الثلاثاء النصف من ربيع الأول إلى جسر الخشب، وقدم الملك العادل من حلب ومعه نور الدين بن قرا أرسلان إلى دمشق يوم الخميس رابع عشريه، وخرجا إلى الكسوة، فرحل السلطان في ثاني ربيع الآخر من رأس الماء يريد الكرك، وخرج تقي الدين في عسكر مصر، ومعهم أولاد الملك العادل وأهله، يوم الأربعاء مستهله، فساروا إلى أيلة، ووصلوا إلى السلطان في تاسع عشره وهو على الكرك.
وسارت أولاد العادل في حادي عشريه، فلقوا العادل وهو على الفوار في خامس عشريه ووصل معهم زرافة، فاجتمعوا به وساروا إلى حلب، ومعهم بكمش بن عين الدولة الياروقي، وعلي بن سليمان بن جندر، ونزل العسكر الحلبي على عمان مدينة البلقاء في ثامن جمادى الأولى، ورحل عنها في ثاني عشره إلى الكرك، وقدم العادل وابن قرا أرسلان إلى الكرك في سابع عشره، وعملت المجانيق إلى ليلة الخميس حادي عشريه ثم رميت تلك الليلة، ورحل العسكر كله لخبر ورد عن اجتماع الفرنج، وساروا إلى اللجون، ونزل الفرنج بالواله. ثم سار العسكر إلى ناحية البلقاء، فنزلوا حسبان تجاه الفرنج، إلى نصف نهار الإثنين سادس عشريه. فرحل الفرنج إلى الكرك، والعسكر وراءهم إلى نابلس، فهاجمها العسكر يوم الجمعة سلخه، وحرقوها ونهبوها، وساروا فأخذوا أربعة حصون، ونزلوا على جينين ونقبوا قلعتها حتى وقعت، وقتل تحتها من النقابين عدة، وأخذت عنوة وغنم منها شيء كثير. ورحلوا في ليلتهم إلى زرعين وعين جالوت، وأحرقوهما في الليل، وعبروا الأردن يوم الأحد ثاني جمادى الآخرة، ونزلوا الفوار رابعه.
ودخل السلطان دمشق يوم السبت سابعه، ومعه عساكره كلها، وقدم أخوه العادل من حلب، وأتته العساكر المشرقية وعساكر الحصن وآمد، وسار بهم يريد الكرك لأخذها من الفرنج، فنازلها في رابع عشر جمادى الأولى ونصب عليها تسعة مجانيق رماها بها.
وقدمت الأمداد من الفرنج، فرحل السلطان إلى نابلس، ونهب كل ما مر به من البلاد، وأحرق نابلس وخربها ونهبها، وقتل وسبى وأسر، واستنقذ عدة من المسلمين كانوا أسرى، وسار إلى جينين، وعاد إلى دمشق، فقدم عليه رسل الخليفة، وهما الشيخ صدر الدين عبد الرحيم بن إسماعيل بن أبي سعد أحمد، وشهاب الدين بشير الخادم، ومعهما خلع السلطان والملك العادل، فلبساها. وطلب الرسولان تقرير الصلح بين السلطان وبن عز الدين صاحب الموصل، فلم يتقرر بينهما صلح، وخرجا من دمشق، فماتا قبل وصولهما إلى بغداد.
وخلع السلطان على جميع العساكر، وأذن لهم في المسير إلى بلادهم، بعدما أعطاهم شيئا كثيرا، فساروا.
وفي نصف شعبان: سار المظفر تقي الدين بعساكر مصر يريد العود إلى القاهرة، وقرأت وصية سلطانية، تضمنت ولاية الملك العزيز عثمان ابن السلطان لمصر بكفالة ابن عمه تقي الدين عمر، وولاية الملك الأفضل أكبر أبناء السلطان على الشام بكفالة عمه العادل صاحب حلب، وان مدة الكفالة إلى أن يعلم المسلمون باستقلال كل واحد بالأمر، ويستقر الكافلان في خبزيهما وما بأيديهما، ومن عدم من الولدين قام الأمثل من إخوته مقامه، أو من الكافلين قام الباقي منهما مقام الآخر، واستحلف الحاضرون من الأمراء، وولى قراءة العهد بذلك القاضي المرتضى بن قريش. وسومح بهلإلي البهسنا، وهو ألف ومائتا دينار، وسومح بالأتبان، وما تقصر عن ألفي دينار، ومنع من ضمان المزر والخمر والملاهي، وترك ما كان يؤخذ من رسم ذلك للسلطان بديار مصر.
وخرج السلطان من دمشق يريد البلاد الشرقية، فأقام بحماة بقية السنة، وكان نزوله عليها في عشري ذي القعدة.
وفي هذه السنة: أقيمت خطبة في سابع المحرم عند قبر سارية بلحف الجبل، في غير بنيان وبغير سكان، وتم ذلك بعصبية جماعة، ثم أحدث جامع عند قبة موسك وبقيت سنين.
وبلغ النيل ثلاث عشرة إصبعا من تسع عشرة ذراعا، فأضر ذلك بالقرى، وخرج أهلها منها لسقوط جدرانهم، وغرقت البساتين والأقصاب، وفاضت الآبار، وانقطعت الترع، وكثر الضرر، كما حصل في سنة أربع وأربعين وخمسمائة.
وفي هذه السنة: مات السلطان أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن بن علي ملك المغرب، لسبع خلون من رجب.
ومات إيلغازي بن نجم الدين بن ألبي بن تمرتاش بن إيلغازي بن أرتق الأرتقي قطب الدين، صاحب ماردين، في جمادى الآخرة.
وفيها مات آقسنقر الساقي، صهر قراجا الهمام، بحلب في يوم الجمعة حادي عشر وفيها رسم السلطان بتقييد أولاد الخليفة العاضد الفاطمي ومن بقي من أقاربه.

.تتمة سنة ثمانين وخمسمائة:

أول المحرم يوم الإثنين: فيه ابتدئ بالتدريس في المدرسة الفاضلية بدرب ملوخيا من القاهرة.
وفي خامسه: توجهت القافلة بالبدل المجرد إلى قلعتي صدر وأيلة مع قيصر والي الشرقية.
وفي سابعه: أقيمت الخطبة عند قبر سارية بلحف الجبل في غير بنيان ولا سكان.
وفي ثامنه: وردت كتب السلطان من دمشق، باستدعاء العساكر، وجمع الأموال والأسلحة والأمتعة.
وفي حادي عشره: كانت فتنة بين العرب الجذاميين، فخرج عسكر إلى الشرقية، وعدى الملك المظفر إلى الجيزة بأولاده، لدعوة عملها الطواشي قراقوش عند قناة طرة، وعاد من الغد.
وفي ثامن عشره: وردت كتب السلطان من دمشق، لاستنهاض العساكر لغزاة الكرك، وأن يستصحبوا من الراجل ما قدروا عليه، فبرزت الخيام إلى بركة الجب في عشريه، وخرج من الغد الملك المظفر تقي الدين النائب بمصر.
وفي ثاني عشريه: ورد الخبر من ناظر قوص بغرق أربع جلاب، بها ألف وثلاثمائة رجل من الحجاج، هلكوا كلهم.
وفي خامس عشريه: عاد قيصر وإلى الشرقية من صدر، بعد أن أوصل القافلة إلى أيلة، وعاد بالقافلة العائدة، وكان العدو قد نهض إليها، ثم عاد عنها.
وفي سلخه: ورد الخبر بأن المؤيد سيف الإسلام ملك بلاد اليمن، واعتقل خطاب ابن منقذ بزبيد.
وأهل صفر: في رابعه: ورد الخبر بوصول تابوتي نجم الدين أيوب وأسد الدين شيركوه، إلى المدينة النبوية، ودفنهما بها، وكان قد حمل بهما إلى قوص، وعدى بهما من بحر عيذاب إلى المدينة، وكان سيرهما في أول السنة الماضية.
وفي سادسه: سار الأسطول، وهو أحد وثلاثون شينيا وحراقة.
وقي سابعه: جرت فتنة بين الأشاعرة والحنابلة، سببها إنكار الحنابلة على الشهاب الطوسي تكلمه في مسألة من مسائل الكلام في مجلس وعظه، وترافعوا إلى الملك المظفر بمخيمه، فرسم برفع كراسي وعظ الفريقين، وقد أطلق كل من الفريقين لسانه في الآخر.
وفي ثامنه: وقع مطر عظيم، ورعد قاصف وريح عاصف، وبرق خاطف وبرد كثير كبار، فحل بالعسكر المبرز بلاء شديد، وعطبت الثمار، وتفسخت الأشجار، وانقعر النخل، وعمت الجائحة الثمار والزروع، التي لم تحصد وما حصد، وتلفت المقاثي.
وفي عاشره: عقد مجلس لأصحاب الدواوين للمفاضلة ما بين ابن شكر وابن عثمان، فتسلم ابن عثمان الدواوين، بعد أن أخذ خطه بزيادة خمسة عشر ألف دينار على الارتفاع، ثم صرف بابن شكر في ثالث عشره.
وأهل شهر ربيع الأول: في ثاني عشره: سار المظفر تقي الدين من بركة الجب، يريد السلطان بدمشق، وعاد ابن السلار إلى القاهرة نائبا عن المظفر.
وعاد ابن شكر ناظر الدواوين إلى القاهرة في خامس عشره، ومعه ولد المظفر، فخرج الناس لتلقيه.
وأهل شهر ربيع الآخر: في عشريه: قدم المظفر على السلطان صلاح الدين بالقرب من الكرك.
وفي عاشر جمادى الآخرة: أخلت أهل بلبيس بلدتهم في ليلة واحدة، وقد سمعوا بمسير الفرنج إلى فاقوس، واضطرب الناس بالقاهرةومصر والجيزة، فسميت الهجة الكذابة.
وقدم الخبر بأن سيف الإسلام قتل خطاب بن منقذ ومثل به، واستصفى أمواله باليمن، وقبض على ألزامه. وكان العسكر عقيب الهجة خرج إلى بلبيس، فنهبها الغلمان، وأخذ الفرنج نحو مائتين وعشرين أسيرا، وساقوا أغناما لا تدخل تحت حصر.
وفي رابع عشري شعبان: قدم المظفر تقي الدين إلى القاهرة بالعسكر، بعد شدة لحقتهم في طريقهم.
وفي ذي القعدة: ورد كتاب سيف الإسلام بأنه فتح باليمن مائة وثلثتة وسبعين حصنا، وقدم أهل خطاب بن منقذ وأخوه محمد إلى مصر وخرج تقي الدين ابن أخي صلاح الدين إلى البحيرة ليكشف أحوالها.
وكان معه كاتبه الرضى بن سلامة، فاستدفع من الدواوين حساباتهم، وسار بها على بغل صحبة تقي الدين، فأرسل الله صاعقة من السماء أحرقت البغل وما عليه من الحساب، وعاد تقي الدين.

.سنة إحدى وثمانين وخمسمائة:

وأهلت سنة إحدى وثمانين فسار السلطان وبلغ حران، في يوم الجمعة ثامن عشري صفر فقبض على صاحبها مظفر الدين كوكبري، واستولى عليها. ورحل عنها في ثاني ربيع الأول فوافته رسل الملك قلج أرسلان بن مسعود السلجوقي صاحب الروم باتفاق ملوك الشرق بأجمعهم على قصده، إن لم يعد عن الموصل وماردين، فسار يريد الموصل، وكاتب الخليفة بما عزم عليه من حصر الموصل، ونزل عليها وحاصر أهلها وقاتلهم. فورد الخبر بموت شاه أرمن بن سقمان الثاني ناصر الدين محمد بن إبراهيم صاحب خلاط في تاسع ربيع الأول، فرحل صلاح الدين في آخره يريد خلاط، ثم عاد ولم يملكها، وسار إلى ميافارقين فتسلمها، ثم عاد إلى الموصل، ونزل على دجلة في شعبان، وأقام إلى رمضان، فمرض مرضا مخوفا، فرحل في آخر رمضان، وهو لما به وقد أيس منه، فنزل بحران، فتقرر فيها الصلح بينه وبين المواصلة في يوم عرفة، وخطب له بجميع بلاد الموصل، وقطعت خطبة السلجوقية، وخطب له في ديار بكر وجميع البلاد الأرتقية، وضربت السكة باسمه، وأمر بالصدقات في جميع ممالكه.
وفي يوم الثلاثاء سابع ربيع الأول: حدثت بمصر زلزلة، وفي مثل تلك الساعة كانت زلزلة في بعلبك أيضا.
وفيه كانت بالاسكندرية فتنة بين العوام، نهبوا فيها المراكب الرومية، فقبض على عدة منهم ومثل بهم.

.ومات في هذه السنة:

الملك القاهر ناصر الدين محمد بن أسد الدين شيركوه صاحب حمص، ليلة عيد الأضحى. واتهم السلطان بأنه سمه فإنه لما اشتد مرض السلطان تحدث بأنه يملك من بعده.
ومات فخر الدولة إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن أحمد بن نصر الأسواني ابن أخت الرشيد والمهذب ابني الزبير فيها. وهو أول من كتب الإنشاء للسلطان، ثم كتب لأخيه العاد ل.
ومات سعد الدين بن مسعود بن معين الدين بآمد.
ومات الأمير مالك بن ياروق في منبج ليلة السبت مستهل رجب، محمل إلى حلب ودفن بها.
وماتت آمنة خاتون بنت معين الدين أنار التي تزوجها السلطان صلاح الدين بعد نور الدين محمود لما ملك دمشق، وكانت وفاتها يوم الاثنين ثالث ذي القعدة.
وفيها خرج المظفر تقي الدين عمر إلى كشف أحوال الإسكندرية، وشرع في عمل سور على مدينة مصر بالحجر، فلم يبق فقير ولا ضعيف إلا خط فيه ساحة من درب الصفا إلى المشهد النفيسي، واتصلت العمارة في خط الخليج إلى درب ملوخيا بمصر حتى بين الكومين وبجوار جامع ابن طولون والكبش، فعمر أكثر من خمسة آلاف موضع بشقاف القنز والخرشتف وتراب الأرض، وتحول الناس لجهة جامع ابن طولون والبركة وجانب القلعة.
وفي شعبان ورمضان: وقع وباء بأرض مصر وفشا موت الفجأة، وكثر الوباء في الدجاج أيضا.

.سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة:

وأهلت سنة اثنتين وثمانين: وقد أبل السلطان من مرضه، فرحل من حران، ونزل حلب في رابع عشر المحرم، ومر من حلب إلى حمص، فرتب أمورها واسقط المكوس منها. ودخل إلى دمشق في ثاني ربيع الأول، واستدعى ابنه الأفضل عليا من مصر، لمنافرة كانت بينه وبن ابن عمه المظفر تقي الدين، فقدم عليه بأهله وحشمه، لسبع بقين من جمادى الأولى، وصرف العادل عن حلب، ولقرر عوضه بها الملك الظاهر غياث الدين غازي ابن السلطان، وعوض العادل الشرقية بديار مصر.
وصرف المظفر تقي الدين عمر من ديار مصر ونيابتها، فغضب لذلك، وعبر بأصحابه إلى الجيزة يريد اللحاق بغلامه شرف الدين قراقوش التقوى، وأخذ بلاد المغرب، وجعل مملوكه بوري في مقدمته، فبلغ ذلك السلطان، فكتب إليه يأمره بالقدوم عليه، فقبح الأكابرعليه مشاقته السلطان وحذروه، فأجاب وتوجه إلى دمشق، فوصلها ثالث عشري شعبان، واستمر على ما بيده من حماة والمعرة ومنبج وأضيف إليه ميافارقين، وكتب إلى أصحابه فقدموا عليه من مصر، ماخلا زين الدين بوري مملوكه، فإنه سار إلى المغرب، وملك هناك مواضع كنيرة. ثم قصده صاحب المغرب وأسره، ثم أطلقه وقدمه.
ووصل الأفضل على ابن السلطان من القاهرة إلى دمشق يوم الخميس سابع عشر جمادى الأولى، وهو أول قدومه إليها، وسار الملك العزيز عثمان إلى ملك مصر، ومعه عمه العادل أتابكا.
وكان خروج العادل من حلب ليلة السبت رابع عشري صفر، فدخلا إلى القاهرة في خامس رمضان.
ووقع الخلف بين الفرنج بطرابلس، فالتجأ القومص إلى السلطان، وصار يناصحه، واستولى الإبرنس ملك الفرنج بالكرك على قافلة عظيمة، فأسر من فيها وامتنع من إجابة السلطان إلى إطلاقهم، فتجهز السلطان لمحاربته، وكاتب الأطراف بالمسير لقتاله.
وفيها مات بمصر عبد الله بن أبي الوحش بري بن عبد الجبار بن بري النحوي، ليلة السبت لثلاث بقين من شوال، ومولده بدمشق في خامس رجب سنة تسع وتسعين وأربعمائة.

.سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة:

وأهلت سنة ثلاث وثمانين وقد برز السلطان من دمشق لجهاد الفرنج يوم السبت أول المحرم، واقر ابنه الأفضل على رأس الماء، ونزل بصرى، فأقام لحفظ الحاج حتى قدموا في آخر صفر. فسار إلى الكرك، في اثني عشر ألف فارس، ونازلها وقطع أشجارها، ثم قصد الشوبك، ففعل بها مثل ذلك. وخرج الحاجب لؤلؤ على الأسطول من مصر، وهو خمسة عشر شينيا، ليسير إلى الإسكندرية. وخرج العادل من القاهرة في سابع المحرم إلى بركة الجب، وسار إلى الكرك، فمر على أيلة، والتقى مع السلطان على القريتين، وعادا إلى الكرك، فنازلاها في ربيع الأول، وضايق السلطان أهلها، ثم رحل عنها، ونازل طبرية، فاجتمع من الفرنج نحو الخمسين ألفا بأرض عكا، ورفعوا صليب الصلبوت، فافتتح السلطان طبرية عنوة في ثالث عشري ربيع الآخر، وغاظ ذلك الفرنج وتجمعوا، فسار إليهم السلطان، وكانت وقعة حطين، التي نصر الله فيها دينه، في يوم السبت رابع عشريه. وانهزم الفرنج بعد عدة وقائع، وأخذ المسلمون صليب الصلبوت، وأسروا الإبرنس أرناط صاحب الكرك والشوبك، وعدة ملوك آخرين وقتل وأسر من سائر الفرنج ما لا يعد كثرة.
ثم قدم الإبرنس أرناط، وضرب السلطان عنقه بيده، وقتل جميع من عنده من الفرنج الداوية والاسبتارية ورحل السلطان إلى عكا، فنازلها سلخ ربيع الآخر، ومعه عالم عظيم.
قال العلامة عبد اللطيف بن يوسف البغدادي: كان السوق الذي في عسكر السلطان على عكا عظيما، ذا مساحة فسيحة، فيه مائة وأربعون دكان بيطار، وعددت عند طباخ واحد ثمانيا وعشرين قدرا، كل قدر تسع رأس غنم.
وكنت أحفظ عدد الدكاكين، لأنها كانت محفوظة عند شحنه السوق، وأظنها سبعة آلاف دكان، وليست مثل دكاكين المدينة، بل دكان واحد مثل مائة دكان، لأن الحوائج في الأعدال والجوالقات، ويقال إن العسكر أنتنت منزلتهم لطول المقام، فلما ارتحلوا غير بعيد، وزن سمان أجرة نمل متاعه سبعين دينارا، وأما سوق البز العتيق والجديد، فشيء يبهر العقل. وكان في العسكر اكثر من ألف حمام، وكان أكثر ما يتولاها المغاربة، يجتمع متهم اثنان أو ثلاثة ويحفرون ذراعين فيطلع الماء، ويأخذون الطين فيعملون منه حوضا وحائطا، ويسترونه بحطب وحصير، ويقطعون حطبا من البساتين التي حولهم، ويحمون الماء في قدور، وصار حماما يغسل الرجل رأسه بدرهم وأكثر.
فلم يزل صلاح الدين على محاصرة عكا إلى أن تسلمها بالأمان، في ثاني جمادى الأولى، واستولى على ما فيها من الأموال والبضائع، وأطلق من كان بها من المسلمين مأسورا، وكانوا أربعة آلاف نفس، ورتب في كنيستها العظمى منبرا، وأقيم فيها الجمعة.
وأقطع عكا لابنه الأفضل على، وأعطى جميع ما للداوية من إقطاع وضياع للفقيه ضياء الدين عيسى الهكاري. وسار العادل بعساكر مصر إلى مجدليابا فحصره وفتحه وغنم ما فيه. وافتتحت عدة حصون حول عكا: وهي الناصرة وقيسارية وحيفا وصفورية ومعليا والشقيف والتولع والطور ونهب ما فيها، وسبيت النساء والأطفال، فقدموا بما سد الفضاء. وأخذت سبسطية ونابلس، وكتب السلطان للخليفة بخبر فتح هذه البلاد. ونزل العادل على يافا، حتى ملكهاعنوة ونهبها، وسبى الحريم وأسر الرجال، ونازل المظفر تقي الدين عمر تبنين، وأدركه السلطان فوصل إليها في حادي عشر جمادى الأولى ومازال محاصرا لها حتى تسلمها في ثامن عشره بأمان، وجلا أهلها عنها إلى صور، وتسلم السلطان العدد والدواب والخزائن، وسار فأخذ صرخد بغير قتال، ثم رحل إلى صيداء، ففر أهلها وتركوها، فتسلمها السلطان في حادي عشريه. ونازل بيروت وضايقها ثمانية أيام، إلى أن طلب أهلها الأمان، فأجابهم واستولى عليها في تاسع عشريه، وأخذ جبيل فكان من استنقذ الله من المسلمين المأسورين عند الفرنج، في هذه السنة، ما يزيد على عشرين ألف إنسان، وأسر المسلمون من الفرنج مائة ألف أسير.
وهلك في هذه السنة القومص صاحب طرابلس، وقدم المركيس أكبر طواغيت الفرنج إلى صور، وقد اجتمع بها أمم من الفرنج، فتملك عليهم، وحصن البلد، فسار السلطان بعد فتح بيروت، وتسلم الرملة والخليل وبيت لحم، واجتمع بأخيه العادل، ونازلا عسقلان، في سادس عشر جمادى الآخرة، ونصبا المجانيق عليها، ووقع الجد في القتال، إلى أن تسلم السلطان البلد في سلخه، وخرج منه الفرنج إلى بيت المقدس، بعد أن ملكوه خمسا وثلاثين سنة. وتسلم السلطان حصون الداوية وهي غزة والنطرون وبيت جبريل وقدم عليه بظاهر عسقلان ابنه العزيز عثمان من مصر، ووافته الأساطيل وعليها الحاجب لؤلؤ. وكانت الشمس قد كسفت، قبل أخذ عسقلان بيوم، حتى أظلم الجو وظهرت الكواكب في يوم الجمعة ثامن عشريه.
وسار السلطان وقد اجتمعت إليه العساكر يريد فتح بيت المقدس، فنازله يوم الأحد خامس عشر رجب، وبه حشود الفرنج وجميعهم، فنصب المجانيق، واقتتل الفريقان أشد قتال، استشهد فيه جماعة من المسلمين، وأيد الله بنصره المسلمين، حتى تمكنوا من السور ونقبوه، وأشرفوا على أخد البلد فسأل الفرنج حينئذ الأمان، فأعطوه بعد امتناع كثير من السلطان، على أن يعطى كل رجل من الفرنج عن نفسه عشرة، دنانير مصرية، سواء كان غنيا أو فقيرا، وعن المرأة خمسة دنانير، وعن كل طفل من الذكور والإناث دينارين. ئم صولح عن الفقراء بثلاثين ألف دينار وتسلم المسلمون القدس يوم الجمعة سابع عشري رجب، وأخرج من فيه من الفرنج، وكانوا نحو الستين ألفا، بعدما أسر منهم نحو ستة عشر ألفا، مابين رجل وامرأة وصبي، وهم من لايقدر على شراء نفسه.
وقبض السلطان من مال المفاداة ثلاثمائة ألف دينار مصرية، سوى ما أخذه الأمراء، وما حصلت فيه الخيانة.
والتحق من كان بالقدس من الفرنج بصور، وتسامع المسلمون بفتح بيت المقدس، فأتوه رجالا وركابنا من كل جهة لزيارته، حتى كان من الجمع مالا ينحصر، فأقيمت فيه الجمعة يوم الرابع من شعبان، وخطب القاضي محيي الدين بن الزاكي بالسواد خطبة بليغة، دعا فيها للخليفة الناصر والسلطان صلاح الدين، وانتصب بعد الصلاة زين الدين بن نجا، فوعظ الناس.
وأمر السلطان بترميم المحراب العمري القديم، وحمل منبر مليح من حلب، ونصب بالمسجد الأقصى، وأزيل ما هناك من آثار النصرانية، وغسلت الصخرة بعدة أحمال ماء ورد، وبخرت وفرشت، ورتب في المسجد من يقوم بوظائفه، وجعلت به مدرسة للفقهاء الشافعية، وغلقت كنيسة قمامة، ثم فتحت، وقرر على من يرد إليها من الفرنج قطيعة يؤديها. وخرجت البشائر إلى الخليفة بالفتح، وإلى سائر الأطراف. ورحل السلطان عن القدس لخمس بقين من شعبان يريد عكا، وسار العزيز عثمان إلى مصر فكان آخر العهد به. وسار العادل مع السلطان، فنزلا على عكا أول شهر رمضان، ثم رحل السلطان منها، ونزل على صور في تاسعه، وكانت حصينة، وقد استعد الفرنج فيها، فتلاحقت العساكر بالسلطان، ونصب على صور عدة من المجانيق وحاصرها، واستدعى السلطان الأسطول من مصر، فقدم عليه عشر شواني، وصار القتال في البر والبحر فأخذ الفرنج خمس شواني ووردت مكاتبة الخليفة على السلطان، وفيها غلظة وإنكار أمور، فأجاب بالإعتذار، ورحل عن صور في آخر شوال. وعادت العساكر إلى بلادها، وأقام السلطان بعكا، وسار العادل إلى مصر، فطرق الفرنج قلعة كوكب، وقتلوا بها جماعة من المسلمين، ونهبوا ما كان بها، وأتته على عكا رسل الملوك بالتهنئة من الروم والعراق وخراسان بفتح بيت المقدس.
وفي هذه السنة: أعني سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة: اجتمع الشمس والقمر والمريخ والزهرة وعطارد والمشتري وزحل وأظفار الذئب، في برج الميزان، أربع عشره ساعة، فاجتمع المنجمون كلهم، وحكموا بكون طوفان الريح، وأنه كائن وواقع ولابد، فتنقلب الأرض من أولها إلى آخرها، وأنه لا يبقى من الحيوان شيء إلا مات، ولا شجرة ولا جدار إلا سقط. وكان معظم هذه الحكومة عن بلاد الروم، وأرجفوا بأنها هي القيامة، فاتخذ قوم الكهوف والمغائر في الجبال، وبالغوا في الاعتداد لهول ذلك اليوم. وقال القوم: كتب القدماء كلها أحالت على هذا الاجتماع، وإن فيه دمار الدنيا. وكان ذلك في مسرى، وفي جمادى الآخرة للسابع والعشرين منه، وهو يوم الثلاثاء مع ليلة الأربعاء إلى يوم الأربعاء. فلم تهب ريح، ولا تحرك نيل مصر، وهو في زيادته في مسرى، ومن العادة أن تهب الريح من العصر إلى العشاء في وجه الماء، ليقف بإذن الله، فتكون فيه الأمواج، فلم يحدث تلك الليلة، ولا ثاني يوم ولا قبلها بيوم شيء من ذلك، وطلع الناس بالسرج الموقدة على السطوحات لاختبار الهواء، فلم تتحرك نار البتة. كان أشد الناس إرجافا بهذه الكواكب الروم، فأكذبهم الله، و سلط عليهم السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف، فأخذ كبارهم، وملأ الأرض من الأسرى شرقا وغربا، وأخذ القدس، وأصاب جماعة ممن كان يرجف بهذه الريح آفات، ما بين موت بعضهم واعتلال بعضهم.
وفيها خرج في سادس عشر جمادى الآخرة قفل شامي إلى مصر، وهو أول قفل سلك بلاد الساحل، بلا حق يسمعه ولا مكس يوديه.
وفيها سار قراقوش التقوى، واستولى على القيروان، وحاربه ابن عبد المؤمن سلطان المغرب على ظاهر تونس فانكسر منه، وأقيمت الخطبة في ربيع الأول بتلك البلاد للسلطان صلاح الدين. فجمع ابن عبد المؤمن، وواقع قراقوش وهزمه، ففر قراقوش في البرية.
وفيها أمر السلطان بأن تبطل النقود التي وقع الاختلاف فيها وتضرر العامة بها، وأن يكون ما يضرب من الدنانير ذهبا مصريا، ومن الدراهم الفضة الخالصة، وأبطل الدراهم السود لاستثقال الناس الميزان، فسر الناس ذلك.