فصل: سنة عشرين وسبعمائة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: السلوك لمعرفة دول الملوك (نسخة منقحة)



.سنة عشرين وسبعمائة:

فيها عاد السلطان من الحجاز بعدما من بخليص، وقد جرى الماء إليها. وكان قد ذكر له وهو بمكة أن العادة كانت جارية بحمل مال إلى خليص، ليجري الماء من عين بها إلى بركة يردها الحاج، وقد انقطع ذلك منذ سنين، وصار الحاج يجد شدة من قلة الماء بخليص، فرسم بمبلغ خمسة ألاف درهم لإجراء الماء من العين إلى البركة، وجعلها مقررة في كل سنة لصاحب خليص. فأجرى صاحب خليص الماء قبل وصول السلطان إليها، واستمر حمل المال إليه في كل سنة، ووجد الماء في البركة دائماً.
ولقى السلطان في هذه السفرة جميع العربان: من بني مهدي وأمرائها، وشطى وأخيه عساف وأولاده، وأشراف مكة من الأمراء وغيرهم، وأشراف المدينة والينبع وخليص، وبني لام وعربان حوران، وأولاد مهنا موسى وسليمان وفياض، وأحمد وجبار، بعربهم، ولم يتفق اجتماع هؤلاء لملك قبله. وأكثروا من الدالة على السلطان، وجروا على عوائدهم العربية من غير مراعاة الآداب الملوكية وهو يحتملهم، بحيث أن موسى بن مهنا كان ولد صغير، فقام في بعض الأيام ومد يده إلى لحية السلطان وقال له: يا أبا علي بحياة هذي ومسك منها شعرات إلا ما أعطتني الضيعة الفلانية إنعاماً علي. فصرخ فيه الفخر ناظر الجيش وقال له: شل يدك قطع يدك والك تمد يدك إلى السلطان، فتبسم له السلطان وقال: يا قاضي هذه عادة العرب، إذا قصدوا كبيراً في شيء فيكون عظمته عندهم مسك لحيته، يريدون أنهم قد استجاروا بذلك الشيء، فهو سنة عندهم. فغضب الفخر، وقام وهو يقول: وا لله إن هؤلاء مناحيس، وسنتهم أنحس.
وفيها قدم الأمير ناصر الدين محمد بن أرغون النائب مبشراً إلى القاهرة، ومعه الأمير قطلوبغا المغربي. وقدم الأمير بدر الدين بدرجك إلى دمشق مبشراً.
وقدم السلطان في يوم السبت ثاني عشر المحرم، فخرج الأمراء إلى لقائه ببركة الحاج، وركب بعد انقضاء أمر السماط في موكب جليل، وقد خرج سائر الناس لرؤيته، وسار إلى القلعة، فكان يوماً مشهوداً، وزينت القاهرة ومصر زينة عظيمة.
وفي يوم الخميس خامس عشره: جلس السلطان، وخلع على سائر الأمراء والقضاة وأرباب الدولة، وعلى الأمير شطي بن عبية وحسن بن دريني، وألبس كريم الدين الكبير أطلسين، ولم يتفق ذلك لمتعمم قبله.
وفيه بعث السلطان بالجمال والزاد لتلقي المنقطعين من الحاج، فتواصل قدوم الحاج إلى أن وصل المحمل يوم الأحد سابع عشريه، وصحبته قاضي القضاة بدر الدين وغيره، فاتفق فيه مطر عظيم قل ما عهد مثله بمصر. وكانت الأسعار قد تزايدت، فانحطت منذ قدم السلطان.
وفيه خلع على الملك المؤيد عماد الدين إسماعيل صاحب حماة، وركب بشعار السلطنة من المدرسة المنصورية بين القصرين، وحمل وراءه الأمير قجليس السلاح، والأمير ألجاي الدواة، ورتب معه الأمير بيبرس الأحمدي أمير جندار وأمير طبر، وسار بالغاشية والعصائب وسائر دست السلطنة وهم بالخلع معه إلى أن صعد القلعة، فكانت عدة التشاريف مائة وثلاثين تشريفاً: فيها ثلاثة عشر أطلس، والبقية كنجي وعمل الدار وطرد وحش. وجلس صاحب حماة رأس الميمنة، ولقبه السلطان بالملك المؤيد، وسافر من يومه بعدما جهزه السلطان بسائر ما يحتاج إليه.
وفي يوم الثلاثاء ثالث عشر صفر: أفرج عن الأمير علم الدين سنجر البروانى، والأمير علاء الدين أيتغلي الشيخى، وصارم الدين العينتابي، وعز الدين أيدمر الشيخي، وعلاء الدين مغلطاي السيواسي، والحاج بدر الدين بيليك، وشمس الدين سنقر الكمالي الصغير، والشيخ علي التبريزي، وسيف الدين منكجار، وسيف الدين طوغان، نائب البيرة، وناصر الدين منكلي، وطاشار، وموسى وغازي أخوي حمدان بن صلغاي، وعن الشريف رميثة بن أبي نمى.
وفيه هرب من سجن الإسكندربة الأمير سيف الدين بهادر الإبراهيمي النقيب، ويقال له زيرامو، وبهادر التقوى الزراق، فأدركهما الطلب، وأخذا وحملا إلى القلعة بعد ما خرج الأمير أيتمش المحمدي والأمير أصلم للقبض عليهما فلما أحضرا كتب بعود الأميرين أيتمش المحمدي وأصلم، فرجعا ثالث يوم سفرهما، وأنزل بالأميرين الهاربين ليوسطا تحت القلعة، فشفع فيهما الأمراء، فأعفى السلطان عنهما من القتل، وكحلهما بالحديد المحمي مرتين حتى فقدا البصر.
وفيه رسم بالإفراج عمن في سجن الإسكندرية، فقدموا القاهرة وأنعم عليهم بالإقطاعات، من أجل أنهم لم يوافقوا على الهروب.
وفيه كتب بإعفاء الصاحب أمين الدين عبد الله بن الغنام من نظر طرابلس، وأن يقيم بالقدس، ورتب له في كل شهر ألف درهم، وبعث إليه كريم الدين الكبير هدية حسنة. وفي يوم الأربعاء سادس ربيع الأول: سار الأمير بيبرس الحاجب بطائفة من الأجناد إلى مكة، ليقيم بها بدل الأمير آقسنقر شاد العمائر الذي استخلفه السلطان بمكة، ومعه عدة أجناد تخوفاً من هجوم الشريف حميضة على مكة.
وفيه كتب بخروج عساكر الشام إلى غزو بلاد متملك سيس، لمنعه الحمل.
وفيه أبطل مكس الملح بديار مصر، فأبيع الأردب الملح بثلاثة دراهم بعدما كان بعشرة، فإنه كتب إلى الأعمال ألا يمنع أحد من شيل الملح من الملاحات، وأبيحت لكل أحد، فبادر الناس إليها وجلبوا الملح.
وفيه وصلت الستر الرفيع الخاتوني طلنباي ويقال دلنبية، ويقال طولونية بنت طغاي بن هندو بن باطو بن دوشي خان بن جنكزخان. وسبب ذلك أن السلطان كان قد بعث إلى أزبك يخطب بعض الجهات الجنكزية، فاشتط به أزبك في طلب المهر وطول المدة وكثرة الشروط، فأعرض السلطان عن الخطبة وسير إليه الهدية كما تقدم. وكان أزبك قد عين المذكورة، فاستدعى التجار واقترض منهم ثلاثين ألف دينار. بمعاملتهم، صرف كل دينار ستة دراهم، وجهزها مع بعض أمرائه في مائة وخمسين رجلاً وستين جارية وقاضي سراي، ومعهم هدية سنية، فقدموا في البحر إلى الإسكندرية في عشري ربيع الأول. وخرج الأمير أقبغا عبد الواحد في عدة من الأمراء ومعه الحراريق إلى لقائها، وخرج كريم الدين الكبير ومعه عربان وبخاتي وبغال، وضرب الخيام الحرير الأطلس بالميدان. فحملت الخاتون في الحراريق إلى ساحل مصر، وركبت في العربة إلى الميدان، والحجاب تمضي قدام العربة، فأقامت بالخيام ثلاثة أيام. ثم حملت إلى القلعة ليلة السبت سلخه في عربة تجرها العجل، وهي كالقبة مغطاة بالديباج، وفي خدمتها الأمير أرغون النائب، والأمير بكتمر الساقي، والقاضي كريم الدين الكبير.
وفي يوم الإثنين ثاني ربيع الآخر: جلس السلطان للرسل، وحضر كبيرهم باينجار، وكان مقعداً لا يقدر على القيام ولا المشي وإنما يحمل، ودخل معه إيتغلي وطقبغا، ومنغوش، وطرجي، وعثمان خجا، والشيخ برهان الدين إمام القان، ورسل الأشكري. فأجلس باينجار، وأخذ منه كتاب أزبك، فبلغ السلام وقال: أخوك أزبك، أنت سيرت طلبت من عظم القان بنتاً، فلما لم يسيرها لم يطب خاطرك، وقد سيرنا لك من بيت كبير، فإن أعجبتك خذها بحيث لا تخلي عندك أكبر منها، وإن لم تعجبك فاعمل بقول الله تعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها}. فقال السلطان: نحن ما نريد الحسن، وإنما نريد كبر البيت والقرب من أخي، ونكون نحن وإياه شيئاً واحداً. وبلغه أيضاً برهان الدين مشافهة من قبل أزبك. فتولى قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة العقد على ثلاثين ألف دينار، الحال منها عشرون ألفاً، والمؤجل عشرة ألاف، وقبله السلطان بنفسه. وكتب علاء الدين على بن الأثير كاتب السر العقد بخطه، وصورته بعد البسملة: هذا ما أصدق مولانا السلطان الأجل الملك الناصر على الخاتون الجليلة بنت أخي السلطان أزبك خان طولو ابنة طغاي بن بكر بن دوشي خان بن جنكزخان. وخلع السلطان يومئذ خمسمائة خلعة، وكان يوماً مشهوداً. وبني عليها من ليلتها، فلم تلق بخاطره. وأصبح السلطان فتقدم إلى كريم الدين أكرم الصغير بالتوجه إلى الصعيد وتعبية الإقامات إلى قوص، وجهز الرسل بالهدايا والإنعامات وسفرهم، وركب للصيد.
وفيها توقف حال الناس بسبب الفلوس وما كثر فيها من الزغل، وكانت المعاملة بها عدداً عن كل درهم فضة عدة ثمانية وأربعين فلساً من ضرب السلطان، فعملها الزغلية، وخفوا وزنها حتى صار الفلس زنته سدس درهم. وكانت معاملة دمشق بالفلوس التي يقال لها القراطيس، والقرطاس ستة فلوس، ويعد في الدرهم الفضة أربعة وعشرون قرطاساً، فأبطل السلطان القراطيس من دمشق، وضرب بها كل فلس زنته درهم، والدرهم بثمانية وأربعين فلساً مثل معاملة مصر، فنقلت هذه الفلوس الخفاف القراطيس إلى مصر، وخلطت بفلوس المعاملة حتى كثرت، وقلت الجياد. فتعبت الناس فيها، وزادت الأسعار كلها، حتى غلقت الباعة الحوانيت عندما نودي أن يكون الفلوس بالميزان، على أن كل رطل منها بثلاثة دراهم فضة. فركب وإلى القاهرة، وضرب كثيراً من أرباب المعايش بالمقارع، وشهرهم ولم يرجعوا، فنودي أن الفلس الذي عليه بقجة من ضرب دار الضرب يؤخذ، والفلس الخفيف يرد، فلم يفد ذلك شيئاً. وعمل الزغلية فلوساً خفافاً عليها بقجة، فنودي أن يؤخذ الجميع بحساب درهمين ونصف الرطل، فمضي الحال قليلاً، واستمر عنت العامة، وكثر تعطيلهم الحوانيت وغلقها.
وكان السلطان غائباً، فلما نزل بالجيزة وخرج كريم الدين إلى لقائه صاحت به العامة وفاجأوه. مما لا يليق، وتكاثروا عليه من كل جهة، وشكوا ما بهم من أمر الفلوس ورد الباعة لها وقلة الخبز وغيره، فوعدهم بخير، وعرف كريم الدين السلطان ذلك. فاستدعى السلطان الأمراء، وأنكر عليهم رد مباشريهم الفلوس وعدم بيعهم القمح من الشون للطحانين والموانة، وقرر ضرب فلوس جدد زنة الفلس منها درهم، وعلى أحد وجهيه لا إله الا الله محمد رسول الله، وعلى الآخر اسم السلطان، فضرب منها نحو ثمانين ألف رطل. واستقر الفلوس العتق كل رطل بثلاثة دراهم إلى أن تخرج الفلوس الجدد من دار الضرب. فاستمر ذلك، ومشت الأحوال، إلا أنه صار فيها غبن زائد، وذلك أن الرطل من العتق يبلغ سبعة دراهم بالعدد.
وفيها قدمت رسل متملك اليمن بالهدية، وأحضروا بالقلعة يوم الإثنين ثالث عشر جمادى الآخرة.
وفي ليلته: خسف القمر.
وفيها بعث السلطان ثلاثين فداويا من أهل قلعة مصياب للفتك بالأمير قراسنقر، فعندما وصلوا إلى تبريز نم بعضهم لقراسنقر عليهم، فتتبعهم وقبض على جماعة منهم، وقتلهم. وانفرد به بعضهم وقد ركب من الأردو، فقفز عليه فلم يتمكن منه، وقتل.
واشتهر في الأردو خبر الفداوية، وأنهم حضروا لقتل السلطان أبي سعيد وجوبان والوزير على شاه وقراسنقر وأمراء المغل، فاحترسوا على أنفسهم، وقبضوا عدة فداوية.
فتحيل بعضهم وعمل حمالاً، وتبع قراسنقر ليقفز عليه فلم يلحقه، ووقع على كفل الفرس فقتل، فاحتجب أبو سعيد بالخركاه أحد عشر يوماً خوفاً على نفسه. وطلب المجد إسماعيل، وأنكر عليه جوبان وأخرق به، وقال له: والك أنت كل قليل تحضر إلينا هدية، وتريد منا أن نكون متفقين مع صاحب مصر، لتمكر بنا حتى تقتلنا الفداوية والإسماعيلية، وهدده أنه يقتله شر قتلة، ورسم عليه، فقام معه الوزير على شاه حتى أفرج عنه.
ثم قدم الخبر من بغداد بأن بعض الإسماعيلية قفز على النائب بها ومعه سكين فلم يتمكن منه، ووقعت الضربة في أحد أمراء المغل، وأن الإسماعيلي فر، فلما أدركه الطلب قتل نفسه. فتنكر جوبان لذلك، وجهز المجد السلامي إلى مصر ليكشف الخبر، وبعثوا في أثره رسولاً بهدية.
وفيها عادت العساكر من غارة سيس إلى أبيات مهنا، وطردوه من مكانه، وفرقوا جمعه في نواحي العراق.
وفيها كثرت كتابة الأوراق للسلطان في أمرائه وأهل دولته، وإلقائها من غير أن يعلم من أين هي، أو ربطها بجناح طائر حمام وحذفه خارج حائط الميدان تحت القلعة إلى داخله، فتأذى بذلك جماعة كثيرة. فاتفق إن السلطان ركب إلى مطعم الطيور بالمسطبة التي أنشأها قريباً من بركة الحبش، فوجد ورقة مختومة فقرأها ولم يعلم أحداً فيها، وعاد إلى القلعة وقد اشتد حنقه، ووقف عند دار النيابة وأمر بهدم المساطب والرفرف وغلق الشباك. ثم بعث السلطان أمير جاندار الأمير سيف الدين البوبكري أن يتحول من داره بالقلعة ويسكن بالقاهرة، فنزل من يومه وسكن بدار كراي المنصوري، وهدمت الدار التي كان البوبكري يسكنها، وعمرت قاعات وطباق للخاصكية. وامتنع السلطان من ركوبه إلى المطعم المذكور، وصار يركب إلى ميدان القبق. وكانت الورقة تتضمن سب السلطان وسوء تصرفه، وتسليطه الكتاب النصارى على المسلمين، وصلحه مع المغل.
واتفق أن بعض العامة أخبر عن شخص غريب، فأفضى الأمر إلى حملهما إلى الخازن وإلى القاهرة، فقال العامي: هذا الغريب قاصد ومعه فداوية، فقرره الوالي فاعترف أن معه أربعة من جهة قراسنقر بعثهم لقتل السلطان، فقبض منهم على رجلين، وفر الآخران. وحمل الوالي إلى السلطان، فأقرا بأنهما من جهة قراسنقر، فأمر بهما فقتلا. وأخذ السلطان يحترس على نفسه، ومنع عند ركوبه إلى الميدان المتفرجين من الجلوس في الطرقات، وألزم الناس بغلق طاقات البيوت.
وفيها قبض على الأمير علم الدين سنجر الجاولي نائب غزة، وسجن بالإسكندرية، ووقعت الحوطة على موجوده يوم الجمعة ثامن عشري رمضان. وكان ذلك لقلة اكتراثه بالأمير نائب الشام، وموافقة بعض مماليكه على ما قيل فيه أنه يريد التوجه إلى اليمن.
وفيها قدم الخبر من الأمير بيبرس الحاجب بقتل الشريف حميضة بن أبي نمى، ثم قدم الأمير بيبرس الحجاز ومعه المماليك الذين اتفقوا على قتل الشريف حميضة، فقتل السلطان قاتله.
وفيها قدم المجد السلامي على البريد من عند الملك أبي سعيد بن خربندا في طلب الصلح، فخرج القاضي كريم الدين الكبير إلى لقائه، وصعد به إلى القلعة، فأخبر المجد السلامي برغبة جوبان وأعيان دولة أبي سعيد في الصلح، وأن الهدية تصل مع الرسل، فكتب إلى نائبي حلب ودمشق بتلقي الرسل وإكرامهم. فقدم البريد بأن سليمان بن مهنا عارض الرسل، وأخذ جميع ما معهم من الهدية، وقد خرج عن الطاعة لإخراج أبيه مهنا من البلاد وإقامة غيره في إمرة العرب. ثم قدمت الرسل بعد ذلك بالكتب، وفيها طلب الصلح بشروط: منها ألا تدخل الفداوية إليهم، وأن من حضر من مصر إليهم لا يطلب، ومن حضر منهم إلى مصر لا يعود إليهم إلا برضاه، وألا يبعث إليهم بغارة من عرب ولا تركمان، وأن تكون الطريق بين المملكتين مفسوحة تسير تجار كل مملكة إلى الأخرى، وأن يسير الركب من العراق إلى الحجاز في كل عام. بمحمل ومعه سنجق فيه اسم صاحب مصر مع سنجق أبي سعيد ليتجمل بالسنجق السلطاني، وألا يطلب الأمير قراسنقر. فجمع السلطان الأمراء، واستشارهم في ذلك، بعد ما قرأ عليهم الكتاب، فاتفق الرأي على إمضاء الصلح بهذه الشروط، وجهزت الهدايا لأبي سعيد: وفيها خلعة أطلس باولي زركش، وقباء تتري وقرقلات وغير ذلك، مما بلغت قيمته أربعين ألف دينار. وأعيد الرسل بالجواب، وفيه آلا يمكن عرب آل عيسى من الدخول إلى العراق، فإن العسكر واصل لقتالهم، وسافر السلامي على البريد يبشر بعود الرسل بالهدية.
وفيها أنشأ السلطان ميدان المهار بجوار قناطر السباع فيما بين القاهرة ومصر، ونقل إليه الطين، وزرع فيه النخل، ولعب فيه بالكرة مع الأمراء، ورتب فيه الحجورة للنتاج، فاستمر ذلك، وصار يتردد إليه، ثم أنشا السلطان بجوار جامع الأمير علاء الدين طيبرس زريبة على النيل، ليبرز بمناظر الميدان الكبير إلى قرب شاطئ النيل، وكان قد أخر عمل ذلك بسبب قرب سفره إلى الصعيد.
وفيها مرض كريم الدين الكبير نحو أسبوعين، فكان يحضر عليه في كل يوم جمدار فيخلع عليه بكرة النهار، ويعود فيأتيه أخر العصر فيخلع عليه، وكلما أتاه مملوك من جهة أحد الأمراء للسلام عليه خلع عليه، فلما عوفي وركب زينت القاهرة، وأوقدت فيها الشموع، وجلست المغاني، واجتمع الناس لرؤيته، فكان يوماً مشوداً. ولما قدم إلى المدرسة المنصورية بين القصرين بمال، فتصدق فمات في الإزدحام ستة أنفس، وصعد كريم الدين إلى القلعة، ثم ركب من الغد إلى مدينة مصر، فزينت لركوبه أيضاً، وزينت الحراريق ولعبت في النيل، فخلع على رؤساء الحراريق، وفرق في رجالها مالاً، وعمل لهم مائة خروف شواء، وكان عدة الشموع التي اشتعلت له في مصر ألفاً وستمائة شمعة، ونثر الناس على رأسه الذهب والدراهم، وعمل له الفخر ناظر الجيش ضيافة عظيمة، فكانت تلك الأيام من الأيام المشهودة.
وفيها قدم الخبر بأن أبا سعيد أراق الخمور في سائر مملكته، وأبطل منها بيوت الفواحش، وأبعد أرباب الملاهي، وأغلق الخانات، وأبطل المكوس التي تجبي من التجارة الواردة إليهم من البلاد، وهدم كنائس بالقرب من توريز، ورفع شهادة الإسلام، ونشر العدل، وعمر المساجد والجوامع، وقتل من وجد عنده الخمر بعد إراقته، فكتب السلطان سائر نواب الشام بإبطال ضمان الخمارات وإراقة الخمور، وغلق الحانات واستتابة أهل الفواحش، فعمل ذلك في سائر مدن البلاد الشامية وضياعها وجبالها، واجتهد النواب في إزالة المناكير حتى طهر الله منها ومن أهلها البلاد.
وفيها قدم مملوك المجد السلامي ورسول أبي سعيد وجوبان، وأخبروا بوصول الهدية السلطانية، وسألوا تجهيز السنجق السلطاني ليسير مع الركب إلى الحجاز، فسير سنجق حرير أصفر بطلعة ذهب، وكتب لصاحب مكة بإكرام حاج العراق.
وفيها قدم البريد من حلب بأن أبا سعيد قد نادى في مملكته بالحج، فتجهز عالم عظيم، وأن فياضاً وسليمان ابني مهنا قد كثر فسادهما وقطعهما الطريق على التجار، ويخاف على الراكب العراقي من عرب مهنا. فاقتضى رأي السلطان أن استدعي سيف ابن فضل أخي مهنا من البلاد، وقرر معه أن أباه فضلاً يمنع مهنا وأولاده من التعرض لركب العراق، فقام في ذلك فضل، وخدع أخاه مهنا حتى كف عنهم، ولم يتعرض لأحد منهم، وبعث مهنا بإبنه موسى إلى السلطان بأنه لم يتعرض للركب، فأكرمه السلطان وخلع عليه وعلى من معه.
وفيها أخرج الأمير بدر الدين محمد بن التركماني في الشام على إمرة لتغير كريم الدين الكبير منه.
وفي ثاني عشري رجب: عقد بدار السعادة بدمشق مجلس لإبن تيمية، ومنع من الإفتاء بمسألة الطلاق، ثم اعتقل بالقلعة إلى يوم عاشوراء سنة إحدى وعشرين، فأفرج عنه.

.ومات في هذه السنة من الأعيان:

قاضي القضاة شمس الدين أبو العباس أحمد بن إبراهيم بن عبد الغني بن أبي اسحاق قاضي شمس الدين أبو العباس أحمد بن إبراهيم بن عبد الغني بن أبي إسحاق السروجي الحنفي، في يوم الخميس، ثاني عشري رجب، بعد عزله في رابع ربيع الآخر بشمس الدين محمد بن عثمان الحريري، ومولده سنة سبع وثمانين وستمائة، وكان من أئمة الحنفية، ولم يسمع عنه ما يشينه، ولا راعي صاحب جاه قط، مع السماح والجود.
ومات الشيخ أبو العباس أحمد بن أبي بكر بن عرام بن إبراهيم بن ياسين بن أبي القاسم بن محمد بن إسماعيل الشيخ بهاء الدين أبي العباس بن أبي الفضال بن أبي المجد ابن أبي إسحاق الربعي الشافعى، سبط أبي الحسن على الشاذلي، في ليلة سابع شوال، ومولده سنة أربع وستين وستمائة. سمع الحديث وقرأ النحو وتصوف، وتصدر بالإسكندرية لإقراء العربية، وولي نظر الأحباس بها، وصنف في الفقه وغيره.
ومات الصاحب قوام الدين الحسن بن محمد بن جعفر بن عبد الكريم بن أبي سعيد المعروف بابن الطراح، في أول المحرم ببغداد، ومولده في ربيع الأول سنة خمسين وستمائة، وهو من بيت علم ورياسة، وكان يعرف النحو واللغة والحساب والنجوم والأدب.
ومات الصدر فخر الدين أبو الهدى أحمد بن اسماعيل بن علي بن الحباب الكاتب، يوم الخميس تاسع رمضان، عن سبع وتسعين سنة.
وقتل إسماعيل بن سعيد الكردي على الزندقة، يوم الإثنين سادس عشري صفر، وكان عارفاً بالقراءات والفقه والنحو والتصريف، ويحفظ كثيراً من التوراة والإنجيل، ويحل في الفقه، ويحفظ العمدة في الحديث، غير أنه حفظت عنه عظائم في حق الأنبياء، وكان يتجاهر بالمعاصي، فاجتمع القضاة وضربوا عنقه بين القصرين.
ومات الحسن بن عمر بن عيسي بن الخليل الكردي الدمشقى، بناحية الجيزة تجاه مصر في ثالث ربيع الآخر، وقد أناف على التسعين، قرأ على السخاوى، وسمع الحديث.
ومات كمال الدين عبد الرحيم بن عبد المحسن بن ضرغام الكناني الحنبلي، خطيب جامع المنشاة فيما بين القاهرة ومصر، في ربيع الآخر عن ثلاث وتسعين سنة.
ومات كمال الدين أبو الحفص عمر بن عز الدين أبي البركات عبد العزيز بن محيي الدين أبي عبد الله بن محمد بن نجم الدين أبي الحسن أحمد بن جمال الدين هبة الله أبي الفضل بن مجد الدين أبي غانم محمد بن هبة الله بن أحمد بن يحيى بن أبي جرادة العقيلي الحلبي الحنفي، قاضي القضاة الحنفية بحلب، وكان مشكوراً.
ومات زين الدين أبو القاسم محمد بن العلم محمد بن الحسين بن عتيق بن رشيق الإسكندري الفقيه المعمر المالكي بمصر في ليلة الجمعة حادي عشر المحرم، عن اثنتين وتسعين سنة، ولي قضاء الإسكندرية مدة اثنتي عشرة سنة، وعرض عليه قضاء دمشق فامتنع، وله نظم.
ومات شرف الدين يعقوب بن أحمد بن الصابوني الحلبي، بالقاهرة في يوم الخميس تاسع عشري رجب، كان محدثاً عدلاً، ودرس بالمنكوتمرية من القاهرة، وتميز في كتابة السجلات.
ومات القاضي زين الدين أبو بكر بن نصر بن حسين بن حسن بن حسين الأسعردي، محتسب القاهرة ووكيل بيت المال، في يوم الإثنين سادس عشري رمضان، واستقر في الوكالة بعده قطب الدين محمد بن علي بن عبد الصمد السنباطي، وفي حسبة القاهرة ابن عمه نجم الدين محمد بن الحسين.
ومات علي بن عبد الصمد الأسعردي، في سابع شوال.
ومات الشيخ نجم الدين أبو الحسن على بن الأسيوطي المقرئ الواعظ، في يوم الجمعة سادس عشر ذي الحجة.
وقتل أقبجا مملوك ركن الدين بيبرس التاحي بدمشق، لدعواه النبوة، في خامس عشري ربيع الأول.
ومات بهاء الدين السنجاري محتسب مصر، يوم الثلاثاء حادي عشري ذي القعدة، فولي بعد نجم الدين أحمد بن محمد بن أبي الحزم القمولي خليفة الحكم، في ثامن ذي الحجة.
ومات صاحب غرناطة من بلاد الأندلس الغالب بالله أبو الوليد اسماعيل بن فرج بن إسماعبل بن يوسف بن نصر، في ذي القعدة، وأقيم بعده ابنه أبو عبد الله محمد، فكانت مدته ثلاث عشرة سنة.

.سنة إحدى وعشرين وسبعمائة:

في يوم الإثنين ثالث المحرم: قدم الفخر ناظر الجيش من الحجاز، وكان قد سافر إلى مكة في مدة اثنى عشر يوماً، وغاب حتى قدم نحو شهر، وتصدق في الحرمين بإثني عشر ألف دينار.
وفي يوم الثلاثاء حادي عشره: قدم الأمير أرغون النائب من الحجاز، وكان قد سافر أول ذي القعدة، ومشى من مكة إلى عرفات على قدميه بهيئة الفقراء. ثم قدم الأمير بهاء الدين أصلم أمير الركب بالحاج، ولم ير فيما تقدم مثل كثرة الحاج في موسم الحالية. وكانت الوقفة يوم الجمعة. وكان حاج مصر سبعة ركوب: ركب في شهر رجب، وأربعة في شوال أولها رحل في يوم الإثنين سادس عشره، ورحل أخرها يوم الجمعة تاسع عشره. وسار الأمير أرغون النائب أول ذي القعدة في جماعة، ثم توجه الفخر في جماعة، وركب البحر خلائق، واجتمع بعرفة ما يزيد على ثلاثين ركباً. ووقف محمل العراق خلف محمل مصر، ومن خلفه محمل اليمن.
واعتنى أبو سعيد بأمر حاج العراق عناية تامة، وغشى المحمل بالحرير ورصعه باللؤلؤ والياقوت وأنواع الجواهر، وجعل له جتراً ينصب عليه إذا وضع. فلما مر ركب العراق بعرب البحرين خرج عليهم ألف فارس يريدون أخذهم، فتوسط الناس بينهم على أن يأخذوا من أمير الركب ثلاثة ألاف دينار، فلما قيل لهم إنما جئنا من العراق بأمر الملك الناصر صاحب مصر وكتابه إلينا بالمسير إلى الحجاز أعادوا المال، وقالوا: لأجل الملك الناصر نخفركم بغير شيء، ومكنوهم من المسير. فبلغ ذلك السلطان فسر به، وبالغ في الإنعام على العربان. وكان السلطان قد بعث إلى أمراء المغل وأعيانهم الخلع، فلما انقضى الحج خلع عليهم الأمير أرغون النائب، ودعا لأبي سعيد بعد الدعاء للسلطان بمكة.
وفيه قدم كتاب نائب الشام في الشفاعة في ابن تيمية، وكان قد سجن في السنة الماضية، فأفرج عنه بعدما سجن خمسة أشهر، وشرط عليه ألا يفتي بمسألة الطلاق.
وفيه استقر كريم الدين الكبير في نظر الجامع الطولوني، فنمت أوقافه.
وفيه قدم البريد من دمشق بهدم كنيسة لليهود بدمشق، على يد العامة.
وفيها أخرج الأمير شرف الدين أمير حسين بن جندر إلى دمشق. وسببه أنه لما أنشأ جامعه المعروف بجامع أمير حسين بجوار داره في بر الخليج الغربي، وعمل القنطرة، أراد أن يفتح في سور القاهرة خوخة تنتهي إلى حارة الوزيرية، فأذن له السلطان في فتحها، فخرق باباً كبيراً وعمل عليه رنكه، فسعى به علم الدين سنجر الخياط متولي القاهرة أنه فتح باباً قدر باب زويلة وعمل عليه رنكه، فشق عليه ذلك وأخرجه من يومه على إقطاع الأمير جوبان، ونقل جوبان إلى الإمرة بديار مصر.
وفيه قدم الأمير سيف الدين طقصباي من بلاد أزبك. وقدم من الأردو الأمير باورر ابن براجوا أحد أعيان المغل، فأنعم عليه بإمرة طبلخاناه بمصر.
وفيه قدم أبو يحيى اللحياني من الغرب، ولم يمكن من البلاد، فرتب له بالإسكندرية ما يكفيه، وأقام بها. وفيه أخرج الأمير علاء الدين أيدغدي الخوارزمي حاجباً بالشام.
وفي يوم الجمعة تاسع ربيع الآخر: ثارت العامة يداً واحدة، وهدموا كنيستين متقابلتين بالزهري، وكنيسة بستان السكري وتعرف بالكنيسة الحمراء، وبعض كنيستين بمصر وكان ذلك من غرائب الاتفاق ونوادر الحوادث: والخبر عنه أن السلطان لما عزم على إنشاء الزريبة بجوار جامع الطيبرسي على النيل احتاج إلى طين كثير، فنزل بنفسه وعين مكاناً من أرض بستان الزهري قريباً من ميدان المهارة ليأخذ منه الطين، ولينشئ في هذا المكان بركة وعوض مستحقي وقفه بدله، وكتب أوراقاً بأسماء الأمراء، وأفزر لكل منهم قياساً معلوماً، فتولى قياس ذلك عدة من المهندسين مع الأمير بيبرس الحاحب. وابتدأ الأمراء في الحفر يوم الثلاثاء تاسع عشري ربيع الأول، ورفعوا الطين على بغالهم ودوابهم إلى شاطئ النيل حيث عمل الزريبة. فلم يزل الحفر مستمراً إلى أن قرب من كنيسة الزهري، وأحاط بها الحفر من دايرها وصارت في الوسط، بحيث تمنع من اتساع البركة. فعرف الأمير أقسنقر شاد العمائر السلطان بذلك، فأمره أن يبالغ في الحفر حولها حتى تتعلق، وإذا دخل الليل فيدع الأمراء تهدمها، ويشيع أنها سقطت على غفلة منهم، فاعتمد الحفر فيما حولها، وكتم ما يريده، وصارت غلمان الأمراء تصرخ وتريد هد الكنيسة، وآقسنقر يمنعهم من ذلك.
فلما كان يوم الجمعة تاسع ربيع الآخر: بطل العمل وقت الصلاة لاشتغال الأمراء بالصلاة، فاجتمع من الغلمان والعامة طائفة كبيرة، وصرخوا صوتاً واحداً الله أكبر، ووقعوا في أركان الكنيسة بالمساحي والفوس حتى صارت كوماً، ووقع من فيها من النصارى، وانتهب العامة ما كان بها. والتفتوا إلى كنيسة الحمراء المجاوره لها، وكانت من أعظم كنائس النصارى، وفيها مال كبير، وعدة من النصارى ما بين رجال ونساء مترهبات فصعدت العامة فوقها، وفتحوا أبوابها ونهبوا أموالها وخمورها. وانتقلوا إلى كنيسة بومنا بجوار السبع سقايات، وكانت معبداً جليلاً من معابد النصارى، فكسروا بابها ونهبوا ما فيها، وقتلوا منها جماعة، وسبوا بنات كانوا بها تزيد عدتهن على ستين بكراً فما انقضت الصلاة حتى ماجت الأرض، فلما خرج الناس من الجامع رأوا غباراً ودخان الحريق قد ارتفعا إلى السماء، وما في العامة إلا من بيده بنت قد سباها أو جرة خمر أو ثوب أو شيء من النهب، فدهشوا وظنوا أنها الساعة قد قامت.
وانتشر الخبر من السبع سقايات إلى تحت القلعة، فأنكر السلطان ارتفاع الأصوات بالضجيج، وأمر الأمير أيدغمش بكشف لخبر. فلما بلغه ما وقع انزعج لذلك انزعاجاً زائداً، وتقدم إلى أيدغمش أمير أخور، فركب بالوشاقية ليقبض على العامة ويشهرهم. فما هو إلا أن ركب أيدغمش إذا بملوك الأمير علم الدين سنجر الخازن متولي القاهرة حضر وأخبر بأن العامة ثارت بالقاهرة، وأخربوا كنيسة بحارة الروم وكنيسة بحارة زويلة، وأنه ركب خوفاً على القاهرة من النهب. وقدم مملوك والي مصر وأخبر بأن عامتها قد تجمعت لهدم كنيسة المعلقة حيث مسكن البترك وأموال النصارى، ويطلب نجدة. فلشدة ما نزل بالسلطان من الغضب هم أن يركب بنفسه، ثم أردف أيدغمش بأربعة أمراء ساروا إلى مصر، وبعث بيبرس الحاجب، وألماس الحاجب إلى موضع الحفر، وبعث طينال إلى القاهرة، ليضعوا السيف فيمن وجدوه. فقامت القاهرة ومصر على ساق، وفرت النهابة، فلم تدرك الأمراء منهم إلا من غلب على نفسه بالسكر من الخمر. وأدرك الأمير أيدغمش والي مصر وقد هزمته العامة من زقاق المعلقة، وأنكوا مماليكه بالرمي عليهم، ولم يبق إلا أن يحرقوا أبواب الكنيسة، فجرد هو ومن معه السيوف ليفتك بهم، فرأى عالماً عظيماً لا يحصيهم إلا خالقهم، فكف عنهم خوف اتساع الخرق، ونادى من وقف فدمه حلال، فخافت العامة أيضاً وتفرقوا. ووقف أيدغمش يحرس المعلقة إلى أن أذن العصر، فصلي بجامع عمرو، وعين خمسين أوشاقيا للمبيت مع الوالي على باب الكنيسة، وعاد.
وكان كأنما نودي في إقليم مصر بهدم الكنائس، وأول ما وقع الصوت بجامع قلعة الجبل: وذلك أنه لما انقضت صلاة الجمعة صرخ رجل موله في وسط الجامع: اهدموا الكنيسة التي في القلعة، وخرج في صراخه عن الحد واضطرب. فتعجب السلطان والأمراء منه، وندب نقيب الجيش والحاجب لتفتيش سائر بيوت القلعة، فوجدوا كنيسة في خرائب التتر قد أخفيت، فهدموها. وما هو إلا أن فرغوا من هدمها والسلطان يتعجب إذ وقع الصراخ تحت القلعة، وبلغه هدم العامة للكنائس كما تقدم، وطلب الرجل الموله فلم يوجد.
وعندما خرج الناس من صلاة الجمعة بالجامع الأزهر من القاهرة رأوا العامة في هرج عظيم، ومعهم الأخشاب والصلبان والثياب وغيرها، وهم يقولون: السلطان نادى بخراب الكنائس، فظنوا الأمر كذلك. وكان قد خرب من كنائس القاهرة سوى كنيستي حارة الروم وحاره زويلة وكنيسة بالبندقانيين كنائس كثيرة، ثم تبين أن ذلك كان من العامة بغير أمر السلطان.
فلما كان يوم الأحد حادي عشره: سقط الطائر من الإسكندرية بأنه لما كان الناس في صلاة الجمعة تجمع العامة وصاحوا هدمت الكنائس، فركب الأمير بدر الدين المحسني متولي الثغر بعد الصلاة ليدرك الكنائس، فإذا بها قد صارت كوماً، وكانت عدتها أربع كنائس. ووقعت بطاقة من والي البحيرة بأن العامة هدمت كنيستين في مدينة دمنهور، والناس في صلاة الجمعة. ثم ورد مملوك والي قوص في يوم الجمعة سابع عشره، وأخبر بأنه لما كان يوم الجمعة هدم العامة ست كنائس بقوص في نحو نصف ساعة. وتواترت الأخبار من الوجه القبلي والوجه البحري بهدم الكنائس وقت صلاة الجمعة، فكثر التعجب من وقوع هذا الاتفاق في ساعة واحدة بسائر الأقاليم.
وصار السلطان يشتد غضبه من العامة، والأمراء تسكن غضبه وتقول. يا مولانا هذا إنما هو من فعل الله. وإلا فمن يقدر من الناس على هدم كنائس الإسكندرية ودمياط والقاهرة ومصر وبلاد الصعيد في ساعة واحدة، وهو يشتد على العامة ويزيد البطش بهم، فهرب كثير منهم.
وكان الذي هدم في هذه الساعة من الكنائس ستون كنيسة: وهي كنيسة بقلعة الجبل، وكنيسة بأرض الزهري موضع البركة الناصرية، وكنيسة بالحمراء، وكنيسة بجوار السبع سقايات، وكنيسة أبي المنا بجوارها، وكنيسة الفهادين بحارة الحكر، وكنيسة بحارة الروم من القاهرة، وكنيسة البندقانيين منها، وكنيسة بحارة زويلة، وكنيسة بخزانة البنود، وكنيسة بالخندق خارج القاهرة، وأربع كنائس بالإسكندرية، وكنيستان بدمنهور الوحش، وأربع كنائس بالغربية، وثلاث كنائس بالشرقية، وست كنائس بالبهنساوية، وبسيوط ومنفلوط ومنية بن خصيب ثماني كنائس، وقوص وأسوان إحدى عشرة كنيسة، والإطفيحية كنيستان، وبمدينة مصر بخط المصاصة وسوق وردان وقصر الشمع ثماني كنائس، ومن الأديرة شيء كثير.
وكان عقيب هدم الكنائس وقوع الحريق بالقاهرة ومصر، فابتدأ يوم السبت خامس عشر جمادى الأولى، وتواتر إلى سلخه. وكان من خبره أن الميدان الكبير المطل على النيل لما فرغ العمل فيه ركب السلطان إليه في يوم السبت المذكور، وكان أول لعبه فيه بالأكرة، فبلغه الخبر بعد عوده إلى القلعة بأن الحريق وقع في ربع من أوقاف المارستان المنصوري، بخط الشوايين من القاهرة. واشتد الأمر، والأمراء تطفئه إلى عصر يوم الأحد، فوقع الصوت قبل المغرب بالحريق في حارة الديلم بزقاق العريسة، قريب من دار كريم الدين الكبير. ودخل الليل واشتد هبوب الرياح، فسرت النار في عدة أماكن. وبعث كريم الدين بولده علم الدين عبد الله إلى السلطان يعرفه، فبعث عدة من الأمراء والمماليك لإطفائه خوفاً على الحواصل السلطانية ثم تفاقم الأمر، واحتاج أقسنقر شاد العمائر إلى جمع سائر السائقين والأمراء، ونزلت الحجاب وغيرهم، والنار تعظم طول نهار الأحد، وخرجت النساء مسبيات من دورهن. وباتوا على ذلك، وأصبحوا يوم الإثنين والنار تتلف ما تمر به، والهد واقع في الدور التي تجاور الحريق خشية من تعلق النار فيها وسريانها في جميع دور القاهرة.
فلما كانت ليلة الثلاثاء خرج أمر الحريق عن القدرة البشرية، وخرجت ريح عاصفة ألقت النخيل وغرقت المراكب، ونشرت النار، فما شك الناس في أن القيامة قد قامت. وعظم شرر النيران، وصارت تسقط في عدة مواضع بعيدة، فخرج الناس وتعلقوا بالمأذن، واجتمعوا في الجوامع والزوايا، وضجوا بالدعاء والتضرع إلى الله تعالى، وصعد السلطان إلى أعلا القصر، فهاله ما شاهد.
وأصبح الناس يوم الثلاثاء في أسوأ حال، فنزل النائب بسائر الأمراء وجميع من في القلعة وجميع أهل القاهرة، ونقل الماء على جمال الأمراء، ولحقه الأمير بكتمر الساقي وأخرجت جمال القرى السلطانية، ومنعت أبواب القاهرة أن يخرج منها سقاء، ونقلت المياه من المدارس والحمامات والآبار. وجمعت سائر البنائين والنجارين، فهدت الدور من أسفلها والنار تحرق في سقوفها. وعمل الأمراء الألوف وعدتهم أربعة وعشرون أميراً بأنفسهم في طفي الحريق، ومعهم سائر أمراء الطبلخاناه والعشراوات، وتناولوا الماء بالقرب من السقائين، بحيث صار من باب زويلة إلى حارة الروم بحراً، وحضر كريم الدين أكرم الصغير. بمائتي رجل. فكان يوماً لم ير أشنع منه، بحيث لم يبق أحد إلا وهو في شغل. ورؤى سائر الأمراء وهي تأخذ القرب من مماليكها، وتطفئ النار بأنفسها، وتدوس الوحل بأخفافها. ووقف الأمير بكتمر الساقي والأمير أرغون النائب حتى نقلت الحواصل السلطانية من بيت كريم الدين إلى بيت ولده علم الدين عبد الله بدرب الرصاصي، وهدم لأجل نقل الحواصل ستة عشر داراً. وخمدت النار وعاد الأمراء.
فوقع الصياح في ليلة الأربعاء بربع الملك الظاهر خارج باب زويلة وبقيسارية الفقراء، وهبت الرياح مع ذلك. فركب الحجاب والوالي وعملوا في طفيها إلى بعد الظهر من يوم الأربعاء وهدموا دوراً كثيرة مما حوله. فما كاد أن يفرغ العمل من إطفاء النار حتى وقعت النار في بيت الأمير سلار بخط القصرين، فأقبلوا إليه وإذا بالنار ابتدأت من أعلا البادهنج وكان ارتفاعه من الأرض زيادة على مائة ذراع بذراع العمل ورأوا فيه نفطاً قد عمل فيه فتيلة كبيرة، فمازالوا بالنار حتى أطفئت، من غير أن يكون لها أثر كبير. ونودي بأن يعمل بجانب كل حانوت بالقاهره ومصر زير ودن ملآن ماء، وكذلك بسائر الحارات والأزقة، فبلغ ثمن كل دن من ثلاثة دراهم إلى خمسة، وكل زير إلى ثمانية دراهم لكثرة طلبها.
فلما كانت ليلة الخميس: وقع الحريق بحارة الروم وبخارج القاهرة، وتمادى الحال كذلك، ولا تخلو ساعة من وقوع الحريق بموضع من القاهرة ومصر، وامتنع والي القاهرة والأمير بيبرس الحاجب من النوم. فشاع بين الناس أن الحريق من جهة النصارى لما أنكاهم هدم الكنائس ونهبها، وصارت النيران توجد تارة في منابر الجوامع وتارة في حيطان المدارس والمساجد. ووجدت النار بالمدرسة المنصورية، فزاد قلق الناس وكثر خوفهم، وزاد استعدادهم بادخار الآلات المملوءة ماء في أسطحة الدور وغيرها. وأكثر ما كانت النار توجد في العلو، فتقع في زروب الأسطحة والبادهنجانات، ويوجد النفط قد لف في الخرق، المبللة بالزيت والقطران.
فلما كانت ليلة الجمعة حادي عشريه: قبض على راهبين خرجا من المدرسة الكهارية بالقاهرة، وقد أرميا النار، وأحضرا إلى الأمير علم الدين سنجر الخازن والي القاهرة، فشم منهما رائحة الكبريت والزيت، فأحضرهما من الغد إلى السلطان، فأمر بعقوبتهما حتى يعترفا. فلما نزل الأمير علم الدين بهما وجد العامة قد قبضت على نصراني من داخل باب جامع الظاهر بالحسينية، ومعه كعكة خرق بها نفط وقطران، وقد وضعها بجانب المنبر، فلما فاح الدخان وأنكروه وجد النصراني وهو خارج والأثر في يديه، فعوقب قبل صاحبيه. فاعترف النصراني أن جماعة من النصارى قد اجتمعوا وعملوا النفط، وفرقوه على جماعة ليدوروا به على المواضع. ثم عاقب الأمير علم الدين الراهبين، فأقرا أنهما من دير البغل، وأنهما هما اللذان أحرقا سائر الأماكن التي تقدم ذكرها. وذلك أنه لما مر بالكنائس ما كان، حنق النصارى من ذلك وأقاموا النياحة عليها، واتفقوا على نكاية المسلمين، وعملوا النفط وحشوه بالفتائل وعملوها في سهام ورموا بها، فكانت الفتيلة إذا خرجت من السهم تقع على مسافة مائة ذراع. فلما أنفقوا ذلك فرقوه في جماعة، فصاروا يدورون في القاهرة بالليل، وحيث وجدوا فرصة انتهزوها وألقوا الفتيلة، حتى كان ما كان. فطالع الأمير علم الدين السلطان بذلك.
واتفق وصول كريم الدين الكبير ناظر الخاص من الإسكندرية، فعرفه السلطان ما وقع من القبض على النصارى، فقال كريم الدين: النصارى بطرك يرجعون إليه، وهو الذي يعرف أحوالهم. فامر السلطان كريم الدين بطلب البطرك إفي بيته واستعلام الخبر منه، فاتاه ليلا في حماية وافي القاهرة خوفا من العامة، مبالغ كريم الدين في إجلاله، وأعلمه. مما ذكر الرهبان وأحضرهم إليه، فذكروا له كما ذكروا للوالي، فبكا وقال: هؤلاء سفهاء قد فعلوا كما فعلوا سفهاؤكم، والحكم للسلطان. ومن أكل الحامض ضرس، والحمار العثور يلقي الأرض بأسنانه. وأقام البطرك ساعة، وقام فركب بغلة كان قد رسم له منذ أيام بركوبها، فشق ذلك على الناس، وهموا به لولا الخوف ممن حوله من المماليك.
فلما ركب كريم الدين من الغد صاحت العامة به: ما يحل لك يا قاضي تحامي للنصاري، وقد أخربوا بيوت المسلمين، وتركبهم البغال، فانتكى كريم الدين منهم نكاية بالغة، وأخذ يهون من امر النصارى الممسوكين ويذكر أنهم سفهاء، وعرف السلطان ما كان من أمر البطرك، وأنه اعتنى به. فأمر السلطان الوالي بعقوبة النصارى، فأقروا على أربعة عشر راهباً بدير البغل، فقبض عليهم من الدير. وعملت حفيرة كبيرة بشارع الصليبة، وأحرق فيها أربعه منهم في يوم الجمعة، وقد اجتمع من الناس عالم عظيم. فاشتدت العامه عند ذلك على النصارى، وأهانوهم وسلبوهم ثيابهم، وألقوهم من الدواب إلى الأرض.
وركب السلطان إلى الميدان يوم السبت ثاني عشريه، وقد اجتمع عالم عظيم، وصاحوا: نصر الله الإسلام، انصر دين محمد بن عبد الله. فلما استقر السلطان بالميدان حتى أحضر له الخازن والي القاهرة نصرانيين قد قبض عليهما، فأحرقا خارج الميدان. وخرج كريم الدين الكبير من الميدان وعليه التشريف، فصاحت به العامة: كم تحامي للنصارى، وسبوه ورموه بالحجارة، فعاد إلى الميدان. فشق ذلك على السلطان، واستشار الأمراء في أمر العامة، فأشار عليه الأمير جمال الدين أقوش نائب الكرك بعزل الكتاب النصاري، فإن الناس قد أبغضوهم، فلم يرضه ذلك. وتقدم السلطان إلى ألماس الحاجب أن يخرج في أربعة أمراء ويضع السيف في العامة حتى ينتهي إلى باب زويلة، ويمر إلى باب النصر وهو كذلك ولا يرفع السيف عن أحد، وأمر والي القاهرة أن يتوجه إلى باب اللوق والبحر، ويقبض من وجده، ويحملهم إلى القلعة، وعين لذلك مماليك تخرج من الميدان. فبادر كريم الدين وسأل السلطان العفو، فقبل شفاعته، ورسم بالقبض على العامة من غير قتلهم.
وكان الخبر قد طار، ففرت العامة حتى الغلمان، وصار الأمير لا يجد من يركبه. وانتشر ذلك، فغلقت جميع أسواق القاهرة، فما وصل الأمر إلى باب زويلة حتى لم يجدوا أحدا، وشقوا القاهرة إلى باب النصر، فكانت ساعة لم يمر بالناس أعظم منها. ومر الوالي إلى باب اللوق وبولاق وباب البحر، وقبض كثيراً من الكلابزة والنواتية وأراذل العامة، بحيث صار كل من رأه أخذه. وجفل الناس من الخوف، وعدوا في المراكب إلى بر الجيزة.
فلما عاد السلطان إلى القلعة لم يجد أحداً في طريقه، وأحضر إليه الوالي بمن قبض عليه وهم نحو المائتين، فرسم أن يصلبوا، وأفرد جماعة للشنق وجماعة للتوسيط وجماعة لقطع الأيدي. فصاحوا: يا خوند ما يحل لك! فما نحن الغرماء، وتباكوا فرق لهم بكتمر الساقي، وقام معه الأمراء، ومازالوا بالسلطان حتى رسم بصلب جماعة منهم على الخشب من باب زويلة إلى سوق الخيل، وأن يعلقوا بأيديهم. فأصبحوا يوم الأحد صفاً واحداً من باب زويلة إلى سوق الخيل تحت القلعة، فتوجع لهم الناس، وكان منهم كثير من بياض الناس، ولم تفتح القاهرة.
وخاف كريم الدين على نفسه، ولم يسلك من باب زويلة، وصعد القلعة من خارج السور، فإذا السلطان قد قدم الكلابزة وأخذ في قطع أيديهم. فكشف كريم الدين رأسه وقبل الأرض، وباس رجل السلطان، وسأله العفو. فأجابه السلطان بمساعدة الأمير بكتمر، وأمر بهم فقيدوا وأخرجوا للعمل في الحفير بالجيزة. ومات ممن قطع يده رجلان، وامر بحط من علق على الخشب.
فللحال وقع الصوت بحريق أماكن بجوار جامع ابن طولون، وبوقوع الحريق في القلعة وفي بيت الأحمدي بحارة بهاء الدين من القاهرة، وبفندق طرنطاي خارج باب البحر، فدهش السلطان. وكان هذا الفندق برسم تجار الزيت الوارد من الشام، فعمت النار كل ما فيه حتى العمد الرخام، وكانت ستة عشر عموداً، طول كل منها ستة أذرع باعمل، ودوره نحو ذراعين، فصارت كلها جيراً، وتلف فيه لتاجر واحد ما قيمته تسعون ألف درهم، وقبض فيه على ثلاثة نصارى معهم فتائل النفط، اعترفوا أنهم فعلوا ذلك.
فلما كان يوم السبت تاسع عشريه: ركب السلطان إلى الميدان، فوجد نحو العشرين ألفاً من العامة قد صبغوا خرقاً بالأزرق والأصفر، وعملوا في الأزرق صلباناً بيضاء، ورفعوها على الجريد، وصاحوا عليه صيحة واحدة: لا دين إلا دين الإسلام! نصر الله دين محمد بن عبد الله! يا ملك الناصر يا سلطان الإسلام، إنصرنا على أهل الكفر، ولا تنصر النصارى فخشح السلطان والأمراء، ومر إلى الميدان وقد اشتغل سره وركبت العامة أسوار الميدان، ورفعت الخرق وهي تصيح. لا دين إلا دين الإسلام. فخاف السلطان الفتنة ورجع إلى مداراتهم، وتقدم إلى الحاجب بأن يخرج وينادي: من وجد نصرانياً فدمه وماله حلال. فلما سمعوا النداء صرخوا صوتاً واحداً: نصرك الله يا ناصر دين الإسلام، فارتجت الأرض.
ونودي عقيب ذلك بالقاهرة ومصر: من وجد من النصارى بعمامة بيضاء حل دمه. ومن وجد من النصارى راكباً باستواء حل دمه. وكتب مرسوم بلبس النصارى العمائم الزرق، وألا يركبوا فرساً ولا بغلاً، وأن يركبوا الحمير عرضاً، ولا يدخلوا الحمام إلا بجرس في أعناقهم، ولا يتزيوا بزي المسلمين هم ونساؤهم وأولادهم. ورسم للأمراء بإخراج النصارى من دواوينهم ومن دواوين السلطان، وكتب بذلك إلى سائر الأعمال، وغلقت الكنائس والأديرة، وطلب السني ابن ست بهجة، والشمس بن كثير فلم يوجدا.
وتجرأت العامة على النصارى، بحيث إذا وجدوهم ضربوهم وعروهم ثيابهم، فلم يتجاسر نصراني أن يخرج من بيته. ولم يتحدث في أمر اليهود، فكان النصراني إذا طرأ له أمر يتزيا بزي اليهود، ويلبس عمامه صفراء يكتريها من يهودي ليخرج في حاجته. واتفق أن بعض كتاب النصارى حضر إلى يهودي له عليه مبلغ ألف درهم ليأخذ منه شيئاً، فأمسكه اليهودي وصاح: أنا بالله وبالمسلمين، فخاف النصراني، وقال له: أبرأت ذمتك، وكتب له خطه بالبراءة وفر. واحتاج عدة من النصارى إلى إظهارهم الإسلام، فأسلم السني ابن ست بهجة في يوم الثلاثاء سابع عشر جمادى الآخرة، وخلع عليه، وأسلم كثير منهم، واعترف بعضهم على راهب بدير الخندق أنه كان ينفق المال في عمل النفط للحريق ومعه أربعة، فأخذوا وسمروا.
وانبسطت ألسنة الأمراء بسب كريم الدين أكرم الصغير، وحصلت مفاوضة بين الأمير قطلوبغا الفخري والأمير بكتمر الساقي بسبب كريم الدين الكبير، فإن بكتمر كان يعتني به وبالدواوين، والفخري يضع منه ومنهم، وصار مع كل من الأميرين جماعة، وبلغ السلطان ذلك، وأن الأمراء تترقب وقوع الفتنة.
وصار السلطان إذا ركب إلى الميدان لا يري أحداً في طريقه من العامة لكثرة خوفهم من أن يبطش بهم، فلم يعجبه ذلك، ونودي بخروج الناس للفرجة على الميدان، فخرجوا على عادتهم. فلما كانت ليلة الأحد ثاني عشريه وقع الحريق بالقلعة، وعظم أمره حتى اشتد القلق إلى أن طفي.
وفي رابع عشريه: توجه كريم الدين الكبير إلى الإسكندرية، ونادى فيها بلبس النصارى العمائم الزرق، ومنعهم من المباشرة في الديوان. فوردت مراكب تحصل منها للديوان نحو الخمسين ألف دينار، فسر كريم الدين بذلك. وعاد كريم الدين إلى القاهرة، فشفع في إطلاق المقيدين الذين فبض عليهم فأطلقوا، وأعطى كل واحد منهم عشرة دراهم فضة وعشرة فلوساً وقميصاً، وفرق ألف قميص، ثم استدعى المسجونين على الديوان، وصالح غرماءهم عنهم، وخلى سبيلهم بحيث لم يبق أحد بسجن القضاة وأغلق.
وفيها ألقيت ورقة في جناح طائر وجد بالإسطبل تتضمن الإنكار على السلطان، وأنه فرط في ملكه ومماليكه، والعسكر قد تلف، وقد باع أولاد الناس الإقطاعات التي بأسمائهم، وصاروا يسألون الناس من الحاجة. فغضب السلطان من ذلك، وتقدم إلى نقيب الجيش بكتابة أسماء من باع خبزه، وكشف حال الأجناد ومعرفة من فيهم بغير فرس، وعرض مماليك السلطان، وأخرج منهم مائة إلى الكرك.
وفيه سافر كريم الدين الكبير إلى دمشق على البريد، فتلقاه النائب على العادة، وقدم الناس إليه تقادم جليلة، فلم يقبل منها لأحد منهم شيئاً، بل عمهم بالإنعامات والصدقات، وعاد إلى القاهرة.
وفيها جلس السلطان لعرض أجناد الحلقة، فضرب جماعة وحبس جماعة، وقطع أخباز أربعة عشر من أولاد الأمراء، ثم أفرج عن المحبوسين بعد شهرين، وبعثهم إلى الشام.
وفيه قدم عرب البحرين بأربعين فرساً، فقومت بخمسمائة ألف درهم فضة، وأنعم عليهم بعشرة ألاف دينار مصرية زيادة على ذلك، وخلع على الجميع.
وفيها خرج إلأمير جمال الدين أقوش الأشرفي نائب الكرك بعسكر إلى أياس، وخرجت معه عساكر الشام وحلب بالآلات، فنازلوها ونصبوا عليها المجانيق، وقاتلوا الأرمن حتى ملكوها، وغنموا منها مالاً كثيراً وقتلوا عدة كثيرة منهم، ومر من بقي في البحر، وذلك في حادي عشرى ربيع الآخر. وعادت العساكر فأغارت على بلاد تكفور، وأخذت مالاً كبيراً، وقدم الأمير جمال الدين أقوش إلى القاهرة. فبلغ الأمير ألطنبغا نائب حلب أن أهل إياس قد عادوا إليها، فأمسك إلى أن كانت أيام عيد لهم، وركب بعسكر حلب وطرقهم على غفلة، وقتل منهم نحو ألفي رجل وأسر ثلاثمائة، وغنم مالاً جزيلاً وعاد.
وفيه تنكرت المماليك السلطانية على كريم الدين الكبير، لتأخر جوامكهم شهرين، ثم تجمعوا في يوم الخميس ثامن عشرى صفر قبل الظهر، ووقفوا بباب القصر. وكان السلطان وقتذاك عند الحريم، فلما بلغه ذلك خشى منهم، وبعث بخروج الأمير بكتمر الساقي إليهم، فلم يرضوه، فخرج إيهم السلطان وقد صاروا ألفاً وخمسمائة، فعندما رأهم سبهم وأهانهم، وأخذ العصا من المقدم وضرب بها رءوسهم وأكتافهم، وصاح فيهم: اطلعوا مكانكم، فعادوا بأجمعهم إلى الطباق، فعدت سلامته من العجائب. ثم إنه أمر النائب بعرضهم، فعرضهم في يوم السبت أخر صفر، وأخرج منهم مائة وثمانين إلى البلاد الشامية، وأخرج بعد ذلك منهم جماعة من الطباق إلى خرائب تتر، وضرب واحداً منهم بالمقارع هو وغلامه، لكونه شرب الخمر، فمات بعد يومين من ضربه، وأخرج جماعة من الخدام وقطع جوامكهم، وأنزلهم من القلعة.
وفيه قدم رسول جوبان من الأردو يسأل أن يعطى ضيعة من ضياع مصر الخراب ليعمرها ويقفها على الحرم، فأعيد رسوله بأنه يسير إليه مكاتيب ضيعة بعد ذلك.
وفيه أنعم السلطان على جماعة من المماليك بإمريات: منهم علاء الدين أيدغدي التيليلي الشمسي أحد مماليك سنقر الأشقر، وكان قد أمر في أيام المنصور لاجين، وأنعم على كل من بيبرس الكريمي، وقطلوبغا طاز الناصري، وعبد الملك المنصوري والي القلعة، وأبو بكر ابن الأمير أرغون النائب، وملكتمر السرجواني، وطيبغا القاسمي، وطقبغا، وبيدمر، وطغاي تمر من الخاصكية، يإمرة. ونزلوا إلى المدرسة المنصورية بين القصرين، وقد أشعلت لهم القاهرة، وجلس المغاني بالحوانيت في عدة أماكن، وعمل لهم كريم الدين سماطا جليلا وفواكه ومشارب بالمدرسة، فكان يوماً مشهوداً.
وفيه نزل السلطان لصيد الكراكي من بركة الحاج، وتقدم لكريم الدين الكبير أن يعمل بها احواشاً للخيل والجمال وميداناً، ويبني الأمير بكتمر الساقي مثل ذلك. فجمع كريم الدين من الرجال للعمل نحو ألفي رجل ومائة زوج من البقر حتى فرغ في أيام يسيرة، وجعل في الميدان عدة من الحجورة المستولدة، وركب السلطان لمشاهدة ذلك، واستمر يتعاهد الركوب إليها.
وفيه شكا طائفة من أجناد الحلقة من زايد القانون في البلاد، فرسم للفخر ناظر الجيش ألا يتحدث في ذلك. وزايد القانون شيء حدث في الأيام الناصرية: وذلك أن السلطان لما عمل الجسور، واتفق أمرها، وأنشا عليها القناطر، صار الماء إذا أروى بلاد البحيرة يجد ما يمنعه من الخروج إلى البحر فيتراجع، ثم حرق من موضع خرقاً كالمجراة، واتسع حتى صار خليجاً صغيراً يمر على أراض لم يكن من عادتها أن يعلوها الماء. فطالع الأمير ركن الدين القلنجقي كاشف البحيرة السلطان بأن عدة من الأراضي التي في بلاد المقطعين قد شملها الري، وسأل أن يقتطع ولده منها خبزاً بعشرة أرماح، فإنها زايدة عن قانون المقطعين. فندب السلطان الأمير أيتمش المحمدي والموفق مستوفي الدولة لكشف هذه الأراضي وقياسها، فتوجها إلى البحيرة وكشفا عنها، فبلغت خمسة وعشرين ألف فدان، فكتبت مشاريحها، ولم يذكر منها غير خمسة عشر ألف فدان فقط، فإنها كانت أراضي متفرقة في بلاد المقطعين. فكتب السلطان بها مثالات ما بين ثلاثمائة دينار وأربعمائة دينار، وفرقها على أرباب الجوامك من المماليك، فشق هذا على الأجناد، فإنها كانت من أراضي إقطاعاتهم.
وفي نصف جمادى الآخرة: ولد للسلطان من خوند طغاي ولداً أسماه آنوك.
وكانت طغاي هذه جارية تركية اشتراها تنكز نائب الشام من دمشق بتسعين ألف درهم، وبعثها إلى السلطان. فشق على سيدها ذلك لشغفه بها، وحضر إلى السلطان، فأنعم عليه بألفي دينار مصرية، وكتب له مسموحا بألفي دينار. وحظيت الخاتون طغاي عند السلطان، وكانت بارعة الجمال، فعمل السلطان عند ولادتها مهما عظيماً إلى الغاية، وأنعم لها بالسفر إلى الحجاز لتحج، فشرع كريم الدين في تجهيزها، وبعث الأمير تنكز أيضاً يستأذن في الحج، فأذن له.
وفيها قبض على الأمير صلاح الدين بن البيسري، وأرخي في الجب مقيداً، ثم أخرج بعد يومين إلى الإسكندرية. وسببه أنه كان يتورع عن الأكل من سماط السلطان، وكانت أخته تحت الحاج آل ملك، فشكا منه أنه قد أكل مالها، فقال السلطان: متورع عن الأكل من السماط، ويأكل مال اليتيم، وأمر به فقيد.
وفيها قدم البريد من حلب بمسير جوبان بعساكر المغل لحرب الملك أزبك.
وفيها أنشأ السلطان على بركة الفيل داراً بجوار دار الأمير بدر الدين جنكلي بن البابا، وأقام آقسنقر شاد العمائر على عملها، وأدخل فيها كثيراً من دور الناس وأراضي ملاكها، ورسم بنقل كريم الدين الكبير إليها.
وفيها قدمت تقادم نواب الشام برسم سفر الخاتون طغاي إلى الحجاز، وعمل الأمير أرغون النائب برسمها ثماني عربات كعاده بلاد الترك لتسافر فيها، وجرها إلى الإسطبل، فأعجب بها السلطان وخلع عليه. وعين للسفر مع الخاتون الأمير قجليسي والقاضي كريم الدين الكبير، وخرج النائب والحجاب في خدمتها إلى بركة الحاج حتى رحلت في يوم الأربعاء سابع عشرى شوال، ومعها من النقباء صاروجا وبكتاش، ورفعت عليها العصائب السلطانية، ودقت الكوسات وراءها، وحملت الخضراوات والبقول والرياحين في المحابر مزروعة في الطين، ولم يعهد سفر امرأة من نساء الملوك مثل سفرها.
وفيها خرج السلطان إلى الصيد، وقد توقف حال الناس في أمر الفلوس لكثرة الزغل فيها، وتحسنت البضائع. فلما قدم السلطان من الصيد رسم أن تكون الفلوس بالميزان، بعدما ضرب كثيراً من الباعة.
وفيها سقط نجم عظيم بعد العصر، فطبق شعاعه الأرض، ورأه كل أحد.
وفيها ولدت كلبة بالقاهرة ثلاثين جرواً، وأحضرت بجراها إلى السلطان.
وفي يوم الإثنين سادس عشرى رمضان: شكا طلبة زاوية الشافعي بجامع عمرو من مدرسهم شهاب الدين الأنصاري، وأبدوا فيه قوادح، فصرف عنهم، وولي عوضه قاضي القصاة بدر الدين محمد بن جماعة، ونزلت إليه الخلعة يوم الجمعة سلخه، فلبسها يوم العيد.

.ومات في هذه السنة ممن له ذكر:

نور الدين إبراهيم بن هبة الله بن علي الحميري الإسنائي الفقيه الشافعي، قاضي قوص، بالقاهرة يوم الثلاثاء سادس عشرى صفر، أخذ الفقه عن الشيخ بهاء الدين هبة الله بن عبد الله القفطي، والأصول عن الشيخ شمس الدين محمد بن محمود الأصبهاني، والنحو عن ابن النحاس. وبرع في ذلك وصنف.
ومات تاج الدين أبو الهدى أحمد بن محمد بن الكمال أبي الحسن علي بن شجاع القرشي العباسي، بمنشاة المهراني خارج مدينة مصر، عن تسع وسبعين سنة، في سابع جمادى الأولى.
ومات مجد الدين أحمد بن معين الدين أبي بكر الهمذاني المالكي، خطيب الفيوم، يوم الثلاثاء ثامن ربيع الأول، وكان يضرب به المثل في المكارم والسودد، وهو أخو قاضي الفضاة شرف الدين المالكي، وصهر الصاحب تاج الدين محمد بن حنا.
ومات بمكة الشيخ نجم الدين عبد الله بن محمد بن محمد الأصبهاني، في جمادى الآخرة.
ومات الأمير زين الدين كتبغا العادلي حاجب دمشق بها، في يوم الجمعة ثامن عشرى شوال، واستقر عوضه الأمير علاء الدين أيدغدي الخوارزمي، وكان شجاعاً كريماً.
ومات تقي الدين محمد بن عبد الحميد بن عبد الغفار الهمذاني الحلبي الضرير بمصر، وجد ميتاً في حادي عشر ذي الحجة، وقد أناف على السبعين، وحدث بأشياء.
ومات الملك المؤيد هزبر الدين داود ابن المظفر شمس الدين يوسف ابن المنصور نور الدين عمر بن علي بن رسول التركماني ملك اليمن، في مستهل ذي الحجة، وكانت مدته خمساً وعشرين سنة، وقام من بعده ابنه الملك المجاهد سيف الدين علي.
ومات كمال الدين محمد بن عماد الدين إسماعيل بن أحمد بن سعيد بن الأثير كاتب الدست، يوم الإثنين خامس عشر ذي الحجة بالقاهرة، وكان حشماً رئيساً عاقلاً.
ومات الطواشي صفي الدين جوهر مقدم المماليك السلطانية، فاستقر بعده الطواشي صفي الدين صواب الركني، وكان صواب الركني هذا يلي تقدمة المماليك في الأيام الركنية بيبرس، فلما قدم السلطان من الكرك عزله، ثم أعاده بعد موت جوهر.
ومات حميد الدين أبو الثناء محمود بن محمد بن محمود بن نصر النيسابوري، شيخ الخانكاه الركنية بيبرس، في تاسع عشر جمادى الآخرة، ومولده سنة خمس وأربعين وستمائة.
ومات الشيخ تاج الدين يحيى بن عبد الوهاب بن عبد الرحيم الدمنهوري الشافعي، في ثالث عشر جمادى الأولى. كان يتصدر لإقراء النحو، وصنف.
ومات بمكة الإمام المقرئ عفيف الدين أبو محمد عبد الله بن عبد الحق بن عبد الله ابن عبد الأحد المخزومي الدلاصي، في ليلة رابع عشر المحرم.