فصل: سنة اثنتي عشرة وثمانمائة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: السلوك لمعرفة دول الملوك (نسخة منقحة)



.سنة اثنتي عشرة وثمانمائة:

أهلت وخليفة الوقت المستعين بالله أبو الفضل العباس بن محمد المتوكل على الله أبي عبد الله محمد. والسلطان الملك الناصر أبو السعادات فرج بن الظاهر أبي سعيد برقوق بن أنص العثماني اليلبغاوي. وهو مستقل بتدبير الأمور، ومعتمد على وزيره الأمير الوزير المشير ناظر الخواص، وكاشف الكشاف جمال الدين يوسف بن أحمد الأستادار البجاسي البيري، وكاتب سره فتح الدين فتح الله بن معتصم بن نفيس الإسرائيلي الداودي التبريزي. وناظر جيشه الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله النستراوي، ونائب الشام الأمير شيخ المحمودي. ونائب حلب الأمير دمرداش المحمدي ونائب حماة الأمير جانم، ونائب طرابلس الأمير بكتمر جلق، ونائب صفد الأمير قرقماس ابن أخي دمرداش. ونائب غزة الأمير ألطنبغا العثماني. ونائب الكرك الأمير ناصر الدين محمد التركماني، ولم يمكن منها لتغلب سودن الحلب عليها.
وقضاة مصر شيخ الإسلام قاضي القضاة جلال الدين أبي الفضل بن شيخ الإسلام قاضي القضاة سراج الدين عمر بن رسلان بن نصر البلقيني الشافعي. وقاضي القضاة أمين الدين عبد الوهاب بن قاضي القضاة شمس الدين محمد بن أبي بكر الطرابلسي الحنفي، وقاضي القضاة شمس الدين محمد بن علي بن معبد القدسي المدني المالكي، وقاضي القضاة مجد الدين سالم بن سالم المقدسي الحنبلي. وقضاة دمشق نجم الدين عمر بن حجي الشافعي، وصدر الدين علي بن الآدمي الحنفي. وشرف الدين عيسى المغربي المالكي، وشمس الدين محمد بن عبادة الحنبلي.
شهر الله المحرم الحرام، أوله الجمعة ثم ثبت أنه الخميس: أهل والدينار الهرجة في القاهرة بمائة وستين درهماً فلوساً، والقمح بمائة وخمسين درهماً الأردب.
وفي ثانيه: أخرج الأمير شيخ نائب الشام المنجنيق من قلعة دمشق إلى الإسطبل، وأقطع جماعة من أصحابه عدة من الأوقاف.
وفي ثالثه: سار شيخ من دمشق إلى المرج، فخيم به.
وفي رابعه: نصبت خيمه السلطان تجاه مسجد تبر من الريدانية، خارج القاهرة.
وفي سابعه: خرج مقدم العساكر الأمير الكبير تغري بردى الأتابك، ومعه من الأمراء الألوف، الأمير أقباي الطرنطاي رأس نوبة الأمراء، والأمير طوخ أمير مجلس، والأمير طوغان الحسني رأس نوبة، والأمير علان، والأمير أينال المنقار الجلالي، والأمير كمشبغا المزوق، والأمير يشبك الموساوي الأفقم، وعدة من الأمراء الطبلخاناة، والعشرات والمماليك، ونزلوا بالريدانية. وفيه أعيد ناصر الدين محمد بن العديم الحنفي إلى قضاء الحنفية بديار مصر وعزل قاضي القضاة أمين الدين عبد الوهاب بن الطرابلسي، وكان قد قبص نفقة السفر أسوة رفقائه خمسة عشر ألف درهم فلوساً، فأنعم بها عليه.
وولي مشيخة خانكاه شيخو، عوضاً عن ابن العديم، فغبطه الناس على هذه النعم الثلاثة: العافية من السفر، وتعوض الشيخولية عن القضاء، والسعة بهذا القدر من المال. وكانت ولاية ابن العديم بمال جزيل. وفيه أعيد ابن شعبان إلى الحسبة بمال، وعزل الحبري.
وفي يوم الاثنين حادي عشره: ركب السلطان من قلعة الجبل في بقية عساكره، ونزل بمخيمه تجاه مسجد تبر.
وفيه رحل الأمير الكبير تغري بردى من الريدانية، بمن معه من الأمراء والأجناد، قاصداً دمشق. وفيه طلب الأمير شيح نائب الشام قضاة دمشق، فخرجوا إليه بالمرج فأرادهم أن يسلموه الأوقاف ليقطعها أصحابه، فآل الأمر إلى مصالحته عنها بثلث متحصلها، وعادوا.
وفي ثالث عشره: أعيد الحبري إلى حسبة القاهرة، وخلع عليه بحضرة السلطان، وهو بتربة أبيه خارج باب النصر، وقد عاد إليها من مخيمه، وعزل بن شعبان.
وفي رابع عشره: خلع السلطان على الأمير أرغون الرومي، واستقر نائب الغيبة مقيماً بالإسطبل على حاله بالأمير مقبل الرومي. ورسم أن يقيم بقلعة الجبل لحفظها، والأمير يلبغا الناصري، واستقر نائب الغيبة، لفصل القضايا والأحكام بين الناس.
والأمير كزل العجمي الحاجب، ليحكم بين الناس أيضاً، والأمير شهاب الدين أحمد ابن أخت الأمير جمال الدين الأستادار، ليتحدث عوضاً عن خاله مدة غيبته، ومرجع الجميع إلى الأمير يلبغا الناصري. وفيه رحل السلطان من تجاه مسجد تبر، يريد الشام، ومعه الخليفة والقضاة وأرباب الدولة.
وفيه أفرج الأمير شيخ نائب الشام عن الأمير سودن تلي الحمدي، والأمير طوخ، والأمير سودن اليوسفي، وهم الذين طلبهم السلطان، فامتنع من إرسالهم إليه حتى غضب، وسار من مصر إلى دمشق ليأخذ الأمير شيخ. وفيه قبض الأمير شيخ على الأمير كمشبغا الجمالي الواصل من جهة السلطان لأخذ الأمراء المذكورين.
وفيه أظهر شيخ ما في نفسه، وصرح بالخروج عن طاعة السلطان، وأخذ في الاستعداد، وطلب الأمراء الذين أفرج عنهم إليه بالمرج، في ليلة الثامن عشرينه. واستدعى قضاة دمشق وفقهاءها، وتحدث معهم بحضرة الأمراء بجواز محاربة السلطان، فأفتاه شهاب الدين أحمد بن الحسباني بما وافق غرضه، وقام في ذلك شمس الدين محمد ابن الجلال التباني الحنفي قياماً بالغاً، نقل عنه إلى السلطان.
وفي حادي عشرينه: سار الأمير سودن المحمدي من دمشق إلى غزة، ومعه طائفة من عسكر الأمير شيخ، واستخدم جماعة.
وفي ثالث عشرينه: دخل السلطان إلى غزة، ونزل ظاهرها. وولي الأمير أينال الصصلاني أمير أخور نيابة غزة، وعزل عنها الأمير ألطنبغا العثماني، وولاه نيابة صفد. وقدم الخبر بأن الأمير تغري بردى كبس الرملة، يريد القبض على شاهين، دوادار الأمير شيخ، في حادي عشرينه ففر منه ولم يظفر به، وأقام حتى تقدم السلطان إلى الرملة، فرحل السلطان.
وفي بكرة رابع عشرينه: عاد سودن المحمدي ومعه شاهين الدوادار إلى وطاق الأمير شيخ، وأخبراه بقدوم السلطان، فتحول في سادس عشرينه من المرج إلى داريا، ونزل إلى قبة يلبغا. فقدم عليه قرقماس ابن أخي دمرداش، فار من صفد. وفيه قبض الأمير شيخ على ابن عبادة قاضي الحنابلة بدمشق، وعلى الرشاوي أحد نواب قضاة الشافعية، وعلى الأمير شرف الدين يحيى بن لاقي وألزمهم بمال كثير.
وفي ثامن عشرينه: قدم الأمير جانم نائب حماة على الأمير شيخ في عشرة.
وفي تاسع عشرينه: رحل الأمير شيخ بمن معه يريد ناحية صرخد، وجعل نائب الغيبة بدمشق الأمير تنكر بغا الحططي. وفيه قبض شيخ على عدة من تجار دمشق وقرر عليهم عشرة آلاف دينار وحملهم معه، هم وبدر الدين محمد بن الموصلي محتسب دمشق وكمشبغا الجمالي، وغيره في الحديد، وأفرج عن ابن عبادة الحنبلي، وفر الرشاوي.
وفي سلخه: قدمت كتب السلطان إلى دمشق- بعد رحيل الأمير شيخ- باسم قضاتها وأعيانها، تتضمن إنكار أفعال الأمير شيخ، وأنه ما لم يجهز الأمراء الذين طلبوا منه، وإلا فهو معزول، ولتقاتله العامة.
شهر صفر، أوله السبت: في ليلة السبت المذكور: نزل السلطان باللجون، فشاع بين العسكر تنكر قلوب المماليك الظاهرية على السلطان، وتحدثوا بإثارة فتنة لتقديمه مماليكه الحلب عليهم، واختصاصه بهم، وكثرة عطائه لهم، فلما أصبح السلطان، رحل ونزل بيسان من آخره، فما هو إلا أن غربت الشمس، ملج العسكر، وهدت الخيم، واشتد اضطراب الناس. وكثر قلق السلطان وخوفه طول الليل إلى أن طلع الفجر رحل إلى جهة دمشق. وسبب ذلك أن الأمير أقبغا دوادار يشبك- وهو يومئذ من جملة دوادارية السلطان- قال لكاتب السر فتح الدين فتح الله- وقد خرج معه من خدمة السلطان بالمخيم- أن الأمير علان، والأمير أينال المنقار، والأمير سودن بقجة، قد عزموا على الركوب في هذه الليلة على السلطان، ومعهم عدة من المماليك السلطانية. فأخذ فتح الله بيد أقبغا، وعاد به إلى السلطان، وأمره أن يعلمه بما حدثه به، فاعلم السلطان الخبر سراً فيما بينه وبينه. فاستدعي الأمير جمال الدين الأستادار، وأمر أقبغا فحدثه الحديث وذلك أنه لم يكن حينئذ السلطان يثق بأحد، ولا يعتمد عليه.، كثقته بكاتب السر فتح الله، وأستاداره جمال الدين، فاستشارهما فيما يعمل، فدار الرأي بين السلطان وبينهما، وبين أقبغا، من غير أن يعلم ذلك أحد، حتى استقر رأيهم على أن السلطان يستدعي وفي وقت المغرب بعلان وأينال المنقار إلى عنده، ويقبض عليهما، ويكون جمال الدين قد ركب في جماعته إلى ظاهر العسكر من جهة الشام لأخذ من عساه يفر من المماليك إلى جهة الأمير شيخ، وقاموا من عند السلطان على هذا، فغدر جمال الدين، وبعث إلى علان، وأينال المنقار، وسودن بمجة، والأمير تمراز الناصري نائب السلطة- وكان قد خرج من مصر وهو أرمد- يسير في المحفه، فأعلمهم بالخير وبعث إليهم بمال كبير لهم، وللأمير شيخ نائب الشام، فما هو إلا أن غربت الشمس ركب تمراز، وسودن بقجة، وأينال المنقار، وقرا يشبك، وسودن الحمصي وعدة مماليك سلطانية يتجاوز عددهم المائة، وسروا إلى جهة الشام يريدون الأمير شيخ، حتى لحقوا به، فاختبط العسكر، واشتد قلق السلطان، وطلب السلطان جمال الدين وفتح الله لثقته بهما- ولا علم له بشيء مما فعله جمال الدين- فأشار عليه فتح الله بالثبات، وأشار جمال الدين بركوبه ليلاً، وعوده إلى مصر، يريد بذلك إفساد حال السلطان، فنازعه فتح الله وخاصة السلطان، وما زالوا بالسلطان يثبتونه حتى طلع النهار، فسار يريد دمشق.
وفي ثانيه: نودي بدمشق في الناس بقدوم السلطان، فخرجوا إلى لقائه. وفيه ورد الخبر على السلطان برحيل الأمير شيخ عن دمشق إلى جهة بصرى.
وفي ليلة الخميس سادسه: نزل السلطان الكسوة، ففر الأمير علان وجماعة من المماليك إلى جهة الأمير شيخ. فركب السلطان بكرة يوم الخميس، ودخل دمشق، ونزل بدار السعادة. ونزل الأمراء في أماكنهم.
وفي سابعه: قبض بدمشق على الشهاب أحمد بن الحسباني، وسلم إلى ألطنبغا شقل من أجل أنه أفتي بقتال السلطان. وطلب ابن التباني فإذا هو قد سار مع الأمير شيخ. وفيه كتب السلطان بالإفراج عن سودن الظريف، وأرغز، وسلمان، من سجنهم بقلعة الصبيبة.
وفي ثامن: توجه الأمير ألطنبغا العثماني نائب صفد من دمشق إلى محل كفالته. وفيه ألزم الأخناي وابن عبادة الحنبلي بحمل شعير، قرر عليهما. وفيه قدم الخبر بنزول الأمير شيخ الصنمين، فنودي في العسكر بدمشق أن يلبسوا السلاح، ويقفوا بالليل عند باب الميدان، فبات الناس على خوف ووجل.
وفي تاسعه: استقر الأمير زين الدين عمر الهيذباني حاجب الحجاب بدمشق والأمير ألطنبغا شقل حاجباً ثانياً، والأمير بردي باك نائب حماة، عوضاً عن جانم، وخلع عليهم بدار السعادة.
وفيه كتب تقليد الأمي رنوروز بنيابة حلب، وجهز إليه، ومعه التشريف والسيف على العادة.
وفي رابع عشره: قدم الأمير أق بلاط من القاهرة بطائفة من المماليك السلطانية. وفيه قبض على رجلين معهما كتب الأمير شيخ إلى الأمراء، فشنقا.
وفي خامس عشرة: قدم الأمير بكتمر جلق نائب طرابلس إلى دمشق، وكان قد اجتمع مع الأمير دمرداش نائب حلب عند باب الحديد، يريدان حرب الأمير نوروز، وهو على ملطية، فوافاهما كتاب السلطان من غزة بطلبهما، فسارا حتى قدما على السلطان. وفيه قدم الخبر بأن الطاعون قد فشا بحمص، ومات بها- وبحماة- ألوف من الناس، وأنه حدث بطرابلس طاعون.
وفي سادس عشره: قدم من مصر عدة من المماليك السلطانية، وفيه فرض على قرى المرج والغوطة- ظاهر دمشق- وعلى بلاد حوران وغيرها، شعير يقوم به أهل كل ناحية بقدر معلوم، فاشتد الأمر في جبايته على الناس.
وفي عشرينه: قدم الأمير دمرداش نائب حلب، فأكرمه السلطان، وأنعم عليه. وفيه خلع على الأمير بكتمر جلق، واستقر نائب الشام، عوضاً عن الأمير شيخ، وخلع على الأمير دمرداش، واستقر في نيابة طرابلس مضافة إلى نيابة حلب. وفيه قبض الأمير جمال الدين الأستادار على ناصر الدين محمد بن البارزي الحموي، وضربه ضرباً مبرحاً، واستعاد منه ما تناوله من معلوم خطابة الجامع الأموي، وسبب ذلك أنه كان ولي أخاه شمس الدين محمد بن أحمد البيري- قاضي حلب- خطابة القدس، عوضاً عن شهاب الدين أحمد الباعوني، وعوض الباعوني خطابة القدس بخطابة الجامع الأموي، فولي الأمير شيخ بن البارزي الخطابة بالجامع الأموي، وعزل الباعوني- كما تقدم ذكره- فترامي الباعوني على الأمير جمال الدين وتلقاه قبل دخوله دمشق بعدة أيام، فتعصب له، وفعل بابن البارزي هذا وسجنه.
وفي ليلة ثاني عشرينه: قتل شرف الدين محمد بن موسى بن محمد بن الشهاب محمود الحلبي، قتله الأمير جمال الدين الأستادار، لحقد كان في نفسه منذ أيام حموله بحلب.
وفي رابع عشرينه: ولي السلطان قضاء الحنفية بدمشق شهاب الدين أحمد بن محيي الدين محمود بن نجم الدين أحمد بن إسماعيل بن محمد بن أبي العز- المعروف بابن الكشك- وعزل الصدر علي بن الآدمي، وولي نجم الدين عمر بن حجي قضاء طرابلس بسؤاله. ورسم أن يعين غيره بقضاء دمشق، فوقع الاختيار على الباعوني، فولاه قضاء دمشق في سابع عشرينه، وهذه ولايته الثانية.
وفي تاسع عشرينه: ركب الخليفة المستعين بالله، وقضاة مصر الأربع، وقضاة دمشق، ونودي في الناس بدمشق أن يقاتلوا الأمير شيخ الكذا، فإنه كذا، إلى غير ذلك في كلام طويل، يقرأ من ورقه.
شهر ربيع الأول، أوله الأحد: فيه ركب السلطان من دار السعادة إلى الربوة، وعاد.
وفي ثانيه: سارت أطلاب السلطان والأمراء من دمشق إلى الكسوة، وتبعهم السلطان بعساكره، وعليهم آلة الحرب، فبات بالكسوة، وأصبح راحلاً إلى جهة الأمير شيخ. وأقر تنكز بغا الحططي في نيابة الغيبة بدمشق، وسار بكرة يوم الثلاثاء، فمر بالصنمين، ونزل من آخره برأس الماء على بريد من الصنمين، وبات. فقدم الخبر بالتقاء كشافة السلطان بكشافة الأمير شيخ، وأسرهم رجلاً من الشيخية. وسار السلطان بكرة يوم الأربعاء إلى قرية الحراك، فنزل نصف النهار قدر ما أكل السماط ثم رحل رحيلاً مزعجاً، ظن الناس أن العدو قد طرقهم، فحد في مسيره ونزل عند الغروب بكرك البثنية من حوران. وبات على خوف من جمال الدين أن يقبض عليه، فإنه بلغه أنه وافق الأمير قردم وغيره على ذلك، فأعد عنده بداخل مخيمه هجنا، وأسر إلى كاتب سره فتح الله أنه قد عزم في هذه الليلة على ركوب هذه الهجن والعود إلى مصر فإن جمال الدين وقردم قد عولا على أن يكبسا علي، فرحلت من الحراك خوفاً منهما. ثم ها أنا متيقظ لحدوث أمر، فتأهب أنت أيضاً لتسير إلى مصر. فعاد فتح الله من عند السلطان ليلاً، وتأهب للرحيل، وأطلعني على ما عزم عليه- وكنت في صحبته- فترقبنا حدوث أمر لنركب، فلم يحدث شيء، حتى أصبحنا.
وفي هذه الليلة: وصلت طائفة من المماليك الجلبان إلى دمشق، فنهبوا عدة مواضع فقاتلهم العامة، وقبضوا على جماعة منهم، فاجتمعوا في يوم الخميس عند قبة سيار، فخرج إليهم عامة دمشق، وقاتلوهم.
وفي يوم الخميس: سار السلطان إلى أن نزل ظاهر مدينة بصرى، فتحقق هناك خبر الأمير شيخ، وأنه في عصر يوم الأربعاء الماضي بلغه أن السلطان قد سار في إثره، فوحل فزعا يريد صرخد، فأقام السلطان على بصرى إلى بكرة السبت. وقدم عليه ببصرى من الشيخية الأمير برسباي والأمير سودن اليوسفي، فكتب بذلك إلى دمشق. ثم سار ونزل بقرية عيون- تجاه صرخد- فكانت حرب بين أصحابه وبين الشيخية، قتل فيها فارسان من الشيخية، وجرح من السلطانية جماعة، ففر منهم جماعة إلى الأمير شيخ، فلحقوا به.
وكثر تخوف السلطان من أمرائه ومماليكه. وبلغه أنهم عولوا على أنه إذا وقع مصاف الحرب، تركوه ومضوا إلى الأمير شيخ، فبات ليلته مستعداً لأن يؤخذ، ودبر أمراً كان فيه نجاته. وهو أنه لما أصبح عند طلوع الفجر، نادى ألا تهد خيمة، ولا يحمل جمل، وأن يركب العسكر خيولهم، ويجر كل فارس جنيبه مع غلامه، من غير أن يأخذوا أثقالهم ولا جمالهم. وسار بهم كذلك، وقد أخر الأمراء ومن يخشاه من المماليك وراءه، وتقدم أمامهم في ثقاته. فلم يفجأ القوم إلا ومد طلع عليهم من ثنية هناك، وقد عبأ الأمير شيخ أصحابه، فأوقف المصريين ناحية، وقدم عليهم الأمير تمراز الناصري نائب السلطة، ووقف في ثقاته- وهم نحو الخمسمائة فارس- وحطم عليهم السلطان بنفسه ومن معه، فانهزم تمراز بمن معه من أول وهلة، وثبت الأمير شيخ فيمن معه، فكانت بينهم معارك صدراً من النهار، وأصحاب الأمير شيخ تنسل منه، وهو يتأخر إلى جهة القلعة. وكانت الحرب بين جدران مدينة صرخد، فولى السلطان وطاق الشيخية، وانتهب أصحابه جميع ما كان فيه من خيل، وجمال، وثياب، وأثاث، وخيام، وآلات، وغيرها، فحازوا شيئاً كثيراً. واستولى السلطان على جامع صرخد، وأصعده أصحابه، فرموا من أعلى المنارة بمكاحل النفط والأسهم الخطالية على الأمير شيخ، وحمل السلطان عليه حملة واحدة منكرة، فانهزم أصحاب شيخ، والتجأ في نحو العشرين إلى قلعة صرخد، وكانت خلف ظهره، وقد أعدها لذلك، فتسارع إليه عدة من أصحابه، وتمزق باقيهم، فأحاط السلطان بالمدينة، ونزل على القلعة، فأتاه الأمراء فهنوه بالظفر، وامتدت الأيدي إلى صرخد، فما تركوا بها لأهلها جليلاً ولا حقيراً، حتى أخذوه نهباً وغصباً.
فامتلأت الأيدي مما لا يدخل تحت حصر. وسار الأمير تمراز، وسودن بقجة، وسودن الحلب، وسودن المحمدي، وتمربغا المشطوب- نائب حلب- وعلان، في عدد كبير إلى دمشق، فقدموها يوم الاثنين تاسعه، فقاتلهم العامة في عاشره، ودفعوهم عن البلد، فولوا يريدون جهة الكرك، بعدما قتل منهم وجرح جماعة. وتأخر كثير منهم بدمشق، ومضى طائفة إلى جهة حماة وحلب، فأخذ منهم بدمشق وغيرها عدد كثير.
وفي عاشره: قدم كتاب السلطان إلى دمشق بخبر الواقعة. وفيه قدم من صرخد إلى دمشق الأمير برد بك نائب حماة، وسار إليها في رابع عشره.
وفي رابع عشره: قدم دمشق الأمير تغري بردى ابن أخي دمرداش من صرخد، متوجهاً إلى حلب، نائب الغيبة بها، عن عمه الأمير دمرداش. وقدم أيضاً الأمير أقباي حاجب الحجاب، وقد مرض بصرخد، ليقيم بدمشق حتى يبرأ. وقدم الأمير قردم، وقضاة مصر، وتاج الدين رزق الله ناظر جيش دمشق، في جماعة، فأقاموا بدمشق.
وقدم أيضاً كتاب السلطان فقرئ بالجامع الأموي. وفيه خبر وقعة صرخد، وأنه قد حصر الأمير شيخ بالقلعة، وعزم ألا يبرح حتى يأخذه، وأنه رد أمور دمشق إلى الأمير قردم، وأن من ظفر بأحد من الأمراء المنهزمين وأحضره فله من المال كذا. وفيه قبض بدمشق على الكليباتي والي دمشق في أيام الأمير شيخ، فضرب ضرباً مبرحاً.
وفي ثامن عشره: قدم الخبر على السلطان بأن التراكمين كسروا الأمير نوروز كسرة قبيحة، فدقت البشائر بصرخد. وفيه قبض بدمشق على علم الدين داود الكويز وأخيه صلاح الدين خليل من بيت نصراني. وفيه قدم من صرخد إلى دمشق الأمير دمرداش نائب حلب وطرابلس، فأقام بها إلى حادي عشرينه، وسار إلى محل كفالته.
وفي حادي عشرينه: اشتد الطلب بدمشق على من اختفى من الشيخية. وفيه أخرج من دمشق بالمنجنيق إلى صرخد.
وفيه قدم من صرخد إلى دمشق الطواشي فيروز الخازندار، فتسلم ابني الكوبز والشهاب أحمد الصفدي، موقع الأمير شيخ. ولم يزل السلطان على قلعة صرخد يرميها بالمدافع والسهام، ويقاتل من بها ثلاثة أيام بلياليها، حتى أحرق جسر القلعة، فامتنع الأمير شيخ ومن معه بداخلها، وركبوا أسوارها، فأنزل السلطان الأمراء حول القلعة، وألزم كل أمير بقتال جهة من جهاتها، واستدعى المدافع ومكاحل النفط من الصبيبة وصفد ودمشق، ونصبها حول القلعة، فكان فيها ما يرمي بحجر زنته ستون رطلاً دمشقياً. وتمادى الحصر ليلاً ونهاراً، حتى قدم المنجنيق من دمشق على مائتي جمل. فلما تكامل نصبه ولم يبق إلا أن يرمي بحجره- وزنته تسعون رطلاً شامياً- ترامى الأمير شيخ ومن معه من الأمراء على الأمير الكبير تغري بردى الأتابك، وألقوا إليه ورقة في سهم من القلعة، يسألونه فيها الوساطة بينهم وبين السلطان، فما زال حتى بعثه السلطان إليهم، فصعد إلى القلعة، ومعه الخليفة، وكاتب السر فتح الله، وجماعة من ثقات السلطان، في يوم السبت ثامن عشرينه، فجلسوا على شفير الخندق، وخرج الأمير شيخ، وجلس بداخل باب القلعة، ووقف أصحابه على رأسه، وفوق سور القلعة، وتولى كاتب السر محادثة الأمير شيخ، فطال الخطب بينهما، واتسع مجال الكلام، فتارة يعظه وأخرى يؤنبه ويوبخه، وآونة يعدد بالله على السلطان من جميل الأيادي وعوائد النصر على أعدائه، ويخوفه عاقبة البغي، وفي كل ذلك يعتذر الأمير شيخ، ثم انصرفوا على أن الأمير شيح لا يقابل السلطان أبداً خوفاً من سوء ما اجترمه، وقبيح ما فعله، فأبى السلطان إلا أن ينزل إليه، وأعاد الأمير تغري بردى وفتح الله فقط، بعدما ألح تغري بردى على السلطان في سؤاله العفو، فأحلف الأمير شيخ، وأخذ منه الأمير كمشبغا الجمالي وأسنبغا، بعدما خلع عليهما، وأدلاهما بحبال من سور القلعة، ثم أرخى أيضاً ابنه ليبعث به إلى السلطان، فصاح الصغير وبكي من شدة خوفه، فرحمه من حضر، وما زالوا به حتى نشله. وتصايح الفريقان من أعلى القلعة، وفي جميع خيم العسكر. فرحاً وسروراً بوقوع الصلح. وذلك أن أهل القلعة كانوا قد أشفوا على الأخذ لقلة زادهم ومائهم، وخوفاً من حجارة المنجنيق، فإنها كانت تدمرهم تدميراً، لو رمى بها عليهم.
وأما العسكر فإنهم كانوا طول إقامتهم يسرحون كل يوم، فينهبون القرى نهباً قبيحاً، ويأخذون ما يجدونه من الغلال، والأغنام، وآلات النساء، ويعاقبون من ظفروا به حتى يطلعهم على ما عنده من علف الدواب وغيره، وفيهم من يتعرض للحريم فيأتون من القبائح بما يشنع ذكره، وهذا وهم في خصاصة من العيش، وقل من المأكل. وكادت بركة صرخد أن ينزح ماؤها. ومع ذلك فإن أصحاب السلطان معظمهم غير مناصح له، لا يريدون أن يظفر بالأمير شيخ خشية أن يتفرغ منه لهم. فلهذا حسن موقع الصلح من الطائفتين، وبات العسكر على رحيل، وأصبحوا يوم الأحد، فركب الأمير تغري بردى، وكاتب السر فتح الله، والأمير جمال الدين، ومعظم الأمراء، فصعدوا إلى قلعة صرخد، وجلسوا على شفير خندقها- وكنت معهم- فخرج الأمير شيخ وجلس بداخل باب القلعة، ووقف من معه على رأسه، ومن فوق السور. وأحلف فتح الله من بقي مع الأمير شيخ من الأمراء للسلطان، وهم جانم نائب حماة، وقرقماس ابن أخي دمرداش نائب صفد، وتمراز الأعور وأفرج الأمير شيخ عن يحيي بن لاقي وتجار دمشق، وغيرهم ممن كان مسجوناً معه، وبعث للسلطان تقدمة، فيها عدة مماليك، وتقرر الحال على مسير الأمير شيخ نائباً بطرابلس، وأن يلبس التشريف السلطاني إذا رحل السلطان. فلما عادوا إلى السلطان رحل من صرخد، وقد رحل أكثر المماليك من الليل، فسار في قليل من ثقاته، وترك عدة من الأمراء على صرخد، وأفق فيهم خمسة وعشرين ألف دينار وستين ألف درهم فضة، خارجاً عن الغنم والشعير ونزل زرع، فبات بها.
شهر ربيع الآخر، أوله الثلاثاء:
فيه قدم السلطان دمشق قبيل الغروب، وقد جد في المسير، فنزل بدار السعادة، وأما الأمير شيخ فإنه نزل من قلعة صرخد بعد رحيل السلطان، ولبس تشريف نيابة طرابلس، وقبل الأرض على العادة، وعاد إلى القلعة، وجهز ابنه إلى الأمير تغري بردى، فرحل به من صرخد، ورحل معه سائر من تأخر من الأمراء السلطانية، وقدم الأمير جمال الدين الأستادار دمشق في يوم الخميس ثالثه. وفيه أفرج السلطان عن المسجونين، إلا ابني الكويز والصفدي.
وفي سادسه: قدم الأمير تغري بردى والأمير بكتمر جلق وبقية الأمراء.
وفي سابعه: قدم ابن الأمير شيخ- وعمره سبع سنين- فأكرمه السلطان، وخلع عليه، وأعاده إلى أبيه، ومعه خيول وجمال وثياب ومال كبير. وفيه ولى السلطان بدمشق الشريف جماز بن هبة الله إمرة المدينة النبوية، وشرط عليه عادة ما أخذ من الحاصل وولى أيضاً جمال الدين محمد بن عبد الله الكازروني قضاء المدينة، وبعث لهما توقيعهما وتشريفهما. وأفردت خطابة المسجد النبوي لابن صالح.
وفي ثامنه: أعفي نجم الدين عمر بن حجي من قضاء طرابلس، وكتب بإحضاره.
وفي رابع عشره: توجه قضاة مصر من دمشق، وكثير من الأثقال، يريدون القاهرة، فنزلوا بداريا. ثم عاد القضاة من يومهم لعقد ابنة السلطان على الأمير بكتمر جلق نائب الشام.
وفي يوم الخميس سابع عشره: حمل بكتمر المهر وزفته المغاني حتى دخل دار السعادة. ثم عقد العقد بحضرة السلطان والأمراء والقضاة، فتولى السلطان العقد بنفسه، وقبله عن الأمير بكتمر الأمير الكبير تغري بردى.
وفي يوم الجمعة ثامن عشره: توجه القضاة سائرين إلى مصر. وفيه أعيد الصدر على بن الآدمي إلى قضاء الحنفية بدمشق. وعزل ابن الكشك. وصلى السلطان الجمعة بالجامع الأموي، وسار بعساكره، يريد مصر، فنزل الكسوة. وفيه استقر الأمير نكباي حاجب الحجاب بدمشق، عوضاً عن الهيدباني.
وفي تاسع عشره: استقر سودن الحلب في نيابة الكرك.
وفي ليلة الأحد: سار السلطان من الكسوة، وقد ولى غرس الدين خليل الأشقتمري حاجباً بدمشق، ومتحدثاً في أستادارية السلطان بها، واستولى الأمير بكتمر جلق على دمشق، ونزل بدار السعادة على العادة.
وفي رابع عشرينه: نزل السلطان على الرملة، وسار منها يريد القدس، فقدمها. وبعث الأثقال إلى غزة، فزار، وتصدق بخمسة آلاف دينار وعشرين ألف فضة. وبات ليلة بالقدس. وسار من غده إلى الخليل، فبات به، وتوجه إلى غزة، فدخلها في سابع عشرينه، وأقام بها.
شهر جمادى الأولى، أوله الأربعاء: في ثانيه: شنق السلطان بغزة ثلاثة من مفسدي بلد الخليل، ورحل.
وفي ثالثه: قرئ بدمشق كتاب السلطان بأنه قد ولى الأمير شيخ نيابة طرابلس فإن قصد دمشق فدافعوه عنها وقاتلوه. وكان الأمير شيخ قد قصد دمشق، وكتب إلى الأمير بكنمر جلق بأنه يريد دخول دمشق، ليقضي بها أشغاله ويرحل إلى طرابلس، فكثر تخيل السلطان من دخوله إليها. وفيه قدم من حلب إلى دمشق جمال الدين الحسفاوي، ومحب الدين محمد بن الشحقه الحنفي وأخوه، وقد طلبهم السلطان لينكل بهم، من أجل أنهم وافقوا الأمير جكم على السلطة، وأفتوه بذلك.
وفي سادسه: جمعت قضاة دمشق وقرر عليهم ما فرض على القرى الموقوفة من المغارم، كما فرض على بقية القرى.
وفي يوم الخميس تاسعه: نزل السلطان على غيفا خارج بلبيس، وقبض على الأمير جمال الدين الأستادار، وعلى ابنه الأمير شهاب الدين أحمد وعلى ابني أخته الأمير شهاب الدين أحمد وحمزة، وعامة حواشيه وأسبابه، وقيدوا. ومضى بهم الأمير الكبير تغري بردى إلى القاهرة. وسار السلطان فدخل قلعة الجبل في يوم السبت حادي عشره، وقد ختم على حواصل جمال الدين ودوره، وأحيط بها. وتقدم فتح الله كاتب السر لحفظ موجوده.
وفي ليلة الجمعة عاشره: نزل الأمير شيخ على شقحب، وكان الأمير بكتمر قد خرج إلى لقائه بعسكر دمشق. ونزل قبة يلبغا. وثم ركب ليلاً يريد كبس الأمير شيخ، فلقي كشافته عند خان ابن ذي النون، فواقعه فبلغ ذلك الخبر شيخاً، فركب وأتاه. فلم يثبت بكتمر، وانهزم وأتى الأمير شيخ فنزل بمن معه قبة يلبغا. ودخل بكرة يوم الجمعة إلى دمشق، ونزل بدار السعادة من غير ممانع، وقد تلقاه الناس، فاعتذر لهم بأنه لم يقصد سوي النزول في الميدان خارج دمشق، ليقضي أشغاله، وأنه كتب يستأذن الأمير بكتمر في ذلك، فأبى ثم خرج وقاتله، فانهزم بكتمر وأما بكتمر فإنه توجه نحو صفد، ومعه قريب مائة فارس، وتخلف العسكر عنه بدمشق.
وفي ثالث عشره: ولى الأمير شيخ شهاب الدين أحمد بن الشهيد نظر الجيش بدمشق. وولى شمس الدين محمد التباني نظر الجامع الأموي، وتغري برمش- استادار- نيابة بعلبك، وأياس الكركي نيابة القدس، ومنكلي بغا كاشف القبلية والشريف محمد ابن دغا محتسب دمشق.
وإلى يوم الثلاثاء رابع عشره: خلع علي تاج الدين عبد الرازق بن الهيصم ناظر الإسطبل، وكاتب المماليك. واستقر استادار السلطان، عوضاً عن الأمير جمال الدين، ولبس زي الأمراء- وهو القباء- وشد بوسطه السيف، وعمل على رأسه كلفتاه، وخلع على أخيه مجد الدين عبد الغني بن الهيصم، مستوفي الديوان المفرد، واستقر في نظر الخاص، وخلع على سعد الدين إبراهيم البشيري ناظر الدولة، واستقر في الوزارة. وخلع علي تقي الدين عبد الوهاب بن أبي شاكر، واستقر ناظر الديوان المفرد على عادته، وأضيف إليه أستادارية الأملاك والأوقاف السلطانية، عوضاً عن الأمير شهاب الدين أحمد ابن أخت جمال الدين، وخلع على تاج الدين فضل الله بن الرملي، واستقر في نظر الدولة بمفرده، وخلع على حسام الدين حسين الأحول، واستقر أمير جاندار. وفيه ركب الأمير شيخ، ومعه عسكر دمشق بأجمعهم، يريدون صفد.
ولم يتأخر بدمشق سوى الأمير تمراز نائب السلطنة، والأمير علان.
وفيه كتب الأمير شيخ محضراً بأنه كان متوجهاً إلى طرابلس، فلما وصل شقحب قصده بكتمر، وأراد أن يركب عليه، ويبدد شمله، فدفع عن نفسه. وشهد له فيه جماعة، وقصد تجهيزه إلى السلطان، فلم يجسر أحد على المضي به، فسار- وهو معه- حتى بلغ إلى المنية قريباً من صفد وجد إمام الصخرة بالقدس، فبعثه به إلى القاهرة.
وفي ثامن عشره: سار سودن المحمدي من دمشق ليلحق الأمير شيخ. وكان الأمير شيخ لما قارب صفد جهز الأمير جانم والأمير قرقماش ابن أخي دمرداش، وسودن الجلب، وشاهين الدوادار إلى صفد، فطر قوها على غفلة فثار إليهم أهل القلعة ودفعوهم، فولوا راجعين.
وفي سابع عشرينه: قدم الأمير بكنمر جلق نائب الشام، ومعه الأمير برد بك نائب حماة، والأمير نكباي حاجب دمشق، والأمير ألطنبغا العثماني نائب صفد، والأمير يشبك الموساوي الأفقم نائب غزة، فخرج السلطان إلى لقائهم، ودخل من باب النصر، فشق القاهرة، وخرج من باب زويلة، ونزل بدار الأمير طوخ أمير مجلس يعوده في مرضه. وصعد إلى القلعة. وفيه خلع على شهاب الدين أحمد بن أوحد، واستقر في مشيخة خانكاه سرياقوس، عوضاً عن شمس الدين محمد القليوبي.
وفيه أحضر الأمير جمال الدين الأستادار محمولاً إلى بين يدي السلطان، لعجزه عن المشي من العقوبة. وكان قد عوقب بالعصر في رجليه، فأخرج عدة دخائر منها دخيرة في حادي عشره من حارة زويلة، وجدت مدفونة في التراب، ذهباً صبيباً من غير وعاء، زنته خمسة وخمسون ألف مثقال، غربلت من التراب، ووزنت بحضرة قضاة القضاة الأربع، ودخيرة أخرى في غده، وجد فيها تسع قفاف مملوءة ذهباً، وحق فيه نفاش من الجوهر، ودخيرة ثالثة أخرجها ابنه أحمد بحضرة القضاة وكاتب السر من منزله، بلغت مائتي ألف دينار، واثنتين ألف دينار، عنها اثنان وعشرون قنطارا وخمس قنطار، حضروا بها القضاة وكاتب السر، ثم خبية أخرى من داره، بلغت ستين ألفي دينار. ومن السلاح والقماء وسائر الأصناف شيئاً كثيراً، فكان يحمل منه في كل يوم عدد كثير من الأحمال ثم عصر في ثاني عشرينه عصراً شديداً، وعصر ابنه بحضرته، فاعترف الابن بدخيرة وجد فيها أحد عشر ألف دينار، وثلاثمائة دينار، ولم يعترف جمال الدين بشيء، فأنزل بابني أخته شهاب الدين أحمد الحاجب وأخيه حمزة إلى بيت الأمير تاج الدين بن الهيصم الأستادار، فسلما إليه، فعاقب جماعة من أقارب جمال الدين وألزامه. فلما مثل جمال الدين بحضرة السلطان عنفه على ما كان منه فاعترف بالخطأ، وسأل العفو، وقبل الأرض، ثم أعاده إلى موضع حبسه من القلعة، وأمر بمعالجته حتى يبرأ.
وفي سابع عشريه: أيضاً قدم الأمير نوروز من عند التركمان إلى حلب، ومعه الأمير يشبك بن أزدمر وجماعة. فخرج الأمير دمرداش إلى لقائه، وبالغ في إكرامه، وأنزله. وقام له ولمن معه بما يليق بهم، وحلفهم للسلطان، وكتب يعلم السلطان بذلك، ويسأله أن يعيد الأمير نوروز إلى نيابة الشام، وأن يولي يشبك بن أزدمر طرابلس، ويولي ابن أخيه تغري بردى حماة.
شهر جمادى الآخرة، أوله الجمعة.
فيه توجه الأمير مقبل الرومي أحد أمراء الألوف إلى دمياط، ليركب البحر إلى الأمير نوروز، ومعه تشريف وتقليده نيابة الشام، ومبلغ خمسة عشر ألف دينار. وإنما ركب البحر لتعذر السلوك في البر إلى الشام.
وفيه وجد لجمال الدين بمدرسته بيت فيه سبعمائة قفة فلوس، فكان مبلغ ما وجد له تسعمائة ألف دينار وأربعة وستين ألف دينار.
وفي ثانيه: قدم إمام الصخرة، ومعه جندي بكتاب الأمير شيخ والمحضر، فغضب السلطان ووسط الجندي، وضرب الإمام ضرباً مبرحاً، وسجنه بخزانة شمايل.
وفي رابعه: أنزل بجمال الدين وابنه أحمد من قلعة الجبل على قفصي حمال، إلى بيت ابن الهيصم. وفيه قدم الأمير شيخ من سفره إلى دمشق، وقد وصل إلى غزة في طلب الأمير بكتمر، فلم يدركه، فولى في غزة سودن المحمدي، وفي الرملة جانبك، فقدم الخبر إلى دمشق بأن يشبك ابن أزدمر، وتغري بردى بن أخي دمرداش، بعثهما نوروز إلى حماة، ففر منها جانم، وكان قد بعثه الأمير شيخ إليها.
وفي سابعه: قبض السلطان على الأمير بلاط أحد أمراء الألوف، وعلى الأمير كزل الحاجب، وبعثا مقيدين إلى الإسكندرية.
وفي ثامنه: بعث الأمير شيخ الأمير قرقماس ابن أخي دمرداش من دمشق على عسكر إلى طرابلس.
وفي تاسعه: أعيد شمس الدين محمد الطزويل إلى حسبة القاهرة، وعزل ابن شعبان، واستقر زين الدين حاجي في قضاء العسكر وعزل شمس الدين محمد البرقي الحنفي.
وفي حادي عشره: نقل جمال الدين الأستادار ليلاً من بيت ابن الهيصم في قفص حمال إلى بيت الأمير حسام الدين حسين الأحول، فعاقبه أشد العقوبة لإحن كانت في نفسه منه، ثم خنقه من الغد، وقطع رأسه، وحمله إلى السلطان حتى رآه، ثم أعاد الرأس، فدفن مع جثته.
وفيه استقر علاء الدين علي الحلبي قاضي غزة في مشيخة خانكاه بيبرس بالقاهرة، عوضاً عن شمس الدين محمد البيري قاضي حلب وأخي جمال الدين، واستقر نور الدين على التلواني في تدريس الشافعي، عوضاً عن أخي جمال الدين.
وفيه أحضر السلطان رجلاً يعرف بالشهاب أحمد بن الزعيفريني، وقطع يسيراً من لسانه، وبعض عقد أصابع يده، من أجل أنه كتب ملحمة قيل أنها من نظمه، زعم أن الملك يصل إلى جمال الدين وإلى ابنه أحمد.
وفي رابع عشره: خلع على الأمير يلبغا الناصري، واستقر حاجب الحجاب عوضاً عن كزل العجمي.
وفي سابع عشره: قبض سنان نائب قلعة صفد على الأمير ألطنبغا العثماني، لممالأته الأمير شيخ. وقام الأمير علان بنيابة صفد من قبل الأمير شيخ. وفيه ولى الأمير شيخ صدر الدين علي بن الآدمي نظر الجيش بدمشق، وولي محب الدين محمد بن الشحنة الحلبي قضاء الحنفية بدمشق.
وفي حادي عشرينه: ولي الأمير شيخ الشهاب أحمد بن الحسباني خطابة الجامع الأموي، وعزل الباعوني، ثم أعاده من الغد، وخطب، ثم قسم الخطابة بعد صلاة الجمعة بينه وبين الحسباني. ثم في عصر يومه ولي الحسباني قضاء الشافعية بدمشق، وعزل الباعوني.
وفي رابع عشرينه: خرج الأمير شيخ من دمشق، يريد حماة.
وفي ثامن عشرينه: وصل الأمير يشبك الموساوي من مصر إلى رفح، فلقيت كشافته كشافه سودن المحمدي فكسروهم، ففر المحمدي من غزة، ودخلها الموساوي من يومه نائباً بها، بعدما نهب المحمدي شيئاً كثيراً من غزة فتبعه يشبك، ومن قدم معه من مصر، وهم الأمير قانبك رأس نوبة، والأمير فخر الدين عبد الغني بن أبي الفرج كاشف الشرقية، والأمير حسين بن قطايا وعدة من المماليك السلطانية، فلحق بجهة الكرك، وقدم خبر ذلك إلى دمشق، فانزعج الشيخية انزعاجاً شديداً.
وفي هذا الشهر: كانت فتنة بين الأمير علان وأهل صفد، هزموه فيها، لما بلغهم من قدوم عسكر السلطان مع الموساوي إلى غزة، فقدم دمشق في سابعه. وفيه تقرر الصلح بين الأمير نوروز والأمير شيخ، فدقت البشائر بدمشق عدة أيام. وفيه قدم شرف الدين يعقوب بن الجلال التباني الحنفي إلى دمشق، فاراً من السلطان في أوائله. وفيه سار أبو شوشة صديق التركمان من صفد بطائفة، وكبس حولة بانياس، ففر من كان بها من جهة الأمير شيخ، ولحقوا بدمشق.
شهر رجب، أوله السبت: في سابعه: أعيد ابن شعبان إلى الحسبة، وعزل الطويل، ثم عزل ابن شعبان بشمس الدين محمد بن يعقوب الدمشقي في ثامن عشره.
ومن النوادر أن النيل وفى ست عشرة ذراعاً، وفتح الخليج في أول يوم من مسرى، وبلغ في الزيادة ما يقارب اثنتين وعشرين ذراعاً، وثبت إلى نصف هاتور.
شهر شعبان، أوله الاثنين: فيه بلغ القمح إلى قريب ثلاثمائة درهم الأردب، والشعير والفول إلى مائتي الأردب، والحمل التبن إلى مائة وعشرين، والرطل اللحم الضأن إلى عشرة دراهم.
وفي ثالثه: أعيد كريم الدين الهوى إلى الحسبة، وعزل ابن يعقوب.
وفي هذا الشهر: كانت وقعة بغزة بين يشبك الموساوي، وسودن المحمدي، وعلان نائب صفد، قتل فيها جماعة، وفر الموساوي، ودخل القاهرة في أوائله، وجرح علان في وجهه، فحمل إلى الرملة، ومات بها، فبعث المحمدي يسأل الأمير شيخ في نيابة صفد، فولاه في خامس عشره.
وفي سابع عشرينه: قبض على الأخناي قاضي دمشق، وسجن بدار السعادة وطلب منه عشرة آلاف دينار، وسبب ذلك أنه اتهم بمكاتبة نوروز.
وفي ليلة الأحد حادي عشرينه: قدم الأمير دمرداش إلى حماة نجدة للأمير نوروز، ومعه عسكر حلب وطوائف التراكمين الأوشرية والبياضية، وكردي بن كندر، وعرب الفرات، وبلاد حلب. وكان قد وصل الأمير مقبل الرومي من مصر على ظهر البحر، وسار الأمير نوروز، فوصل إلى حماة في رابعه، ومعه تقليده بنيابة الشام، والتشريف السلطاني. وكتاب السلطان، فلبس التشريف، وقبل الأرض على العادة، وجدد اليمين بالطاعة للسلطان، فقدم عليه في غد قدوم مقبل جماعة ممن في صحبة الأمير شيخ، منهم تمربغا المشطوب، وتمراز نائب حماة، وسودن الحلب، وجانبك القرمي، وبردبك حاجب حلب فلما بلغ الأمير شيخ قدوم دمرداش نائب حلب ركب وترك وطاقه وأثقاله، وتوجه إلى ناحية الربان، مركب دمرداش بكرة يوم الأحد المذكور، وأخذ الرطاق، فعاد الأمير شيخ وقاتله قتالاً شديداً، قتل فيه جماعة، منهم بيازير من إخوة نوروز، وأسر عدة كثيرة، منهم الأمير محمد بن قطكي أمير الأوشرية، وفارس أمير أخور دمرداش، وأحد طبلجاناه دمرداش، وكسر أعلامهم. ونزل الأمير شيخ على نقيرين، ورحل ليلة الاثنين يريد حمص، فقدم الخبر إلى دمشق في ليلة الخميس بكسرة الأمير شيخ، فعزم من بها من أصحابه على الهرب، واشتغلوا بأنفسهم، ففر الأخناي من سجنه بدار السعادة، واختفى حتى سار إلى صفد، فقدمها في ثالث شوال، وكتب يعرف السلطان خبره، ويغريه بالأمير شيخ.
وفي سادس عشرينه: قدم إلى دمشق من وطاق الأمير شيخ شمس الدين محمد بن التباني، وقد ولاه خطابة الجامع الأموي، فأكبر الناس ذلك، لأنهم لم يعهدوا خطبه قط إلا شافعياً. وكتبوا في هذا إلى الأمير شيخ فأعاد الباعوني إلى الخطابة.
شهر رمضان، أوله الثلاثاء: فيه أرجف في دمشق بهجوم سودن المحمدي، فجعلت الستائر على قلعة دمشق، وسبب ذلك أن نوروز كاتبه يستميله إليه، فاستحال على الأمير شيخ، وتوجه إلى دمشق يريد أخذها، وعاث في بلاد صفد، وصادر أهل القرى. ونزل سعسع، فكتب بدلك إلى الأمير شيخ فبعث دواداره جقمق، فقدم في سادسه باستخراج الأموال من الناس، ففرض على البساتين والقرى مالاً جبى منهم. فبينما هو في ذلك، إذ قدم المحمدي من غده يوم الاثنين سابعه إلى داريا، وزحف حتى وصل إلى المصلى، وضرب خامه، ونادى بالأمان.
وقال: أنا من جهة السلطان والأمير نوروز نائب الشام، وحطم يريد القلعة، وقد وقف الأمير ألطنبغا القرمشي نائب الغيبة بمن معه على باب النصر، فدخل طائفة من أصحاب المحمدي المدينة من باب الصغير، فدخل القرمشي وجماعته من باب النصر، وأغلقوا عليهم. ورمي من بالقلعة على رجالة المحمدي فانهزموا. وبينما الناس في القتال، إذ قدم من وطاق الأمير شيخ الأمير سودن بقجة، والأمير أينال المنقار على عسكر، فقاتلوا المحمدي قتالاً كثيراً، تقنطر فيه عن فرسه إلى الأرض، فأدركه من معه وأركبوه، وقد تفرق جمعه.
فمر على وجهه ولحق بالأمير نوروز وحلف له وللسلطان وغنم أهل دمشق ما كان معه، وقبضوا على خمسين من أصحابه. فلما انجلت الوقعة، قدم في الليل شاهين الدوادار من وطاق الأمير شيخ، وجد في استخراج ما فرض على الناس من الأموال، فنزل بأهل دمشق شدائد.
وفي سادس عشرينه: نودي في دمشق بالتأهيب للخروج مع الأمير سودن بقجة، ليشر إلى صفد، فإنه استقر في نيابتها من جهة الأمير شيخ، وكان قد وصل الأمير شاهين الزردكاش إلى صفد من قبل السلطان نائباً بها، وولي أيضاً جانبك دوادار الحمزاوي نيابة غزة، وشاهين الحلبي كاشف الرملة، ووعدهم أن يسيرهم جميعاً إلى محل ولاياتهم في عيد الفطر.
وفي هذا الشهر: كتب الأمير شيخ كتاباً إلى السلطان يخادعه فيه، من مضمونه أنه لما عفي السلطان عنه بصرخد امتنع من الحلف الأمير بكتمر جلق، والصلح معه. ثم توجه بعد رحيل السلطان، وصحبته الأمير سودن الأسندمري متسفره، حتى بلغ عجلون أعاده السلطان ليعود إليه بما يرسم به، فلما تأخر حضوره توجه إلى محل كفالته، فبلغه أن الأمير بكتمر جمع عليه ثم أنه كبسه على شقحب، فكان من أمره ما كان. ثم توجه إلى عزة وجهز قصاده بمطالعته، تتضمن صورة ما اتفق، فلم يصل إليه الجواب، وأن ذلك بوساطة من قصده إبعاده عن خاطر السلطان، ثم بلغه أن الأمير نوروز حضر إلى حماه وتطرق إلى حمص وأعمالها، وشن الغارات بها، وأظهر الفساد ونهب، فما وسعه سوى المبادرة إليه ليردعه، وتعب البلاد والعباد مما حل بهم، فلما قربه تحصن بمدينة حماة، فنازله وضايقه، وحاصره مدة، إلى أن حضر إليه الأمير دمرداش نائب حلب بعسكرها، وطوائف التركمان والعرب، وخرج إليه فقاتله وكسره، وقتل منه جماعة. فلما أن أدركه شهر رمضان رفع القتال تعظيماً لحرمته، ونزل بحمص ليصوم بها، فبلغه أن سودان المحمدي كاتب نوروز ووعده أن يأخذ له دمشق فبادر وجهز فرقة ليسير بها إليه خوفاً على المسلمين، فوافوه وقد قدم بالعشير والتركمان، فكسروه، وأخذوا غالب جماعته، وجميع ما كان معه، ثم أخذ بعد هذه الأخبار يذكر أنه تاب وأناب، ورجع إلى طاعة السلطان. ثم أخذ يغري نوروز، وأنه يريد الملك لنفسه، ولا يطيع أبداً، وأنه هو لا يريد إلا الانتماء إلى السلطان فقط، ورغبته في عمل مصالح العباد والبلاد، وسأل العفو والصفح عنه، فلم يمش هذا على السلطان.
شهر شوال، أوله الخميس: في ثالثه: قدم قاضي القضاة شمس الدين محمد الأخنادي إلى صفد، فاراً من الشيخية بدمشق، فأكرمه الأمير شاهين الزردكاش، وأنزله ثم بعث الأخناي كتبا يخبر فيه السلطان بما جرى له، ويغريه بالأمير شيخ، وأنه خارج عن طاعته، ويحثه فيه على سرعة الحركة إلى الشام.
في ثامنه: خرج من دمشق عسكر، عليه شاهين الدوادار، وخرج من غده عسكر آخر عليه الأمير سودن بقجة، والأمير ألطنبغا القرمشي الحاجب، فساروا إلى سعسع وأقاموا بها، وقد جمع الأمير شاهين نائب صفد العشير، واستعد لهم، وكان تغري برمش نائب بعلبك قد جمع منها أموالاً جزيلة، بأنواع الظلم على عادته، ثم فر بها، وقدم صفد مفارقاً للأمير شيخ، ثم سار إلى السلطان.
وفي يوم السبت عاشره: وكتب السلطان من قلعة الجبل وعدى النيل إلى بر الجيزة، ونزل بناحية أوسيم عند مرابط خيوله على البرسيم الخضر ليتصيد ويتنزه.
وفي ثالث عشره: أعاد السلطان ابن شعبان إلى الحسبة وعزل الهوى بم ثم عدي النيل في يوم الخميس ثالث عشرينه، وركب يريد القلعة، حتى وصل قريباً من قناطر السباع عند الميدان، أمر بالقبض على الأمير قردم الخازندار، والأمير أينال المحمدي الساقي، فقبض في الطريق على قردم.
وأما أينال فإنه شهر سيفه، وساق فرسه، ومضى فلم يلحقه غير الأمير قجق أدركه وضربه على يده ضربة جرحه جرحاً بالغاً، وفاته، فلم يقدر عليه، وصعد السلطان إلى القلعة سالماً. وسبب ذلك أنه بلغه عنهما أنهما يريدان إثارة فتنة. وقام بعض المماليك فحاققهما أنهما يكاتبان الأمير شيخ، فنودي على الأمير أينال بالقاهرة، عدة أيام، فلم يعرف خبره،. وحمل قردم إلى الإسكندرية، فسجن بها، ورتب له في كل يوم مبلغ خمسمائة درهم من الفلوس. ولم يؤخذ له خيل ولا قماش، ولا غير ذلك.
وفي ثالث عشره: نزل على صفد عسكر دمشق، وفيه شاهين الدوادار، وقرقماش ابن أخي دمرداش وسودن بقجة، وألطنبغا القرمشي، وخليل الجشاري، وحسن بن قاسم بن متيرك مقدم عرب حارثة، وأبو بكر بن مشاق شيخ جبل نابلس، في جمع كثير من العشير والتركمان، فخرج إليهم الأمير شاهين وقاتلهم يومه، وباتوا متحاربين، وعدوا على حربهم، فاقتتلوا يومهم بطوله قتالاً شديداً، جرح فيهم شاهين بوجهه ويده، وكاد يؤخذ لولا أنه فر، فتبعه قرقماش وبقية العسكر، وقد جرح أكثرهم، ونهب لهم شيء كثير، وقتل بين الفريقين جماعة، وأسر من أهل صفد أسندمر كاشف الرملة، فنزل الشيخية قريباً من صفد، ومنعوا الميرة أن تصل إليها، وبعثوا بأسندمر إلى الأمير شيخ، وسألوه في نجدة، فعين لهم أقبردي المنقار بمائة وخمسين فارساً، وأردفه بيشبك الأيتمشي، وبنائب بعلبك.
وفي خامس عشره: قدم إلى صفد الأمير يشبك الموساوي نائب عزة من قبل السلطان. وقدم أيضاً سودن اليوسفي، وبردبك من أصحاب نوروز.
ثم سار قرقماش ابن أخي دمرداش عن صفد، وقدم على الأمير شيخ بحمص، مسيره إلى دمشق، فقدمها في ثاني عشرينه، ومعه مائة فارس لتجهيز الآلات لقتال صفد، وقد حصنت قلعة دمشق، ونصب عليها المنجنيق خوفاً من قدوم الأمير نوروز إليها.
وفيه قدم أيضاً إلى دمشق ناصر الدين محمد بن خطب نقيرين، وقد ولاه الأمير شيخ قضاءها. وعزل الشهاب الحسباني. وقدم شرف الدين يعقوب بن التباني وقد ولاه أيضاً مشيخة السميساطية، وعزل الباعوني عنها.
وفي خامس عشرينه: ركب الشيخية بأجمعهم على صفد، وقد أتاهم من العشران وغيرهم طوائف، فافترقوا عن المدينة ثلاث فرق، وزحفوا عدة زحوف، فكان قتالاً شديداً من بكرة النهار إلى الظهر، فانكسر قرقماس، وجرح، وقتل عدة من أصحابه، فانهزم البقية، وتبعهم الصفديون، ونهبوا وطاقهم، وعدة دواب لهم وخرج من الغد الأمير بردبك السيفي نوروز من صفد بعسكر إلى حولة بانياس، ومعه الأمير مهنا ابن الغزاوي بقومه، وقد أبلى في أمه على صفد بلاء كثيراً، وقتل ولده الأكبر، وعورت عين ابنه الآخر، وأصيبت رجل ابنه الثالث. وتوجه معه أيضاً فضل بن غنام بن زامل من آل مهنا. وكانت له أيضاً في الوقعة أثار مشهورة. وتوجه أيضاً محمد بن هيازع، فعاثوا في تلك النواحي.
وفيه سار يشبك الموساوي من صفد عائداً إلى غزة، وعاد أولاد ابن بشارة أيضاً بعشيرهم إلى بلدانهم، فكانت وقعة صفد هذه من الحروب المذكورة، قل من سلم فيها من عسكر صفد، فكانوا بين قتيل وجريح، وتلفت خيول كثيرة، وأقام الشيخية بأراضي الحول هوهم بأسوأ حال، فاشتد الأمر بدمشق، وطلب سودن بقجة نائب شيخ من تجارها وأعيانها الأموال والخيول، وجبى من الجناد ومن الطواحين عدة خيول، واستجد بها عسكراً. هذا والأمير شيخ بحمص، حاصر الأمير نوروز بحماة.
وفيه قدم على الأمير شيخ كتاب قرا يوسف، بأنه قد ملك عراق العجم وديار بكر وماردين، وأنه سلطن ابنه محمد شاه، ونزل في الموصل، وقصده الحضور إلى الشام نجدة له لاستمراره على ما بينه وبينه من العهود والمودة. فجمع الأمير شيخ الأمراء واستشارهم، فما منهم إلا من أشار بحضور قرا يوسف إلا الأمير تمراز الناصري نائب السلطة، فإنه أنكر ذلك وخوفهم عاقبة قدومه، وأشار بتأخير جوابه حتى يعلم السلطان بذلك، ويراجع في أمر الأمير شيخ ومن معه، ثم يعمل بمقتضى جوابه عن ذلك، فوافقوه على هذا، وكتبوا إلى السلطان يخوفوه من قدوم قرا يوسف إلى بلاد الشام أن يتطرق منها إلى مصر، وسألوه حسن النظر للأمراء، بما فيه مصلحة العباد والبلاد.
وفي سابع عشرينه: استقر شمس الدين محمد بن علي بن معبد المدني في قضاء القضاة المالكية بديار مصر، وعزل جمال الدين يوسف البساطي. وفيه أنعم على سودن الأشقر رأس نوبة بتقدمة ألف بديار مصر.
شهر ذي القعدة، أوله السبت: فيه سارت نجدة من دمشق إلى من في الحولة من الشيخية، فمضوا إلى بيسان وكبسوا محمد بن هيازع أمير عرب بني مهدي في خامه، وأخذوا ما كان معه، وتوجهوا إلى صفد، فكانت بينهم وبين الأمير شاهين وقعة جرح فيها جماعة.
وفي عاشره: قبض على الأمير أينال المحمدي الساقي أمير سلاح في بعض حارات القاهرة، فأخرج إلى الإسكندرية في يومه. وفيه استقر أقتم أحد المماليك الظاهرية في ولاية القاهرة، وعزل ابن الطلاوي. واستمر حسام الدين حسين الأحول أمير جاندار في شد الدواوين، وعزل آدم البريدي، وكان ظالماً فاجراً، وقبض عليه، وعوقب.
وفي آخره: أضيفت ولاية القاهرة إلى الحسام حسين الأحول.
شهر ذي الحجة، أوله الأحد: في ثانيه: قدم كتاب الأمير شيخ من الوطاق إلى دمشق، بأن الشيخ أبا بكر بن تبع وصل إليه رسولاً من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن منام رآه شخص، فيه أن النبي- صلى الله عليه وسلم- يقول له: قل لشيخ أن لم يرجع عما هو فيه وإلا هلك ومن معه. فقال: يا رسول الله أخاف ألا يصدقني.
فقال: قل لابن تبع يذهب إليه. فقال: ما يصدقه. فذكر له علامة من تحويط نفسه عند النوم بذكر ذكره. متوجه هو وابن تبع إليه فقص عليه المنام، مصدق العلامة، وكتب إلى دمشق برفع المظالم، وأنه قد رجع وأناب إلى الله تعالى، وسأل الدعاء له بالتوفيق والسداد. فقرئ الكتاب في الجامع الأموي بحضرة القضاة والأعيان والعامة. ونادى الأمير سودن بقجة نائب الغيبة برفع المظالم، فلم يرفع شيء منها، بل قدم تاج الدين محمد بن الشهاب أحمد الحسباني من الوطاق بحمص إلى دمشق، وقد ولاه الأمير شيح حسبة دمشق ووكالة بيت المال وقضاء العسكر، وإفتاء دار العدل، على أن يقوم له بألف دينار، كتب بها خطه، حتى بيها من وجوه المظالم. وقدم أيضاً الطواشي مرجان الهندي الخازندار بالكشف عن أوقات الصدقات ومحاسبة المباشرين عليها.
وفي سادسه: سار من دمشق شاهين الدوادار على عسكر، وسار جقمق الدوادار من الغد إلى البقاع.
وفي ليله الاثنين تاسعه: قتل سنان نائب قلعة صفد، بحيلة دبرت عليه.
وأما الأميران شيخ ونوروز، فإنه لما كان في أول هذا الشهر اجتمع على الأمير شيخ جمع كبير من عسكره، ومن طائفة التركمان البازية والأشرية، والكبكية، والذكرية، والأسقية، والبزقية. وقدم عليه الأمير شهاب الدين أحمد بن رمضان، ونزل العمق، فسار الأمير شيخ من حمص إلى وادي الخزاندار، واجتمع بأمير الملا العجل بن نعير وأخذه معه، وقد قدم ببيوته وبوشه، ونزل بظاهر حماة في يوم الخميس ثاني عشره، وخيم بظاهرها. هذا وقد اجتمع عند الأمير نوروز ودمرداش بحماة طائفة التركمان الأوشرية والبياضية، وقدم على ابن دلغادر، ونزل قريباً من العمق ببيوته، فاقتتل أصحاب شيخ ونوروز قتالاً يسيراً، وأصبح الأمير شيخ في يوم الجمعة على ألا يقاتل، فما أحس وقت صلاة الجمعة، إلا ونوروز قد خرج من مدينة حماة- هو ودمرداش بعساكرهما، مركب حينئذ واقتلوا إلى قريب العصر فخامر على نوروز طائفة التركمان الأوشرية، فانهزم وعبر المدينة- هو ودمرداش- وقد أخذ الأمير شيخ سودن الجلب وجان بك القرمي وشاهين الأياسي وسودن أمير أخور، ونوروز، وبيازير، وجماعة. وغرق بوزجا أمير التركمان البياضية في نهر العاصي، وغرق أسطاي أخو يونس، وجماعة كثيرة، وتسحب منهم جماعة، وغنم الأمير شيخ نحو ألف فرس. وتفرق أكثر التركمان والعربان عن نوروز، ولحق بالأمير شيخ منهم جماعات. ونزل بالميدان خارج حماة ومعه العجل، وأقاما يومي السبت والأحد بغير قتال، فلما كان ليلة الاثنين صلع تمربغا المشطوب وسودن المحمدي وتمراز نائب حماة، وكبسوا العجل ليلاً، فاقتتلوا إلى قريب الفجر وأخذوا مواشي كثيرة، فركب الأمير شيخ نجدة للعجل، فخرج نوروز ونهب وطاقه وعاد إلى حماة، فنزل الأمير شيخ بكرة يوم الاثنين قريباً من شيزر، ونزل العجل بطرف البر، وقد كملت مدة الحرب سبعة أشهر. وكتب الأمير شيخ إلى دمشق بكسرة نوروز، فدقت البشائر بها وزينت، وكتب دمرداش إلى السلطان يطلب منه نجدة، ويحثه على سرعة المسير إلى الشام، ويخوفه عاقبة تأخره لخروج البلاد من يده.
وفي تاسع عشره: وصلت كشافة برد بك السيفي إلى عقبة شحورا ظاهر دمشق، ونزل هو بشقحب، وتأهب أهل قلعة دمشق لحربه.
وفي عشرينه: وصل إلى دمشق الأمراء المأخوذون من أصحاب نوروز، وهم سودن الجلب، وكشكنا، وجان بك القرمي، ونحو خمسين مملوكاً، ما بين ماش وراكب حمار، فسجنوا بقلعة دمشق. وفيه خرج عسكر من دمشق مع سودن بقجة وألطنبغا القرمشي، فاقتتلوا مع برد بك، فانكسر جاليش بقجة، فركب ومال على تركمان برد بك وكسرهم، وحمل بمن معه على برد بك هزمه على خان ابن ذي النون، فمر إلى صفد، ونهب ما كان معه، ومضى سودن بقجة وألطنبغا القرمشي، والأجرود نائب بعلبك وأينال المنقار بجمع كبير من العشير والتركمان والعرب يريدون غزة، فاشتد الأمر على نوروز من طول الحصار، ومنع الميرة، وفرار أكثر التركمان عنه، بحيث لم يبق عنده غير كردي باك، وابن دلغادر، وانضم ابن رمضان وابن صاحب الباز إلى الأمير شيخ. وأخذت له إنطاكية، فكثر جمعه، وجهز شاهين الدوادار، وأيدغمش من كبك، إلى حلب، ولم يبق بيد السلطان من البلاد الشامية غير غزة وصفد، ومعه بردبك السيفي، ونوروز بحماة وهو محصور، فلما تزايد الضيق على نوروز ودمرداش، استدعيا أعيان مدينة حماة.
وما زالا بهم حتى كتبوا إلى العجل بن نعير بأن نوروز فر من حماة، ولم يبق بها إلا دمرداش، وسألوه أن يأخذ لهم الأمان من الأمير شيخ، فمشى ذلك على العجل، وركب إلى الأمير شيخ، وأعلمه بذلك، فبعث فرقة من مماليكه ومن عرب العجل بسلالم تسوروا منها على السور، وتركوا خيولهم بباب الجسر، ونزلوا المدينة، فأخرج النوروزية خيولهم وركبوا عليهم وقتلوهم جميعاً، إلا رجلين من أمراء العجل، وعلقوا الرءوس على السور، وألزم أمير العجل حتى كتب إليه بأن الصلح قد انعقد بين نوروز وشيخ على أن يمسك نوروز دمرداش يسلمه لشيخ، ويمسك شيخ يسلمه لنوروز، فلم يكذب العجل ذلك، وركب لوقته وسار يريد البر، فركب الأمير شيخ في إثره ليرده، فخرج نوروز ودمرداش بمن معهما، ونهبوا وطاقه وخيله، فبلغه ذلك، فعاد إلى حمص، ثم سار عنها إلى القريتين وكتب إلى سودن بقجة أن يبعث الأمراء النوروزية والمماليك إلى قلعة المرقب، وكتب يطلب الصلح من نوروز فأبى عليه، وخرجت السنة وهم على ذلك والسلطان متحرك للسفر إليهما.

.ومات في هذه السنة ممن له ذكر:

جماعة منهم نصر الله بن أحمد بن محمد بن عمر التستري البغدادي مدرس المدرسة الظاهرية برقوق للحنابلة، في حادي عشرين صفر. ومولده ببغداد في حدود الثلاثين وسبعمائة، وله مصنفات ونظم ونثر.
ومات الأمير جمال الدين يوسف بن أحمد بن محمد بن أحمد بن جعفر بن قاسم البيري الحلبي. قتل في ليلة الثلاثاء حادي عشر جمادى الآخرة، بعدما حكم إقليمي مصر والشام، ولم يفته من السلطة إلا الاسم، وقد بسطت ترجمته في التاريخ الكبير المقفي، وفي كتاب درر العقود الفريدة في تراجم الأعيان المفيدة هو وكل من له وفاة في هذا الجزء، ويستحق بها أن يذكر، إما بشهرته أو بفضيلته.
ومات الأمير أقباي الكبير الطرنطاي رأس نوبة الأمراء، في ليلة الأربعاء سابع عشرين جمادى الآخرة، ونزل السلطان إلى داره، ثم تقدم راكبا إلى المصلى فصلى عليه، وشهد دفنه. وترك من العين أربعين ألف دينار مصرية واثني عشر ألف دينار مشخصة، ومن الغلال والخيول والجمال وغير ذلك شيئاً كثيراً، فأخذ السلطان الجميع، ولم يترك لأولاده شيئاً، وكان عسوفاً، شرهاً في جمع المال، بخيلاً.
ومات الأمير طوخ الخازندار، في آخر جمادى الآخرة.
ومات الأمير بلاط، أحد المقدمين، مقتولاً بين الإسكندرية ودمياط.
ومات شمس الدين محمد بن عبد الله، أبي بكر القليوبي، شيخ خانكاه سرياقوس، بها في يوم الخميس ثاني عشرين جمادى الأولى، وكان من فضلاء الشافعية، متواضعاً، ديناً.
وقتل الأمير الشريف جماز بن هبة الله بن جاز بن منصور الحسيني، أمير المدينة النبوية، في جمادى الآخرة، بالفلاة، وهو في عشر الستين.
وولي إمارة المدينة ثلاث مرات، آخرها في سنة خمس وثمانمائة، واستمر إلى صفر سنة إحدى عشرة، وما خرج حتى نهب ما في القبة من حاصل الحرم النبوي.
ومات الشريف أحمد بن ثقبة بن رميثة بن أبي نمى الحسني بمكة، في المحرم، وقد أناف على الستين، وكان الشريف عنان بن مغامس في ولايته الأولى على مكة أشركه معه في ولايتها وهو مكحول، وكان ابن أخته الشريف محمد بن أحمد بن عجلان، وكبيش بن عجلان قد خافا منه، فكحلاه، وقتل ابن أخته بعد ثلاثة أشهر، وكبيش بعد ستة أشهر من كحله.
ومات محمد بن أميرزه، الشيخ عمر بن الطاغية تيمورلنك، في المحرم، مقتولاً، على يد بعض خواصه، وكان مشكور السيرة، وقام من بعده بمملكة جغطاي أخوه اسكندر شاه بن أمير زه شيخ عمر بن تيمورلنك.