فصل: سنة سبع وثلاثين وستمائة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: السلوك لمعرفة دول الملوك (نسخة منقحة)



.سنة سبع وثلاثين وستمائة:

أهلت والملك العادل على بلبيس بعساكره يريد الشام، لمحاربة أخيه الملك الصالح، فأقام على بلبيس، فقصد الأمراء القبض عليه، وعمل بعضهم دعوة، وحضر إليه العادل، ففطن بما هم عليه، فقام ودخل الخريشته لقضاء الحاجة، وخرج من ظهر الحريشته، وركب فرساً وساق إلى القلعة فبعث إليه الأمراء يطلبونه، فأظهر أنه ما دخل القاهرة إلا لكسرة الخليج، وأنه سيعود إليهم ثم ألجاته الضرورة حتى خرج إلى العباسة في رابع عشري المحرم، وقبض على جماعة من الأمراء.
وفي نصف صفر: توجه الناصر داود من العباسة إلى الكرك، وصحبته الأمير سيف الدين علي بن قلج، وجماعة من أمراء مصر، فبلغ العادل عن فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ أنه يكاتب الصالح، فقبض عليه واعتقله، هذا ومحيي الدين أبو المظفر يوسف بن الشيخ جمال الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي أخذ في الإصلاح بين الملوك على أن تكون دمشق للصالح نجم الدين أيوب، ومصر للعادل، وأن يرد إلى الناصر داود ما أخذ من بلاده، وكان محيي الدين بن الجوزي مقيماً عند الصالح، وابنه شرف الدين يتردد من نابلس إلى مصر في السفارة، حتى تقارب الأمر. ثم قدم محيي الدين إلى مصر، ومعه جمال الدين يحيى بن مطروح، ناظر ديوان الجيوش للملك الصالح، فأديا الرسالة، وأقاما عند الملك العادل، وكان قد أخذ الصالح يكاتب عمه الملك الصالح عماد الدين إسماعيل في الوصول إليه بنابلس، وبعث إليه الطيب سعد الدين الدمشقي، ومعه حمام ليسرح إليه بالبطائق على جناحها ما يتجدد فاتفق أمر عجيب: وهو أنه لما وصل سعد الدين إلى قلعة بعلبك أنزل الصالح عماد الدين إسماعيل بدار، وبدل عرض الحمام الذي في قفص سعد الدين بحمام آخر، من حمام القلعة ببعلبك وأخذ الصالح عماد الدين في التدبير على أخذ دمشق، وانتزاعها من يد ابن أخيه الملك الصالح نجم الدين أيوب، وأرسل جواسيسه سراً إلى ابن أخيه الملك العادل، بما عزم عليه من أخذ دمشق، وأنه منتم إليه وفي طاعته، وإذا ملك دمشق خطب له على منابرها، وضرب السكة باسمه، وكتب الصالح عماد الدين إسماعيل أيضاً إلى المجاهد- صاحب حمص- في معاونته، وهو يواصل كتبه مع ذلك إلى الملك الصالح نجم الدين، يعده بالوصول إلى نصرته، وشرع الصالح عماد الدين في جمع الرحال، ففطن بذلك الطبيب سعد الدين، وكتب البطائق على أجنحة الحمام بهذا الأمر إلى الملك الصالح نجم الدين، فكان كلما سرح سعد الدين منها طائراً وقع في برجه بقلعة بعلبك فأتى به البراج إلى الملك الصالح عماد الدين، ثم إن الصالح عماد الدين زور بطاقة عن الطبيب سعد الدين، فيها إن المولى الملك الصالح عماد الدين في الاهتمام للمسير إلى المعسكر المنصور، وإنه باق على الطاعة وسرح هذه البطاقة المزورة على جناح طائرة من الطور التي وصلت مع الطبيب سعد الدين، فلما وقف عليها الملك الصالح نجم الدين، ظن أنها من عند رسوله، فطاب قلبه، ووالى الصالح عماد الدين إرسال البطائق المزورة، وكلما سرح الطيب طائرا ببطاقة وقع في قلعة بعلبك، فيصل إلى الصالح عماد الدين.
واتفق مع ذلك أمر آخر من عجيب ما يجري: وهو أن المظفر صاحب حماة كان منتمياً إلى الصالح نجم الدين، ومهتما بنصرته، ويخطب له في بلاده، وكان الحلبيون والمجاهد صاحب حمص معاندين له، ومساعدين عليه فعلم المظفر صاحب حماة ما عليه خاله الصالح عماد الدين- صاحب بعلبك- من قصد دمشق، وموافقة المجاهد صاحب حمص له، وكانت عساكر دمشق مع الصالح نجم الدين أيوب على نابلس، وهم خمسة آلاف، وليس بدمشق من يحفظها، فخاف الملك المظفر صاحب حماة على دمشق، وباطن الأمير سيف الدين علي بن أبي علي الهذباني على أنه يظهر الحرد عليه وفارقه، ويوهم أكابر البلد بأن المظفر قد عزم على تسليم حماة إلى الفرنج، لما حصل عنده من الغبن من المجاورين له، وأخذ بلاده منه، وقصد المظفر بهذه الحيلة مكيدة صاحب حمص، وأن الأمير سيف الدين إذا ذهب بالعسكر وأكابر الرعية إلى دمشق أقاموا بها وحفظوها، حتى يتوجه الملك الصالح إلى مصر، أو يعود إلى دمشق، فأظهر سيف الدين الغضب على المظفر، وأخذ قطعة من العسكر، ومن أكابر حماة، وخرج فسار حتى نزل على حمص، عند بحيرة قدس فلم يخف على المجاهد صاحب حمص ما دبره المظفر من مكيدته، وخرج من حمص، وبعث إلى الأمير سيف الدين يريد الاجتماع به، فأتاه سيف الدين منفرداً، واعلمه بأنه كره مجاورة المظفر، لما هو عليه من الميل للفرنج، والعزم على تسليمهم حماة، فأظهر له الملك المجاهد البشر ولاطفه، واستدعاه إلى ضيافته بداخل حمص، فلما صار به إلى القلعة، استدعى أصحابه لينزلوا في البلد، فدخل بعضهم وامتنع بعضهم من الدخول إلى حمص، فلما تمكن المجاهد من الأمير سيف الدين قبض عليه، واعتقله هو ومن دخل من أصحابه، وفر الباقون، فعاقب المجاهد من صار في قبضته أشد العقوبة، واستصفى أموالهم، ومازال بسيف الدين حتى هلك فضعف المظفر لتلف رجال عسكره.
وسار الصالح عماد الدين- ومعه المجاهد- إلى دمشق في جمع كبير، وأخذاها وأظهرا طاعة الملك العادل صاحب مصر، وكان ذلك في سابع عشري صفر، ثم ملكا قلعه دمشق، واعتقلا المغيث بن الصالح نجم الدين، فبلغ ذلك الصالح وهو بنابلس، فكتم الخبر، وقدم الأمير حسام الدين محمد بن أبي علي الهذاباني أستاداره في جماعة، وسار بعده يريد دمشق، فلما وصل ابن أبي علي إلى الكسوة علم بأخذ دمشق من يدهم، فرجع إلى الصالح- وقد نزل بيسان- فاعلمه الخبر، وسار معه حتى وصل القصير اللعيني من النور فاشتهر عند العسكر أخذ دمشق، فورود مكاتبات الصالح عماد الدين إليهم، باستمالتهم إليه، ففسدت نياتهم، وطمعوا في الملك الصالح نجم الدين، لتلاشي أمره، وفارقوه، فبقي الصالح نجم الدين في دون المائة من أمرائه وأجناده، وتركه من كان معه من أهل بيته وأقاربه، وتركه أيضاً بدر الدين قاضي سنجار- وكان أخص أصحابه، وصاروا كلهم إلى دمشق، وقد أيسوا من أن يقوم بعدها الصالح نجم الدين قائمة، وثبت معه الأمير حسام الدين بن أبي علي أستادراه، وزين الدين أمير جانداره، وشهاب الدين بن سعد الدين كوجبا- وكان أبوه سعد الدين ابن عمة الملك الكامل- والأمير شهاب الدين البواشقي، ونحو الثمانين من مماليكه، وثبت معه أيضاً كاتبه بهاء الدين زهير، وهرب الطواشي شهاب الدين فاخر، وأخذ معه شيئاً كثيراً من قماش الصالح، وعدة من مماليكه الصغار وغلمانه، وصار مع من لحق بدمشق، ففت في عضد الصالح مفارقة العسكر له، وأيقن بزوال أمره ورحل في الليل، فلقيه طائفة من العربان يريدون أخذه، فحاربهم بمن معه، حتى خلص منهم إلى نابلس، فنزل بظاهرها، ولما وصل العسكر المخامر على الصالح نجم الدين إلى دمشق، قبض الملك الصالح عماد الدين على أخويه الملك المعز مجير الدين يعقوب والملك الأمجد تقي الدين عباس، واعتقل الأمراء المصريين أيضاً: وهم عز الدين أيبك الكردي، وعز الدين قضيب البان، وسنقر الدينسري، وبلبان المجاهدي، وتوجه نور الدين بن عثمان إلى بغداد، واتفق تغير الملك العادل على الناصر داود، فقارقه من بلبيس- وصحبته الأمير سيف الدين علي بن قلج- وسار إلى الكرك، وكاتب الصالح نجم الدين ووعده النصرة، وكان ذلك خدعة منه ثم سار الناصر إلى نابلس بعساكره، وقبض على الملك الصالح نجم الدين، ويقال بل بعث إليه من أخذه بعد ما صار وحده، وأركبه على بلغة في إهانة، بغير مهماز ولا مقرعة، في ليلة السبت ثاني عشر ربيع الأول، وبعث الناصر به إلى الكرك ولم يزل معه غير مملوك واحد، يقال له ركن الدين بيبرس، وبعث معه جاريته شجر الدر أم ولده خليل، وأنزله بالقلعة، وقام له بجميع ما يحتاج إليه بحيث لم يحتل من حاله سوى أنه فقد الملك فقط، وأقام بهاء الدين زهير عند الناصر داود هو وجماعة الممالك، بعد ما خيرهم فاختاروا الإقامة عنده وطلب الأمير حسام الدين بن أبي علي، وزين الدين أمير جاندار من الناصر المسير إلى دمشق فسيرهما، وعندما قدما دمشق اعتقلهما الصالح عماد الدين.
وفي سابع عشر ربيع الأول: عاد الملك العادل إلى القاهرة، بعد ما بعث الركن الهبجاوي على جماعة، لحفظ الساحل، فلما بلغ الملك العادل ما جرى على أخيه- من أخذه ذليلاً، ونهب أحر، وسجنه بالكرك- سره ذلك سروراً كثيراً، وظن أنه قد أمن، ونودي بزينة القاهرة ومصر فزينتا، وعمل سماطاً عظيماً في الميدان الأسود تحت قلعة الجبل، وعمل قصوراً من حلوى، وأحواضاً من سكر وليمون، وألفاً وخمسمائة رأس شواء، ومثلها طعاماً، فكان ما عمل من السكر ألف وخمسمائة أبلوجة، ونادى الملك العادل في العامة بالحضور إلى السماط، فحضر الجليل والحقير، وبلغ ذلك الصالح نجم الدين، وهو معتقل بالكرك.
ولم يقنع الملك العادل بسجن أخيه، حتى أنه بعث الأمير علاء الدين بن النابلس إلى الناصر داود، يطلب منه أن يبعث إليه بأخيه الصالح في قفص حديد تحت الاحتفاظ، ويبذل له في مقابلة إرساله أربعمائة ألف دينار ودمشق، وحلف على ذلك أيماناً عظيمة، فلما وصل الكاتب إلى الناصر أوقف عليه الملك الصالح، وأدخل إليه بالقاصد الذي أحضره، ثم كتب الناصر إلى الملك العادل: وصل كتاب السلطان، وهو يطلب أخاه إلى عنده في قفص حديد، وأنك تعطيني أربعمائة ألف دينار مصرية، وتأخذ دمشق ممن هي بيده، وتعطني إياها، فأما الذهب فهو عندك كثير، وأما دمشق فإذا أخذتها ممن هي معه، وسلمتها إلي، سلمت أخاك إليك، وهنا جوابي والسلام. فلما ورد هنا الجواب على الملك العادل أمر بتجهيز العساكر، ليخرج إلى الشام، وخرج محيي الدين بن الجرزي من القاهرة، ومعه جمال الدين بن مطروح رسول الصالح نجم الدين، وكان قد استجار به بعدما قبض على الصالح نجم الدين وسجن بالكرك وكتب الناصر داود إلى ابن عمه الملك الصالح نجم الدين أيوب، وهو محبوس عنده بالكرك:
وإذا مسك الزمان بضر ** عظمت عنده الخطوب وجلت

وتوالت منه نوائب أخرى ** سئمت عندها النفوس وملت

فاصطبر وانتظر بلوغ الأماني ** فالرزايا إذا توالت تولت

وهذه الأبيات لغيره، فكتب إليه الصالح نجم الدين أيوب يشكره، وكتب فيما كتب أبيات شمس المعالي قابوس وشمكير:
قل للذي بصروف الدهر عيرنا ** هل حارب الدهر إلا من له خطر

أما ترى البحر تطفو فوقه جيف ** ويستقر بأقصى قعره الدرر

وإن تكن عبثت أيدي الزمان بنا ** وما لنا من تمادى بوسه ضرر

ففي السماء نجوم لا عماد لها ** وليس يكسف إلا الشمس والقمر

وازداد فيها الرشيد النابلسي:
وكم على الأرض من خضراء مورقة ** وليس يرجم إلا ما له ثمر

وفي أثناء هذا الاختلاف بين الملوك عمر الفرنج في القدس قلعة، وجعلوا برج داود أحد أبراجها، وكان قد ترك لما خرب الملك المعظم أسوار القدس، فلما بلغ الناصر داود عمارة هذه القلعة سار إلى القدس، ورمى عليها بالمجانيق حتى أخذها، بعد أحد وعشرين يوماً- في يوم تاسع جمادى الأولى- عنوة بمن معه من عسكر مصر، وتأخر أخذ برج داود إلى خامس عشرة فأخذ من الفرنج صلحاً على أنفسهم دون أموالهم، وعمر الناصر برج داود واستولى على القدس، وأخرج منه الفرنج. فساروا إلى بلادهم، واتفق يوم فتح القدس وصول محيي الدين بن الجوزي إلى الملك الناصر داود، ومعه جمال الدين بن مطروح، فقال جمال الدين بن مطروح يمدح الملك الناصر داود، ويذكر مضاهاته لعمه الناصر صلاح الدين يوسف في فتح القدس، مع اشتاركهما في اللقب والفعل، وهو معنى لطيف مليح:
المسجد الأقصى له عادة ** سارت فصارت مثلاً سائراً

إذا غدا بالكفر مستوطنا ** أن يبعث الله له ناصرا

فناصر طهره أولا ** وناصر طهره آخرا

وفي يوم الأحد رابع عشر ربيع الأول: ومع بين الفرنج وبين العسكر المصري المقيم بالساحل حرب، انحسر فيها الفرنج، وأخذ من الفرنج ملوكهم وأكنادهم، وثمانون فارساً، ومائتان وخمسون راجلاً- وصلوا إلى القاهرة، وقتل منهم ألف وثمانمائة، ولم يقتل من المسلمين غير عشر، ثم سار ابن الجوزي إلى دمشق، وحاول إصلاح الحال بين الصالح عماد الدين وبين الناصر داود وبن الملك العادل، فلم يتأت له ذلك، فعاد إلى القاهرة في رمضان، وقد وصل الملك ابن سنقر بخلعة الملك العادل وابنه، وأمه وامرأته وكاتبه، ونزل ابن مطروح عند المظفر بحماة، فبعثه في الرسالة إلى الخوارزمية بالشرق، يستحثهم على القيام بنصرة الملك الصالح نجم الدين، واستصحب معه أيضاً رسالة الناصر داود، ومنه: إني لم أترك الملك المصالح بالكرك إلا صيانة لمهجته، خوفاً عليه من أخيه الملك العادل، ومن عمه الملك الصالح عماد الدين، وسأخرجه وأملكه البلاد، فتحركوا على بلاد حلب، وبلاد حمص. فسار إليهم ابن مطروح وقضي الأمر معهم، وعاد إلى حماة، فاتفق موت الملك المجاهد أسد الدين شيركوه بن ناصر الدين محمد بن شيركوه- صاحب حمص- يوم التاسع عشر من شهر رجب، فكانت مدة ملكه بحمص نحوا من ست وخمسين سنة، وقام من بعده ابنه الملك المنصور ناصر الدين إبراهيم، واتفق مع الصالح عماد الدين على المعاضدة، فصار الناصر داود مواحشاً للملك العادل، بسبب أنه لم يوافقه على أخذ دمشق، والملك العادل مواحشه، لأنه لم يسلمه الملك الصالح نجم الدين، والناصر أيضاً مواحش للصالح عماد الدين، ويهدده بأنه يطلق الملك الصالح نجم الدين، ويقوم معه في أخذ البلاد والمظفر صاحب حماة لا يخطب للعادل من حين قطع الخطبة للصالح نجم الدين، لميله الملك الصالح نجم الدين.
فلما دخل شهر رمضان: سير المظفر القاضي شهاب الدين إبراهيم بن عبد الله بن عبد المنعم بن أبي الدم- قاضي حماة- رسولاً إلى الملك العادل بمصر، وحمله في الباطن رسالة إلى الناصر داود بالكرك، أن يطلق الصالح نجم الدين، ويساعده على أخذ البلاد، فبلغ القاضي شهاب الدين الملك الناصر ذلك وتوجه إلى مصر، فأفرج الناصر داود عن الملك الصالح نجم الدين، في سابع عشر من رمضان، واستدعاه إليه وهو بنابلس، فلما قدم عليه التقاه وأجله، وضرب له دهليز السلطة، واجتمع عليه مماليكه وأصحابه الذين عنوا عند الناصر: منهم الأمير شهاب الدين بن كعب كوجبا، وشهاب الدين الغرس، وكاتبه بهاء الدين زهير، وتقدم الناصر للخطيب بنابلس في يوم عيد الفطر، فدعا الملك الصالح، وأشاع ذكره، وسار الناصر داود والصالح نجم الدين إلى القدس وتحالفا على أن تكون ديار مصر للملك الصالح، والشام والشرق للناصر، وأن يعطه مائتي ألف دينار، فكانت مدة اعتقال الملك الصالح سبعة أشهر وأياماً، ثم سارا إلى غزة، فورد الخبر بذلك على الملك العادل بمصر، فانزعج وأمر بخروج الدهليز السلطاني والعساكر، وبرز إلى بلبيس في نصف ذي العقدة، وكتب إلى الصالح عماد الدين أن يخرج بعساكر دمشق، فخرج الصالح عماد الدين بعساكره إلى الغوار، فخاف الملك الصالح والملك الناصر من التقاء عساكر مصر والشام عليهما، ورجعا من غزة إلى نابلس، ليتحصنا بالكرك وكان الملك العادل قد شره في اللعب، وأكثر من تقديم الصبيان والمساخر وأهل اللهو، حتى حسبت نفقاته في هذا الوجه خاصة، فكانت ستة آلاف ألف وعشرين ألف ألف درهم، وأعطى العادل عبداً أسوداً، عمله طشت داره، يعرف بابن كرسون منشوراً بخمسين فارساً، فلما خرج به من باب القلة بقلعة الجبل وجده الأمير ركن الدين الهيجاري، أحد الأمراء الأكابر، فأراه المنشور، فحنق ومكة في وجهه، وأخذ منه المنشور، وصار بين الأمراء وبين الملك العادل وحشة شديدة، ونفرة عظيمة، واتفق ما تقدم ذكره إلى أن نزل العادل ببلبيس، فقام الأمير عز الدين أيبك الأسمر- مقدم الأشرقية- وباطن عدة من الأمراء والمماليك الأشرفية على خلع العادل والقبض عليه، ووافقهم على هذا جوهر التوبي وشمس الخواص- وهما من الخدام الكاملية، وجماعة أخر من الكاملية، وهم مسرور الكاملي، وكافور الفائزي، وركبوا ليلاً وأحاطوا بدهليز الملك العادل، ورموه وقبضوا عليه، ووكلوا به من يحفظه في خيمة، فلم يتحرك أحد لنصرته، إلا أن الأكراد هموا بالقيام له، فمال عليهم الأتراك والخدام ونهبوهم، فانهزم الأكراد إلى القاهرة، ويقال إنه بلغ أيبك الأسمر أن الملك العادل سكر مع شبابه وخواصه، وقال لهم: عن قليل تشربون من دم أيبك الأسمر وهؤلاء العبيد السوء فلان وفلان وسماهم فاجتمعوا على خلعه، لاسيما لما طلب ابن كرسون منه أن يسلمه الأمير شجعاع الدين بن بزغش- وإلى قوص- فأمكنه منه وعاقبه أشد عقوبة وتنوع في عذابه، ولم يقبل فيه شفاعة أحد من الأمراء، وكان الملك العادل قد قربه تقريباً زائداً، حتى كان يقضي عنده الحوائج الجليلة، فأنفت الأنفس من ذلك، وخلع العادل في يوم الجمعة تاسع شوال، فكانت مدة ملكه سنتين وشهرين وثمانية عشر يوماً، أولها يوم الخميس، وآخرها يوم الخميس تاسع شوال سنة سبع وثلاثين وستمائة، أسرف فيها إسرافاً أفرط فيه، بحيث أن أباه الملك الكامل ترك ما ينيف على ستة آلاف ألف دينار مصرية، وعشرين ألف ألف درهم فرقها كلها، وكان العادل يحمل المال إلى الأمراء وغيرهم على أقفاص الحمالين، ولم يبق أحد في دولته إلا وشمله إنعامه، فكانت أيامه بمصر كلها أفراح ومسرات للذين جانبه، وكثرة إحسانه، قال الأديب أبو الحسين الجزار في الملك العادل أبي بكر بن الملك الكامل محمد بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب:
هو الليث يخشى بأسه كل مجتر ** هو الغيث يرجوه كل مجتدي

لقد شاد ملكاً أسسه جدوده ** فأصبح ذا ملك أثيل مشيد

وصح به الإسلام حتى لقد غدت ** بسلطانه أهل الحقائق تقتدي

فقل للذي قد شك في الحق إنما ** أطعنا أبا بكر بأمر محمد

يشير بذلك إلى أخيه الملك الصالح نجم الدين أيوب، فإن أباهما الكامل محمداً أقام العادل هذا بمصر، وبعث الصالح أيوب إلى الشرق، وقال البرهان بن الفقيه نصر، لما استقر العادل في السلطنة بعد أبيه:
قل للذي خاف من مصر وقد أمنت ** ماذا يؤمله منها وخيفته

إن كان قد مات عن مصر محمدها ** فقد أقام أبا بكر خليفته

.السلطان الملك الصالح:

أبو الفتوح نجم الدين أيوب بن الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب، لما قبض على أخيه الملك العادل، كان الأمير عز الدين أيبك الأسمر يميل إلى الملك الصالح عماد الدين إسماعيل- صاحب دمشق- وكانت الخدام والمماليك الكاملية تميل إلى الملك الصالح نجم الدين- وهم الأكثر- فلم يطق عز الدين مخالفتهم، فاتفقوا كلهم، وكتبوا إلى الملك الصالح نجم الدين يستدعونه فأتته كتبهم، وقد بلغ هو والناصر داود الغاية من الخوف وزلزلاً زلزالاً شديداً، لضعفهما عن مقاومة عساكر مصر والشام، فأتاهما من الفرج ما لم يسمع بمثله، وقاما لوقتهما، وسارا إلى مصر، فلما دخلا الرمل لم ينزلا منزلة إلا وقدم عليهما من أمراء مصر طائفة، حتى نزلا بلبيس، يوم الاثنين تاسع، بعدما خطب له بالقاهرة ومصر يوم الجمعة خامس عشرة، ومنذ فارقا غزة تغير الناصر داود على الملك الصالح نجم الدين أيوب، وتحدث في قتله، فلما نزلا بلبيس، سكر الملك الناصر، ومضى إلى العادل، وقال له: كيف رأيت ما أشرت به عليك، ولم تقبل مني؟ فقال له العادل: يا خوندا التوبة، فقال الناصر: طيب قلبك، الساعة أطلقك ثم جاء الناصر، ودخل على الملك الصالح، ووقف فقال له الصالح: بسم الله اجلس، قال: ما أجلس حتى تطلق العادل، فقال له: أعد، وهو يكرر الحديث، فما زال به حتى نام، فقام من فوره الملك الصالح، وسار في الليل ومعه العادل في محفة، ودخل به إلى القاهرة، واستولى على قلعة الجبل، يوم الجمعة ثالث عشري شوال، بغير تعب، وجلس الملك الصالح نجم الدين أيوب على سرير الملك، واعتقل العادل ببعض دوره، واستحلف الأمراء، وزينت القاهرة ومصر وظواهرهما، وقلعة الجبل زينة عظيمة، وسر الناس به سروراً كثيراً، لنجابته وشهامته، ونزل الناصر داود بدار الوزارة من القاهرة، ولم يركب الملك الصالح يوم عيد النحر، لما بلغه من خلف العسكر.
وفي ذي الحجة: أحضر الملك الصالح إليه الملك العادل، وسأله عن أشياء، ثم كشف بيت المال والخزانة السلطانية، فلم يجد سوى دينار واحد وألف درهم. وقيل له عما أتلفه أخوه، فطلب القضاة والأمراء الذين قاموا في القبض على أخيه، وقال لهم: لأي شيء قبضتم على سلطانكم؟ فقالوا: لأنه كان سفيهاً فقال: يا قضاة السفيه يجوز تصرفه في بيت مال المسلمين، قالوا: لا قال: أقسم بالله متى لم تحصروا ما أخذتم من المال، كانت أرواحكم عوضه. فخرجوا وأحضروا إليه سبعمائة ألف وخمسة وثمانين ألف دينار، وألفي ألف وثلاثمائة ألف درهم، ثم أمهلهم قليلاً، وقبض عليهم واحد بعد واحد، واستدعى الملك الصالح بالقاضي شهاب الدين إبراهيم بن عبد الله بن عبد المنعم بن علي بن محمد المعروف بابن أبي الدم- وكان بمصر منذ قام من عند المظفر صاحب حماة، وبعث به مكرماً إلى حماة وخلع علي ابن الجوزي رسول الخليفة، وكتب معه إلى الديوان العزيز يشكو منه، وكانت الخلع الخليفتية قد وصلت إلى القاهرة، فلبسهما الملك الصالح، ونصب منبراً صعد عليه ابن الجوزي، وقرأ تقليد الملك الصالح، والملك الصالح قائم بين يدي المنبر على قدميه، حتى فرغ من قراعته، وشيع الملك الصالح أيضاً الصاحب كمال الدين بن العديم رسول حلب، وتخوف السلطان من الناصر داود، لكثرة ما بلغه عنه من اجتماعه بالأمراء سراً، ولأنه سأله أن يعطه قلعة الشوبك، فامتنع السلطان من ذلك، واستوحش الناصر فطلب الأذن بالرحيل إلى الكرك، فخرج من القاهرة وهو متغيظ، وقد بلغه أن الصالح إسماعيل خرج من دمشق، ووافق الفرنج على أن يسلمهم الساحل، ووصل الفرنج إلى النابلس، وتأول السلطان أنه ما حلف للناصر بالقدس إلا مكرها، لأنه كان إذ ذاك تحت حكمه وفي طاعته، فلما وصل الناصر إلى الكرك طلب من السلطان ما التزم له به من المال، فحمله إليه، وماطله بتجريد العساكر معه لفتح دمشق، مستنداً لما تأوله، وفي أثناء ذلك تحدث الأشرفية بالوثوب على السلطان، فخافهم وامتنع من الركوب في الموكب مدة، واستوزر السلطان الصاحب معين الدين الحسن بن الشيخ، وسلم إليه أمور المملكة كلها، وهو ببركة الحاج، في يوم الخميس حادي عشر ذي القعدة قبل الظهر، فشرع الصاحب معين الدين في تدبير المملكة، والنظر في مصالح البلاد.
وولدت شجر الدر من الملك الصالح ولداً سماه خليلاً، ولقبه بالملك المنصور، وعندما نزل الملك الصالح العباسة، في يوم الحج سابع عشر ذي القعدة، قبض على الركن الهيجاري العادلي في يوم الاثنين ثامن عشره، وبعثه إلى القاهرة.
وفيها زار الشيخ عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم خطابة دمشق، في يوم الأربعاء ثالث ربيع الآخر، ولاه الصالح عماد الدين إسماعيل بن العادل، وخطب لصاحب الروم.
وفيها قتل عثمان بن عبد الحق بن محيو بن أبي بكر بن حمامة، أمير بني مرين، وأول من عظم أمره منهم، وغلب على ريف المغرب، ووضع على أهله المغارم، فبايعه أكثر القبائل، وامتدت يده إلى أمصار المغرب، مثل فاس وتازا ومكناسة، وفرض عليها ضرائب تحمل إليه، وقام بعد عثمان أخوه محمد بن عبد الحق.
وفيها قدم الشريف شيحة بن قاسم أمير المدينة إلى مكة، في ألف فارس من عسكر مصر، فبعث ابن رسول ملك اليمن بالشريف راجح وعسكر، ففر شيحة من مكة، وملكها عسكر اليمن.

.سنة ثمان وثلاثين وستمائة:

فيها شرع السلطان الملك الصالح أيوب في النظر في مصالح دولته، وتمهيد قواعد مملكته، ونظر في عمارة أرض مصر، وبعث زين الدين بن أبي زكري على عسكر إلى الصعيد، لقتال العرب، وتتبع من قام في قبض أخيه الملك العادل، فقبض عليهم، واستصفى أموالهم وقتل عدة منهم، وفر عدة من الأشرفية، وقبض على الأمير عز الدين أيبك الأسمر الأشرفي بالإسكندرية، ونودي بالقاهرة وظواهرها: من أخفى أحداً من الأشرفية نهب ماله. وأغلقت أبواب القاهرة كلها ثلاثة أيام، ما خلا باب زويلة. حرصاً على أخذ الأشرفية، فأخذوا وأودعوا السجون، وقبض على جوهر النوبي، وشمس الحواص مسرور بدمياط- وكان من الخدام الكاملية، وممن أعلن على خلع العادل، وقبض على شبل الدولة كافور الفائزي بالشرقية، وسجن بقلعة الجبل، وقبض على جماعة من الأتراك ومن أجناد الحلقة، وعلى عدة من الأمراء الكاملية. وصار السلطان الملك الصالح أيوب كلما قبض على أمير أعطى خبره لمملوك من مماليكة وقدمه، فبقي معظم أمراء الدولة مماليكه، لثقته بهم، واعتماده عليهم، فتمكن أمره وقوي جأشه.
وفي سلخ ربيع الآخر وهو يوم السبت: ولد للملك الصالح نجم الدين أيوب من حظيته ولد ذكر وأحب الصالح أن يبقي له ذكراً، فأمر ببناء قلعة الجزيرة- المعروفة بالروضة- قبالة مصر الفسطاط وشرع في حفر أساسها يوم الأربعاء خامس شعبان، وابتدئ ببنائها في آخر الساعة الثالثة من يوم الجمعة سادس عشره.
وفي عاشر ذي القعدة: وقع الهدم في الدور والقصور والمساجد التي كانت بجزيرة الروضة، وتحول الناس من مساكنهم التي كانت بها، وبنى الملك الصالح فيها الحور السلطانية، وشيد أسوراها، وأنفق فيها أموالاً تتجاوز الوصف، فلما تكامل بناؤها تحول السلطان من قلعة الجبل إليها، وسكنها بأهله وحرمه ومماليكه، وكان مغرى بالعمائر.
وفيها عاد العسكر الذي قصد المسير إلى اليمن في رمضان، خوفاً من المماليك الأشرفية وأتباعهم، وذلك أنهم كانوا قد عزموا على الخروج من القاهرة، ونهب العسكر ببركة الجب فبطل سفرهم، وبعث السلطان منهم ثلاثمائة مملوك إلى مكة، لأخذها من أهل اليمن وعليهم الأمير مجد الدين بن أحمد بن التركماني والأمير مبارز الدين علي بن الحسن بن برطاس، وذلك أن الخير ورد بأن ملك اليمن بعث جيشاً لأخذ مكة، فساروا آخر شهر رمضان، ودخلوا مكة في أثناء ذي القعدة، ففر من كان بها من أهل اليمن.
وفيها عاد القاضي بدر الدين قاضي سنجار من بلاد الروم، وكان قد توجه إليها برسالة الملك الصالح عماد الدين صاحب دمشق، فبلغه أن الملك الصالح نجم الدين ملك مصر، فخرج من بلاد الروم، وقد عزم ألا يدخل دمشق، فمضى إلى مصياف من بلاد الإسماعيلية، وأخذ يتحيل في الوصول إلى مصر، فبلغ ذلك الصالح إسماعيل، فأرسل إليه ليحضر، فامتنع من الحضور وأستجار بالإسماعيلية، فأجاروه ومنعوا الصالح إسماعيل منه، وأوصلوه إلى حماة فأكرمه المظفر، وأنزله عنده، وكان قد نزل عنده أيضاً جمال الدين بن مطروح، فصارت حماة ملجأ لكل من انتمى للسلطان الصالح نجم الدين، ومنها يرد إليه عصر كل ما يتجدد بالشام والشرق.
وفيها أيس الناصر داود من إعطاء الملك الصالح نجم الدين له دمشق، فانحرف عنه، ومال إلى الصالح إسماعيل والمنصور صاحب حمص، واتفقوا جميعاً على الصالح نجم الدين.
وفيها أغار الخوارزمية على بلاد قلعة جعبر وبالس ونهبوها، وقتلوا كثيراً من الناس، ففر من بقي إلى حلب ومنبج، واستولى بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل على شجار، وأخرج منها الملك الجواد يونس بن مودود بن العادل بن نجم الدين أيوب، فسار الجواد إلى الشام، حتى صار في يد الناصر داود، فقبض عليه بغزة يوم الأحد ثامن عشر ذي الحجة، وبعث به إلى الكرك، وانضمت الخوارزمية على صاحب الموصل، فصاروا نحو الاثني عشر ألفاً، وقصدوا حلب، فخرج إليهم من حلب، فانكسر وقتل أكثره، وغنم الخوارزمية ما معهم، فامتنع الناس بمدينة حلب، وانتهبت أعمال حلب، وفعل فيها كل قبيح من السبي والقتل والتخريب، ووضعوا السيف في أهل منبج، وقتلوا فيها ما لا يحصى عدده من الناس، وخربوا وارتكبوا الفواحش بالنساء في الجامع علانية، وقتلوا الأطفال وعادوا وقد خرب ما حول حلب، وكان الخوارزمية يظهرون للناس أنهم يفعلون ما يفعلون خدمة لصاحب مصر، فإن أهل حلب وحمص ودمشق كانوا حزباً على الصالح صاحب مصر. فسار المنصور إبراهيم ابن الملك المجاهد صاحب حمص، عساكره وعساكر حلب ودمشق، وقطع الفرات إلى سروج والرها، وأوقع بالخوارزمية، وكسرهم واستولى على ما معهم، ومضوا هاربين إلى عانة.
وفيها خاف الصالح عماد الدين من الملك الصالح نجم الدين، فكاتب الفرنج، واتفق معهم على معاضدته ومساعدته، ومحاربة صاحب مصر، وأعطاهم قلعة صفد وبلادها، وقلعة الشقيف وبلادهما، ومناصفة صيداً وطبرية وأعمالها، وجبل عاملة وسائر بلاد الساحل، وعزم الصالح عماد الدين على قصد مصر لما بلغه من القبض على المماليك الأشرفية والخدام ومقدمي الحلقة وبعض الأمراء وأن من بقي من أمراء مصر خائف على نفسه من السلطان، فتجهز وبعث إلى المنصور صاحب حمص، وإلى الحلبيين وإلى الفرنج يطلب منهم النجدات، وأذن الصالح إسماعيل للفرنج في دخول دمشق وشراء السلاح، فأكثروا من ابتياع الأسلحة وآلات الحرب من أهل دمشق، فأنكر المسلمون ذلك، ومشي أهل الدين منهم إلى العلماء واستفتوهم، فأفتى الشيخ عز الدين بن عبد السلام بتحريم بيع السلاح للفرنج، وقطع من الخطبة بجامع دمشق الدعاء للصالح إسماعيل، وصار ويدعو في الخطبة بدعاء منه: اللهم أبرم لهذه الأمة إبرام رشد تعز فيه أولياءك، وتذل فيه أعداءك، ويعمل فيه بطاعتك، وينهي فيه معصيتك، والناس يضجون بالدعاء. وكان الصالح غالباً عن دمشق، فكوتب بذلك، فورد كتابه بعزل بن عبد السلام عن الخطابة، واعتقاله هو والشيخ أبي عمرو بن الحاجب، لأنه كان قد أنكر، فاعتقلا، ثم لما قدم الصالح أفرج عنهما، وألزم بن عبد السلام بملازمة داره، وألا يفتى، ولا يجتمع بأحد البتة، فاستأذنه في صلاة الجمعة، وأن يعبر إليه طبيب أو مزين إذا احتاج إليهما، وأن يعبر الحمام، فأذن له في ذلك، وولي خطابة دمشق بعد عز الدين عبد السلام، علم الدين داود بن عمر بن يوسف بن خطيب بيت الآبار، وبرز الصالح من دمشق، ومعه عساكر حمص وحلب وغيرها، وسار حتى نزل بنهر العوجاء، فبلغه أن الناصر داود قد خيم على البلقاء، فسار إليه، وأوقع به، فانكسر الناصر، وانهزم إلى الكرك وأخذ الصالح أثقاله، وأسر جماعة من أصحابه، وعاد إلى العوجاء وقد قوي ساعده واشتدت شوكته، فبعث يطلب نجدات الفرنج، على أنه يعطيهم جميع ما فتحه السلطان صلاح الدين يوسف ورحل، ونزل تل العجول فأقام أياماً، ولم يستطع عبور مصر، فعاد إلى دمشق، وذلك أن الملك الصالح نجم الدين، لما بلغه حركة الصالح إسماعيل من دمشق ومعه الفرنج، جرد العساكر إلى لقائه، فألقاهم. وعندما تقابل العسكران ساقت عساكر الشام إلى عساكر مصر طائعة، ومالوا جميعاً على الفرنج، فهزموهم وأسروا منهم خلقاً لا يحصون، وبهؤلاء الأسرى عمر السلطان الملك الصالح نجم الدين قلعة الروضة، والمدارس الصالحية بالقاهرة.
وفيها تم الصلح مع الفرنج، وأطلق الملك الصالح الأسرى بمصر من الجنود والفرسان والرجالة.
وفي ذي القعدة: كانت وقعة بين أمراء الملك الصالح أيوب المقيمين بغزة، وبين الجواد والناصر، وكسر أصحاب الملك الصالح، وكسر كمال الدين بن الشيخ. وفيها استقر الصلح بين الملك الصالح والناصر، ورحل الناصر عن غزة بعد قبضه على الجواد.
وفي ذي القعدة: وصل الجواد إلى العباسة ومعه الصالح بن صاحب حمص، فأنعم عليهما الملك الصالح نجم الدين أيوب، ولم يمكنهما من دخول القاهرة فعاد الجواد، ولجأ إلى الناصر، فقبض عليه. وفيها عزل القاضي عبد المهيمن عن حسبة القاهرة، في تاسع المحرم، واستقر فيها القاضي شرف الدين محمد بن الفقيه عباس، خطيب القلعة.
وفي رابع عشره: شرع السلطان الملك الصالح نجم الدين في بناء القنطرة التي على الخليج الكبير، المجاور لبستان الخشاب، التي تعرف اليوم بقنطرة السد، خارج مدينة مصر.
وفي سادس عشره: أمر السلطان الملك الصالح أيوب بتجهيز زرد خاناه وشواني وحراريق إلى بحر القلزم لقصد اليمن، وجرد جماعة من الأمراء والأجناد بسبب ذلك.
وفي خامس عشريه: نزل خمس نفر في الليل من الطاقات الزجاج إلى المشهد النفيسي، وأخفوا من فوق القبر ستة عشر قنديلاً من فضة، فقبض عليهم من الفيوم، وأحضروا في رابع صفر، فاعترف أحدهم بأنه هو الذي نزل من طاقات القبة الزجاج وأخذ القناديل، وبرأ بقية أصحابه، فشنق تجاه المشهد في عاشره، وترك مدة متطاولة على الخشب، حتى صار عظاماً.
وفي سابع عشري وبيع الأول: ولي الملك الصالح الأمير بدر الدين باخل الإسكندرية، ونقله إليها من ولاية مصر.
وفي شهر ربيع الآخر: رتب السلطان نواباً عنه بدار العدل، يجلسون لإزالة المظالم. فجلس لذلك افتخار الدين ياقوت الجمالي، وشاهدان عدلان، وجماعة من الفقهاء: منهم الشريف شمس الدين الأرموي، نقيب الأشراف وقاضي العسكر ومدرس المدرسة الناصرية بمصر، والقاضي فخر الدين بن السكري، والفقيه عز الدين عباس، فهرع الناس لدار العدل من كل جانب، ورفعوا ظلاماتهم، فكشفت، واستراح السلطان من وقوف الناس إليه، واستمر هذا عصر.
وفي ذي الحجة: سار القاضي بدر الدين أبو المحاسن يوسف السنجاري على الساحل إلى مصر، فلما قدم على السلطان أكرمه غاية الإكرام، وكان قضاء ديار مصر بيد القاضي شرف الدين ابن عين الدولة الإسكندري، فصرفه السلطان عن قضاء مصر والوجه القبلي، وفوض ذلك للقاضي بدر الدين السنجاري، وأبقي مع ابن عين الدولة قضاء القاهرة والوجه البحري.
وفيها ظهر ببلاد الروم رجل ادعى النبوة، يقال له البابا، من التركمان. وصار له اتباع، وحمل اتباعه على أن يقولوا: لا اله إلا الله، البابا رسول الله، فخرج إليه جيش صاحب الروم، فقاتلهم وقتل بينه وبينهم أربعة آلاف نفر، ثم قتل البابا فانحل أمره.
وفيها وصل رسول التتار من ملكهم خاقان إلى الملك المظفر شهاب الدين غاري بن العادل، صاحب ميافارقين، ومعه كتاب إليه وإلى ملوك الإسلام، عنوانه: من نائب رب السماء، سامح وجه الأرض، ملك الشرق والغرب، قاقان. فقال الرسول لشهاب الدين صاحب مياقارفين: قد جعلك قاقان سلاح داره، وأمرك أن تخرب أسوار بلدك فقال له شهاب الدين: أنا من جملة الملوك، وبلادي حقيرة بالنسبة إلى الروم والشام ومصر، فتوجه إليهم، وما فعلوه فعلته.
وفي يوم الجمعة حادي عشر ذي القعدة: رسم الصالح إسماعيل أن يخطب على منبر دمشق للسلطان غياث الدين كيخسرو بن كيقباد بن كيخسرو، ملك الروم، فخطب له، ونثر على ذلك الدنانير والدارهم، وكان يوماً مشهوداً، وحضر رسل الروم وأعيان الدولة، وخطب الملك في جوامع البلد، وأنعم على الرسول وخلع عليه.