فصل: سنة ست وثمانين وستمائة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: السلوك لمعرفة دول الملوك (نسخة منقحة)



.سنة ست وثمانين وستمائة:

في يوم الأحد نصف المحرم: استقر برهان الدين خضر السنجاري في قضاء القاهرة والوجه البحري، عوضاً عن قاضي القضاة شهاب الدين محمد بن أحمد الخوبي.
ونقل الخوبي عن قضاة القاهرة إلى قضاة دمشق، عوضاً عن بهاء الدين يوسف بن محيي الدين يحيي بن محمد بن على بن الزكي. فنزل قاضي القضاة برهان الدين السنجاري من القلعة، وجلس للحكم في المدرسة المنصورية بين القصرين، ورسم له أن يجلس في دار العدل فوق قاضي القضاة تقي الدين ابن بنت الأعز. فشق ذلك على ابن الأعز، وسعي أن يعفي من حضور دار العدل، فلم يشعر إلا وقد مات البرهان السنجاري في تاسع صفر فجأة عن سبعين سنة، فكانت مدة ولايته أربعة وعشرين يوما.
فاستقر ابن بنت الأعز في قضاء القاهرة، وجمع له بين قضاء البلدين، ونزل فصلي على السنجاري وهو بالشريف.
وفي هذه السنة: توجه الأمير حسام الدين طرنطاي نائب السلطة على عسكر كثير لقتال الأمير شمس الدين سنقر الأشقر بصهيون.
وسبب ذلك أن السلطان لما نازل المرقب وهي بالقرب من صهيون، لم يحضر إليه سنقر الأشقر وبعث إليه ابنه ناصر الدين صمغار، فأسرها السلطان في نفسه، ولم يمكن صمغار من العود إلى أبيه وحمله معه إلى مصر، واستمر الحال على ذلك حتى هذه السنة فسار طرنطاي ونازل صهيون حتى بعث الأشقر يطلب الأمان فأمنه، ونزل سنقر إليه ليسلم الحصن، فخرج طرنطاي إلى لقائه ماشيا، فنزل سنقر عندما رآه وتعانقا.
وسار سنقر إلى مخيم طرنطاي، وقد خلع طرنطاي قباءه وفرشه على الأرض ليمشي عليه سنقر، فرفع سنقر القباء عن الأرض وقبله ثم لبسه، فأعظم طرنطاي ذلك من فعل سنقر وشق عليه وخجل، وأخذ يعامل سنقر من الخدمة بأتم ما يكون.
وتسلم طرنطاي حصن صهيون، ورتب فيه نائبا وواليا وأقام به رجالا، بعد ما أنفق في تلك المدة أربعمائة ألف درهم في العسكر الذي معه، فعتب عليه السلطان بسبب ثم سار طرنطاي إلى مصر ومعه سنفر الأشقر حتى قرب من القاهر فنزل السلطان من قلعة الجبل، وهو وابنه الملك الصالح على، وابنه الملك الأشرف خليل، وأولاد الملك الظاهر، في جميع العساكر إلى لقاء سنقر الأشقر. وعاد به إلى القلعة، وبعث إليه الخلع والثياب والحوائص الذهب والتحف والخيول، وأنعم عليه بإمرة مائة فارس وقدمه على ألف، فلازم سنقر الخدمة مع الأمراء إلى سابع عشري شهر رجب.
وخرج السلطان من قلعة الجبل سائرا إلى الشام، فأقام بتل العجول ظاهر غزة.
وفي ثاني عشري شعبان: انتهت زيادة ماء النيل إلى سبعة عشر ذراعا وثلاثة وعشرين إصبعا.
وفي هذه السنة: وصل من دمشق إلى القاهرة ناصر الدين محمد ابن الشيخ عبد الرحمن المقدسي، ليرافع قاضي القضاة بدمشق بهاء الدين بن الزكي، فوردت وفاته فعدل عنه إلى غيره.
واجتمع ناصر الدين بالأمير علم الدين سنجر الشجاعي مدبر الدولة، وقرر معه أن ملكة خاتون ابنة الأشرف موسى ابن العادل أبي بكر بن أيوب باعت أملاكها بدمشق، وأنه يثبت سفهها، وأن عمها الصالح عماد الدين إسماعيل كان قد حجر عليها وذلك حتى يسترجع الأملاك ممن اشتراها، ويرجع عليهم. بما أخذوه من ريعها، ثم يشتري الأملاك للخاص. فأعجب ذلك الشجاعي، وكتب يطلب سيف الدين أحمد السامري من دمشق، فإنه ابتاع قرية حرزما، فوصل إلى القاهرة في رمضان، وطولب بالقرية المذكورة فادعي أنه وقفها، فأخذ ابن الشيخ عبد الرحمن في عمل محضر بأن ابنة الأشرف حال بيع حرزما وغيرها كانت سفيهة من تاريخ كذا إلى تاريخ كذا، ثم إنها صلحت واستحقت رفع الحجر عنها من مدة كذا، ولفق بينة شهدت عند بعض القضاة، وأثبت ذلك. فبطل البيع من أصله، وألزم السامري بما استأداه من ريع حرزما عن عشرين سنة، وهو مبلغ مائتي ألف وعشرة آلاف درهم من فضة، واعتد له بنظير الثمن الذي دفعه، واشتري منه أيضاً سبعة عشرة سهماً من قرية الزنبقية. بمبلغ تسعين ألف درهم، وحمل بعد ذلك مبلغ مائة ألف وأربعين ألف درهم إلى بيت المال.
واستقر ابن الشيخ عبد الرحمن وكيل السلطان، فشرع في فتح أبواب البلاء على أهل الشام، وعمل عيد الفطر يوم الأحد من رؤية. وإنما ثبت عند الملك الصالح على أن السلطان صام شهر رمضان في مدينة غزة يوم الجمعة على الرؤية، فأثبت القاضي المالكي أن أول شوال يوم الأحد، فأمسك كثير من الناس عن الفطر، وأفطروا يوم الإثنين. وأما السلطان فإنه عاد من تل العجول، ووصل قلعة الجبل في ثالث عشري شوال.
وفي سادس ذي الحجة: توجه الأمير علم الدين سنجر المسروري المعروف بالخياط متولي القاهرة، والأمير عز الدين الكوراني، إلى غزو بلاد النوبة. وجرد السلطان معهما طائفة من أجناد الولايات بالوجه القبلي والقراغلامية، وكتب إلى الأمير عز الدين أيدمر السيفي السلاح درا متولي قوص أن يسير معهما بعدته ومن عنده من المماليك السلطانية المركزين بالأعمال القوصية، وأجناد مركز قوص، وعربان الإقليم: وهم أولاد أبي بكر وأولاد عمر، وأولاد شيبان وأولاد الكنز وبني هلال، وغيرهم. فسار الخياط في البر الغربي بنصف العسكر، وسار أيدمر بالنصف الثاني من البر الشرقي، وهو الجانب الذي فيه مدينة دمقلة.
فلما وصل العسكر أطراف بلاد النوبة أخلي ملك النوبة سمامون البلاد، وكان صاحب مكر ودهاء وعنده بأس. وأرسل سمامون إلى نائبة بجوائز ميكائيل وعمل الدو واسمه جريس ويعرف صاحب هذه الولاية عند النوبة بصاحب الجبل يأمره بإخلاء البلاد التي تحت يده أمام الجيش الزاحف، فكانوا يرحلون والعسكر وراءهم منزلة بمنزلة حتى وصلوا إلى ملك النوبة بدمقلة، مخرج سمامون وقاتل الأمير عز الدين أيدمر قتالاً شديداً، فانهزم ملك النوبة وقتل كثير ممن معه واستشهد عدة من المسلمين. فتبع العسكر ملك النوبة مسيرة خمسة عشر يوما من رواء دمقلة إلى أن أدركوا جريس وأسروه، وأسروا أيضاً ابن خالة الملك وكان من عظمائهم، فرتب الأمير عز الدين في مملكة النوبة ابن أخت الملك، وجعل جريس نائبا عنه، وجرد معهما عسكراً، وقرر عليهما قطعة يحملانها في كل سنة، ورجع بغنائم كثيرة ما بين رقيق وخيول وجمال وأبقار وأكسية.
وفي هذه السنة: أمطرت المدينة النبوية في ليلة الرابع من المحرم مطراً عظيما فوكفت سقوف المسجد النبوي والحجرة الشريفة، وخربت عدة دور وتلف نخل كثير من السيول ثم عقب ذلك جراد عظيم صار له دوي كالرعد، فأتلف التمر وجريد النخل وغيره من المزارع، وكانت الأعين قد أتلفها السيل، وخرب عين الأزرق حتى عادت ملحاً أجاجا، فكتب بذلك إلى السلطان، وأن الحجرة الشريفة عادتها أن تشمسي في زمن الخلفاء إذا ولي الخليفة، فلا تزال حتى يقوم خليفة آخر فيشمسوها، وأن المنير والروضة يبعث بكسوتها في كل سنة، وإنهما يحتاجان إلى كسوة.
وفيها جهز السلطان هدية سنية إلى بر بركة، ومبلغ ألفي دينار برسم عمارة جامع قرم، وأن تكتب عليه ألقاب السلطان، وجهز حجار لنقش ذلك وكتابتها بالأصباغ.
وفيها نزل تدان منكو بن طغان بن باطو بن دوشي بن جنكزخان عن مملكه التتر ببلاد الشمال. وأظهر التزهد والانقطاع إلى الصلحاء، وأشار أن يملكوا ابن أخيه تلابغا ابن منكوتمر بن طغان، فملكوه عوض تدان.

.ومات في هذه السنة من الأعيان:

قاضي القضاة برهان الدين أبو محمد الخضر بن الحسن بن علي السنجاري الشافعي، في تاسع صفر، عن سبعين سنة.
وتوفي قطب الدين أبو بكر محمد بن أحمد بن على بن محمد بن الحسن بن القسطلاني التوزري المالكي، شيخ دار الحديث الكاملية بالقاهرة، وقد أناف على السبعين.
وتوفي عز الدين أبو العز عبد العزيز بن عبد المنعم بن على بن نصر بن الصقلي الحراني المسند المعمر، وقد أناف على التسعين، بالقاهرة.
وتوفي الأديب ضياء الدين أبو الحسن على بن يوسف بن عفيف الأنصاري الغرناطي بالإسكندرية، وقد أناف على التسعين.
وتوفي أبو العباس أحمد بن عمر الأنصاري المرسي المالكي، بالإسكندرية.
وتوفي بدر الدين أبو الفضل محمد بن جمال الدين أبي عبد الله محمد بن مالك الأنصاري الجياني النحوي بدمشق، وقد أناف على الأربعين.
وتوفي الأديب شرف الدين أبو الربيع سليمان بن بنيمان بن أبي الجيش بن عبد الجبار بن سليمان الإربلي الحلبي الشاعر بدمشق، عن تسعين سنة.
وتوفي أبو الحسن فضل بن على بن نصر بن عبد الله بن الحسين بن رواحة الأنصاري الحموي ببلبيس.
وتوفي الطيب عماد الدين أبو عبد الله محمد بن عباس بن أحمد بن عبيد الربيعي الدنيسري بدمشق، عن إحدى وثمانين سنة.
وتوفي الشيخ إبراهيم بن أبي المجد الدسوقي، بناحية دسوق من الغربية، ومولده سنة أربع وأربعين وستمائة تخمينا، وقبره إحدى المزارات التي تحمل إليها النذور ويتبرك بها.

.سنة سبع وثمانين وستمائة:

في المحرم: استدعى ناصر الدين محمد ابن الشيخ شمس الدين عبد الرحمن بن نوح بن محمد بن موسى أبو المكارم، المعروف بابن المقدسي، جماعة من أهل دمشق إلى القاهرة، فحضر عز الدين حمزة بن القلانسي، ونصير الدين بن سوند، وشمس الدين محمد بن يمن، والجمال بن صصرى، وقاضي القضاة حسام الدين الحنفي، والصاحب تقي الدين توبة، وشمس الدين بن غانم، وغيره.
فألزم القلانسي بمائة وخمسين ألف درهم، وابن سويد بثلاثين ألف درهم، وابن يمن عن قيمة أملاك مائة ألف درهم وتسعين ألف درهم، وابن صصرى بثلاثمائة ألف درهم، وحسام الدين بثلاثة آلاف درهم، وابن غانم بخمسة آلاف درهم.
فاعتذروا إنهم قد حضروا على البريد، وأن أموالهم بدمشق، وسألوا أن يقرر عليهم ما يحملونه. فخافه الشجاعي إنهم إذا دخلوا دمشق تشفعوا فسومحوا بما عليهم، فطلب تجار الكارم بمصر وأمرهم أن يقرضوا الدماشقة مالا، ففعلوا ذلك.
وكتب على الدماشقة مساطير بما اقترضوه من تجار الكارم، وحملوا ما أخذوه إلى بيت المال، وأذن لهم في العود إلى دمشق، فلم يجدوا بدا من وفاء التجار.
ثم استقر ابن صصرى ناظر الدواوين بدمشق، فانتدب النجيب كاتب بكجري أحد مستوفيي الدولة لمرافعة الشجاعي، وبرز له بمرافقة القاضي تقي الدين نصر الله بن فخر الدين الجوجري، وأنهى إلى السلطان عنه أموراً وحاققه بحضرته السلطان.
ومما قاله إنه باع جملة من السلاح ما بين رماح ونحوها مما كان في الذخائر السلطانية للفرنج، فلم ينكر الشجاعي ذلك، وقال: بعته بالغبطة الوافرة والمصلحة الظاهرة، فالغبطة أنني بعتهم من الرماح والسلاح ما عتق وفسد وقل الانتفاع به، وأخذت منهم أضعاف ثمنه، والمصلحة أن تعلم الفرنج أنا نبيعهم السلاح هوانا بهم، واحتقاراً بأمرهم وعدم مبالاة بشأنهم. فمال السلطان لذلك وقبله.
فقال النحيب: يا مكثل الذي خفي عنك أعظم مما لمحت هذا الكلام أنت صورته بخاطرك لتعده جوابا، وأما الفرنج وسائر الأعداء فلا يحملون بيع السلاح لهم على ما زعمت أنت، ولكنهم يشيعون فيما بينهم، ويتناقله الأعداء إلى أمثالهم، بأن صاحب مصر والشام قد احتاج حتى باع سلاحه لأعدائه.
فلم يحتمل السلطان هذا، وغضب على الشجاعي وعزله في يوم الخميس ثاني شهر ربيع الأول، وأمر. بمصادرته على جملة كثيرة من الذهب، وألزمه ألا يبيع في ذلك شيئا من خيله ولا سلاحه ولا رخته، بل يحمل المطلوب ذهباً، وعصره بالمعاصير بين يديه حتى حمل ما طلب منه.
فبلغه الناس ما اعتمده الشجاعي من الظلم في مصادرة جماعة، وأن في سجنه كثيراً من المظلومين قد مرت عليهم سنون وهم في السجن، وباعوا موجودهم حتى أعطوه في التراسيم، وفيهم من استعلى وسال بالأوراق. فرسم السلطان للأمير بهاء الدين بغدي الدوداري بالكشف عن أمر المصادرين ومطالعته بحالهم، فخرج لذلك وسأل، فكثرت القالة. بما فيه أهل السجون من الفاقة والضرورة، ففوض أمرهم إلى الأمير طرنطاي، فكشف عنهم وأفرج عن سائرهم.
وفي ليلة الاثنين سادس عشره: وقع الحريق بخزائن السلاح والمشهد الحسيني بالقاهرة. فطفئ.
وفي يوم الثلاثاء سابع عشره: استقر في الوزارة بديار مصر الأمير بدر الدين بيدرا، عوضاً عن سنجر الشجاعي، بعدما عرضت على قاضي القضاة تقي الدين عبد الرحمن ابن بنت الأعز فامتنع، وشرط على الأمير بيدرا أنه يشاور ابن بنت الأعز، ويعتمد ما يشير به. وكان ابن بنت الأعز إذا دخل على السلطان، وهو يومئذ ناظر الخزانة، ويقول له: يا قاضي إيش حال ولدك بيدرا في وزارته،؟ فيقول: يا خوند ولد صالح دخلت بولايته الجنة، وأزلت الظلم، واستجلبت لك الدعاء، والذي كان يحصل بالعسف حصل باللطف.
وصار ابن بنت الأعز كل يوم أربعاء يدخل على بيدرا ويقرر معه ما يفعل، ثم استناب بيدرا ضياء الدين عبد الله النشائي وصار يجلس معه.
واستقر تقي الدين نصر الله في نظر الدواوين شريكا لثلاثة، وهم: تاج الدين بن السنهوري، وكمال الدين الحرابي، وفخر الدين بن الحلبي صاحب ديوان الصالح على، وخلع عليه.
وفي أول ربيع الآخر: استقر الجمال بن صصرى في نظر الدواوين بدمشق، وخلع عليه وسافر من القاهرة هو والقاضي تاج الدين بن النصيبني كاتب الدرج بحلب، بعدما أفرج عنه.
وفيه أيضاً استقر ركن الدين بيبرس أمير جاندار بدمشق، وسافر هو وشمس الدين، بن غانم، وقد سومح. بما كان قد قرر عليه.
واستقر تقي الدين توبة في نظر الدواوين بدمشق أيضاً. وتوجه ناصر الدين محمد بن الشيخ شمس الدين عبد الرحمن المقدسي إلى دمشق، متحدثا في وكالة السلطان ونظر سائر الأوقاف الشامية، ونظر الجامع الأموي والمارستان النوري وبقية المارستانات، ونظر الأشراف والأيتام والأسري والصدقات والخوانك والربط والأسود وغير ذلك.
وسافر معه شمسي الدين القشتمري، وصارم الدين الأيدمري ليكونا مشدين.
فقدم دمشق وتتبع عوارت الناس، وتصدي لإثبات سفه من باع شيئاً من الأملاك كما فعل في أمر ابنة الأشرف، فلم يوافقه القضاة بدمشق ولا النائب، وشرع في مناكدة الناس.
وفي تاسعه: أفرج عن الأمير علم الدين سنجر الشجاعي، بعد ما أخذ منه خمسة وستون ألف دينار عينا، سوي ما أخذ السلطان وغيره من موجوده.
وعزل بيدرا عن الوزارة في تاسع عشره، واستدعى قاضي القضاة تقي الدين عبد الرحمن ابن بنت الأعز، وخلعت عليه خلع الوزارة ونزل. فتعفف عن التصرف والكتابة في أشياء، وباشر الوزارة مع قضاء القضاة ونظر الخزانة، وصار يجلس في اليوم الواحد تارة في دست الوزارة وتارة في مجلس الحكم وتارة في ديوان الحكم، ولم يوف منصب الوزاره حقه لتمسكه بظاهر الأمور الشرعية. ثم ثقلت عليه الوزارة فتوفر منها، وأعيد الأمير بدر الدين بيدرا إليها في وكان حينئذ أمير مجلس، ثم نقل إلى الأستادارية مع الوزارة، واستقر كذلك إلى آخر الدولة المنصورية.
وفيه كتب إلى الأكابر ببلاد السند والهند والصين واليمن صورة أمان لمن اختار الحضور إلى ديار مصر وبلاد الشام، من إنشاء فتح الدين بن عبد الظاهر، وسير مع التجار.
وفي أول جمادى الأولى: وردت كتب الأمير علم الدين سنجر المسروري الخياط من دمقلة، بفتحها والاستيلاء عليها وأسر ملوكها، وأخذ تيجانهم ونسائهم. وكان الكتاب على يد ركن الدين منكورس الفاقاني، فخلع عليه وكتب معه الجواب بإقامة الأمير عز الدين أيدمر وإلى قوص بدمقلة، ومعه من رسم لهم من المماليك والجند والرجال، وأن يحضر الأمير علم الدين ببقية العسكر. وجهز من قلعة الجبل سعد ابن أخت داود، ليكون مع الأمير أيدمر لخبرته بالبلاد وأهلها، فسار وقد أعطي سيفا محلى، فأقام بقوص.
وفيه استقر زين الدين، بن رشيق في قضاء الإسكندرية، عوضاً عن زين الدين بن المنير.
وفي سابع عشره وهو خامس عشر بؤونة من أشهر القبط: أخذ قاع النيل بمقياس الروضة، فكان أربعة أذرع وستة وعشرين أصبعا. فيه فوضت حسبة دمشق لشرف الدين أحمد بن عيسى السيرحي.
وفي تاسع رجب: وصل الأمير علم الدين سنجر المسروري من بلاد النوبة، ببقية العسكر المخلف بدمقلة مع عز الدين أيدمر، ووصل معه ملوك النوبة ونساؤهم وتيجانهم وعدة أسري كثيرة، فكان يوما مشهودا.
وفرق السلطان الأسري على الأمراء وغيرهم، فتهاداهم الناس، وبيعوا بالثمن اليسير لكثرتهم.
وخلع على الأمير علم الدين وعمل مهمندارا عوضاً عن الأمير شرف الدين الجاكي، بحكم استقراره في ولاية الإسكندرية عوضاً عن حسام الدين بن شمس الدين ابن باخل، بحكم عزله والقبض عليه ومصادرته.
وأما النوبة فإنه عامون ملكها رجع بعد خروج العسكر إلى دمقلة، وحارب من بها وهزمهم، وفر منه الملك وجرتس والعسكر المجرد، وساروا إلى القاهرة، فغضب السلطان وأمر بتجهيز العسكر لغزو النوبة.
وفي يوم الأحد خامس عشره: خرج السلطان مبرزا بظاهر القاهرة يريد الشام، فركب معه ابنه الملك الصالح وحضر السماط، ثم عاد الصالح إلى قلعة الجبل آخر النهار، فتحرك عليه فؤاده في الليل وكثر إسهاله الدموي وأفرط، فعاد السلطان لعيادته في يوم الأربعاء ثامن عشره ولم يفد فيه العلاج، فعاد السلطان إلى الدهليز من يومه، فأتاه الخبر بشدة مرض الملك الصالح، فعاد إلى القلعة.
وصعدت الخزائن في يوم الثلاثاء أول شعبان، وطلعت السناجق والطلب في يوم الأربعاء ثانيه. فمات الصالح بكرة يوم الجمعة رابعه من دوسنطاريا كبدية، وتحدثت طائفة بأن أخاه الملك الأشرف خليلا سمه.
فحضر الناس للصلاة عليه، وصلي عليه بالقلعة قاضي القضاة تقي الدين ابن بنت الأعز إماماً، والسلطان خلفه في بقيه الأمراء والملك الأشرف خليل. ثم حملت جنازته، وصلي عليه ثانيا قاضي القضاة معز الدين نعمان بن الحسن بن يوسف الخطبي الحنفي خارج القلعة، ودفن بتربة أمه قريباً من المشهد النفيسي.
وترك الصالح ابنا يقال له الأمير مظفر الدين موسى، من زوجته منكبك ابنة نوكاي. واشتد حزن السلطان عليه، وجلس للعزاء في يوم الأحد ثالث يوم وفاته بالإيوان الكبير. وأنشئت كتب العزاء إلى النواب بالمماليك، ورسم فيها ألا يقطع أحد شعرا ولا يلبس ثوب حداد ولا يغير زيه.
وفي مدة مرض الملك الصالح جاد السلطان بالمال وأكثر من الصدقات، واستدعى الفقراء والصالحين ليدعوا له، وبعث إلى الشيخ محمد المرجاني يدعوه فأبي أن يجتمع به، فحل إليه مع الطواشي مرشد خمسة آلاف درهم ليعمل بها وقتا للفقراء، حتى يطلبوا ولد السلطان من الله تعالي، فقال له: سلم على السلطان، وقل له متى رأيت فقيراً يطلب أحدا من الله؟ فإن فرغ أجله فالله ما ينفعه أحد، وإن كانت فيه بقية فهو يعيش. ورد المال فلم يقبل منه شيئا.
وطلع الشيخ عمر خليفة الشيخ أبي السعود إلى السلطان، وقد دعاه ليدعو للصالح، فقال له: أنت رجل بخيل ما يهون عليك شيء، ولو خرجت للفقراء عن شيء له صورة لعملوا وقتاً، وتوسلوا إلى الله أن يهبهم ولدك لكان يتعافى. فأعطاه السلطان خمسة آلاف درهم عمل بها سماعاً، ثم عاد إلى السلطان وقال: طيب خاطرك، الفقراء كلهم سألوا الله ولدك، وقد وهبه لهم. فلم يكن غير قليل حتى مات الصالح.
فرأي السلطان في صبيحته الشيخ عمر هذا، فقال له: يا شيخ عمر أنت قلت إن الفقراء طلبوا ولدي من الله ووهبه لهم، فقال على الفور: نعم الفقراء طلبوه، ووهبهم إياه ألا يدخل جهنم، ويدخله الجنة، فسكت السلطان.
وفي حادي عشر شعبان: فوض السلطان ولاية العهد لابنه الملك الأشرف صلاح الدين خليل، فركب بشعار السلطنة من قلعة الجبل إلى باب النصر، وعبر إلى القاهرة وخرج من باب زويلة، وصعد إلى القلعة وسائر الأمراء وغيرهم في خدمته، ودقت البشائر. وحلف القضاة له جميع العسكر، وخلع على سائر أهل الدولة، وخطب له بولاية العهد واستقر على قاعدة أخيه الصالح على، وكتب بذلك إلى سائر البلاد، وكتب له تقليد فتوقف السلطان من الكتابة عليه.
وفي ثاني شهر رمضان: استقر في حسبة دمشق شمس الدين محمد بن السلموس، عوضاً عن ابن السيرجي.
وفي رابع شوال: استقر بدر الدين محمد بن جماعة خطيباً بالقدس، عوضاً عن الشيخ قطب الدين عبد المنعم بن يحيي بن إبراهيم القرشي القدسي، بحكم وفاته، وكانت ذلك بعناية الأمير علم الدين سنجر الدواداري، لصحبة بينهما.
واستقر في تدريس القيمرية بدمشق عوضاً عن ابن جماعة علاء الدين أحمد بن تاج الدين عبد الوهاب ابن بنت الأعز في سابع عشره.
وفي ذي الحجة: استقر علم الدين سنجر المسروري في ولاية البهنسا، وولي معه عز الدين مقدام نظرها، واستقر قاضي القضاة جمال الدين الزواوي في قضاء الملكية بدمشق.
وفي هذه السنة: ورد كتاب نائب الشام بأن الفرنج بطرابلس نقضوا الهدنة، وأخذوا جماعة من التجار وغيرهم، وصار بأيديهم عدة أسري. وكانوا لما ملك السلطان قلعة المرقب قد بعثوا إليه هدية، وصالحوه على ألا يتركوا عندهم أسيراً، ولا يتعرضوا لتاجر ولا يقطعوا الطريق على مسافر، فتجهز المسلطان لأخذ طرابلس.
وفيها قدم الشريف جماز بن شيحة من المدينة النبوية وملك مكة، فجاء الشريف أبو نمي في آخر السنة وملكها منه.

.ومات في هذه السنة من الأعيان:

الملك الصالح على ابن السلطان الملك المنصور قلاوون، وقد أناف على الثلاثين، في رابع شعبان.
وتوفي تقي الدين أبو إسحاق إبراهيم بن معضاد بن شداد بن ماجد الجعبري الشافعي، عن سبع وثمانين سنة بالقاهرة.
وتوفي المجد أبو المعالي محمد بن خالد بن حمدون الهذباني الحموي الزاهد المحدث، عن ثمانين سنة بحلب، قدم القاهرة.
وتوفي خطيب القدس قطب الدين أبو الذكاء عبد المنعم بن يحيي بن إبراهيم بن على بن جعفر القرشي الزهري، وقد أناف على الثمانين.
وتوفي البرهان أبو عبد الله محمد بن محمد النسفي الحنفي، ببغداد عن نحو تسعين سنة وتوفي أمين الدين أبو اليمن عبد الصمد بن عبد الوهاب بن الحسن بن محمد بن الحسن بن هبة الله بن عساكر الدمشقي الشافعي المحدث، عن ثلاث وسبعين سنة بالمدينة النبوية.
وتوفي الأديب الشاعر ناصر الدين أبو محمد الحسن بن شاور بن طرخان بن النقيب الكناني وقد أناف على سبعين سنة، بالقاهرة.
وتوفي الحكم علاء الدين أبو الحسن على بن أبي الحزم ابن النفيس القرشي الدمشقي وليس الأطباء، عن نحو ثمانين سنة بالقاهرة.