فصل: سنة تسع وسبعمائة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: السلوك لمعرفة دول الملوك (نسخة منقحة)



.سنة تسع وسبعمائة:

فيها قدم علاء الدين التليلي وأيدغدي من بلاد المغرب، ومعهما الشيخ أبو زكريا الليحاني متولي طرابلس الغرب وأبو إدريس عبد الحق المريني يريدان الحج، فكانت غيبة النليلي ورفيقه ثلاث سنين وثلاثة اًشهر فنزل اللحياني بمناظر الكبش ورتب له ما يليق به.
وفيها بني الأمير برغلي على ابنة السلطان، وعمل مهم عظيم خلع فيه على سائر الأمراء. وعزل الأمير بيبرس العلائي من نيابة عزة، واستقر عوضه بلبان البدري. وكتب إلى دمشق بإبطال المقرر على الخمور بساحل الشام، وإراقتها وتعويض الجند بدلها. وقدم شمس الدين محمد بن عدلان من اليمن، وقد مات رفيقه سنقر السعدي.
وقدم الخبر باًن الملك الناصر كثير الركوب للصيد ببلاد الكرك في مماليكه، فتخيل الملك المظفر من ذلك وخشي عاقبته. واتفق أنه قدم الخبر أيضاً بحركة خربندا للسير إلى بلاد الشام، فكتب إلى الملك الناصر بحركة خربندا، وقد دعت الحاجة إلى المال فيرسل ما أخذه معه من مال مصر، وما استولى عليه من حاصل الكرك، ومن عنده من المماليك ولا يدع عنده منهم سوى عشرة برسم الخدمة، ويرسل الخيول التي قادها من مصر، ومتى لم يفعل خرجت إليه العساكر حتى تخرب الكرك عليه. ورأي الناصر أن المغالطة أولى، وكتب الجواب: المملوك محمد بن قلاوون يقبل الأرض، وينهي أنه ما قصد الإقامة إلا طلباً للسلامة، وإن مولانا السلطان هو الذي رباني، وما أعرف لي والداً غيره، وكل ما أنا فيه فمنه وعلى يديه، والقدر الذي أخذته من الكرك لأجل ما لا بد لي فيه من الكلف والنفقة. وقد امتثلت المرسوم الشريف وأرسلت نصف المبلغ الذي تأخر عندي امتثالا لأمر مولانا السلطان، وأما الخيل فقد مات بعضها، ولم يبق إلا ما أكبه؛ والمماليك فلم أترك عندي إلا من اختار أن يقيم معي، ممن هو مقطوع العلائق من الأهل والولد، فكيف يحل لي أن أخرجهم. وما بقي إلا إحسان مولانا السلطان. وكتب الناصر بأعلى الكتاب: الملكي المظفري، وخلع على مغلطاي ودفع إليه الكتاب، وحمله معه مائتي ألف درهم، وأعاده وقد حمله مشافهة بمعني جوابه، فقنع السلطان المظفر بيبرس بذلك.
وفيها قدم السلطان البرجية أمر منهم جماعة كبيرة، وأراد أن يؤمر جماعة الأمير سلار فلم يوافق على ذلك، وحلف بأيمان مغلظة أنه لا يمكن أحداً منهم أن يتآمر.
وفيها تفاوض كاتب السر شرف الدين عبد الوهاب بن فضل اللّه والتاج بن سعيد الدولة: وسبب ذلك أن التاج تزايد تحكمه في الدولة، بحيث اٍنه لم يكتب لأحد توقيع برزقه أو براتب أو استخدم في وظيفة حتى يكتب عليه، ثم شارك كاتب السر في معرفة أجوبة النواب وغيرهم، فامتنع ابن فضل الله من ذلك، ورد عليه الجواب، وفيه ولا كرامة أن يكون مطلعاً على أسرار المملكة. ثم حدث ابن فضل اللّه الأمير سلار النائب في ذلك، وقبح عنده أن يطلع رجل قبطي على أسرار المملكة وأخبار العدو وأنه لا يوافق على ذلك بوجه. فشق على سلار ما قصد التاج، وقام في مساعدة ابن فضل اللّه، وما زال بالسلطان إلى أن منع التاج من الإطلاع على شيء من أمر ديوان الإنشاء، فاشتد غضبه وباين ابن فضل اللّه.
وقد قام البريد بإبطال سائر الخمارات، فسر السلطان بهذا، وعزم على أن يفعل مثل ذلك بديار مصر. وندب لذلك الأمير سيف الدين الشيخي أحد البرجية، وتقدم إليه ألا يراعي أحداً من خشداشيته، ولا يدع بيتا بمصر والقاهرة من بيوت أعلى الناس وأدناهم يبلغه أن فيه خمراً إلا ويكبسه ويكسر ما فيه. وكان الشيخي فيه شدة وقوة نفس، فطلب والي القاهرة ومقدميها وأصحاب الأرباع، وسألهم عن مواضع الخمر فلم يجيبوه، أخفوا سائر المواضع، وضرب جماعة منهم بالمقارع حتى دلوه على عصر العنب أو من عنده خمر، وكتب أسمائهم، فكان فيهم عدة من الأمراء والكتاب والأجناد والتجار، وأخذ في كبس البيوت: فكان الرجل لا يشعر إلا به في مماليكه، وقد هجم عليه ومعه النجارون والبناءون لتفقد مطامير الخمر وإخراجها، فإذا ظفر بها كسر سائر ما فيها. فنزل بالناس من ذلك بلاء شديد، وافتضح كثير من المستورِين، ونهب من بيوتهم أشياء، لكثرة ما كان يجتمع من العامة، ولفرار صاحب البيت خوفاً على نفسه، وأخذ الأجناد وغيرهم من ذلك ما أغناهم. وأخذ الناس يدل بعضهم على بعض، وتشفي جماعة من أعاديهم بنلك. وكبست أيضاً دور اليهود والنصارى، وأريق ما فيها من الخمور وتعدي الأمر دون الأمراء، فكبست دور من عرف بشرب الخمر منهم، ومنها دار الأمير علاء الدين مغلطاي المسعودي أحد أمراء الألوف من البرجية. فأزال اللّه بذلك فساداً كبيراً، ووقع أيضاً بسببه من نهب الأموال فساد كبيرة فلما اشتد الأمر تجمع الأمراء وحدثوا السلطان فيه فكف عنه.
وفي ربيع الأول: خسف جميع جرم القمر. وفيه كثر الإرجاف بحركة التتر، فبرز الدهليز السلطاني إلى الريدانية.
وفيها استقر سعد الدين مسعود بن أحمد بن مسعود الحارثي في قضاء الحنابلة بالقاهرة، بعد موت القاضي شرف الدين عبد الغني بن عبد الله الحراني، في ثالث ربيع الآخر.
وفيها فشا بالناس أمراض حادة، وعم الوباء، وطلبت الأدوية والأطباء، وعز سائر ما يحتاج إليه المرضى، حتى أبيع السكر وأبيع الفروج بخمسة دراهم، والرطل البطيخ بدرهم، وكان الرجل الواحد من العطارين يبيع في كل يوم بثلاثمائة درهم إلى مائتي درهم.
وفيها توقفت زيادة النيل إلى أن دخل شهر مسرى، وارتفع سعر القمح حتى أبيع الأردب بخمسين درهماً، والأردب الشعير والفول بعشرين درهما. ومنع الأمراء البيع من شونهم إلا الأمير عز الدين أيدمر الخطيري الأستادار، فإنه تقدم إلى مباشريه ألا يتركوا عنده مباشرة سنة، وباع ما عداه قليلاً قليلاً. وخاف الناس من وقوع نظير غلاء كتبغا، وخرج بهم الخطيب نور الدين علي بن محمد بن الحسن بن على القسطلاني فاستسقى، وكان يوماً مشهوداً، فنودي من الغد بثلاثة أصابع، ثم توقف. وانتهت زيادة النيل في سابع عشرى توت إلى خمسة عشر ذراعاً وسبعة عشر إصبعاً. واتفق أنه نقص في أيام النسئ، وجاء النوروز ولم يوف النيل ستة عشر ذراعاً، وفتح الخليج يوم الجمعة ثامن توت، وهو ثامن عشرى ربيع الأول. وذكر بعضهم أنه لم يوف إلى تاسع عشر بابه، وهو يوم الخميس حادي عشر جمادى الأولى، وذلك بعد اليأس منه. وانحط مع ذلك السعر بعد الوفاء، وغنت عامة مصر: سلطاننا ركين، ونائبنا دقين، يجينا الماء منين. جيبوا لنا الأعرج، يجي الما ويدحرج.
وفيها قدم البريد من حلب بأن الأمير سرتاي استنابه الملك خربندا بديار بكر، وأنه حارب طقطاي، فقتل طقطاي، وعزم على المسير إلى حلب. فخرج الأمير جمال الدين أقوش قتال السبع والأمير حسام الدين لاجين الجاشنكير وعدة الطبلخاناه والعشراوات في ألفي فارس، وساروا في جماد الأولى إلى حلب. وكتب الأمير سلار للأمير جمال الدين أقوش بأربعة آلاف غرارة من القمح وثمانين ألف درهم من ماله بدمشق، معونة له ولمن معه.
وفيها ابتدأ اضطراب دولة السلطان الملك المظفر: وذلك أنه كثر توهمه من الملك الناصر، وخيله الأمراء وحذروا السلطان منه. وحسنوا له القبض عليه، فجبن بيبرس عن ذلك، ثم مازالوا به حتى بعث الأمير مغلطاي إلى الملك الناصر، ليأخذ منه الخيل والمماليك التي عنده. وتغلظ مغلطاي في القول، فغضب الملك الناصر من ذلك غضباً شديدًا، وقال له: أنا خليت ملك مصر والشام لبيبرس، وما يكفيه حتى ضاقت عينه على فرس عندي أو مملوك لي، ويكرر الطلب؟ ارجع إليه، وقل له واللّه لئن لم يتركني وإلا دخلت بلاد التتر، وأعلمتهم أني قد تركت ملك أبي وأخي وملكي لمملوكي، وهو يتبعني ويطلب مني ما أخفته. فجافاه مغلطاي وخشن في القول، بحيث اشتد غضب الملك الناصر وصاح به: ويلك! وصلنا إلى هنا؟ وأمر أن يجر ويرمى من سور القلعة. فثار به المماليك يسبونه ويلعنونه، وأخرجوه إلى السور، فلم يزل الأمير أرغون الدوادار والأمير طغاي إلى أن عفا عنه الناصر وحبسه، ثم أخرجه ماشياً إلى الغور، وامتعض مغلطاي عند ذلك مما حل به.
وكتب الناصر ملطفات إلى نواب الشام بحلب وحماة وطرابلس وصفد، وإلى أمراء مصر ممن يثق به،. مما كان فيه من ضيق اليد وقلة الحرمة، وأنه لأجل هذا ترك ملك مصر، وقنع بالإقامة في الكرك، وأن السلطان الملك المظفر في كل قليل يرسل يطالبه بالمال ثم بالخيل ثم بالمماليك، وقال لهم: أنتم مماليك أبي وربيِتموني. فإما أن تردوه عني وإلا أسير إلى بلاد التتار وتلطف في مخاطبتهم غاية التلطف، وسير إليهم العربان، بها فأوصلوها إلى أربابها. وكتب الأمير قبجق المنصوري نائب حماة الجواب: باًني مع الأمير قرا سنفر نائب حلب وكتب الأمير قرا سنقر الجواب: باًني مملوك السلطان في كل ما يرسم به وسأل أن يتوجه إليه أحد المماليك السلطانية، فبعث الناصر مملوكه أيتمش المحمدي، وكتب معه ملطفًا إلى الأمير سيف الدين قطلوبك المنصوري، والأمير بكتمر الحسامي الحاجب، بدمشق. وأما بكتمر الجوكندار نائب صفد فإنه طرد القاصد ولم يجتمع له.
وقدم أيتمش دمشق في خفية، ونزل عند بعض مماليك الأمير قطلوبك، ودفع إليه الملطف. فلما أوصله إلى قطلوبك أنكر عليه، وأمره بالاحتفاظ على أيتمش ليوصله إلى الأفرم نائب الشام، ويتقرب إليه بذلك. فترك أيتمش راحلته التي قدم عليها عندما بلغه ذلك، ومضى إلى دار الأمير سيف الدين بهادر آص في الليل واستأذن عليه فأذن له، فعرفه ما كان من الأمير قطلوبك، فطمن خاطره وأنزله عنده وقام بحقه، وأركبه من الغد معه إلى الموكب. وقد سبق قطلوبك وعرف النائب قدوم مملوك الملك الناصر إليه وهربه ليلاً، فقلق الأفرم من ذلك، وألزم والي المدينة بتحصيل المملوك، فقال بهادر آص: هذا المملوك عندي، وأشار إليه، فنزل عن الفرس وسلم على الأفرم وسار معه في الموكب إلى دار السعادة، وقال بحضرة الأمراء: السلطان الملك الناصر يسلم عليكم، ويقول ما منكم أحد إلا وأكل خبز الشهيد والده وخبزه، وما منكم إلا من إنعامه عليه. وأنتم تربية الشهيد والده، وأنه قاصد الدخول إلى دمشق والإقامة فيها. فإن كان فيكم من يقاتله ويمنعه العبور فعرفعوه. فلم يتم هذا القول حتى صاح عز الدين أيدمر الكوكندي الزراق أحد أمراء دمشق وابن أستاذاه!، وبكى. فغضب الأفرم نائب الشام عليه وأخرجه، ثم قال لأيتمش: قل له- يعني الملك الناصر- كيف تجيء إلى الشام، أو إلى غير الشام، كأن الشام ومصر الآن تحت حكمك؟ أنا لما أرسل إلينا السلطان الملك أن أحلف له ما حلفت حتى سيرت أقول له: كيف يكون ذلك وابن أستاذنا باق؟ فأرسل يقول: أنا ما تقدمت عليه حتى خلع ابن أستاذنا نفسه، وكتب خطه وأشهد عليه بنزول عن الملك، فعند ذلك حلفت له. ثم في هذا الوقت تقول من يردني عن الشام؟ وأمر به فسلم إلى أستاداره الطنقش. فلما كان الليل استدعاه، ودفع إليه خمسين ديناراً وقال له: قل له لا يذكر الخروج من الكرك، وأنا أكتب إلى الملك المظفر وأرجعه عن طلب الخيل والمماليك، وخلى عنه ليعود إلى الكرك. فقدم أيتمش على الملك الناصر وحدثه بما جرى له فأعاده على البرية ومعه أر كتمر وعثمان الهجان، ليجتمع بقرا سنقر نائب حلب، ويواعده على المسير إلى دمشق. وسار الملك الناصر من الكرك إلى بركة زيزاء.
وأما الملك المظفر فإنه لما بلغه أن الملك الناصر حبس الأمير علاء الدين مغلطاي أيتعلى المقدم ذكره قلق، واستدعى الأمير سلار النائب، وعرفه ذلك. وكانت البرجية قد أغروا المظفر بسلار، واتهموه بأنه قد باطن الملك الناصر، وأشاروا عليه بقبضه وخوفوه منه. فبلغ ذلك سلار، فخاف من البرجية لكثرتهم وقوتهم، وأخذ في مداراتهم. وكان أشدهم عليه الأمير سيف الدين بيكور، فبعث إليه- وكان قد شكا له من انكسار خراجه- ستة ألاف أردب غلة وألف دينار مصرية، فكف عنه، وهادى خواص السلطان، وأنعم عليهم اٍنعامات كثيرة طلباً للسلامة منهم. ثم حضر سلار عند المظفر وتكلما فيما هم فيه، فاقتضي الرأي تجهيز قاصد للملك الناصر بتهديده ليفرج عن أيتغلي. وبينما هم في ذلك قدم البريد من عند نائب دمشق باًن الملك الناصر سار من الكرك إلى البرج الأبيض، ولم يعرف مقصده، فكتب إليه بالكشف عن مقصده، وحفظ الطرقات عليه.
هذا وقد اشتهر بالقاهرة حركة الملك الناصر وخروجه من الكرك، فتحرك الأمير سيف الدين نوغاي القبجاقي- وكان شجاعاً مقداماً حاد المزاج قوي النفس، ومن ألزام الأمير سلار النائب- وواعده جماعة من المماليك السلطانية أن يهجم بهم على السلطان الملك المظفر بيبرس إذا ركب ويقتله. فلما نزل إلى بركة الجب استجمع نوغاي بمن وافقه يريدون الفتك بالسلطان في عوده من البركة، وتقرب نوغاي من السلطان قليلاً قليلاً، وفد تغير وجهه وظهر فيه أمارات الشر، ففطن به خواص السلطان وتحلقوا حوله، فلم يجد نوغاي سبيلاً إلى ما عزم عليه.
وعاد السلطان إلى القلعة، فعرفه ألزامه ما فهموه عن نوغاي، وحسنوا له القبض عليه وتقريره على من معه. فاستدعى السلطان الأمير سلار وأعلمه الخبر- وكان قد باطن نوغاي أيضاً- فحذره من ذلك، وخوفه عاقبة الأخذ بالظن، وأن فيه فساد قلوب الجميع، وليس إلا الإغضاء فقط، وقام عنه، فأخذه البرجية في الإغراء بسلار، وأنه ولابد قد باطن نوغاي، ومتى لم يقبض عليه فسد الحال. فبلغ نوغاي ما هم فيه من الحديث في القبض عليه، فواعد أصحابه على اللحاق بالملك الناصر، وخرج هو والأمير علاء الدين مغلطاي القازاني، والأمير سيف الدين طقطاي الساقي، ونحو ستين مملوكاً، وقت المغرب عند باب القلعة من ليلة الخميس خامس عشرى جمادى الآخرة.
وعرف السلطان بذلك من الإسطبل، ففتح باب القلعة، وطلب الأمير سلار وشاوره، فأشار بتجهيز الأمراء في طلبهم، وعين أخاه علاء الدين سمك وقطز بن الفارقاني في عدة من حاشيته وخمسمائة مملوك، وساروا من وقتهم غير مجدين في طلبهم، وصار بين الفريقين مرحلة واحدة، إذا رحل هؤلاء نزل هؤلاء. فلما وصل نوغاي إلى قطيا وجد الحمل قد تجهز إلى القاهرة، وهو مبلغ عشرين ألف درهم، فأخذه وأخذ خيل الوالي وخيول العرب، وسار إلى غزة ومضى إلى الكرك، فنزل الأمراء بعده غزة، وعادوا إلى القاهرة. وقد اشتد خوف الملك المظفر وكثر خياله، فقبض على جماعة تزيد عدتهم على ثلاثمائة مملوك، وأخرج أخبارهم وأخباز المتوجهين إلى الكرك لمماليكه.
وبلغ الملك الناصر قدوم نوغاي ومن معه وهو في الصيد، فأمر بإحضارهم فأتوه، وقبلوا له الأرض وهنأوه بالعافية، فسر بهم. وساروا معه إلى زيزاء، ومضى إلى زرع يريد دمشق، ثم رجع إلى الكرك. فشق على الملك المظفر ذلك، ودار به البرجية وشوشوا فكره بكثرة إيهامهم وتخيلهم له بمخاطرة العسكر عليه، وما زالوا به حتى أخرج الأمير بينجار، والأمير صارم الدين الجرمكي، في عدة من الأمراء مجردين، وأخرج الأمير أقوش الرومي بجماعته إلى طريق السويس، ليمنع من عساه يتوجه من الأمراء والمماليك إلى الملك الناصر، وقبض على أحد عشر مملوكاً، وقصد أن يقبض على آخرين فاستوحش الأمير سيف الدين أيطرا وفر، فأدركه الأمير جركتمر بن بهادر راًس نوبة، وأحضره فحبس، وعند إحضاره طلع الأمير سيف الدين الدكز السلاح دار بملطف من الملك الناصر استجلا به إليه، فكثر قلق الملك المظفر، وزاد توهمه ونفرت مع ذلك قلوب جماعة من الأمراء والمماليك، وخشوا على أنفسهم، واجتمع كثير من المنصورية والأشرفية والأويرانية، وتواعدوا على الحرب، وخرج منهم مائة وعشرون فارساً بالسلاح، وساروا إلى الملك الناصر. فخرج إليهم الأمير بينجار والصارم الجرمكي، فقاتلهم المماليك، وجرح الجرمكي بسيف في فخذه سقط إلى الأرض، ومضى المماليك على حمية إلى الكرك. فعظم الخطب على السلطان، واجتمع إليه البرجية، وقالوا له: هذا الفساد كله من الأمير سلار، ومتى لم تقبض عليه خرج الأمر من يدك، فلم يوافق على ذلك، واتفق الرأي على تجريد العساكر.
وفي يوم السبت ثاني رجب: مات التاج بن سعيد الدولة، واستقر ابن أخته كريم الدين أكرم الكبير في وظائفه، وتكبر على الأمراء واستقرت فيه الأحوال، حتى كتب على ما يعرف وما لا يعرف.
وأما أيتمش المحمدي فإنه سار إلىحماة، واجتمع بالأمير قبجق نائبها، فأحال قبجق الأمر على الأمير قرا سنقر نائب حلب، وأنه معه حيث كان. فسار أيتمش إلى حلب، واجتمع بقرا سنقر، فأكرمه ووافق على قيام الملك الناصر، ودخل في طاعته، ووعده على السير إلى دمشق أول شعبان. وكتب قرا سنقر إلى الأفرم نائب يحثه دمشق على طاعة الملك الناصر ويرغبه، وأشار بمكاتبة الملك الناصر للأمير بكتمر الجوكندار نائب صفد، والأمير كراي المنصوري بالقدس، ونائب طرابلس، وأعاد أيتمش ومن معه إلى الملك الناصر، فسر بذلك. وكان نوغاي منذ قدم لا يبرح يحرضه على المسير إلى دمشق، فلما قدم عليه خبر قرا سنقر اشتد باًسه وقوي عزمه على الحركة، إلا أنه ثقل عليه أمر نوغاي من مخاشنته له في المخاطبة، وجفاه القول بحيث إنه قال له: ليس لي بك حاجة ارجع إلى حيث شئت فترك نوغاي الخدمة وانقطع إلى أن قدم أيتمش من حلب، فدخل بينه وبين السلطان حتى أزال ما بينهما، وأسر له السلطان ذلك حتى قتله بعد عوده إلى الملك كما سيأتي ذكره إن شاء اللّه تعالى.
ثم إن الملك الناصر بعث أيتمش أيضاً إلى صفد، فتلطف حتى اجتمع بناصر الدين محمد بن بكتمر الجوكندار نائب صفد، وجمع بينه وبين أبيه ليلاً في مقابر صفد فعتبه أيتمش على ما كان من رده قاصد الملك الناصر، فاعتذر بالخوف من بيبرس وسلار، وأنه لولا ثقته به لما اجتمع به قط. فلما عرفه أيتمش طاعة الأمير قرا سنقر والأمير قبجق أجاب بالسمع والطاعة، وأنه على ميعاد النواب إلى المضي إلى الشام، فأعاد أيتمش جوابه على الملك الناصر فسر به.
وسار من القاهرة عشرة من الأمراء المقدمين في يوم السبت تاسع رجب منهم: الأمير سيف الدين برلغي الأشرفي. والأمير جمال الدين أقوش الأشرفي نائب الكرك، والأمير عز الدين أيبك البغدادي، والأمير سيف الدين طغريل الإيغاني، والأمير سيف الدين تناكر، ومعهم نحو ثلاثين أميراً من الطبلخاناه، بعدما أنفق فيهم السلطان الملك المظفر، فأخذ برلغي عشرة آلاف دينار، وكل من المقدمين ألفي دينار، وكل من الطبلخاناه ألف دينار، وكل من مقدمي الحلقة ألف درهم، وكل من أجناد الكرك خمسمائة درهم، ونزلوا تجاه مسجد تبر خارج القاهرة، ثم عادوا بعد أربعة أيام إلى القاهرة، لورود الخبر بعود الملك الناصر إلى الكرك. ثم ورد الخبر ثانياً بمسيره، فتجهز العسكر في أربعة آلاف فارس، وخرج برلغي ونائب الكرك ومن تقدم ذكره، وساروا في العشرين من شعبان إلى العباسة. فورد البريد من عند الأفرم نائب دمشق بقدوم أيتمش المحمدي عليه من قبل الملك الناصر، وبما شافهه به من الجواب، وأنه بعث الأمير علاء الدين أيدغدي الحسامي والأمير سيف الدين جوبان لكشف الأخبار، وأشار بتأخير العسكر، فكتب بإقامتهم على العباسة. فقدم أيدغدي شقير وجوبان على الملك الناصر، وعرفاه أنهما قدما لكشف حاله، وحلفا له على القيام بنصرته، ورجعا إلى دمشق، فعرفا الأفرم أن الناصر مقيم ليتصيد، فخاف أن يطرق دمشق بغته، فجرد إليه ثمانية أمراء بمضافيهم: منهم الأمير سيف الدين قطلوبك المنصوري، والأمير سيف الدين الحاج بهادر الحلبي الحاجب، والأمير سيف الدين جوبان، والأمير كجكن، والأمير علم الدين الجاولي، ليقيموا على الطرقات لحفظها على من يخرج إلى الملك الناصر. وكتب الأفرم إلى الملك المظفر يحثه على إخراج العسكر المصري، ليجتمع مع عسكر دمشق على قتال الملك الناصر، وأنه قد جدد اليمين له، وحلف أمراء دمشق أنهم يخونون الملك المظفر ولا ينصرون الملك الناصر، وأن نائب حلب وغيره من النواب قد دخلوا في طاعة الملك الناصر. فلما قرأ الملك المظفر كتاب نائب الشام اضطرب وزاد قلقه.
فورد كتاب الأمير برلغي من العباسة بأن مماليك الأمير جمال الدين أقوش الرومي تجمعوا عليه وقتلوه، وساروا ومعهم خزائنه إلى الملك الناصر، وأنهم لحق بهم بعض أمراء الطبلخاناه في جماعة من مماليك الأمراء، وقد فسد الحال، والرأي أن يخرج السلطان بنفسه. فأخرج المظفر تجريدة أخرى فيها عدة من الأمراء، وهم بشاش وبكتوت الفتاح وكثير من البرجية، وبعث إلى برلغي ألفي دينار، ووعده بأنه عازم على التوجه إليه بنفسه. فلما ورد كتاب الملك المظفر بذلك، وبقدوم التجريدة إليه عزم على الرحيل من الغد إلى جهة الكرك. فلما كان الليل رحل كثير ممن معه يريدون الملك الناصر، فكتب إلى السلطان بأن نصف العسكر قد صار عليه، وحرضه على الخروج بنفسه. فلم يطلع الفجر إلا والأمير سيف الدين بهادر جكي قد وصل بكتاب الأمير برلغي على البريد إلى السلطان، فلما قضي صلاة الصبح تقدم إليه وأعلمه برحيل أكثر العسكر إلى الملك الناصر، وناوله الكتاب، فلما قرأه تبسم وقال: سلم على برلغي، وقل له لا تخش من شيء، فإن الخليفة أمير المؤمنين قد عقد لنا بيعة ثانية، وجدد لنا عهداً، وقد قرئ على المنابر، وجددنا اليمين على الأمراء، وما بقي أحد يجسر أن يخالف ما كتب به أمير المؤمنين، فإنه قد أكد في كتابة العقد. ثم دفع المظفر إليه العهد الخليفتي، وقال: امض به إليه حتى يقرأه على الأمراء والجند، ثم يرسله لي، فإذا فرغ من قرائته يرحل بالعساكر إلى الشام، وجهز له أيضاً ألفي دينار أخرى، وكتب جوابه بنظير المشافهة. فعاد بهادر إلى برلغي، فلما قرئ عليه الكتاب وانتهي إلى قوله: وإن أمير المؤمنين ولاني تولية جديدة، وكتب لي عهدًا، وجدد لي بيعة ثانية، فتح برلغي العهد فإذا أوله: إنه من سليمان، فقال: ولسليمان الريح، ثم التفت إلى بهادر وقال له: قل له يا بادر الذقن! واللّه ما معي أحد يلتفت إلى الخليفة، ثم قام وهو مغضب.
وكان سبب تجديد العهد أن نائب دمشق لما ورد كتابه بأنه حلف أمراء الشام ثانياً، وبعث صدر الدين محمد بن عمر بن مكي بن عبد الصمد الشهير بابن المرحل برسالة إلى السلطان، صار صدر الدين يجتمع عنده هو وابن عدلان، ويشغل السلطان وقته بهما. فاًشارا عليه بتجديد البيعة، وكتابة عهد يقرأ على المنابر، وتحليف الأمراء، فإن ذلك يثبت قواعد الملك، ففعل ذلك وحلف الأمراء بحضرة الخليفة، وكتب له عهد جديد عن الخليفة أبي الربيع، ونسخته: إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد اللّه وخليفة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على المسلمين أبي الربيع سليمان بن أحمد العباسي لأمراء المسلمين وجيوشها. {يأيها الذين آمنوا أَطيعوا الله وأَطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم} وإني رضيت لكم بعبد الله تعالى الملك المظفر ركن الدين نائباً عني لملك الديار المصرية والبلاد الشامية، وأقمته مقام نفسي لحينه وكفايته وأهليته، ورضيته للمؤمنين، وعزلت من كان قبله بعد علمي بنزوله عن الملك، ورأيت ذلك متعيناً علي، وحمت بذلك الحاكم الأربعة. واعلموا رحمكم اللّه أن الملك عقيم ليس بالوراثة لأحد خالف عن سالف ولا كابر عن كابر. وقد استخرتُ اللّه تعالى؛ووليت عليكم الملك المظفر، فمن أطاعه فقد أطاعني، ومن عصاه فقد عصاني، ومن عصاني فقد عصي أبا القاسم ابن عمي صلى اله عليه وسلم. وبلغني أن الملك الناصر بن الملك المنصور شق العصا على المسلمين، وفرق كلمتهم وشتت شملهم، وأطمع عدوهم فيهم، وعرض البلاد الشامية والمصرية إلى سبي الحريم والأولاد وسفك الدماء، وتلك دماء قد صانها اللّه من ذلك. وأنا خارج إليه ومحاربه إن استمر على ذلك، وأدفع عن حريم المسلمين وأنفسهم وأولادهم هذا الأمر العظيم، وأقاتله حتى يفيء إلى أمر اللّه تعالى. وقد أوجبت عليكم يا معاشر المسلمين كافة الخروج تحت لوائي- اللواء الشريف فقد اجتمعت الحكام على وجوب دفعة وقتاله إن استمر على ذلك، وأنا مستصحب معي لذلك السلطان الملك المظفر، فجهزوا أرواحكم والسلام. وقد قرئ على منابر الجوامع بالقاهرة في الجامع الأزهر وبجامع الحاكم، وقت الخطبة في يوم الجمعة، فلما بلغ القارئ إلى ذكر الملك الناصر صاحوا: لا! ما نريده!، ووقع في القاهرة ضجة وحركة بسبب ذلك.
وفيه قدم الأمير بهادر آص من دمشق على البريد يحث السلطان على الخروج بنفسه، فإن النواب قد مالوا كلهم مع الملك الناصر، فأجاب بأنه لا يخرج، واحتج بكراهيته للفتنة وسفك الدماء، وأن الخليفة قد كتب بولايته وعزل الملك الناصر، فإن قبلوا وإلا ترك الملك. ثم قدم الأمير بلاط بكتاب الأمير برلغي أن جميع من خرج من أمراء الطبلخاناه لحقوا بالملك الناصر، وتبعهم خلق كثر، ولم يتأخر غير برلغي وجمال الدين أقوش نائب الكرك وأيبك البغدادي وتناكر والفتاح لا غير، وذلك لأنهم خواص السلطان.
وأما الملك الناصر فإنه سار في أول شعبان بمن معه يريد دمشق، فدخل في طاعته الأمير قطلوبك الحاج بهادر الحلبي وبكتمر الحاجب والجاولي، وكتبوا إليه بذلك، وأنه يتاًنى في المسير إلى دمشق من غير سرعة حتى يتبين ما عند بقية أمراء دمشق. ثم كتبوا إلى الأفرم نائب دمشق بأنه لا سبيل إلى محاربة الملك الناصر، وأرادوا بذلك إما أن يخرج الأفرم إليهم فيقبضوه، أو يسير عن دمشق إلى جهة أخرى فتأتيهم بقية الجيش. وكان كذلك: فإنه لما قدم كتابهم عليه بدمشق شاع بين الناس سير الملك الناصر من الكرك، فثارت العوام وصاحوا: نصره الله. وركب الأجناد إلى النائب، فاستدعى من بقي من الأمراء والقضاة، ونادى: معاشر أهل الشام! ما لكم سلطان إلا الملك المظفر فصرخ الناس بأسرهم: لا! لا! ما لنا سلطان إلا الملك الناصر.
وتسلل العسكر من دمشق طائفة بعد طائفة إلى الملك الناصر، وانفرط الأمر من الأفرم. فاجتمع الأمير بيبرس العلائي والأمير بيبرس المجنون بمن معهما على الوثوب بالأفرم وقبضه، فلم يثبت عندما بلغه ذلك، واستدعى علاء الدين بن صبح وكان من خواصه، وتوجه ليلاً إلى جهة الشقيف. فركب الأمير قطلوبك والأمير الحاج بهادر عندما سمعا الخبر، وتوجها إلى الملك الناصر فسر بهما، وأنعم على كل منهما بعشرة آلاف درهم. ثم قدم إليه أيضاً الجاولي وجوبان، وسار بمن معه حتى نزل الكسوة، فخرج إليه بقية الأمراء والأبضاد، وقد عمل له سائر شعائر السلطنة من الصناجق الخليفتية والسلطانية والعصائب والجتر والغاشية. فحلف العساكر، وسار في يوم الثلاثاء ثاني عشر شعبان من الكسوة يريد المدينة، فدخلها بعدما زينت زينة عظيمة. وخرج جميع الناس إلى لقائه على اختلاف طبقاتهم حتى صغار المكاتب، فبلغ كراء البيت من البيوت التي من ميدان الحصا إلى القلعة للتفرج على السلطان من خمسمائة درهم إلى مائة درهم. وفرشت الأرض بشقاق الحرير الملونة، وحمل الأمير سيف الدين قطلوبك المنصوري الغاشية، وحمل الأمير الحاج بهادر الجتر. وترجل الأمراء والعساكر بأجمعهم، حتى إذا وصل باب القلعة خرج متولي القلعة وقبل الأرض، فتوجه السلطان حتى نزل بالقصر الأبلق من الميدان. وكان عليه عند دخوله عباءة بيضاء فيها خطوط سود، تحتها فرو سنجاب.
وفي وقت نزوله قدم مملوك قرا سنفر من حلب لكشف الخبر، وذكر أن قرا سنقر خرج من حلب، وقبجق خرج من حماة؛ فخلع عليه، وكتب إليهما بسرعة القدوم. وكتب إلى الأفرام أمان، وتوجه به علم الدين الجاولي. فلم يثق بذلك، وطلب يمين السلطان له، فحلف السلطان وبعث إليه بنسخة الحلف صحبة الأمير الحاج أرقطاي الجمدار، فما زال به حتى قدم معه هو وابن صبح، فركب السلطان إلى لقائه، حتى إذا قرب منه نزل كل منهما عن فرسه. فاًعظم الأفرم نزول السلطان له، وقبل الأرض، وكان قد لبس كاملية وشد وسطه وتوشح بنصفية، يعني أنه حضر بهيئة البطال من الإمرة، وكفنه تحت إبطه وعندما شاهده الناس على هذه الحالة صرخوا بصوت واحد: يا مولانا السلطان بتربة والدك الشهيد لا تؤذيه، ولا تغير عليه، فبكي سائر من حضر. وبالغ السلطان في إكرامه، وخلع عليه وأركبه، وأقره على نيابة دمشق، فكثر الدعاء له وسار الناصر إلى القصر. فلما كان الغد أحضر الأفرم خيلاً وجمالاً وثياباً بمائتي ألف درهم، تقدمة للسلطان.
وفي يوم الجمعة ثاني عشرى: خطب بدمشق للملك الناصر، وصليت الجمعة بالميدان، فكان يوماً مشهوداً.
وفيه قدم الأمير قرا سنقر نائب حلب، والأمير قبجق نائب حماة والأمير أسندمر كرجي نائب طرابلس، وتمر الساقي نائب حمص. فركب السلطان إلى لقائهم في ثامن عشرى، وترحل لقرا سنقر وعانقه، وشكر الأمراء وأثنى عليهم. ثم قدم الأمير كراي المنصوري من القدس، وبكتمر الجوكندار نائب صفد. وقدم كل من النواب والأمراء تقدمه على قدر حاله، ما بين ثياب أطلس وحوائص ذهب وكلفتاه زركش، وخيول مسرجة، وأصناف الجواهر والخلع والأقبية والتشاريف. وكان أجلهم تقدمة الأمير قطلوبك المنصوري، فإنه قدم عشرة أرؤس خيل مسرجة ملجمة، عنق كل فرس كيس فيه ألف دينار وعليه مملوك، وأربع قطر بغال، وعدة بخاتي، وغير ذلك.
وشرع الملك الناصر في النفقة على الأمراء والعساكر الواردة مع النواب، فلما انتهى أمر النفقة قدم السلطان بين يدية الأمير كراي المنصوري على عسكر ليسير إلى غزة، فسار إليها، وصار كراي يمد في كل يوم سماطاً عظيماً للمقيمين والواردين، وأنفق في ذلك أموالاً جزيلة من حصاله. واجتمع عليه بغزة عالم كبير، وهو يقوم بكلفهم ويعدهم عن السلطان بما يرضيهم.
وقم الخير إلى القاهرة في خامس عشرى شعبان باستيلاء الملك الناصر على دمشق بغير قتال، فقلق الملك المظفر، واضطربت الدولة، وخرجت عساكر مصر شيئاً بعد شيء تريد اللحاق بالملك الناصر، حتى لم يتأخر عند الملك المظفر بديار مصر إلا خواصه وألزامه. ولم يتأخر عند الأمير برلغي من الأمراء والأجناد سوي خواص الملك المظفر، فتشاور مع جماعته، فاقتضى رأيه ورأى الأمير أقوش نائب الكرك اللحاق بالملك الناصر أيضاً، فلم يوافق على ذلك البرجية، وعاد الأمير أيبك البغدادي وبكتوت الفتاح وقجمار وبقية البرجية إلى القاهرة، وصاروا مع الملك المظفر. وسار برلغي ونائب الكرك إلى الملك الناصر فيمن بقي من الأمراء والعساكر، فاضطربت القاهرة.
وكان الملك المظفر قد أمر في مستهل رمضان سبعة وعشرين أميراً، ما بين طبلخاناه وعشراوات: منهم من مماليكه صنقبحي وصديق وطومان، وقرمان، وغرلوا وبهادر وطرنطاي المحمدي، وبكتمر الساقي وقراجا الحسامي وبهادر قبجق، ولاجين أيتغلي وانكبار وطاشتمر أخو بتخاص، ومن ألزامه جركتمر بن بهادر رأس نوبة وحسن بن الردادي، وشقوا القاهرة على العادة، فصاحت بهم العامة: يا فرحة لا تمت.
أخرج المظفر أيضاً عدة من المماليك إلى بلاد الصعيد، وظن أن ينشئ له دولة. فلما بلغه مسير برلغي ونائب الكرك إلى الملك الناصر سقط في يده، وعلم زوال أمره، فإن برلغي كان زوج ابنته ومن خواصه، بحيث أنعم عليه في هذه الحركة بنيف وأربعين ألف دينار. وقيل سبعين ألف دينار. وظهر عليه اختلال الحال، وأخذ خواصه في تعنيفه على إبقاء سلار النائب، وأن جميع هذا الفساد منه. وكان كذلك: فإنه لما فاتته السلطنة، وقام فيها بيبرس، حسده ودبر عليه، وبيبرس في غفلة عنه، وكان سليم الباطن لا يظن أنه يخونه.
وقبض في ليلة الجمعة ثاني عشره على جماعة من العوام، وضربوا وشهروا لإعلانهم بسب الملك المظفر، فما زادهم ذلك إلا طغيانًا، وفي كل ذلك تنسب البرجية فساد الأمور إلى الأمير سلار. فلما أكثر البرجية من الإغراء بسلار قال لهم المظفر: إن كان في خاطركم شيء فدونكم وإياه إذا جاء إلى الخدمة، وأما أنا فلا أتعرض له بسوء قط فأجمعوا على قبض سلار إذا عبر يوم الإثنين خامس عشره إلى الخدمة. فبلغه ذلك فتأخر عن حضور الخدمة، واحترس على نفسه وأظهر أنه قد وعك، فبعث الملك المظفر يسلم عليه ويستدعيه ليأخذ رأيه، فاعتذر بأنه لا يطيق الحركة لعجزه عنها.
فلما كان من الغد يوم الثلاثاء سادس عشر رمضان، استدعى الملك المظفر الأمراء كلهم، واستشارهم فيما يفعل. فأشار الأمير بيبرس الدودار والأمير بهادر آص بنزوله عن الملك، والإشهاد بنلك كما فعل الملك الناصر، وتسير إليه تستعطفه، وتخرج إلى الإطفيحية ممن تثق به، وتقيم هناك حتى يرد جواب الملك الناصر،. فأعجبه ذلك، وقام ليجهز أمره وبعث ركن الدين بيبرس الدوادري إلى الملك الناصر يسأله إحدى ثلاث: إما الكرك وأعمالها، أو حماة وبلادها، أو صهيون ومضافاتها.
ثم اضطرب المظفر آخر النهار، ودخل الخزائن، فأخذ من المال والخيل والهجن ما أحب، وخرج في يومه من باب الإسطبل في مماليكه وعدتهم سبعمائة فارس، ومعه الأمير عز الدين أيدمر الخطير الأستادار، والأمير بدر الدين بكتوت الفتاح. والأمير سيف الدين قجماس، والأمير سيف الدين تناكر، في بقية ألزامه من البرجية. وكأنما نودي في الناس بأنه قد خرج هارباً، فاجتمع الناس وقد برز من باب الإسطبل، وصاحوا به وتبعوه وهم يصيحون عليه، وزادوا في الصياح حتى خرجوا عن الحد ورماه بعضهم بالحجارة. فشق ذلك على مماليكه، وهموا بالرجوع إليهم ووضع السيف فيهم، فمنعهم من ذلك، وأمرهم بنثر المال عليهم ليشتغلوا بجمعه عنهم، فأخرج كل من المماليك حفنة مال ونثرها. فلم تلتفت العامة لذلك وتركوه، وأخذوا في العدو خلف العسكر، وهم يسبون ويصيحون، فشهر المماليك حينئذ سيوفهم، ورجعوا إلى العوام فانهزموا عنهم. وأصبح الحراس بقلعة الجبل يوم الأربعاء سابع عشره يصيحون باسم الملك الناصر. بإشارة الأمير سلار، فإنه أقام بالقلعة.
وفي يوم الجمعة تاسع عشره: خطب على منابر القاهرة ومصر باسم الملك الناصر، وأسقط اسم الملك المظفر، فكانت أيامه في السلطنة عشرة أشهر وأربعة وعشرين يوماً، فكان كما قيل:
أعجلتها النوى فما نلت منها ** طائلاً غير نظرة من بعيد

.عود السلطان ناصر الدين إلى الملك:

عود السلطان الملك الناصر ناصر الدين أبي المعالي محمد بن الملك المنصور قلاوون إلى الملك مرة ثالثة وذلك أنه لما عزم على المسير إلى ديار مصر، خرج من دمشق في الثانية من نهار يوم الثلاثاء سادس عشر رمضان- وهي الساعة التي خلع فيها الملك المظفر بيبرس نفسه من الملك- وسار يريد مصر.
وعندما فر المظفر بيبرس جلس الأمير سلار في شباك النيابة، وجع من بقي من الأمراء، واهتم بحفظ القلعة، وأفرج عن المحابيس بها. وركب سلار ونادى في الناس: ادعوا لسلطانكم لملك الناصر، وكتب إلى الملك الناصر بنزول بيبرس عن السلطنة وفراره، وسير بنلك أصلم الدوادار وبهادر آص إلى الملك الناصر برسالة المظفر أنه قد نزل عن السلطنة، ويسأل إما الكرك أو حماة أو صهيون. فاتفق يوم وصولهما إلى غزة قدوم الملك الناصر أيضاً، وقدوم الأمير سيف الدين ساطي السلاح دار في طائفة من الأمراء، وقدوم العربان والتركمان. وقدم الأمير مهنا بجماعة من عرب آل فضل، فركب السلطان إلى لقائه، وقدم برلغي ونائب الكرك، فسر السلطان بذلك سروراً كبيراً. وكتب الناصر إلى المظفر أمانا مع بيبرس الدودار وبهادر آص، وقدما في حادي عشرى رمضان إلى الأمير سلار، فجهز الأمان إلى المظفر.
ولما تكاملت العساكر بغزة سار الناصر يريد مصر، فقدم أصلم مملوك سلار بالنمجاة، ووصل أرسلان الدوادار، فسر بذلك. ولم يزل الناصر سائراً إلى أن نزل بركة الحاج، وقد جهز إليه الأمير سلار الطلب السلطاني والأمراء والعساكر سلخ رمضان، وخرج الأمير سلار إلى لقائه. وصلى السلطان صلاة العيد بالدهليز في يوم الأربعاء مستهل شوال، وأنشد الشعرا مدائحهم، فمن ذلك ما أنشده شمس الدين محمد بن علي بن موسى الراعي أبياتاً منها:
الملك عاد إلى حماه كما بدا ** ومحمد بالنصر سر محمدا

وإيابه كالسيف عاد لغمده ** ومعاده كالورد عاوده الندى

الحق مرتجع إلى أربابه ** من كف غاصبه وإن طال المدا

وعمل الأمير سلار سماطاً عظيماً بلغت النفقة عليه اثني عشر ألف درهم، جلس عليه السلطان: فلما انقضى السماط عزم السلطان على المبيت والركوب بكرة يوم الخميس. فبلغه أن الأمير برلغي والأمير أقوش نائب الكرك قد اتفقا مع البرجية على الهجوم عليه وقتله، فبعث إلى الأمراء يعلمهم. مما بلغه، ويأمرهم بالركوب فركبوا، وركب في ممالكيه ودقت الكوسات. وسار الناصر وقت الظهر من يوم الأربعاء، وقد احتفت به مماليه كي لا يصل إليه أحد من الأمراء، وسار إلى القلعة، وخرج الناس بأجمعهم لمشاهدته. فلما بلغ بين العروستين ترجل سلار وسائر الأمراء، ومشوا إلى باب السر من القلعة، وقد وقف جماعة من الأمراء بمماليكهم وعليهم السلاح حتى عبر السلطان من الباب إلى القلعة، وأمر الأمراء بالانصراف إلى منازلهم، وعين جماعة من الأمراء الذين يثق بهم أن يستمروا على ظهور خيولهم حول القلعة طول الليل، فباتوا على ذلك.
وأصبح الناصر من الغد يوم الخميس ثانيه جالساً على تخت الملك وسرير السلطنة، وحضر الخليفة أبو الربيع والأمراء والقضاة وسائر أهل الدولة للهناء، فقرأ محمد بن علي ابن موسى الراعي: {قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعزمن تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شئ قدير}، ثم دعا. ولما تقدم الخليفة وسلم، نظر إليه السلطان وقال له: كيف تحضر تسلم على خارجي، هل كنت أنا خارجياً وبيبرس كان من سلالة بني العباس؟ فتغير وجه الخليفة ولم ينطق. ثم التفت السلطان إلى القاضي علاء الدين علي بن عبد الظاهر الموقع، وكان هو الذي كتب عهد المظفر عن الخليفة، وقال له: يا أسود الوجه، فقال ابن عبد الظاهر من غير توقف: يا خوند! أبلق خير من أسود؟ فقال السلطان: ويلك! حتى ألا تترك رنكه أيضاً، يعني أن ابن عبد الظاهر ممن ينتمي إلى الأمير سلار، وكان رنك سلار أبيض وأسود، ثم التفت السلطان إلى قاضي القضاة بدر الدين محمد ابن جماعة، وقال: يا قاضي! كنت تفتي المسلمين بقتالي؟ فقال: معاذ الله! إنما تكون الفتوى على مقتضى كلام المستفتي. ثم حضر صدر الدين محمد بن عمر بن المرحل، وقبل يد السلطان فقال له كنت تقول ما للصبي وما للملك يكلفه؟. فحلف بالله ما قال هذا، وإنما الأعداء أرادوا إتلافه فزادوا في قصيدته هذا البيت. والعفو من شيم الملوك، فعفا عنه؛ وكان ابن المرحل قد مدح المظفر بيبرس بقصيدة عرض فيها بالناصر، من جملتها:
ما للصبي وما للملك يكفله ** شأن الصبي لغير الملك مألوف

ثم استأذن شمس الدين محمد بن عدلان، ففال السلطان للدوادار: قل له أنت أفتيت أنه خارجي وقتاله جائز، مالك عنده دخول؛ ولكن عرفه هو وابن المرحل أنه يكفيهما ما قال الشارمساحي فيهما. وكان من خير ذلك أن الأديب شهاب الدين أحمد ابن عبد الدائم الشارمساحي مدح السلطان الملك الناصر بقصيدة عرض فيها بهحو الملك المظفر بيبرس وصحته لابن عدلان وابن المرحل، منها:
ولي المظفر لما فاته الظفر ** وناصر الحق وافي وهو منتصر

وقد طوى اللّه من بين الورى فتنا ** كادت على عصبة الإسلام تنتثر

فقل لبيبرس إن الدهرألبسه ** أثواب عارية في طولها قصر

لما تولى الخير عن أمم ** لم يحمدوا أمرهم فيها ولا شكروا

وكيف تمشي به الأحوال في زمن ** لا النيل وفي ولا وافاهم مطر

ومن يقوم ابن عدلان بنصرته ** وابن المرحل قل لي كيف ينتصر

وكان المطر لم يقع في هذه السنة، وقصر النيل، وارتفع السعر.
واتفق في يوم جلوس السلطان، أن الأمراء لما اجتمعوا قبل خروج السلطان إليهم بالإيوان أشار الأفرم نائب الشام لمنشد يقال له مسعود أحضره معه من دمشق، فقام وأنشد أبياتاً لبعض عوام القاهرة، قالها عند توجه الملك الناصر من مصر إلى الكرك، منها:
أحبة قبلي إنني لوحيد ** وأريد لقاكم والمزار بعيد

كفى حزناً أني مقيم ببلدة ** ومن شف قلبي بالفراق فريد

أجول بطرفي في الديار فلا أرى ** وجوه أحبائي الذين أريد

نق فتواجد الأفرم وبكى، وحسر عن رأسه، ووضع الكلفتاه على الأرض، فأنكر الأمراء ذلك، وتناول الأمير فرا سنقر الكلفتاه بيده ووضعها على رأسه. وخرج السلطان فقام الجميع، وصرخت الجاويشية، فقبل الحاضرون الأرض.
وفيه قدم الأمير سلار من المماليك والخيول وتعابى القماش ما قيمته مائتا ألف درهم، فقبل السلطان شيئاً ورد الباقي. وسأل سلار الإعفاء من نيابة السلطنة، وأن ينعم عليه بالشوبك؛ فأجيب إلى ذلك. وحلف سلار أنه متى طلب حضر، وخلع عليه، وخرج عصر يوم الجمعة ثالثه مسافراً، فكانت ثيابته إحدى عشرة سنة، وتوجه معه الأمير نظام الدين آدم، واستقر ابنه علي بالقاهرة، وأنعم عليه بإمرة عشرة.
وفي خامسه: قدم رسول المظفر بيبرس بكتابه يسأل الأمان. وفيه استقر قرا سنقر في نيابة دمشق عوضاً عن الأفرم، وقبجق في نيابة حلب. والحاج بهادر الحلبي في نيابة طرابلس عوضاً عن أسندمر كرجي، وقطلوبك المنصوري في نيابة صفد عوضاً عن بكتمر الجوكندار، وأسندمر كرجي في نيابة حلب حماة عوضاً عن قبجق، وسنقر الكمالي حاجب الحجاب بديار مصر على عادته، وقرا لاجين أمير مجلس على عادته، وبيبرس الدوادار على عادته- وأضيف إليه نيابة دار العدل ونظر الأحباس- في خامس ذي القعدة، واستقر الأفرم في نيابة صرخد بمائة فارس. وطلب شهاب الدين بن عبادة، ورسم له بتجهيز الخلع والتشاريف لسائر أمراء الشام ومصر فجهزت، وخلع عليهم كلهم في يوم الإثنين سادسه، وركبوا فكان يوماً مشهوداً.
وفي يوم الأحد ثاني عشره: استقر فخر الدين عمر بن الخليلي في الوزارة، وصرف ضياء الدين أبر بكر النشائي، وعوق بالقلعة أياماً، ثم أفرج عنه ولم يحمل مالاً.
وفي يوم الخميس سادس عشره: حضر الأمراء الخدمة على العادة، وقد قرر السلطان مع مماليكه القبض على الأمراء، وأن كل عشرة يقبضون أميراً ممن عينه لهم، بحيث تكون العشرة عند دخول الأمير محتفة به، فماذا رفع السماط واستدعى السلطان أمير جاندار قبض كل جماعة على من عين لهم. فلما حصل الأمراء في الخدمة أحاط بهم المماليك، ففهموا القصد، وجلسوا على السماط، فلم يتناول أحد منهم لقمة. وعندما نهضوا أشار السلطان إلى أمير جاندار، فتقدم إليه وقبض المماليك على الأمراء المعينين، وعدتهم اثنان وعشرون أميراً، فلم يتحرك أحد لقبضهم من خشداشيتهم، وبهت الجميع. ولم يفلت ممن عير سوى جركتمر بن بهادر رأس نوبة، فإنه لما فهم القصد وضع يده على أنفه كأنه رعف، وخرج من غير أن يشعر به أحد، واختفى عند الأمير قرا سنقر وكان زوج ابنته، فشفع فيه حتى عفى السلطان عنه. وكان الأمراء المقبوض عليهم: تناكر، وأيبك البغدادي، والعتابي؛ وبلبان التقوي، وقجماس، وصاروجا، وبيبرس عبد الله، وبيدمر، ومنكوبرس وأشقتمر، والسيواسي، والكمالي الصغير، وحسن الردادي، وبلاط، وتمربغا، وقيران، ونوغاي الحموي، والحاج بيليك المظفري، وفطقطوا، والغتمي، وأكبار، وتتمة الاثنين وعشرين.
وجرد عدد من الأمراء إلى دمشق، فأول من سافر علاء الدين مغلطاي المسعودي، وجبا أخو سلار، وطرنطاي البغدادي، وأيدغدي التليلي، وبهادر الحموي، وبلبان الدمشقي، وأيدغدي الزراق، وكهرداش الزراق، وبكتمر الأستادار، وأيدمر الإسماعيلي، وأقطاي الجمدار، وبوزبا الساقي وبيبرس الشجاعي، وكوري السلاح دار، وأقطوان الأشرافي، وبهادر الجوكندار، وبلبان الشمسي، وعدة من أمراء الشعراوات، فلما وصلوا إلى حلب رسم بإقامة ستة من أمراء الطبلخاناه وعود البقية.
وفي ثالث عشرى: استقر الأمير سيف الدين بكتمر الجوكندار المنصوري في نيابة السلطنة بديار مصر، عوضاً عن سلار.
وفي خامس عشرى: أحضر الأمير بيبرس الداودار الأموال من عند الملك المظفر بيبرس. وفيه أمر السلطان اثنين وثلاثين أميراً من مماليكه منهم تنكز الحسمامي، وطغاي، وكستاي، وقجليس، وخاص ترك، وخلط قرا، وأركتمر، وأيدمر الشيخي، وأيدمر الساقي، وبيبرس أمير آخور، وطاجار، وخضر بن نوكاي، وبهادر قبجق، والحاج رقطاي، وأخوه أيتمس المحمدي، وأرغون الدوادار الذي صار بعد ذلك نائب السلطنة بمصر، وسنقر المرزوقي، وبلبان الجاشنكير، وأسنبغا، وبيبغا الملكي، وأمير علي بن قطلوبك، ونوروز أخو جنكلي، والجاي الحسامي، وطيبغا حاجي، ومغلطاي العزي صهر نوغاي، وقرمشى الزيني، وبكتمر قبجق، وبيغر الصالحي، ومغلطاي البهائي، وسنقر السلاح دار، ومنكلي بغا. وركبوا جميعاً بالشرابيش، وشقوا القاهرة، وقد أوقدت الحوانيت كلها إلى الرميلة وسوق الخيل، ورصت المغاني وأرباب الملاهي في عدة أماكن، ونثرت عليهم الدراهم، فكان يوماً مشهوداً. وكان المذكورون منهم أمراء طبلخاناه، ومنهم أمراء عشراوات.
وفيه قبض على الأمير عز الدين أيدمر الخطيري الأستادار، والأمير بدر الدين بكتوت الفتاح أمير جاندار، بعدما حضرا من عند الملك المظفر وخلع عليهما. وفيه كتب إلى ولاة الأعمال بالحوطة على موجود الأمراء المقبوض عليهم، وطلب السلطان مباشرتهم.
وفيه سفر الأمراء المقبوض عليهم إلى حبس الإسكندرية، وكتب بالإفراج عن المعتقلين بها، وهم: الأقوش المنصوري قاتل الشجاعي، والشيخ علي التتري، ومنكلي التتري، وشاورشي بن قنغر الذي أثار فتنة الشجاعي، وكتبغا، وغازي وموسى أخوا حمدان بن صلغاي، فلما حضروا خلع عليهم، وأنعم عليهم بإمريات في الشام وأحضر شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية من سجن الإسكندرية إلى السلطان، فبالغ في إكرامه.
وأما المظفر بيبرس فإنه لما فارق قلعة الجبل أقام بإطفيح يومين، واتفق رأيه ورأي أيدمر الخطيري وبكتوت الفتاح على المسير إلى برقة والإقامة بها، فلما بلغ المماليك هذا عزموا على مفارقتهم، فلما رحلوا من إطفيح رجع المماليك شيئاً بعد شيء إلى القاهرة، فما بلغ الملك المظفر إلى إحميم حتى فارقه أكثر من كان معه، فانثنى رأيه عن برقة. وتركه الخطيري والفتاح وعادا إلى القاهرة، فتبعهما كثير من المماليك المظفرية وهو يراهم. وبينما هو سائر قدم عليه الأميران بيبرس الدوادار وبهادر أص من عند الملك الناصر ليتوجه إلى صهيون، بعد أن يدفع ما أخذه من المال بأجمعه إلى بيبرس، فسار به بيبرس في النيل، وقدم بهادر آص في البر بالمظفر ومعه كاتبه كريم الدين أكرم. وسأل المظفر يمين السلطان مع من يثق به، فحلف له السلطان بحضرة الأمراء، وبعث إليه بنلك مع أيتمش المحمدي، فلما قدم عليه أيتمش بالغ في إكرامه، وتحير فيما يفعله، وكتب الجواب بالطاعة، وأنه يتوجه إليه ناحية السويس، وأن كريم الدين يحضره بالخزانة والحواصل التي أخذها فلم يعجب السلطان ذلك، وعزم على إخراج تجريدة إلى غزة ليردوه، وأطلع على ذلك بكتمر الجوكندار النائب وقرا سنقر نائب دمشق والحاج بهادر نائب طرابلس.
فلما كان يوم الخميس الذي قبض فيه على الأمراء جلس بعض المماليك الأشرفية، فلما خرج الأمراء من الخدمة قال أولئك الأشرفية: وأي ذنب لهؤلاء الأمراء الذين قبض عليهم، وهذا الذي قتل أستاذنا الملك الأشرف، ودمه إلى الآن على سيفه ما خرج أثره، قد صار اليوم حاكم المملكة- يعني قرا سنقر. فنقل هذا لقرا سنقر، فخاف على نفسه، وأخذ في التعمل على الخلاص من مصر، والتزم للسلطان أنه يتوجه ويحصل المظفر بيبرس هو والحاج بهادر نائب طرابلس من غير إخراج التجريدة، فإن في بعث الأمراء لنلك شناعة، فمشي ذلك على السلطان، ورسم بسفرهما. فخرج قرا سنقر هو وسائر النواب إلى ممالكهم، فعوق السلطان أسندمر كرجي نائب حماة عن السفر، وسار البقية.
ثم جهز السلطان أسندمر كرجي لإحضار المظفر مقيداً، فاتفق دخول فرا سنقر والأمراء إلى غزة قبل المظفر، فلما بلغهم قربه ركب قرا سنقر وسائر النواب والأمراء ولقوة شرقي غزة، وقد تقى معه عمد من مماليكه وقد تأهبوا للحرب، فلبس الأمراء السلاح ليقاتلوهم. فأنكر المظفر على مماليكه تأهبهم للقتال، وقال: أنا كنت ملكاً وحولي أضعافكم، ولي عصبة كثيرة من الأمراء، وما اخترت سفك الدماء، وما زال حتى كفوا عن القتال، وساق بنفسه حتى صار مع الأمراء، وأسلم نفسه إليهم، فسلموا عليه وساروا به إلى معسكرهم وأنزلوه بخيمة، وأخفوا سلاح مماليكه ووكلوا بهم من يحفظهم، وأصبحوا من الغد عائدين به معهم إلى مصر. فأدركهم أسندمر كرجي بالخطارة، فأنزل في الوقت المظفر عن فرسه وقيده بقيد أحضره معه، فبكي وتحدرت دموعه على شيبته. فشق ذلك على قرا سنقر وألقى الكلفتاه عن رأسه إلى الأرض، وقال: لعن اللّه! الدنيا فياليتنا متنا ولا رأينا هذا اليوم. فترجلت الأمراء، وأخفوا كلوثته ووضعوها على رأسه. هذا مع أن قرا سنقر كان أكبر الأسباب في زوال دولة المظفر، وهو الذي حسن للملك الناصر حتى كان ما كان.
ثم عاد قراسنقر والحاج بهادر إلى جهة الشام، وأخذ بهادر يلوم قرا سنقر على مخالفة رأيه، فإنه كان قد أشار على قراسنقر في الليل بعد القبض على المظفر بأن يخلي عنه حتى يصل إلى صهيون، ويتوجه كل منهما إلى محل ولايته، ويخيفا الناصر بأنه متى تغير عما كان قد وافق الأمراء عليه بدمشق قاموا بنصرة المظفر وإعادته إلى الملك. فلم يوافق قراسنقر على ذلك، وظن أن الملك الناصر لا يستحيل عليه ولا على المظفر، فلما رأى ما حل بالمظفر ندم على مخالفة بهادر. وبينما هما في ذلك إذ بعث أسندمر كرجي إلى قراسنقر بمرسوم السلطان أن يحضر صحبة المظفر إلى القلعة، وكان عزمه أن يقبض عليه أيضاً، ففطن فراسنقر بذلك وامتنع من التوجه إلى مصر، واعتذر بأن العشير قد جمعوا ويخاف على دمشق منهم، وجد في المسير، وعرف أنه ترك الرأي في مخالفة بهادر.
وقدم أسندمر بالملك المظفر في ليلة الأربعاء الرابع عشر من ذي القعدة، فلما مثل المظفر بين يدي السلطان قبل الأرض، فأجلسه وعنفه بما فعل به، وذكره بما كان منه وعدد ذنوبه، وقال: تذكر وقد صحت على وقت كذا بسبب فلان، ورددت شفاعتي في حق فلان، واستدعيت نفقة في وقت كذا من الخزانة فمنعتها، وطلبت في وقت حلوى بلوز وسكر فمنعتني. ويلك! وزدت في أمري حتى منعتني شهوة نفسي، والمظفر ساكت. فلما فرغ كلام السلطان قال له: يا مولانا السلطان كل ما قلت فعلته، ولم تبق إلا مراحم السلطان. وإيش يقول المملوك لأستاذه. فقال له: يا ركن الدين أنا اليوم أستاذك، وأمس تقول لما طلبت أوز مشوي إيش يعمل بالأوز، الأكل هو عشرون مرة في النهار. ثم أمر السلطان به إلى مكان، وكان ذلك ليلة الخميس، فاستدعى بوضوء وصلى العشاء الآخرة. ثم جاء السلطان وأمر به فقتل، وأنزل على جنوية إلى الإسطبل، وغسل به في ليلة الجمعة خامس عشرة، ودفن خلف القلعة.
وقدم كريم الدين أكرم بن العلم بن السديد كاتب الملك المظفر بالمال والحواصل، فقربه السلطان وأدناه وأثنى عليه، ووعده بكل جميل إن أظهره على ذخائز بيبرس، ونزل إلى داره. فبذل كريم الدين جهده في تتبع أموال بيبرس، وخدم طغاي وكستاي وأرغون الدوادار، وبذل لهم مالا كثيراً حتى صاروا أكبر أعوانه وأنصاره، لا يبرحون في الثناء عليه مع السلطان. وقدم من كان مع بيبرس من المماليك وعدتهم ثلاثمائة، ومعهم الخيل والهجن والسلاح، ومبلغ مائتي ألف درهم وعشرين ألف دينار، وستون بقجة من أنواع الثياب. فقبض السلطان الجميع. وفرق المماليك على الأمراء، واختص منهم بكتمر الساقي الآتي ذكره وما صار إليه، واختص أيضاً طوغان الساقي وقباتمر وبلك في آخرين. واستدعى السلطان القضاة، وأقام عندهم البينة بأن جميع مماليك بيبرس وسلار وسائر ما وقفاه من الضياع والأملاك اشترى من مال بيت المال. فلما ثبت ذلك ندب السلطان الأمير جمال الدين أقوش نائب الكرك وكريم الدين أكرم لبيع تركة بيبرس، وإحضار نصف ما يتحصل فإنه للسلطان، ودفع النصف الآخر لابنة بيبرس- امرأة الأمير برلغي الأشرفي- فإنه لم يترك سواها. فشدد كريم الدين الطلب على امرأة بيبرس حتى أخذ منها جواهر عظيمة القدر وذخائر نفيسة جداً، وحمل منها إلى السلطان، وأهدي إلى الأمراء الخاصكية القائمين بأمره والعناية به، وادخر لنفسه. وباع موجود بيبرس، وكان شيئاً كثيراً: فوجد له ثمانين بذله ثياب، ما بين أقبية وبغالطيق للبسه، وستين سروالاً، وثمانين قميصاً. وصار كريم الدين يتردد إلى بيت الشهاب الدين أحمد بن عبادة وكيل السلطان المتحدث في أملاكه، وهو حينئذ عظيم الدولة المتحدث في سائر أمور المملكة، ويقرب إليه بما يحب. وطلب الصاحب فخر الدين عمر بن الخليلي مباشري الأمراء المقبوض عليهم، وطالبهم بالأموال.
وأما قرا سنقر والنواب فإنه سقط في أيديهم، وداخل كلا منهم الخوف على نفسه من السلطان، واتفقوا على ألا يحضر أحد منهم إلى السلطان إن استدعاه، فلم يفدهم ذلك. وكان من خبرهم ما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى.
ولما فات السلطان قرا سنقر لم ير القبض على أسندمر كرجي، وخلع عليه وولاه نيابة حماة، وسار إليها. وندب الأمير علم الدين سنجر الخازن لمساعدة الصاحب فخر الدين على حوطات الأمراء.
ثم ركب السلطان إلى الميدان في موكب عظيم، واجتمع الناس لرؤيته، واستأجروا الحوانيت والدور بمال كبير، فكان يوما مشهوداً.
وفي أول ذي الحجة: دخل الأمير قرا سنقر دمشق. وفيه سار الأمير أرغون الدوادار على البريد إلى الشوبك بتشريف سلار، وأنعم عليه بمائة فارس، وأخرجت له بلاد من خاص الكرك زيادة على ما بيده من الشوبك، وكتب له به منشور.
وفيه وسط تحت القلعة سبعة من ممالك أقوش الرومي، بسبب أنهم تولوا قتله وأخنوا ماله، وصاروا إلى الكرك كما تقدم.
وفيه منع الأويراتية من الدخول إلى الخدمة السلطانية: وسببه أنهم كانوا مستخدمين عند الأمراء، فلما خامروا على أستاذيهم وفروا إلى السلطان بالكرك ظنوا أنهم قد اتخذوا عنده بذلك يداً، فصاروا بعد عوده إلى السلطنة يمشون في خدمة السلطان ويقفون فوق المماليك السلطانية، فشق ذلك على المماليك، وأغروا السلطان بهم حتى تنكر لهم، وأكثروا من ذمهم والعيب عليهم بكونهم خامروا على أستاذيهم وأنهم لا خير فيهم، إلى أن منعهم السلطان.
وفيه كتب لقرا سنقر نائب دمشق بمحاربة العشير وقتلهم، وكانت بنو هلال وبنو أسد قد كثرت حروبهم وعظم فسادهم لاختلال أمر الدولة، فبعث إليهم قرا سنقر تجريدة أحضرت رؤوسهم، وقرر عليهم ثلاثمائة ألف دحرهم، وحبس رهائنهم، وبعث يسأل الإنعام عليه بمبلغ، فأنعم عليه. وأعيد الشيخ كريم الدين عبد الكريم الآملي إلى مشيخة سعيد السعداء، وعزل عنها بدر الدين محمد بن جماعة، واستقر عوضه جمال الدين محمد بن تقي الدين محمد بن مجد الدين حسن بن تاج الدين على بن القسطلاني في خطابة القلعة، وكان قد عزل منها ابن جماعة أيضاً لتغير السلطان عليه. وأنعم على الأمير نوغاي القبجاقي بإمرة دمشق عوضاً عن قطلوبك، وسار إليها. وكتب بقطع خبز الأمير قطلوبك الأوشاقي والطنقش أستادار الأفرم وعلاء الدين علي بن صبيح مقدمي الجبلية وحملهم إلى مصر.
وفيه قبض على الأمير برلغي الأشرفي وطغلق السلاح دار ومغلطاي الفارقاني، وكتب لقرا سنقر بالقبض على نوغاي وبيبرس العلمي، فقبض عليهما وسحنا بقلعة دمشق. وأحيط بسائر ما لهما.
وفيها كانت حرب بالمدينة النبوية: وذلك أن الشريف مقبل بن جاز بن شيحة أمير المدينة تنافس مع أخيه منصور، فتركه وقدم إلى القاهرة، فولاه الملك المظفر نصف الإمرة بنجد، واستخلف ابنه كبيشة. ففر كبيشة عنها وملكها مقبل، فعاد كبيشة بجمع كبير وحاربه وقتله، واستقر منصور بمفرده.

.ومات في هذه السنة:

ممن له ذكر ضياء الدين أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن عمر بن يوسف بن عبد المنعم الأنصاري البخاري، القرطبي المتحد، القنائي المولد والوفاة، في رابع ذي القعدة، وكان رئيساً ببلده.
ومات الشيخ الصالح المعمر أبو العباس أحمد بن أبي طالب الحمامي البغدادي، بمكة في جمادى الآخرة.
ومات نبيه الدين حسن ابن حسين بن جبريل ابن نصر الأنصاري الأسعردي، بالقاهرة في أول جمادى الآخرة، ولي حسبة القاهرة، لما استقر ضياء الدين أبو بكر النشائي وزيراً تولى هو نظر الدولة، مات بمصر عن سبع وسبعين سنة.
ومات شمس الدين محمد بن أبي الفتح البعلي الفقيه الحنبلي، في المحرم بمصر، وكان بارعاً في الفقه والنحو.
ومات الأمير الوزير شمس الدين سنقر الأعسر المنصوري في ربيع الأول؛ ودفن خارج باب النصر، بعدما استعفى من الإمرة ولزم داره حتى مات ومات الشيخ نجم الدين محمد بن إدريس القمولي الشافعي، بقوص في جمادى الأولى؛ وكان صالحاً عالماً بالفقه والتفسير والحديث.
ومات قاضي القضاة شرف الدين عبد الغني بن يحيى بن محمد بن عبد الله بن نصر بن عبد الله بن نصر بن أبي بكر الحراني الحنبلي، ليلة الجمعة رابع عشرى ربيع الأول، ودفن بالقرافة، ومولده بحران سنة خمس وأربعين وستمائة.
ومات الأمير سيف الدين طغريل الإيغاني، بالقاهرة في عاشر رمضان.
ومات الأمير عز الدين أيبك الخازندار، بالقاهرة في سابع رمضان.
ومات الأمير عز الدين عبد العزيز بن شرف الدين محمد القيسراني، كاتب الدرج ومدرس المدرسة الفخرية بالقاهرة، يوم الخميس عاشر صفر.
ومات الأمير سيف الدين قيران شاد الدواوين بدمشق، بعد عزله.
ومات الأمير علاء الدين أقطوان الدواداري بدمشق أيضاً.
ومات الأمير علاء الدين علي بن معين الدين سليمان البرواناه نائب دار العدل، بقلعة الجبل، وقدمت أخته بعد موته فشاهدته ميتا، ثم دفن.
ومات الأمير جمال الدين أقوش الرستمي شاد الدواودين، بدمشق في يوم الأحد ثاني عشرى جمادى الأولى.
ومات متملك تونس الأمير أبو عبد الله المعروف بأبي عصيدة ابن يحيى الواثق بن محمد المستنصر بن يحيى بن عبد الواحد بن أبي حفص، في عاشر ربيع الآخر، وكانت مدته أربع عشرة سنة وأربعة أشهر، ووفى بعده الأمير أبو بكر بن أبي زيد عبد الرحمن ابن أبي بكر بن يحيى بن عبد الواحد المدعو بالشهيد، لأنه قتل ظلماً بعد ستة عشر يوماً، وبويع بعده أيضاً الأمير أبو البقاء خالد بن يحيى بن إبراهيم.
ومات التاج أبو الفرج بن سعيد الدولة، في يوم السبت ثاني رجب، وكان عند المظفر بيبرس بمكانة عظيمة قرره مشيراً، فكانت تحمل إليه فوط العلامة، فيمضي منها ما يختاره ويكتب عليه عرض، فإذا رأى السلطان خطه علم وإلا فلا، وكذلك كتب البريد، ولم يزل على ذلك حتى بعث إليه الأفرم نائب الشام يهدده بقطع رأسه، فامتنع، وكان مشهوراً بالأمانة والعفة، مهيباً له حرمة، لا يخالط أحداً ولا يقبل هدية.