فصل: سنة ستين وستمائة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: السلوك لمعرفة دول الملوك (نسخة منقحة)



.سنة ستين وستمائة:

في ثاني المحرم: وصل السلطان من دمشق. واشتد الغلاء بدمشق، فبلغت الغرارة القمح أربعمائة وخمسين درهماً فضة، وهلك خلق كثير من الجوع.
وفيه سار قرابغا مقدم التتار من بغداد- وكان قد استخلفه هولاكو عليها عند عوده إلى بلاد الشرق- يريد لقاء الخليفة المستنصر بالله ومحاربته، فنهب الأنبار وقتل جميع من فيها، وتلاحقت به بقية التتار من بغداد. ولقبهم الخليفة وقد رتب عسكره: فجعل التركمان والعرب جناحي العسكر، واختص جماعة جعلهم في القلب، وحمل بنفسه على التتار فكسر مقدمتهم، وخذله العرب والتركمان فلم يقاتلوا، وخرج كمين للتتار ففر العرب والتركمان، وأحاط التتار بمن بقي معه فلم يفلت منهم سوى الأمير أبي العباس أحمد الذي قدم إلى مصر وتلقب بالحاكم بالله، والأمير ناصر الدين بن مهنا، والأمير ناصر الدين بن صيرم، والأمير سابق الدين بوزبا الصيرفي، والأمير أسد الدين محمود، في نحو الخمسين من الأجناد. ولم يعرف للخليفة خبر: فيقال قتل بالمعركة في ثالث المحرم، ويقال بل نجا مجروحاً في طائفة من العرب فمات عندهم. وكانت هذه الواقعة في العشر الأول من المحرم، فكانت خلافته دون السنة، وبلغت نفقة الملك الظاهر على الخليفة والملوك المواصلة ألف ألف دينار وستين ألف دينار عيناً. واستقر الملك الصالح عماد الدين إسماعيل بن بدر الدين لؤلؤ في مملكته بالموصل، وسار أخواه إسحاق وعلي إلى الشام خوفاً من التتار، وقدما على السلطان بقلعة الجبل فأبر مقدمهما، وسألاه في تجهيز نجدة لأخيهما، فرسم السلطان بتجريد الأمير شمس الدين سنقر الرومي في جماعة من البحرية والحلقة، وساروا من القاهرة في رابع جمادى الأولى. وكتب إلى دمشق بخروج عسكرها صحبة الأمير علاء الدين الحاج طيبرس، فسار العسكران من دمشق في عاشر جمادى الآخرة.
وفوض السلطان وزارة دمشق لعز الدين عبد العزيز بن وداعة. وتسلم نواب السلطان قلعة البيرة. ووقع الصلح بين السلطان وبين الملك المغيث صاحب الكرك. وباشر السلطان عرض عساكر مصر بنفسه، وحلفهم لولي عهده الملك السعيد ناصر الدين خاقان بركة خان.
وفي يوم الأحد ثاني عشري صفر: وصل الأمير أبو العباس أحمد الذي تلقب بالحاكم بأمر الله إلى دمشق، وخرج يريد مصر يوم الخميس سادس عشريه فوصل إلى ظاهر القاهرة في سابع عشري شهر ربيع الأول، فاحتفل السلطان للقائه، وأنزله في البرج الكبير داخل قلعة الجبل، ورتب له ما يحتاج إليه.
وفي نصف رجب: قدم جماعة من البغاددة مماليك الخليفة المستعصم، الذين تأخروا بالعراق بعد قتل الخليفة، ومقدمهم الأمير سيف الدين سلار. فأكرمهم السلطان، وأعطى الأمير سلار إمرة خمسين في الشام ونصف مدينة نابلس، ثم نقله إلى إمرة طبلخاناه بمصر. وفيها أطلق السلطان الأمير سيف الدين قلج البغدادي المستنصري من الاعتقال، وكان قد اعتقله، فمن عليه وأذن له في لعب الكرة معه.
وفي شعبان: قدم الأمير سيف الدين الكرزي، والقاضي أصيل الدين خواجا إمام، من عند الأنبرو ملك الفرنج بكتابه. ثم قدم رسوله بهدية ومعه نفران من البحرية، فاعتقلا بقلعة الجزيرة تجاه مصر. وقدم الأمير شرف الدين الجاكي، والشريف عماد الدين الهاكي، من عند صاحب الروم وهو السلطان عز الدين كيكاوس بن كيخسرو، ومعهما رسل المذكور وهما الأمير ناصر الدين نصر الله بن كوح رسلان أمير حاجب، والصدر صدر الدين الأخلاطي، وكتابه المتضمن أنه نزل عن نصف بلاده للسلطان، وسير دروجاً فيها علائم بما يقطع من البلاد لمن يختاره السلطان ويؤمره، وسأل أن يكتب له السلطان منشوراً قرين منشوره. فأكرمهم السلطان، وشرع في تجهيز جيش نجدة لصاحب الروم، وأمر بكتابة المناشير. وعين السلطان الأمير ناصر الدين أعلمش السلاح دار الصالحي لتقديمه العسكر ومعه ثلاثمائة فارس، وأقطعه إقطاعاً ببلاد الروم منه آمد، بلادها.
وفي شهر رجب: قدم الأمير عماد الدين بن مظفر الدين صاحب صهيون، رسولاً من جهة أخيه الأمير سيف الدين، وصحبته هدية. فأكرمه السلطان وكتب له منشوراً بإمرة ثلاثين في حلب، ومنشوراً آخر بإمرة مائة في بلاد الروم. وفي هذا التاريخ ورد كتاب ملك الروم، بأن العدو هولاكو لما بلغه اتفاق الروم مع السلطان خاف من هيبته وولى هارباً، وأنه سير إلى قونية يحاصرها ليأخذها من أخيه.
وفي هذا التاريخ قدم كتاب الملك المنصور صاحب حماة، وصحبته قصاد من التتار معهم فرمان له، فشكره السلطان على ذلك، واعتقل التتار.
وفي هذا التاريخ سار الأمير عز الدين الأقرم أمير جاندار بعسكر إلى بلاد الصعيد وأوقع بالعربان وبدد شملهم، وذلك أنهم كثر طمعهم وهموا بتغيير الممالك، ووثبوا على الأمير عز الدين الهواش والي قوص وقتلوه.
وفي شعبان: كثر قدوم العزيزية والناصرية الذين كانوا صحبة الأمير البرلي. فأكرمهم السلطان وعفا عنهم.
وفي هذه المدة وصل الأمير فارس الدين أقوش المسعودي الذي كان قد توجه رسولاً إلى الأشكري. وكان الأشكري قد بعث يطلب من السلطان بطركا النصارى الملكية، فعين الرشيد الكحال لذلك، وسيره إليه مع الأمير فارس الدين أقوش المسعودي في عدة من الأساقفة. فلما وصلوا إليه أكرمهم وأعطاهم، وواقف الأمير أقوش على جامع. بناه بالقسطنطينية ليكون في صحيفة السلطان ثوابه. وعاد الأمير، قوش وصحبته البطرك المذكور، فقدم البطرك ما ورد على يده من هدية الأشكري للسلطان، وقدم أيضاً ما حصل له من المال، فرد السلطان ذلك عليه. وجهز السلطان برسم جامع قسطنطينية الحصر العبداني، والقناديل المذهبة والستور المرقومة، والمباخر والسجادات إلى غير ذلك من البسط الرومية، والعود والعنبر والمسك وماء الورد.
وفيها أغار الأمير شمس الدين سنقر الرومي على أنطاكية، ونازل صاحبها البرنس وأحرق الميناء بما فيها من المراكب، وكان معه الملك الأشرف موسى صاحب حمص والملك المنصور صاحب حماة. ثم حاصر السويداء، واستولى عليهما وقتل وأسر وعاد موصل إلى القاهرة يوم الخميس لليلة بقيت من شهر رمضان، وصحبته من الأسرى مائتين وخمسين أسيراً. فأكرمه السلطان، وأحسن إلى الأمراء، وسير الخلع إلى الملكين المذكورين.
وفي ثالث شهر رمضان: عزل السلطان قاضي القضاة برهان الدين السنجاري عن قضاء مصر والوجه القبلي، وأعاد قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب ابن بنت الأعز، فصار بيده قضاء القضاة بديار مصر كلها. وكان متشدداً في أحكامه، فرسم له في ذي القعدة أن يستنيب عنه مدرسي المدرسة الصالحية من الحنفية والمالكية والحنابلة، فاستنابهم في الحكم عنه، ولم يعرف ذلك عصر قبل هذا الوقت: فجلس القاضي صدر الدين سليمان الحنفي، والقاضي شرف الدين عمر السبكي المالكي، والقاضي شمس الدين محمد بن إبراهيم الحنبلي، في أول ذي القعدة وحكموا بين الناس بمذاهبهم.
وفي رابعه: قبض على الأمير علاء الدين الحاج طيبرس الوزيري نائب الشام، وحمل إلى مصر فاعتقل بقلعة الجبل، وكانت مدة نيابته سنة وشهراً. وحكم في دمشق بعده الأمير علاء الدين أيدغدي الحاج الركني إلى أن يحضر نائب.
وفيها كثر الإرجاف في دمشق بحركة التتار، فكتب السلطان برحيل أهل الشام بأهليهم إلى مصر. فحضر من تلك البلاد خلق كثير، بعدما كتب السلطان إلى الولاة بتخميرهم، وألا يؤخذ منهم مكس ولا زكاة، ولا يتعرض لما معهم من متجر ولا غيره، ولا تغش تجارة، فاعتمد ذلك. وكتب السلطان إلى حلب بتحريق الأعشاب، فسيرت جماعة إلى بلاد آمد وغيرها وحرقت الأعشاب التي كانت بالمروج التي جرت عادة هولاكو أن ينزلها. فعمت النار مسيرة عشرة أيام حتى صارت كلها رماداً، وهم الحريق بلاد خلاط، وقطع السنبل وهو أخضر.
وفيها خرجت الكشافة من دمشق وغيرها، فظفروا بكثير من التتار يريدون القدوم إلى مصر مستأمنين. وقد كان الملك بركة بعثهم نجدة إلى هولاكو، فلما وقع بينهما كتب يستدعيهم إليه، ويأمرهم أن تعذر عليهم اللحاق به أن يصيروا إلى عساكر مصر. وكان سبب عداوة بركة وهولاكو أن وقعه كانت بينهما، قتل فيها ولد هولاكو وكسر عسكره وتمزقوا في البلاد، وصار هولاكو إلى قلعة بوسط بحيرة أذربيجان محصورا بها. فلما بلغ ذلك السلطان سر به، وفرح الناس باشتغال هولاكو عن قصد بلاد الشام. وكتب السلطان إلى النواب بإكرام الوافدية من التتار، والإقامة لهم ما يحتاجون إليه من العليق والغنم وغيره، وسيرت إليهم الخلع والإنعامات والسكر ونحوه. وساروا إلى القاهرة، فخرج السلطان إلى لقائهم في سادس عشري ذي الحجة ولم يتأخر أحد عن مشاهدتهم، فتلقاهم وأنزلهم في دور بنت لهم في اللوق ظاهر القاهرة، وعمل لهم دعوة عظيمة هناك وبعث إليهم الخلع والخيول والأموال. وأمر السلطان أكابرهم، ونزل باقيهم في جملة البحرية، وكانوا مائتي فارس بأهاليهم، فحسنت حالهم، ودخلوا في الإسلام. وكتب السلطان إلى الملك بركة كتاباً، وسيره مع الفقيه مجد الدين والأمير سيف الدين كسريك.
وفيها سار صندغون مقدم التتار إلى الموصل، ونصب عليها خمسة وعشرين منجنيقاً، ولم يكن بها سلاح ولا قوت فاشتد الغلاء. وحاصرها صندغون حتى خرج إليه الملك الصالح إسماعيل بن الملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ الأتابكي، في يوم الجمعة النصف من شعبان، فقبض عليه وعلى من معه. ووقع التخريب في سور المدينة وقد اطمأن أهلها، ثم اقتحموها ووضعوا السيف في الناس تسعة أيام، ووسطوا علاء الدين ابن الملك الصالح، ونهبوا المدينة وقتلوا الرجال وأسروا النساء والذرية، وهدموا المباني وتركوها بلاقع، ورحلوا بالملك الصالح إسماعيل، ثم قتلوه وهم في طريقهم إلى هولاكو. وفيها خرج الأمير شمس الدين أقوش البرلي من حلب نجدة للملك الصالح، فأدركه التتار بسنجار وواقعوه، فانهزم منهم إلى البيرة في رابع عشر جمادى الآخرة. ثم استأذن الأمير شمس الدين السلطان في العبور إلى مصر، فأذن له وسار إلى القاهرة فدخلها أول ذي القعدة، فأنعم عليه السلطان وأقطعه إمرة سبعين فارساً. وولى السلطان بعده نيابة حلب الأمير عز الدين أيدمر الشهابي، فواقع أهل سيس وأخذ منهم جماعة، وبعثهم إلى مصر فوسطوا.
وفيها وفد على السلطان بعيد كسرة المستنصر شيوخ عبادة وخفاجة، من هيت والأنبار إلى الحلة والكوفة، وكبيرهم خضر بن بدران بن مقلد بن سليمان بن مهارش العبادي، وشهري بن أحمد الخفاجي، ومقبل بن سالم، وعياش بن حديثة، ووشاح وغيرهم. فأنعم السلطان عليهم وكانوا له عيناً على التتار.

.ومات في هذه السنة من الأعيان:

الخليفة أمير المؤمنين المستنصر بالله أبو القاسم أحمد بن الظاهر بالله أبي نصر محمد ابن الناصر لدين الله أبي العباس أحمد العباسي، قتيلاً في المعركة قريباً من هيت.
وتوفي شيخ الإسلام عز الدين أبو محمد عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم ابن الحسن المهذب السلبي الشافعي، عن اثنتين وستين سنة في ؟؟.
وتوفي الصاحب كمال الدين أبو القاسم عمر بن نجم الدين أبي الحسن أحمد بن هبة الله بن محمد بن هبة الله بن أحمد بن يحيى بن العديم الحنفي بالقاهرة. عن نيف وستين سنة.
وتوفي الأديب محيى الدين أبو العز يوسف بن يوسف بن يوسف بن شبرمة بن زبلاق الهاشمي الموصلي الأديب الشاعر الكاتب، قتيلاً بالموصل، عن سبع وخمسين سنة.

.سنة إحدى وستين وستمائة:

في الخميس ثامن المحرم: جلس الملك الظاهر مجلساً عاماً جمع فيه الناس. وحضره التتار الذين وفدوا من العراق والرسل المتوجهون إلى الملك بركة. وجاء الأمير أبو العباس أحمد بن أبي بكر علي بن أبي بكر بن أحمد بن المسترشد بالله العباسي، وهو راكب إلى الإيوان الكبير بقلعة الجبل، وجلس إلى جانب السلطان، وقرئ نسبه على الناس بعدما ثبت على قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب ابن بنت الأعز، ولقب بالإمام الحاكم بأمر الله أمير المؤمنين، وتولى قراءة نسبه القاضي محيى الدين بن عبد الظاهر كاتب السر. فلما ثبت ذلك مد السلطان يده وبايعه على العمل بكتاب الله وسنة رسوله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجهاد أعداء الله وأخذ أموال الله بحقها وصرفها في مستحقها، والوفاء بالعهود وإقامة الحدود، وما يجب على الأمير فعله في أمور الدين وحراسة المسلمين. فلما تمت البيعة أقبل الخليفة على السلطان وقلده أمور البلاد والعباد، وجعل إليه تدبير الخلق، وإقامه قسيمه في القيام بالحق، وفوض إليه سائر الأمور، وعلق به صلاح الجمهور. ثم أخذ الناس على اختلاف طبقاتهم في مبايعته، فلم يبق ملك ولا أمير ولا وزير ولا قاض ولا مشير ولا جندي ولا فقيه إلا وبايعه. فلما تمت البيعة تحدث السلطان معه في إنفاذ الرسل إلى الملك بركة، وانفض الناس.
فلما كان يوم الجمعة ثاني هذا اليوم: اجتمع الناس وحضر الرسل المذكورون، وبرز الخليفة الحاكم بأمر الله وعليه سواده، وصعد المنبر لخطة الجمعة فقال: الحمد لله الذي أقام لكل العباس ركناً وظهيراً، وجعل لهم من لديه سلطاناً ونصيراً. أحمده على السراء والضراء، وأستنصره على دفع الأعداء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه نجوم الاهتداء وأئمة الاقتداء الأربعة الخلفاء، وعلى العباس عمه وكاشف غمه أبي السادة الخلفاء الراشدين، والأئمة المهتدين، وعلى بقية الصحابة التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. أيها الناس اعلموا أن الإمامة فرض من فروض الإسلام، والجهاد محتوم على جميع الأنام، ولا يقوم علم الجهاد إلا باجتماع كلمة العباد، ولا سببت الحرم إلا بإنتهاك المحارم، ولا سفكت الدماء إلا بارتكاب المآثم. فلو شاهدتم أعداء الإسلام حين دخلوا دار السلام، واستباحوا الدماء والأموال، وقتلوا الرجال والأبطال والأطفال، وهتكوا حرم الخليفة والحريم، وأذاقوا من استبقوا العذاب الأليم، فارتفعت الأصوات بالبكاء والعويل، وعلت الضجات من هول ذلك اليوم الطويل. فكم من شيخ خضبت شيبته بدمائه، وكم طفل بكا فلم يرحم لبكائه. فشمروا عن ساق الاجتهاد في أحياء فرض الجهاد {فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيراً لأنفسكم ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون}، فلم تبق معذرة عن أعداء الدين، والمحاماة عن المسلمين.
وهذا السلطان الملك الظاهر، السيد الأجل العالم العادل المجاهد الرابط ركن الدنيا والدين، قد قام بنصر الإمامة عند قلة الأنصار، وشرد جيوش الكفر بعد أن جاسوا خلال الديار. فأصبحت البيعة باهتمامه منتظمة العقود، والدولة العباسية به متكاثرة الجنود. فبادروا عباد الله إلى شكر هذه النعمة، وأخلصوا نياتكم تنتصروا، وقاتلوا أولياء الشيطان تظفروا ولا يروعنكم ما جرى، فالحرب سجال والعاقبة للمتقين، والدهر يومان والأخرى للمؤمنين. جمع الله على التقوى أمركم، وأعز بالإيمان نصركم، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
وجلس الخليفة جلسة الاستراحة، ثم قام للخطة الثانية وقال: الحمد لله حمداً يقوم بشكر نعمائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له عدة للقائه، وأشهد أن محمداً سيد رسله وأنبيائه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه عدد ما خلق في أرضه وسمائه. أوصيكم عباد الله بتقوى الله، إن أحسن ما وعظ به الإنسان كلام الديان: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلكم خير لكم وأحسن تأويلا} نفعنا الله وإياكم بكتابه، وأجزل لنا ولكم من ثوابه، وغفر لي ولكم وللمسلمين أجمعين، والحمد لله رب العالمين. ثم نزل الخليفة. وصلى بالناس صلاة الجمعة، وانصرف.
وفي هذا اليوم خطب على منابر القاهرة ومصر بالدعاء للخليفة الحاكم بأمر الله، وكتب إلى الأعمال بذلك، فخطب له بدمشق في يوم الجمعة سادس عشره. وقد قيل في نسبه أنه أبو العباس أحمد بن الأمير محمد بن الحسن بن أبي بكر بن الحسن بن علي القبي بن الحسن بن أمير المؤمنين الراشد بن المسترشد، وهو الخليفة التاسع والثلاثون من خلفاء بني العباس، وليس فيهم بعد السفاح والمنصور من ليس أبوه وجده خليفة غيره، وأما من ليس أبوه خليفة فكثير.
وتجهز الفقيه مجد الدين والأمير سيف الدين كش تك، وكتب على يدهما كتب بأحوال الإسلام ومبايعة الخليفة، واستمالة الملك بركة وحثه على الجهاد، ووصف عساكر المسلمين وكثرتهم وعدة أجناسهم، وما فيها من خيل وتركمان وعشائر وأكراد، ومن وافقها وهاداها وهادنها، وأنها كلها سامعة مطيعة لإشارته، إلى غير ذلك من الإغراء بهلاون وتهون أمره والإشلاء عليه وتقبيح فعله، ونحو ذلك. وجهز السلطان معهما أيضاً نسخة نسبة الخليفة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأذهبت وكتب فيها الإسجال بثبوتها. وجمعت الأمراء والمفاردة وغيرهم وقرئت عليهم الكتب، وسلمت إلى الرسل. وسير معهما نفران من التتر أصحاب الملك بركة ليعرفاهما بالطرق، وساروا في الطرائد ومعهم زوادة أشهر. فوصلوا إلى الأشكري فقام بخدمتهم، واتفق وصول رسل الملك بركة إليه فسيرهم صحبته وعاد الفقيه مجد الدين لمرض نزل به، ومعه كتاب الأشكري بمسير الأمير سيف الدين ورفقته. وسار الأمير جمال الدين أقوش النجيبي الصالحي إلى نيابة دمشق، ومعه الصاحب عز الدين عبد العزيز بن وداعة وزير دمشق، وعلى يده تذاكر شريفة بعدما خلع عليهما.
وفي سابع ربيع الآخر: سار السلطان من قلعة الجبل إلى بلاد الشام، ونزل خارج القاهرة. ورحل في حادي عشره، ودام الصيد إلى أن دخل غزة، بعدما ضرب حلقة بثلاث آلاف فارس في العريش، فوقع فيها صيد كثير جداً، وتقنطر الأمير شمس الدين سنقر الرومي عن فرسه، فسار السلطان إليه ونزل عنده، وجعل رأسه على ركبته وأخرج من خريطته الموميا وسقاه، وأخذه معه إلى خيمته. وتقنطر الأمير سيف الدين قلاوون، فاعتمد السلطان معه مثل ذلك.
وقدم عليه في غزة جماعة منهم أم الملك المغيث عمر بن العادل أبي بكر بن الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب صاحب الكرك، فأنعم عليها إنعاماً كثيراً وأعطى سائر من كان معها، وحصل الحديث في حضور ولدها إلى السلطان، وعادت إلى ابنها بالكرك. من جملة ما زودها به السلطان من صيده خمسة عشر حملاً، وسار معها الأمير شرف الدين الجاكي المهمندار، برسم تجهيز الإقامات للملك المغيث إذا حضر. ونظر السلطان في أمر التركمان، وخلع على أمرائهم وعلى أمراء العربان من العابد وجرم وثعلبة، وضمنهم البلاد وألزمهم القيام بالعداد، وشرط عليهم خدمة البريد وإحضار الخيل برسمه وكتب إلى ملك شيراز وأهل تلك الديار، وإلى عرب خفاجة، يستحثهم على قتال هولاكو ملك التتار، وأن الأخبار قد وردت من البحر بكسر الملك بركة له غير مرة.
ثم رحل السلطان من غزة إلى جهة الساحل، ونزل الطور في ثاني عشر جمادى الأولى، وقدم إليه هناك الملك الأشرف صاحب حمص في خامس عشره بإذن منه فتلقاه السلطان وأكرمه، وبعث إليه سبعين غزالاً في دفعة واحدة، وقال: هذا صيد يومنا هذا، جعلته لك،. وخرج إليه المغيث من الكرك بعدما كاتبه الملك الظاهر يستدعيه وهو يسوف به. فأظهر السلطان من الاحتفال له شيئاً كثيراً، وخدعه أعظم خديعة، وكتم أمره عن كل أحد. فلما وصل المغيث بيسان ركب السلطان إلى لقائه في سادس عشري جمادى الأولى، وافاه في أحسن زي. فعندما التقيا ساق الملك المغيث إلى جانب السلطان، فسار به إلى الدهليز السلطاني، ودخلا إلى خركاه، وللوقت قبض عليه. وأحضر السلطان الملوك والأمراء، وقاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان وكان قد استدعاه من دمشق، والشهود والأجناد ورسل الفرنج. وأخرج السلطان إليهم كتب الملك المغيث إلى التتار وكتب التتار إليه، وأخرج أيضاً فتاوى الفقهاء بقتاله، وأحضر أيضاً القصاد الذين كانوا يسفرون بينه، بين هولاكو. ثم قال الأمير الأتابك لمن حضر: السلطان الملك الظاهر يسلم عليكم، ويقول ما أخذت الملك المغيث إلا بها السبب، وقرئت الكتب المذكورة عليهم. فكتب بصورة الحال، وأثبت القضاة خطوطهم في المكتوب، وانفض الجمع. وجلس السلطان وأمر فكتب إلى من بالكرك يعدهم ويحذرهم، وسير الأمير بدر الدين بيسري، والأمير عز الدين الأستادار، بالكتب والخلع والأموال إلى الكرك. وأرسل الملك المغيث عشاء إلى مصر مع الأمير شمس الدين أقسنقر الفارقاني السلاح دار، فسار به إلى قلعة الجبل وسجنه بها، وأطلق السلطان حواشيه، وبعث بحريمه إلى مصر، وأطلق لهم الرواتب.
ولما خلا بال السلطان من هم الملك المغيث، توجه بكليته إلى الفرنج: فإنهم كانوا قد شرعوا في التعلل وطلبوا زرعين، فأجابهم السلطان بأنكم تعوضتم عنها في الأيام الناصرية ضياعاً من مرج عيون، وهم لا يزدادون إلا شكوى. وآخر الحال طلب الفرنج من والي غزة كتاباً بتمكين رسلهم إذا حضروا، فكتب لهم الكتاب، وتواصلت بعد ذلك كتبهم. ووردت كتب النواب بشكواهم، وأنهم اعتمدوا أموراً تفسخ الهدنة فلما صار السلطان في وسط بلادهم وردت عليه كتبهم، وفيها: ما عرفنا بوصول السلطان. فكتب إليهم: من يريد أن يتولى أمراً ينبغي أن يكون فيه يقظة، ومن خفي عنه خروج هذه العساكر، وجهل ما علمته الوحوش في الفلاة والحيتان في المياه، من كثرتها التي لعل بيوتكم ما فيها موضع إلا ويكنس منه التراب الذي أثارته خيل هذه العساكر، ولعل وقع سنابكها قد أصم أسماع من وراء البحر من الفرنج، ومن في موتان من التتار. فإذا كانت هذه العساكر تصل جميعها إلى أبواب بيوتكم ولا تدرون، فأي شيء تعلمون. وماذا تحطون به علماً ولم لا أعطيتم لوالي غزة الكتاب الذي كنا سيرناه لكم بتمكين رسولكم إذا حضر، قال الرسول: نسينا، وما علمنا كيف عدم. فكان الجواب: إذا نسيتم هذا فأي شيء تذكرون. وإذا ضيعتموه فأي شيء تحفظون. وانفعل الحال على هذا. ووصلت نواب يافا ونواب أرسوف بهدية، فأخذت منهم تطميناً لقلوبهم، وتسكينا لهم. هذا وقد أمر السلطان ألا ينزل أحد في زرع الفرنج ولا يسيب فرساً، ولا يؤذي لهم ورقة خضراء، ولا يتعرض إلى شيء من مواشيهم ولا إلى أحد من فلاحيهم.
وكانت كتبهم أولاً ترد بندمهم على الهدنة وطلبهم مسخها، فلما قرب السلطان منهم صارت ترد بأنهم باقون على العهد متمسكون بأذيال المواثيق.
وفي اليوم الذي قبض فيه على الملك المغيث، أمر السلطان بإحضار بيوت الفرنجية وقال: ما تقولون؟ قالوا: نتمسك بالهدنة التي بيننا. فقال السلطان: لم لا كان هذا قبل حضورنا إلى هذا المكان، وإنفاق الأموال التي لو جرت لكانت بحاراً؟ ونحن لما حضرنا إلى ها هنا ما آذيناكم زرعاً ولا غيره، ولا نهب لكم مال ولا ماشية، ولا أسر لكم أسير. وأنتم منعتم الجلب والميرة عن العسكر، وحرمتم خروج شيء من الغلات والأغنام وغير ذلك، ومن انفرد من غلمان العسكر أسرتموه. إلينا بدمشق نسخة يمين حلفنا عليها، وسيرنا نسخة يمين من عندنا لم تحلفوا عليها، وعلمتم أنتم نسخة عفتم عليها، وشرط اليمين الأولى تتعلق بالثانية. وسيرنا الأسارى إلى نابلس ومنها إلى دمشق، وما سيرتم أنتم أحد وكل بيت يحيل على الآخر، وما سيرنا الأسارى إلا وفاء بالعهد وإقامة الحجة عليكم وسيرنا كمال الدين بن شيث رسولاً يعلمكم بوصول الأسرى، فلم تبعثوا أحداً، ولم ترحموا أهل ملتكم الأسرى وقد وصلوا إلى أبواب بيوتكم، كل ذلك حتى لا تبطل أشغالكم من أسرى المسلمين عندكم. وأموال التجار شرطتم القيام بما أخذتموه منها، ثم قلتم ما أخذت من بلادنا وإنما أخذت في أنطرسوس وحمل المال إلى خزانة بيت الديوية والأسرى في بيت الديوية، فإن كانت أنطرسوس ما هي لكم فالله يحقق ذلك. ثم إنا شرنا رسلا إلى بلاد السلاجقة الروم، وكتبنا إليكم بتسفيرهم في البحر فأشرتم عليهم بالسفر إلى قبرص فسافروا بكتابكم وأمانكم، فأخذوا وقيدوا وضيق عليهم، وأتلف أحدهم على ما ذكر. فإن كان هذا برضاكم فقبيح أن يعتمدوا هذا الاعتماد. هذا مع إحساننا إلى رسلكم وتجاركم، والوفاء أحد أركان الملك. وجرت عادة الرسل أنها لا تؤذي، وما زالت الحرب قائمة والرسل تتردد، وما القدرة على الرسول بشيء يسكن غيظاً. فإن كان هذا بغير رضاكم فإنه نقص في حرمتكم، وإذا كان صاحب جزيرة قبرص من أهل ملتكم، يخرق حرمتكم ولا يفي بعهدكم ولا يحفظ ذمامكم ولا يقبل شفاعتكم، فأي حرمة تبقى لكم وأي ذمام يوثق به منكم، وأي شفاعة تقبل عند المسلمين والفرنجية، وهل كانت الملوك الماضية تقي النفوس والرجال والأموال إلا بحفظ الحرمة. وما صاحب جزيرة قبرص ملك عظيم، ولا صاحب حصن منيع، ولا قائد جيش كثير، ولا هو خارج عنكم. بل أكثر تعلقاته في عكا والساحل، وله عندكم المراكب والتجار والأموال والرسل، وليس هو منفرد بنفسه، وعنده الديوية وجميع البيوت والنواب مقيمون عنده، وعنده كند يافا وغيره. فلو كنتم لا تؤثرون ذلك كنتم قمتم جميعكم عليه، وأحطتم على كل ما يتعلق به وأصحابه، واسترحتم من هذه الفضيحة، وكتبتم إلى ملوك الفرنجية وإلى البابا بما فعله. وإذا قلتم صاحب قبرص لا يسمع منكم ولا يعطكم، فإذا لم يسمع منكم صاحب قبرص وهو من أهل ملتكم، فمن يسمع منكم؟ وهل لهذه التقدمة إلى الأمر والنهي؟ ولاسيما أنتم تقولون أن أموركم دينية، ومن ردها عصى المعبود، ويغضب عليه المسيح. فكيف لا يعصي المعبود ويغضب المسيح على صاحب قبرص، وقد رد أمركم وأغرى بكم وقبح قولكم. وكنا لو اشتهينا أخذنا حقنا منه، وإنما الحق عندكم نحن نطلب منكم، وأنتم تطلبون منه. وأنتم في أيام الملك الصالح إسماعيل أخذتم صفد والشقيف، على أنكم تنجدونه على السلطان الشهيد الملك الصالح نجم الدين أيوب. وخرجتم جميعكم في خدمته ونجدته، وجرى ما جرى من خذلانه، وقتلكم وأسركم وأسر ملوككم وأسر مقدميكم، وكل أحد يتحقق ما جرى عليكم من ذهاب الأرواح والأموال. وقد انتقضت تلك الدولة، ولم يؤاخذكم السلطان الشهيد عن فتوحه البلاد، وأحسن إليكم فقابلتم ذلك بأن رحتم إلى الريدافرنس، وساعدتموه وأتيتم صحبته إلى مصر، حتى جرى ما جرى من القتل والأسر. فأي مرة وفيتم فيها لمملكة مصر، أم أي حركة أفلحتم فيها. وبالجملة فأنتم أخذتم هذه البلاد من الملك الصالح إسماعيل لإعانة مملكة الشام، وطاعة ملكها ونصرته والخروج في خدمته، وإنفاق الأموال في نجدته. وقد صارت بحمد الله مملكة الشام وغيرها لي، وما أنا محتاج إلى نصرتكم ولا إلى نجدتكم، ولم يبق لي عدو أخافه. فردوا ما أخذتموه من البلاد، وفكوا أسرى المسلمين جميعهم، فإني لا أقبل غير ذلك.
فلما سمع رسل الفرنج هذه المقالة بهتوا، وقالوا: نحن لا ننقض الهدنة، وإنما نطلب مراحم السلطان في استدامتها، ونحن نزيل شكوى النواب، ونخرج من جميع الدعاوى ونفك الأسرى، ونستأنف الخدمة. فقال السلطان: كان هذا قبل خروجي من مصر، في هذا الشتاء وهذه الأمطار، ووصول العساكر إلى هنا. وانفصلوا على هذه الأمور، فأمر السلطان بإخراجهم وألا يبيتوا في الوطاق. ووجه الأمير علاء الدين طيبرس إلى كنيسة الناصرة، وكانت أجل مواطن عباداتهم ويزعمون أن دين النصرانية ظهر منها، فسار إليها وهدمها، فلم يتجاسر أحد من الفرنج أن يتحرك. ثم وجه السلطان الأمير بدر الدين الأيدمري في عسكر إلى عكا، فساروا إليها واقتحموا أبوابها وعادوا. ثم ساروا ثانياً، وأغاروا على مواشي الفرنج، وأحضروا منها شيئاً كثيراً إلى المخيم.
واستمر جلوس السلطان كل يوم على باب الدهليز بصفة عمرها، من غير احتجاب عن أحد، فمن وقف له أحضره وأخذ قصته وأنصفه وهو في أمر ونهي وعطاء وتدبير، واستجلاب قلوب أهل الكرك. وقدمت رسل دار الدعوة بالهدايا، فأحسن إليهم وعادوا. وأمر جماعة في الشام والساحل، وأعطي الأمير علاء الدين أيديكن البندقدار إقطاعا جيداً بمصر. وطلب أهل بلاد الساحل من الفلاحين، وقرر عليهم أموالاً سماها جنايات، وألزمهم بحملها إلى بيت المال، عن ديات من قتل وليس له وارث وهم ما نهبوه من مال جهل مالكه. فحملت من ذلك أموال كثيرة جداً من بلاد نابلس وبلاد الساحل، وانكسرت شوكة أهل العيث والفساد بذلك بعدما كان الضرر عظيماً بهم، من تسلطهم على الرعية ونقلهم الأخبار للفرنج. فرأى السلطان عقوبتهم بهذا الفعل أولى من قتلهم، فإنهم أصحاب زرع وضرع.
ركب السلطان وجرد من كل عشرة فارساً، واستناب الأمير شجاع الدين الشبلي المهمندار في الدهليز السلطاني، وساق من منزلة الطور نصف الليل. فصبح عكا وأطاف بها من جهة البر، وندب جماعة لحصار برج كان قريباً منه فشرعوا في نقبه، وأقام لسلطان على ذلك إلى قريب المغرب وعاد. وكان قصده بذلك كشف مدينة عكا، فإن الفرنج كانوا يزعمون أن أحداً لا يجسر أن يقرب منها، فصاروا ينظرون من أبواب المدينة ولا يستطيعون حركة. ولما عاد السلطان إلى الدهليز ركب لما أصبح، وأركب ناس معه، وساق إلى عكا. فإذا الفرنج قد حفروا خندقاً حول تل الفضول، وجعلوا معاثر في الطريق، ووقفوا صفوفاً على التل، فلما أشرف السلطان عليهم رتب العسكر بنفسه، وشرع الجميع في ذكر الله وتهليله وتكبيره، والسلطان يحثهم على ذلك حتى ارتفعت أصواتهم. وللوقت ردمت الخنادق بأيدي غلمان العساكر وبمن حضر من الفقراء المجاهدين، وصعد المسلمون فوق تل الفضول، وقد انهزم الفرنج إلى المدينة.
وامتدت الأيدي إلى ما حول عكا من الأبراج فهدمت، وحرقت الأشجار حتى انعقد الجو من دخانها. وساق العسكر إلى أبواب عكا، وقتلوا وأسروا عدة من الفرنج، ساعة واحدة، والسلطان قائم على رأس التل يعمل في أخذ رأي المدينة، والأمراء تحمل على الأبواب واحداً بعد واحد. ثم حملوا حملة واحدة ألقوا فيها الفرنج في الخنادق، وهلك منهم جماعة في الأبواب. فلما كان آخر النهار ساق السلطان إلى البرج الذي نقب، وقد تعلق حتى رمي بين يديه، وأخذ منه أربعة من الفرسان ونيف وثلاثون راجلاً، وبات السلطان على ذلك. فلما أصبح عاد على بلاد الفرنج وكشفها مكاناً مكاناً، وعبر على الناصرة حتى شاهد خراب كنيستها وقد سوى بها الأرض، وصار إلى الصفة التي بناها قبالة الطور، فوافاها ليلاً وجلس عليها. وأحضر الشموع التي بالمنجنيقات ونصب عليها خمسة، وأحضر الصاحب فخر الدين محمد بن حنا وزير الصحبة. وجماعة كتاب الدرج وهم سبعة: الصاحب فخر الدين بن لقمان، والصدر بدر الدين حسن الموصلي، والصدر كمال الدين أحمد بن العجمي، والصدر فتح الدين ابن القيسراني، والصدر شهاب الدين أحمد بن عبيد الله، والصدر برهان الدين. واحضر كتاب الجيش، وأمر الأمير سيف الدين الزيني أمير علم أن يجلس مع كتاب الجيش، لأجل كتابة المناشير وتجهيز الطبلخانا، وأن يكون الأتابك بين يدي السلطان. واستدعى من الجشارات بخمسمائة فرس لأجل الطبلخاناه وخيول الأمراء وأحضرت خلع كثيرة، وأمر السلاح دارية أن يستريحوا بالنوبة ويحضروا. فلم تزل المثالات والمناشير تكتب وهو يعلم، فكتب بين يديه تلك الليلة ستة وخمسون منشوراً كباراً يخطب لأمراء كبار. وظل الصاحب فخر الدين يعلم، وفتح الدين بن سناء الملك صاحب ديوان الجيش وصاحب ديوان الخزائن يعلم، والأمير بدر الدين الخازندار واقف، والمستوفي ينزل، حتى كملت بين يديه. وأصبح السلطان فخلا بنفسه، وجهز الطبلخاناه والسناجق والخيل والخلع إلى الأمراء، وجعل الأمير ناصر الدين القيمري نائب السلطة بالفتوحات الساحلية.
ورحل السلطان من الطور يوم الاثنين ثالث عشر جمادى الآخرة، وسار إلى القدس فوافاه يوم الجمعة عشره، وكشف أحوال البلد وما يحتاج إليه المسجد من العمارة، ونظر في الأوقاف وكتب بحمايتها، ورتب برسم مصالح المسجد في كل سنة خمسة آلاف درهم وأمر ببناء خان خارج البلد، ونقل إليه من القاهرة باب القصر المعروف بباب العيد، ونادى بالقدس ألا ينزل أحد في زرع.
لم سار السلطان إلى الكرك فنزله يوم الخميس ثالث عشريه بعساكره، وأحضر السلالم الخشب من الصلت وغيره، والحجارين والبنائين والنجارين والصناع من مصر ودمشق. وكتب إلى من في الكرك فخافوا، وترددت الرسل بينهم وبينه، حتى استقر الحال على أنه يعطى الملك العزيز عثمان بن الملك المغيث إمرة مائة فارس، فأنعم بذلك. ونزل أولاد المغيث، وقاضي المدينة وخطبها وعدة من أهلها ومعهم مفاتيح المدينة والقلعة، فحلف لهم السلطان وأرضاهم، وسير الأمير عز الدين أيدمر الأستادار، والصاحب فخر الدين محمد بن الصاحب بهاء الدين علي بن محمد بن سليم بن حنا في ليلة الجمعة رابع عشريه، فتسلما القلعة. وفي بكرة الجمعة دعي للسلطان على الأسوار، ونصبت سناجقه على الأبراج، وركب في الساعة الثالثة وطلع إلى القلعة ورتب أمر جيش الكرك، وأنفق فيهم ثلاثة أشهر من خزائنه واهتم السلطان ببلادها وعين لها خاصاً، وزاد جماعة، وأنعم على أولاد الملك المغيث بجميع ما كان في القلعة من مال وقماش وأثاث. وصلى بها صلاة الجمعة، ونزل قريب المغرب، ولم يتعرض أحد من العسكر لأهلها بسوء. وأصبح السلطان فبعث إلى العزيز بن المغيث الخلع والقماش، وإلى الطواشي بهاء الدين صندل، والأمير شهاب الدين صعلوك أتابكة. كتب بالبشارة إلى مصر والشام بأخذ الكرك، وأن تحمل إليه الغلات والأصناف طلع السلطان إليها يوم الاثنين، وأحضر الدواوين ورتب الإقطاعات للعربان الأجناد، فكتب بين يديه زيادة على ثلاثمائة منشور، وسلمت لأربابها بعدما حلفوا بين يدي السلطان، وكتبت أيضاً تواقيع لأهل الكرك بمناصب دينية وديوانية. وجرد سلطان بها عدة من البحرية والظاهرية، وحلف مقدمي الكرك وأنصارها، وقال لأهل كرك: اعلموا أنكم قد أسأتم إلى في الأيام الماضية، وقد اغتفرت لكم ذلك لكونكم ما خامرتم على صاحبكم. وقد ازددت فيكم محبة فتناسوا الحقود. وأحضر الأمير عبية وغيره عن هرب من بني مهدي، وألزمهم أدراك البلاد وخفرهم إلى أرض الحجاز، وأمر بعمارة ما يحتاج إليه في السور وحصنه وحفر الخندق وأحاطه بالحصن، ولم يكن قبل ذلك كذلك. وأشحن الحصن بالأسلحة والغلال وآلات الحرب والأقوات، ووضع فيه مبلغ سبعين ألف دينار عيناً ومائة وخمسين درهم نقرة. واستناب بالكرك الأمير عز الدين أيدمر من مماليكه، وأضاف إليه الشوبك وأعطاه ثلاثين ألف درهم وكثيراً من القماش.
ورحل السلطان إلى مصر، ومعه أولاد الملك المغيث وحريمه، في يوم الأربعاء تاسع عشريه. فدخل القاهرة في سابع عشر رجب وقد زينت أحسن زينة، فشق القصبة إلى قلعة الجبل على شقق الحرير الأطلس والعتابي، وخلع على الأمراء والمفاردة والمقدمين وجميع حاشيته وغلمانه ومباشريه، وأعطى العزيز بن الملك المغيث إمرة مائة فارس وخلع عليه وأعطاه طبلخاناه، وأطلق لأخويه وحرم أبيه سائر ما يحتاجون إليه هم وغلمانمهم، وأنزلهم بدار القطبية بين القصرين من القاهرة.
وأصبح السلطان فقبض على الأمير سيف الدين الرشيدي واعتقله. وفي تاسع عشره قبض على الأمير عز الدين أيبك الدمياطي والأمير شمس الدين أقوش البرلي واعتقلهما فكان آخر العهد بأقوش البرلي. ولما قبض السلطان عليهما أحسن إلى مماليكهما وحواشيهما، ولم يغر على أحد منهم ولا تعرض إلى بيوت الأمراء. وكان سبب تنكره على هذه الأمراء أنه كان قد فوض إلى الرشيدي أمر المملكة حتى تصرفت يده في كل شيء، وأطلق له في كل جمعة خوانين من عنده يمدان له حتى ماء الورد، ورتب له كل شهر كلونتين زركش قيمة كل منهما مبلغ خمسين ديناراً عيناً وقيمة كلبندها مبلغ أربعين ديناراً ورتب له برسم مشروبه اثني عشر ألف دينار في كل سنة. هذا سوى ما له من الاقطاعات الجليلة والمرتبات الكثيرة، وسوى الإنعامات وجوامك البزدارية والفهادة وعليق الخيل. فأقبل الرشيدي على اللهو وشرب الخمر، وحمت حواشيه عدة بلاد، وحدثت منه أمور لا تسر، فأغضى عنه السلطان. فلما كان بالطور بلغه أن الرشيدي قد فسدت نيته، فأقام عليه عيوناً تحفظ كل ما يجري منه: فبلغه عنه أنه كان يكاتب المغيث بالكرك ويحذره من القدوم على السلطان ويشير عليه ألا يسلم نفسه، وأنه كتب إلى أهل الكرك أيضاً بعد القبض على المغيث يأمرهم بألا يسلموا الكرك، فأسر السلطان ذلك في نفسه إلى أن سار إلى الكرك فبلغه عنه أنه يريد المبادرة إلى أخذ الكرك، فسارع إليه ولاطفه وركب معه إلى الكرك وأخذها. وبلغ السلطان عنه أيضاً عدة أمور من هذا النحو.
وقدمت رسل الملك بركة تطلب النجدة على هولاكو- وهم الأمير جلال الدين ابن القاضي، والشيخ نور الدين علي، في عدة- ويخبرون بإسلامه وإسلام قومه، وعلى يدهم كتاب مؤرخ بأول رجب سنة إحدى وستين وستمائة. وقدم أيضاً رسول الأشكري، ورسول مقدم الجنوية، ورسول صاحب الروم السلاجقة، فأحسن السلطان إلى الرسل وعمل لهم دعوة بأراضي اللوق، وواصل الإنعام عليهم في يومي الثلاثاء والسبت عند اللعب في الميدان.
وفي يوم الجمعة ثامن عشري شعبان: خطب الخليفة الحاكم بأمر الله بحضور رسل الملك بركة، ودعا للسلطان وللملك بركة في الخطبة، وصلى بالناس صلاة الجمعة، واجتمع بالسلطان وبالرسل في مهمات أمور الإسلام.
وفي ليلة الأربعاء ثالث شهر رمضان: سأل السلطان الملك الظاهر الخليفة الحاكم بأمر الله: هل لبس الفتوة من أحد من أهل بيته الطاهرين أو من أوليائهم المتقين، فقال: لا، والتمس من السلطان أن يصل سببه بهذا المقصود. فلم يمكن السلطان إلا طاعته المفترضة، وأن يمنحه ما كان ابن عمه رضي الله عنه قد افترضه. ولبس الخليفة في الليلة المذكورة بحضور من يعتبر حضوره في مثل ذلك، وباشر اللبس الأتابك فارس الدين أقطاي بطريق الوكالة عن السلطان، بحق لبسه عن الإمام المستنصر بالله أمير المؤمنين ولد الإمام الظاهر- وأبوه لجده الناصر لدين الله- والناصر لعبد الجبار، لعلي ابن دغيم لعبد الله بن القير، لعمر بن الرصاص، لأبي بكر بن الجحيش، لحسن بن الساريار، لبقاء بن الطباخ، لنفيس العلوي، لأبي هاشم بن أبي حية، لعمر بن ألبس، لأبي علي الصوفي، لمهنا العلوي، للقائد عيسى، لأمير وهران، لرؤية الفارسي، للملك أبي كاليجار، لأبي الحسن النجار، لفضل القرقاشي، للقائد شبل بن المكدم، لأبي الفضل القرشي، للأمير حسان، لجوشن الفزاري، للأمير هلال النبهاني، لأبي مسلم الخراساني، لأبي العز النقيب، لعوف الغساني، لحافظ الكندي، لأبي علي النوبي، لسلمان الفارسي، للإمام الطاهر النقي التقي علي بن أبي طالب رضي الله عنه وحمل السلطان إلى الخليفة من الملابس لأجل ذلك ما يليق بجلاله.
وفي الليلة الثانية: حضر رسل الملك بركة إلى قلعة الجبل، وألبسهم الخليفة بتفويض الوكالة للأتابك، وحمل إليهم من الملابس ما يليق بمثلهم. وجهز السلطان هدية جليلة للملك بركة، وكتب جواب كتابه في قطع النصف في سبعين ورقة بغداية بخط محيى الدين بن عبد الظاهر، وهو الذي قرأه على السلطان بحضور الأمراء. وسلمت الهدية للأمير فارس الدين أقوش المسعودي، والشريف عماد الدين الهاشمي، فسارا في يده طريدة فيها عدة رماة وجرخية وزراقين، وأشحنت الأزودة لمدة سنة، وسارا سابع عشره. وخرجت النجابة إلى مكة والمدينة بأن يدعى للملك بركة ويعتمو عنه، وأمر الخطاء أن يدعوا له على المنابر بمكة والمدينة والقدس وبمصر والقاهرة، وبعد الدعاء للسلطان الملك الظاهر.
وفي سادس شوال: توجه السلطان إلى جهة الإسكندرية، فأقام بتروجة أيام ودخل البرية وضرب حلقة فوقع فيها كثير من الصيد. واهتم السلطان بأمر المياه وولى أمرها الأخير شجاع الدين الزاهدي أحد الحجاب، وأحضر من الإسكندرية الرجال لحفر الآبار. ثم سار السلطان من تروجة إلى الإسكندرية، وكان الصاحب بهاء الدين ابن حنا قد سبق إليها وحصل جملاً كثيرة من المال: منها حمل بلغ خمسة وتسعين لفة من القماش السكندري، ولم يعامل أحد من أهلها بغير العدل، ولم يضرب بها أحداً بمقرعة. فضرب السلطان خيامه ظاهر المدينة، ونادي ألا يقيم بالثغر جندي ولا ينزل أحد في دار.
وفي يوم الخميس مستهل ذي القعدة: دخل السلطان إلى المدينة من باب رشيد، فتلقاه الناس بالسرور والفرح والدعاء. واستدعى السلطان بالخزائن والأمتعة، وشرع في تعبئة ما يعبيه للأمراء على قدر مراتبهم، ورسم بمكتوب يرد مال السهمين وصلة أرزاق الفقراء، وسامح بما كان يؤخذ من أهل الإسكندرية وهو ربع دينار عن كل قنطار يباع من؟؟ ولعب بالكرة وخلع على الأمراء، وأعطي الأتابك ثلاثة آلاف دينار وأعطى الأمراء على حسب مراتبهم، وركب لزيارة الشيخ المعتقد محمد بن منصور بن يحيى أبي القاسم القباري، فلم يمكنه من الطلوع إليه ولم يكلمه إلا وهو في البستان والشيخ في عليته، ثم مضى لزيارة الشيخ الشاطبي.
وحضر إلى السلطان رجلان من أهل الثغر: أحدهما يقال له ابن البوري والآخر يعرف بالمكرم بن الزيات، ومعهما أوراق تتضمن استخراج أمول ضائعة فاستدعى السلطان في يوم الثلاثاء سادسه الأتابك والصاحب والقضاة والفقهاء وأمرت فقرئت وصار كلما ذكر له باب مظلمة سده ويعود على المذكورين بالإنكار، حتى انتهت القراءة. فقال: اعلموا أني تركت لله تعالى ستمائة ألف دينار من التصقيع والتقويم والراجل والعبد والجارية وتقويم النخل فعوضني الله من الحلال أكثر من ذلك، وطلبت جرائد الحساب فزادت بعد حط المظالم جملة، ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً وأمر بإشهار ابن البوري.
وفي سابعه: قدم البريد من البيرة وحلب بأن جماعة مستأمنة وردت إلى الباب العزيز، عدتها فوق الألف وثلاثمائة فارس من المغل والبهادرية، فكتب بالإحسان إليهم.
وفي يوم الخميس ثامنه: جلس السلطان بدار العدل، وأمر بتطهير الثغر من الخواطي الفرنجيات.
وفي ثامن عشره: سار السلطان من الإسكندرية يريد القاهرة، فنزل تروجة وأمر عربانها بالسباق بين يديه، فاجتمه ألف فارس من عرب تروجة، وانضم إليها جملة من خيل العسكر. وعين السلطان لهم المدى، ووقف على تل، وأوقف الرماح وعليها الثياب الأطلس والعتابي وفيها المال. فأقبلت الخيل، وأخذ كل راكب سبق ما فرض له. ثم سار السلطان إلى قلعة الجبل، فلما وصل فوض قضاء الثغر للفقيه برهان الدين إبراهيم بن محمد علي البوشي المالكي، وكان زاهداً عابداً يأوي إلى مسجد بمصر، وفوض الخطابة للقاضي زين الدين أبي الفرج محمد بن القاضي الموفق بن أبي الفرج الإسكندري الذي كان حاكماً بالثغر.
وفي آخر ذي العقدة: نزل السلطان إلى القاهرة، وعاد الأمير سيف الدين قلاون الألفي، والأمير علاء الدين الحاج أيدغدي الركني، والأمير حسام الدين بن بركة خان.
وفي ليلة الأربعاء خامس ذي الحجة: توفي الأمير حسام الدين بن بركة خان، فحضر السلطان جنازته ومشى فيها مع الناس.
وفي سادسه: وصلت التتار المستأمنة، وأعيانهم كرمون وأمطغية ونركيه وجبرك وقيان وناسيسة وطيشور ونبتو وصبحي وجرجلان واجقرقا وارقرق وكراي وصلاغيه ومتقدم وصراغان. فركب السلطان إلى تلقيهم فنزلوا عند مشاهدته عن خيولهم وقبلوا الأرض وهو راكب فأكرمهم وعادوا إلى القلعة.
وفي ثامنه: خلع عليهم السلطان، ونزل إلى تربة ابن بركة خان. ثم وردت الكتب بقدوم طائفة أخرى، فاحتفل بهم وركب لتلقيهم. ثم وردت طائفة ثالثة، فاعتمد معهم مثل ذلك وأمر أكابرهم، وعرض عليهم الإسلام فأسلموا وختنوا بأجمعهم.
واتفق أن الأمير بهاء الدين أمير أخور ضرب بعض دلالي سوق الخيل، فمات قلاوون واستتر عنده فدخل قلاوون على الأتابك في أمره، وأخرج لأولاد الميت من ماله خمسة آلاف درهم ومائة أردب غلة وكسوة، فأبرؤه وأقروا أن أباهم مات بقضاء الله وقدره.
ودخل الأتابك إلى السلطان وحدثه في ذلك، فاشتد غضبه، فقال له الأتابك: تغضب والشرع معنا، فإن كان قد قتله عمداً أو خطاً فقد أبرأ الأولياء. وتحدث الأمراء في العفو عنه فعفه، وأمر بعمل جامع من الثياب المفصلة بضرب على يمنة الخيمة السلطانية فعمل ونصبت وأبرأيه وعملت فيه مقصورة برسم السلطان.
وفي هذه السنة: جمدت دار العدل تحت قلعة الجبل، وجلس بها السلطان في يومي الخميس والاثنين لعرض العساكر. وفيها وردت هدية من بلاد اليمن.
وفيها أمر بتنصيب أربعة قضاه نواباً لقاضي القضاة تاج الدين. ابن بنت الأعز، فاستناب حنفياً ومالكياً وشافعياً ولم يجد من يستنيبه من الحنابلة فولى نائباً حنبلياً.
وفيها جهز السلطان عرب خفاجة بالخلع إلى أكابر أهل العراق، وكتب إلى صاحب شراز وغيره يغويهم بهولاكو، وألبس عدة من أمراء خفاجة الفتوة، وجهز معهم الأمير عز الدين إلى شراز.
وفيها جهز السلطان في البحر جماعة من البنائين والنجارين والنشارين والعتالين، وعدة أخشاب وغيرها من الآلات، برسم عمارة الحرم النبوي. وعملت كسوة الكعبة على العادة، وحملت على البغال وطيف بها في القاهرة ومصر، وركب معها الخواص وأرباب الدولة والقضاة، والفقهاء والقراء والصوفية والخطاء والأئمة. وسفرت إلى مكة في العشر الأوسط من شوال، وفوضت عمارة الحرم لزين بن البوزي.
وفيها جمع الفرنسيس ملك الفرنج عساكره يريد أخذ دمياط، فأشار عليه أصحابه يقصد تونس أولاً، ليسهل أخذ دمياط بعدها. فسار إلى تونس ونازلها حتى أشرف على أخذها، فبعث الله في عسكره وباء هلك فيه هو وعدة من أكابر أصحابه، وعاد من بقي منهم.

.ومات في هذه السنة:

الأمير الكبير مجير الدين أبو الهيجاء بن عيسى بن خشترين الأركسي الكردي بدمشق.
وتوفي عز الدين أبو محمد عبد الرزاق بن رزق الله بن أبي بكر بن خلف الرسغي الحنبلي، شيخ البلاد الجزرية، بسنجار عن اثنتين وسبعين.
وتوفي علم الدين أبو محمد بن أحمد بن موفق جعفر المرسي اللوري بدمشق، وقد انتهت إليه مشخية الإقراء، عن ستين سنة.