فصل: الْبَابُ الرَّابِعُ: فِيمَا أَظْهَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى يَدَيْهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ، وَشَرَّفَهُ بِهِ مِنَ الْخَصَائِصِ، وَالْكَرَامَاتِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الشفا بتعريف حقوق المصطفى ***


الفصل التَّاسِعُ‏:‏ فِي تَفْضِيلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

فِي تَفْضِيلِهِ بِالْمَحَبَّةِ، وَالْخِلَّةِ‏:‏ جَاءَتْ بِذَلِكَ الْآثَارُ الصَّحِيحَةُ، وَاخْتُصَّ عَلَى أَلْسِنَةِ الْمُسْلِمِينَ بِحَبِيبِ اللَّهِ‏.‏ ‏[‏أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْخَطِيبُ، وَغَيْرُهُ، عَنْ كَرِيمَةَ بِنْتِ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْهَيْثَمِ، وَحَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَافِظُ سَمَاعًا عَلَيْهِ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْهَيْثَمِ، حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ، حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ، حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ، عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ‏]‏، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ «لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا غَيْرَ رَبِّي لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ»‏.‏

وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ» وَإِنَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ اللَّهِ»‏.‏

وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ‏:‏ «وَقَدِ اتَّخَذَ اللَّهُ صَاحِبَكُمْ خَلِيلًا»‏.‏

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ‏:‏ جَلَسَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْتَظِرُونَهُ، قَالَ‏:‏ فَخَرَجَ حَتَّى إِذَا دَنَا مِنْهُمْ سَمِعَهُمْ يَتَذَاكَرُونَ، فَسَمِعَ حَدِيثَهُمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ عَجَبًا‏!‏ إِنَّ اللَّهَ اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ مِنْ خَلْقِهِ خَلِيلًا

وَقَالَ آخَرُ‏:‏ مَاذَا بِأَعْجَبَ مِنْ كَلَامِ مُوسَى، كَلَّمَهُ اللَّهُ تَكْلِيمًا‏.‏

وَقَالَ آخَرُ‏:‏ فَعِيسَى كَلِمَةُ اللَّهِ، وَرُوحُهُ‏.‏

وَقَالَ آخَرُ‏:‏ وَآدَمُ اصْطَفَاهُ اللَّهُ‏.‏

فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ فَسَلَّمَ، وَقَالَ‏:‏ «قَدْ سَمِعْتُ كَلَامَكُمْ، وَعَجَبَكُمْ، أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وَهُوَ كَذَلِكَ، وَمُوسَى نَجِيُّ اللَّهِ، وَهُوَ كَذَلِكَ، أَلَا وَأَنَا حَبِيبُ اللَّهِ، وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا حَامِلُ لِوَاءِ الْحَمْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا أَوَّلُ شَافِعٍ، وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ، وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يُحَرِّكُ حِلَقَ الْجَنَّةِ فَيَفْتَحُ اللَّهُ لِي فَيُدْخِلُنِيهَا، وَمَعِي فُقَرَاءُ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا أَكْرَمُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، وَلَا فَخْرَ»‏.‏

وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ إِنِّي اتَّخَذْتُكَ خَلِيلًا، فَهُوَ مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ‏:‏ أَنْتَ حَبِيبُ الرَّحْمَنِ‏.‏

قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ وَفَّقَهُ اللَّهُ‏:‏ اخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِ الْخِلَّةِ، وَأَصْلِ اشْتِقَاقِهَا، فَقِيلَ‏:‏ الْخَلِيلُ‏:‏ الْمُنْقَطِعُ إِلَى اللَّهِ الَّذِي لَيْسَ فِي انْقِطَاعِهِ إِلَيْهِ، وَمَحَبَّتِهِ لَهُ اخْتِلَالٌ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ الْخَلِيلُ الْمُخْتَصُّ، وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ غَيْرُ وَاحِدٍ‏.‏

وَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ أَصْلُ الْخِلَّةِ الِاسْتِصْفَاءُ‏:‏ وَسُمِّيَ إِبْرَاهِيمُ خَلِيلَ اللَّهِ، لِأَنَّهُ يُوَالِي فِيهِ، وَيُعَادِي فِيهِ، وَخَلَّةُ اللَّهِ لَهُ نَصْرُهُ، وَجَعْلُهُ إِمَامًا لِمَنْ بَعْدَهُ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ الْخَلِيلُ‏:‏ أَصْلُهُ الْفَقِيرُ الْمُحْتَاجُ الْمُنْقَطِعُ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْخُلَّةِ، وَهِيَ الْحَاجَةُ، فَسُمِّيَ بِهَا إِبْرَاهِيمُ، لِأَنَّهُ قَصَرَ حَاجَتَهُ عَلَى رَبِّهِ، وَانْقَطَعَ إِلَيْهِ بِهَمِّهِ، وَلَمْ يَجْعَلْهُ قَبْلَ غَيْرِهِ، إِذْ جَاءَهُ جِبْرِيلُ، وَهُوَ فِي الْمَنْجَنِيقِ، لِيُرْمَى بِهِ فِي النَّارِ، فَقَالَ‏:‏ أَلَكَ حَاجَةٌ‏؟‏ قَالَ‏:‏ أَمَّا إِلَيْكَ فَلَا‏.‏

وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ فُورَكٍ ‏:‏ الْخِلَّةُ‏:‏ صَفَاءُ الْمَوَدَّةِ الَّتِي تُوجِبُ الِاخْتِصَاصَ بِتَخَلُّلِ الْأَسْرَارِ‏.‏

وَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ أَصْلُ الْخِلَّةِ الْمَحَبَّةُ، وَمَعْنَاهَا الْإِسْعَافُ، وَالْإِلْطَافُ، وَالتَّرْفِيعُ، وَالتَّشْفِيعُ، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ‏}‏ ‏[‏الْمَائِدَةِ‏:‏ 18‏]‏‏.‏

فَأَوْجَبَ لِلْمَحْبُوبِ أَنْ لَا يُؤَاخَذَ بِذُنُوبِهِ‏.‏

قَالَ هَذَا وَالْخِلَّةُ أَقْوَى مِنَ النُّبُوَّةِ، لِأَنَّ النُّبُوَّةَ قَدْ تَكُونُ فِيهَا الْعَدَاوَةُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ‏}‏ ‏[‏التَّغَابُنِ‏:‏ 14‏]‏ الْآيَةَ‏.‏

وَلَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ عَدَاوَةٌ مَعَ خِلَّةٍ، فَإِذَا تَسْمِيَةُ إِبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدٌ- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- بِالْخِلَّةِ إِمَّا بِانْقِطَاعِهِمَا إِلَى اللَّهِ، وَوَقْفِ حَوَائِجِهِمَا عَلَيْهِ، وَالِانْقِطَاعِ عَمَّنْ دُونَهُ، وَالْإِضْرَابِ عَنِ الْوَسَائِطِ، وَالْأَسْبَابِ، أَوْ لِزِيَادَةِ الِاخْتِصَاصِ مِنْهُ تَعَالَى لَهُمَا، وَخُفْيِ أَلْطَافِهِ عِنْدَهُمَا، وَمَا خَالَلَ بَوَاطِنَهُمَا مِنْ أَسْرَارٍ إِلَهِيَّتِهِ، وَمَكْنُونِ غُيُوبِهِ، وَمَعْرِفَتِهِ، أَوْ لِاسْتِصْفَائِهِ لَهُمَا، وَاسْتِصْفَاءِ قُلُوبِهِمَا عَمَّنْ سِوَاهُ، حَتَّى لَمْ يُخَالِلْهُمَا حُبٌّ لِغَيْرِهِ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ الْخَلِيلُ مَنْ لَا يَتَّسِعُ قَلْبُهُ لِسِوَاهُ، وَهُوَ عِنْدَهُمْ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا، لَكِنْ أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ»‏.‏

وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ أَرْبَابُ الْقُلُوبِ‏:‏ أَيُّهُمَا أَرْفَعُ دَرَجَةً‏:‏ الْخِلَّةُ أَوْ دَرَجَةُ الْمَحَبَّةِ‏؟‏ فَجَعَلَهُمَا بَعْضُهُمْ سَوَاءً فَلَا يَكُونُ الْحَبِيبُ إِلَّا خَلِيلًا، وَلَا الْخَلِيلُ إِلَّا حَبِيبًا لَكِنَّهُ خَصَّ إِبْرَاهِيمَ بِالْخِلَّةِ، وَمُحَمَّدًا بِالْمَحَبَّةِ‏.‏

وَبَعْضُهُمْ قَالَ‏:‏ دَرَجَةُ الْخِلَّةِ أَرْفَعُ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا غَيْرَ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ» فَلَمْ يَتَّخِذْهُ‏.‏

وَقَدْ أَطْلَقَ الْمَحَبَّةَ لِفَاطِمَةَ، وَابْنَيْهَا، وَأُسَامَةَ، وَغَيْرِهِمْ‏.‏

وَأَكْثَرُهُمْ جَعَلَ الْمَحَبَّةَ أَرْفَعَ مِنَ الْخِلَّةِ، لِأَنَّ دَرَجَةَ الْحَبِيبِ نَبِيِّنَا أَرْفَعُ مِنْ دَرَجَةِ الْخَلِيلِ إِبْرَاهِيمَ‏.‏

وَأَصْلُ الْمَحَبَّةِ الْمَيْلُ إِلَى مَا يُوَافِقُ الْمُحِبَّ، وَلَكِنَّ هَذَا فِي حَقِّ مَنْ يَصِحُّ الْمَيْلُ مِنْهُ، وَالِانْتِفَاعُ بِالْوَفْقِ، وَهِيَ دَرَجَةُ الْمَخْلُوقِ، فَأَمَّا الْخَالِقُ جَلَّ جَلَالُهُ فَمُنَزَّهٌ عَنِ الْأَغْرَاضِ، فَمَحَبَّتُهُ لِعَبْدِهِ تَمْكِينُهُ مِنْ سَعَادَتِهِ، وَعِصْمَتُهُ، وَتَوْفِيقُهُ، وَتَهْيِئَةُ أَسْبَابِ الْقُرْبِ، وَإِفَاضَةُ رَحْمَتِهِ عَلَيْهِ، وَقُصْوَاهَا كَشْفُ الْحُجُبِ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى يَرَاهُ بِقَلْبِهِ، وَيَنْظُرَ إِلَيْهِ بِبَصِيرَتِهِ، فَيَكُونُ كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ‏:‏ ‏"‏ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَلِسَانَهُ الَّذِي يَنْطِقُ بِهِ ‏"‏‏.‏

وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُفْهَمَ مِنْ هَذَا سِوَى التَّجَرُّدِ لِلَّهِ، وَالِانْقِطَاعِ إِلَى اللَّهِ، وَالْإِعْرَاضِ عَنْ غَيْرِ اللَّهِ، وَصَفَاءِ الْقَلْبِ لِلَّهِ، وَإِخْلَاصِ الْحَرَكَاتِ لِلَّهِ، كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-‏:‏ كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنُ بِرِضَاهُ يَرْضَى، وَبِسُخْطِهِ يَسْخَطُ، وَمِنْ هَذَا عَبَّرَ بَعْضُهُمْ عَنِ الْخِلَّةِ بِقَوْلِهِ‏:‏

قَدْ تَخَلَّلْتَ مَسْلَكَ الرُّوحِ مِنِّي *** وَبِذَا سُمِّيَ الْخَلِيلُ خَلِيلَا

فَإِذَا مَا نَطَقْتُ كُنْتَ حَدِيثِي *** وَإِذَا مَا سَكَتُّ كُنْتَ الْغَلِيلَا

فَإِذَا مَزِيَّةُ الْخِلَّةِ، وَخُصُوصِيَّةُ الْمَحَبَّةِ حَاصِلَةٌ لِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآثَارُ الصَّحِيحَةُ الْمُنْتَشِرَةُ، الْمُتَلَقَّاةُ بِالْقَبُولِ مِنَ الْأُمَّةِ، وَكَفَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ‏}‏ ‏[‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 31‏]‏ الْآيَةَ‏.‏

حَكَى أَهْلُ التَّفْسِيرِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَمَّا نَزَلَتْ قَالَ الْكُفَّارُ‏:‏ إِنَّمَا يُرِيدُ مُحَمَّدٌ أَنْ نَتَّخِذَهُ حَنَانًا كَمَا اتَّخَذَتِ النَّصَارَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ غَيْظًا لَهُمْ، وَرَغْمًا عَلَى مَقَالَتِهِمْ هَذِهِ الْآيَةَ‏:‏ ‏{‏قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ‏}‏ ‏[‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 32‏]‏، فَزَادَهُ شَرَفًا بِأَمْرِهِمْ بِطَاعَتِهِ، وَقَرْنِهَا بِطَاعَتِهِ، ثُمَّ تَوَعَّدَهُمْ عَلَى التَّوَلِّي عَنْهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ‏}‏ ‏[‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 32‏]‏‏.‏

وَقَدْ نَقَلَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرِ بْنُ فُورَكٍ عَنْ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ كَلَامًا فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَحَبَّةِ، وَالْخِلَّةِ يَطُولُ جُمْلَةُ إِشَارَاتِهِ إِلَى تَفْضِيلِ مَقَامِ الْمَحَبَّةِ عَلَى الْخِلَّةِ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ مِنْهُ طَرَفًا يَهْدِي إِلَى مَا بَعْدَهُ‏.‏

فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ‏:‏ الْخَلِيلُ يَصِلُ بِالْوَاسِطَةِ، مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ‏}‏ ‏[‏الْأَنْعَامِ‏:‏ 75‏]‏‏.‏

وَالْحَبِيبُ يَصِلُ إِلَيْهِ بِهِ مِنْ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى‏}‏ ‏[‏النَّجْمِ‏:‏ 9‏]‏‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ الْخَلِيلُ‏:‏ الَّذِي تَكُونُ مَغْفِرَتُهُ فِي حَدِّ الطَّمَعِ، مِنْ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي‏}‏ ‏[‏الشُّعَرَاءِ‏:‏ 82‏]‏‏.‏

وَالْحَبِيبُ الَّذِي مَغْفِرَتُهُ فِي حَدِّ الْيَقِينِ مِنْ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ‏}‏ ‏[‏الْفَتْحِ‏:‏ 2‏]‏ الْآيَةَ‏.‏

وَالْخَلِيلُ قَالَ‏:‏ ‏{‏وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ‏}‏ ‏[‏الشُّعَرَاءِ‏:‏ 87‏]‏ وَالْحَبِيبُ قِيلَ لَهُ‏:‏ ‏{‏يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ‏}‏ ‏[‏التَّحْرِيمِ‏:‏ 8‏]‏‏.‏ فَابْتُدِئَ بِالْبِشَارَةِ قَبْلَ السُّؤَالِ‏.‏

وَالْخَلِيلُ قَالَ فِي الْمِحْنَةِ‏:‏ ‏{‏حَسْبِيَ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏الزُّمَرِ‏:‏ 38‏]‏‏.‏

وَالْحَبِيبُ قِيلَ لَهُ‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏الْأَنْفَالِ‏:‏ 64‏]‏‏.‏

وَالْخَلِيلُ قَالَ‏:‏ ‏{‏اجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ‏}‏ ‏[‏الشُّعَرَاءِ‏:‏ 84‏]‏‏.‏ وَالْحَبِيبُ قِيلَ لَهُ‏:‏ ‏{‏وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ‏}‏ ‏[‏الشَّرْحِ‏:‏ 4‏]‏، أُعْطِي بِلَا سُؤَالٍ‏.‏

وَالْخَلِيلُ قَالَ‏:‏ ‏{‏وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ‏}‏ ‏[‏إِبْرَاهِيمَ‏:‏ 35‏]‏‏.‏

وَالْحَبِيبُ قِيلَ لَهُ‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ‏}‏ ‏[‏الْأَحْزَابِ‏:‏ 33‏]‏

وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ تَنْبِيهٌ عَلَى مَقْصِدِ أَصْحَابِ هَذَا الْمَقَالِ مِنْ تَفْضِيلِ الْمَقَامَاتِ، وَالْأَحْوَالِ، وَ ‏{‏قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا‏}‏ ‏[‏الْإِسْرَاءِ‏:‏ 84‏]‏‏.‏

الفصل الْعَاشِرُ‏:‏ فِي تَفْضِيلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالشَّفَاعَةِ، وَالْمَقَامِ الْمَحْمُودِ

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا‏}‏ ‏[‏الْإِسْرَاءِ‏:‏ 79‏]‏‏.‏

‏[‏أَخْبَرَنَا الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ الْغَسَّانِيُّ الْجَيَّانِيُّ فِيمَا كَتَبَ إِلَيَّ بِخَطِّهِ، حَدَّثَنَا سِرَاجُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَاضِي، حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْأَصِيلِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو زَيْدٍ، وَأَبُو أَحْمَدَ، قَالَا‏:‏ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبَانٍ حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ‏]‏، عَنْ آدَمَ بْنِ عَلِيٍّ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ‏:‏ إِنَّ النَّاسَ يَصِيرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جُثًى، كُلُّ أُمَّةٍ تَتْبَعُ نَبِيَّهَا، يَقُولُونَ‏:‏ يَا فُلَانُ اشْفَعْ لَنَا، يَا فُلَانُ اشْفَعْ لَنَا، حَتَّى تَنْتَهِيَ الشَّفَاعَةُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَلِكَ يَوْمُ يَبْعَثُهُ اللَّهُ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ‏.‏

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ‏:‏ سُئِلَ عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْنِي قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا‏}‏ ‏[‏الْإِسْرَاءِ‏:‏ 79‏]‏، فَقَالَ‏:‏ «الشَّفَاعَةُ»‏.‏

وَرَوَى كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ ، عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَكُونُ أَنَا، وَأُمَّتِي عَلَى تَلٍّ، وَيَكْسُونِي رَبِّي حُلَّةً خَضْرَاءَ، ثُمَّ يُؤْذَنُ لِي فَأَقُولُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ أَقُولَ، فَذَلِكَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ»‏.‏

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، وَذَكَرَ حَدِيثَ الشَّفَاعَةِ قَالَ‏:‏ فَيَمْشِي حَتَّى يَأْخُذَ بِحَلْقَةِ الْجَنَّةِ، فَيَوْمَئِذٍ يَبْعَثُهُ اللَّهُ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ الَّذِي وَعَدَهُ‏.‏

وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قِيَامُهُ عَنْ يَمِينِ الْعَرْشِ مَقَامًا لَا يَقُومُهُ غَيْرُهُ، يَغْبِطُهُ فِيهِ الْأَوَّلُونَ، وَالْآخِرُونَ‏.‏

وَنَحْوُهُ عَنْ كَعْبٍ، وَالْحَسَنِ‏.‏

وَفِي رِوَايَةٍ‏:‏ «هُوَ الْمَقَامُ الَّذِي أَشْفَعُ لِأُمَّتِي فِيهِ»‏.‏

وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «إِنِّي لَقَائِمٌ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ‏.‏ قِيلَ‏:‏ وَمَا هُوَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ذَلِكَ يَوْمَ يَنْزِلُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى كُرْسِيِّهِ» الْحَدِيثَ‏.‏

وَعَنْ أَبِي مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «خُيِّرْتُ بَيْنَ أَنْ يَدْخُلَ نِصْفُ أُمَّتِي الْجَنَّةَ، وَبَيْنَ الشَّفَاعَةِ فَاخْتَرْتُ الشَّفَاعَةَ، لِأَنَّهَا أَعَمُّ، أَتَرَوْنَهَا لِلْمُتَّقِينَ‏؟‏ وَلَكِنَّهَا لِلْمُذْنِبِينَ الْخَطَّائِينَ»‏.‏

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ‏:‏ قُلْتُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَاذَا وَرَدَ عَلَيْكَ فِي الشَّفَاعَةِ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ «شَفَاعَتِي لِمَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُخْلِصًا، يُصَدِّقُ لِسَانُهُ قَلْبَهُ»‏.‏

وَعَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ ، قَالَتْ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «أُرِيتُ مَا تَلْقَى أُمَّتِي مِنْ بَعْدِي، وَسَفْكَ بَعْضِهِمْ دِمَاءَ بَعْضٍ، وَسَبَقَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا سَبَقَ لِأُمَمٍ قَبْلَهُمْ، فَسَأَلْتُ اللَّهَ أَنْ يُؤْتِيَنِي شَفَاعَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيهِمْ، فَفَعَلَ»‏.‏

وَقَالَ حُذَيْفَةُ ‏:‏ يَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ، فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ حَيْثُ يُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي، وَيَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ، حُفَاةً عُرَاةً كَمَا خُلِقُوا، سُكُوتًا لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ، فَيُنَادَى مُحَمَّدٌ فَيَقُولُ‏:‏ «لَبَّيْكَ، وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ، وَالْمُهْتَدِي مَنْ هَدَيْتَ، وَعَبْدُكَ بَيْنَ يَدَيْكَ، وَلَكَ وَإِلَيْكَ، لَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَى مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ، تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ، سُبْحَانَكَ رَبَّ الْبَيْتِ قَالَ‏:‏ فَذَلِكَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ»‏.‏

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-‏:‏ إِذَا دَخَلَ أَهْلُ النَّارِ النَّارَ، وَأَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، فَتَبْقَى آخِرُ زُمْرَةٍ مِنَ الْجَنَّةِ، وَآخِرُ زُمْرَةٍ مِنَ النَّارِ، فَتَقُولُ زُمْرَةُ النَّارِ لِزُمْرَةِ الْجَنَّةِ‏:‏ مَا نَفَعَكُمْ إِيمَانُكُمْ، فَيَدْعُونَ رَبَّهُمْ، وَيَضِجُّونَ، فَيَسْمَعُهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ فَيَسْأَلُونَ آدَمَ، وَغَيْرَهُ بَعْدَهُ فِي الشَّفَاعَةِ لَهُمْ، فَكُلٌّ يَعْتَذِرُ حَتَّى يَأْتُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَشْفَعُ لَهُمْ، فَذَلِكَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ‏.‏

وَنَحْوُهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَيْضًا، ، وَمُجَاهِدٍ ‏.‏

وَذَكَرَهُ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

وَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ لِيَزِيدَ الْفَقِيرِ ‏:‏ سَمِعْتَ بِمَقَامِ مُحَمَّدٍ يَعْنِي الَّذِي يَبْعَثُهُ اللَّهُ فِيهِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ قُلْتُ‏:‏ نَعَمْ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَإِنَّهُ مَقَامُ مُحَمَّدٍ الْمَحْمُودُ الَّذِي يُخْرِجُ اللَّهُ بِهِ مَنْ يُخْرِجُ يَعْنِي مِنَ النَّارِ، وَذَكَرَ حَدِيثَ الشَّفَاعَةِ فِي إِخْرَاجِ الْجَهَنَّمِيِّينَ‏.‏

وَعَنْ أَنَسٍ نَحْوُهُ، وَقَالَ‏:‏ فَهَذَا الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ الَّذِي وَعَدَهُ‏.‏

وَفِي رِوَايَةِ أَنَسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ ، وَغَيْرِهِمَا، دَخَلَ حَدِيثُ بَعْضِهِمْ فِي حَدِيثِ بَعْضٍ‏:‏ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «يَجْمَعُ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ، وَالْآخِرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَهْتَمُّونَ أَوْ قَالَ‏:‏ فَيُلْهَمُونَ فَيَقُولُونَ‏:‏ لَوِ اسْتَشْفَعْنَا إِلَى رَبِّنَا»‏.‏

وَمِنْ طَرِيقٍ آخَرَ، عَنْهُ‏:‏ مَاجَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ‏.‏

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ‏:‏ وَتَدْنُو الشَّمْسُ، فَيَبْلُغُ النَّاسُ مِنَ الْغَمِّ مَا لَا يُطِيقُونَ، وَلَا يَحْتَمِلُونَ، فَيَقُولُونَ‏:‏ أَلَا تَنْظُرُونَ مَنْ يَشْفَعُ لَكُمْ، فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ، زَادَ بَعْضُهُمْ‏:‏ أَنْتَ آدَمُ أَبُو الْبَشَرِ، خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ، وَأَسْكَنَكَ جَنَّتَهُ، وَأَسْجَدَ لَكَ مَلَائِكَتَهُ، وَعَلَّمَكَ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ، اشْفَعْ لَنَا عِنْدَ رَبِّكَ حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا، أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ‏؟‏‏.‏

فَيَقُولُ‏:‏ إِنَّ رَبِّي غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ مِثْلَهُ، وَلَا يَغْضَبُ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَنَهَانِي عَنِ الشَّجَرَةِ فَعَصَيْتُ، نَفْسِي، نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى نُوحٍ‏.‏

فَيَأْتُونَ نُوحًا فَيَقُولُونَ‏:‏ أَنْتَ أَوَّلُ الرُّسُلِ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، وَسَمَّاكَ اللَّهُ عَبْدًا شَكُورًا، أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ، أَلَا تَرَى مَا بَلَغَنَا‏؟‏‏!‏ أَلَا تَشْفَعُ لَنَا إِلَى رَبِّكَ‏؟‏ فَيَقُولُ‏:‏ إِنَّ رَبِّي غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَا يَغْضَبُ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، نَفْسِي‏!‏ نَفْسِي‏!‏

قَالَ فِي رِوَايَةِ أَنَسٍ‏:‏ وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ‏:‏ سُؤَالَهُ رَبَّهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ‏.‏

وَفِي رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-‏:‏ وَقَدْ كَانَتْ لِي دَعْوَةٌ دَعَوْتُهَا عَلَى قَوْمِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي‏.‏ اذْهَبُوا إِلَى إِبْرَاهِيمَ، فَإِنَّهُ خَلِيلُ اللَّهِ‏.‏

فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ، فَيَقُولُونَ‏:‏ أَنْتَ نَبِيُّ اللَّهِ، وَخَلِيلُهُ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ‏؟‏

فَيَقُولُ‏:‏ إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا‏.‏‏.‏‏.‏ فَذَكَرَ مِثْلَهُ، وَيَذْكُرُ ثَلَاثَ كَلِمَاتٍ كَذَبَهُنَّ‏.‏ نَفْسِي، نَفْسِي، لَسْتُ لَهَا، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُوسَى، فَإِنَّهُ كَلِيمُ اللَّهِ‏.‏

وَفِي رِوَايَةٍ‏:‏ فَإِنَّهُ عَبْدٌ آتَاهُ اللَّهُ التَّوْرَاةَ، وَكَلَّمَهُ، وَقَرَّبَهُ نَجِيًّا‏.‏

قَالَ‏:‏ فَيَأْتُونَ مُوسَى، فَيَقُولُ‏:‏ لَسْتُ لَهَا، وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ، وَقَتْلَهُ النَّفْسَ، نَفْسِي نَفْسِي، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِعِيسَى، فَإِنَّهُ رُوحُ اللَّهِ، وَكَلِمَتُهُ‏.‏

فَيَأْتُونَ عِيسَى، فَيَقُولُ‏:‏ لَسْتُ لَهَا، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُحَمَّدٍ، عَبْدٌ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَا تَأَخَّرَ‏.‏

فَأُوتَى، فَأَقُولُ‏:‏ «أَنَا لَهَا‏.‏ فَأَنْطَلِقُ فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي، فَيُؤْذَنُ لِي، فَإِذَا رَأَيْتُهُ، وَقَعْتُ سَاجِدًا»‏.‏

وَفِي رِوَايَةٍ‏:‏ «فَآتِي تَحْتَ الْعَرْشِ، فَأَخِرُّ سَاجِدًا»‏.‏

وَفِي رِوَايَةٍ‏:‏ «فَأَقُومُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَأَحْمَدُ بِمَحَامِدَ لَا أَقْدِرُ عَلَيْهَا إِلَّا أَنْ يُلْهِمَنِيهَا اللَّهُ»‏.‏

وَفِي رِوَايَةٍ‏:‏ «فَيَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ مَحَامِدِهِ، وَحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ شَيْئًا لَمْ يَفْتَحْهُ عَلَى أَحَدٍ قَبْلِي»‏.‏

قَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ‏:‏ فَيُقَالُ‏:‏ يَا مُحَمَّدُ، ارْفَعْ رَأْسَكَ، سَلْ تُعْطَهُ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ‏.‏ فَأَرْفَعُ رَأْسِي، فَأَقُولُ‏:‏ «يَا رَبِّ أُمَّتِي، يَا رَبِّ أُمَّتِي‏.‏ فَيَقُولُ‏:‏ أَدْخِلْ مِنْ أُمَّتِكَ مَنْ لَا حِسَابَ عَلَيْهِ مِنَ الْبَابِ الْأَيْمَنِ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، وَهُمْ شُرَكَاءُ النَّاسِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْأَبْوَابِ»‏.‏

وَلَمْ يَذْكُرْ فِي رِوَايَةِ أَنَسٍ هَذَا الْفَصْلَ، وَقَالَ مَكَانَهُ‏:‏ «ثُمَّ أَخِرُّ سَاجِدًا، فَيُقَالُ لِي‏:‏ يَا مُحَمَّدُ، ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، وَسَلْ تُعْطَهُ‏.‏ فَأَقُولُ‏:‏ يَا رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي‏.‏ فَيُقَالُ‏:‏ انْطَلِقْ، فَمَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ بُرَّةٍ أَوْ شَعِيرَةٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجْهُ، فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ‏.‏ ثُمَّ أَرْجِعُ إِلَى رَبِّي، فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ» وَذَكَرَ مِثْلَ الْأَوَّلِ، وَقَالَ فِيهِ‏:‏ «مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَأَفْعَلُ، ثُمَّ أَرْجِعُ‏.‏‏.‏»‏.‏ وَذَكَرَ مِثْلَ مَا تَقَدَّمَ، وَقَالَ فِيهِ‏:‏ «مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى أَدْنَى أَدْنَى مِنْ مِثْقَالِ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ، فَأَفْعَلُ»‏.‏

وَذَكَرَ فِي الْمَرَّةِ الرَّابِعَةِ‏:‏ فَيُقَالُ لِي‏:‏ ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، وَسَلْ تُعْطَهُ‏.‏ فَأَقُولُ‏:‏ «يَا رَبِّ، ائْذَنْ لِي فِيمَنْ قَالَ‏:‏ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ‏.‏ قَالَ‏:‏ لَيْسَ ذَلِكَ إِلَيْكَ‏.‏ وَلَكِنْ، وَعِزَّتِي، وَكِبْرِيَائِي، وَعَظَمَتِي، وَجِبْرِيَائِي لَأُخْرِجَنَّ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ‏:‏ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ»‏.‏

وَمِنْ رِوَايَةِ قَتَادَةَ عَنْهُ، قَالَ‏:‏ «فَأَقُولُ يَا رَبِّ، مَا بَقِيَ فِي النَّارِ إِلَّا مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ أَيْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُودُ»‏.‏

وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، وَأَبِي سَعِيدٍ، وَحُذَيْفَةَ مِثْلُهُ، قَالَ‏:‏ فَيَأْتُونَ مُحَمَّدًا فَيُؤْذَنُ لَهُ، وَتَأْتِي الْأَمَانَةُ، وَالرَّحِمُ فَتَقُومَانِ جَنْبَتَيِ الصِّرَاطِ‏.‏

وَذَكَرَ فِي رِوَايَةِ أَبِي مَالِكٍ ، عَنْ حُذَيْفَةَ ‏:‏ فَيَأْتُونَ مُحَمَّدًا فَيَشْفَعُ، فَيُضْرَبُ الصِّرَاطُ فَيَمُرُّونَ‏:‏ أَوَّلُهُمْ كَالْبَرْقِ، ثُمَّ كَالرِّيحِ، وَالطَّيْرِ، وَشَدِّ الرِّجَالِ، وَنَبِيُّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الصِّرَاطِ يَقُولُ‏:‏ «اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ، حَتَّى يَجْتَازَ النَّاسُ‏.‏ وَذَكَرَ آخِرَهُمْ جَوَازًا‏.‏»‏.‏‏.‏ الْحَدِيثَ‏.‏

وَفِي رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ‏:‏ «فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُجِيزُ»‏.‏

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «يُوضَعُ لِلْأَنْبِيَاءِ مَنَابِرُ يَجْلِسُونَ عَلَيْهَا، وَيَبْقَى مِنْبَرِي لَا أَجْلِسُ عَلَيْهِ قَائِمًا، بَيْنَ يَدَيْ رَبِّي مُنْتَصِبًا، فَيَقُولُ اللَّهُ- تَبَارَكَ وَتَعَالَى-‏:‏ مَا تُرِيدُ بِأُمَّتِكَ‏؟‏ فَأَقُولُ‏:‏ يَا رَبِّ، عَجِّلْ حِسَابَهُمْ، فَيُدْعَى بِهِمْ، فَيُحَاسَبُونَ‏.‏ فَمِنْهُمْ مَنْ يَدْخُلُ بِرَحْمَتِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِشَفَاعَتِي، وَلَا أَزَالُ أَشْفَعُ حَتَّى أُعْطَى صِكَاكًا بِرِجَالٍ قَدْ أُمِرَ بِهِمْ إِلَى النَّارِ، حَتَّى إِنَّ خَازِنَ النَّارِ لَيَقُولُ‏:‏ يَا مُحَمَّدُ، مَا تَرَكْتَ لِغَضَبِ رَبِّكَ فِي أُمَّتِكَ مِنْ نِقْمَةٍ»‏.‏

وَمِنْ طَرِيقِ زِيَادٍ النُّمَيْرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ «أَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْفَلِقُ الْأَرْضُ عَنْ جُمْجُمَتِهِ، وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا فَخْرَ، وَمَعِي لِوَاءُ الْحَمْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ تُفْتَحُ لَهُ الْجَنَّةُ، وَلَا فَخْرَ، فَآتِي فَآخُذُ بِحَلْقَةِ الْجَنَّةِ، فَيُقَالُ‏:‏ مَنْ هَذَا‏؟‏ فَأَقُولُ‏:‏ مُحَمَّدٌ، فَيُفْتَحُ لِي، فَيَسْتَقْبِلُنِي الْجَبَّارُ تَعَالَى، فَأَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا‏.‏‏.‏»‏.‏ وَذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ‏.‏

وَمِنْ رِوَايَةِ أُنَيْسٍ‏:‏ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ‏:‏ «لَأَشْفَعَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِأَكْثَرَ مِمَّا فِي الْأَرْضِ مِنْ حَجَرٍ، وَشَجَرٍ»‏.‏

فَقَدِ اجْتَمَعَ مِنَ اخْتِلَافِ أَلْفَاظِ هَذِهِ الْآثَارِ أَنَّ شَفَاعَتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَقَامَهُ الْمَحْمُودَ مِنْ أَوَّلِ الشَّفَاعَاتِ إِلَى آخِرِهَا، مِنْ حِينِ يَجْتَمِعُ النَّاسُ لِلْحَشْرِ، وَتَضِيقُ بِهِمُ الْحَنَاجِرُ، وَيَبْلُغُ مِنْهُمُ الْعَرَقُ، وَالشَّمْسُ، وَالْوُقُوفُ مَبْلَغَهُ، وَذَلِكَ قَبْلَ الْحِسَابِ، فَيَشْفَعُ حِينَئِذٍ لِإِرَاحَةِ النَّاسِ مِنَ الْمَوْقِفِ، ثُمَّ يُوضَعُ الصِّرَاطُ، وَيُحَاسَبُ النَّاسُ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَحُذَيْفَةَ‏.‏

وَهَذَا الْحَدِيثُ أَتْقَنُ، فَيُشَفَّعُ فِي تَعْجِيلِ مَنْ لَا حِسَابَ عَلَيْهِ مِنْ أُمَّتِهِ إِلَى الْجَنَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ ثُمَّ يَشْفَعُ فِيمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْعَذَابُ، وَدَخَلَ النَّارَ مِنْهُمْ حَسَبَ مَا تَقْتَضِيهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ، ثُمَّ فِيمَنْ قَالَ‏:‏ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ‏.‏ وَلَيْسَ هَذَا لِسِوَاهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

وَفِي الْحَدِيثِ الْمُنْتَشِرِ الصَّحِيحِ‏:‏ «لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ يَدْعُو بِهَا، وَاخْتَبَأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ»‏.‏

قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ‏:‏ مَعْنَاهُ دَعْوَةٌ أَعْلَمُ أَنَّهَا تُسْتَجَابُ لَهُمْ، وَيَبْلُغُ فِيهَا مَرْغُوبُهُمْ، وَإِلَّا فَكَمْ لِكُلِّ نَبِيٍّ مِنْهُمْ مِنْ دَعْوَةٍ مُسْتَجَابَةٍ، وَلِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا مَا لَا يُعَدُّ، لَكِنَّ حَالَهُمْ عِنْدَ الدُّعَاءِ بِهَا بَيْنَ الرَّجَاءِ، وَالْخَوْفِ، وَضُمِنَتْ لَهُمْ إِجَابَةُ دَعْوَةٍ فِيمَا شَاءُوهُ يَدْعُونَ بِهَا عَلَى يَقِينٍ مِنَ الْإِجَابَةِ‏.‏

وَقَدْ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ، وَأَبُو صَالِحٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ‏:‏ «لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ دَعَا بِهَا فِي أُمَّتِهِ، فَاسْتُجِيبَ لَهُ، وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَدَّخِرَ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ»‏.‏

وَفِي رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ‏:‏ «لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ، فَتَعَجَّلَ كُلُّ نَبِيٍّ دَعْوَتَهُ»‏.‏

وَنَحْوُهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ‏.‏

وَعَنْ أَنَسٍ مِثْلُ رِوَايَةِ ابْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ‏.‏

فَتَكُونُ هَذِهِ الدَّعْوَةُ الْمَذْكُورَةُ مَخْصُوصَةً بِالْأُمَّةِ مَضْمُونَةَ الْإِجَابَةِ، وَإِلَّا فَقَدْ أَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سَأَلَ لِأُمَّتِهِ أَشْيَاءَ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ، وَالدُّنْيَا، وَأُعْطِيَ بَعْضَهَا، وَمُنِعَ بَعْضَهَا، وَادَّخَرَ لَهُمْ هَذِهِ الدَّعْوَةَ لِيَوْمِ الْفَاقَةِ، وَخَاتِمَةِ الْمِحَنِ، وَعَظِيمِ السُّؤَالِ، وَالرَّغْبَةِ‏.‏

جَزَاهُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا جَزَى نَبِيًّا عَنْ أُمَّتِهِ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثِيرًا‏.‏

الفصل الْحَادِي عَشَرَ‏:‏ فِي تَفْضِيلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجَنَّةِ بِالْوَسِيلَةِ، وَالدَّرَجَةِ الرَّفِيعَةِ، وَالْكَوْثَرِ، وَالْفَضِيلَةِ

‏[‏حَدَّثَنَا الْقَاضِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى التَّيْمِيُّ ، وَالْفَقِيهُ أَبُو الْوَلِيدِ هِشَامُ بْنُ أَحْمَدَ ، بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِمَا، قَالَا‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيٍّ الْغَسَّانِيُّ، حَدَّثَنَا النَّمِرِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ التَّمَّارُ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، وَحَيْوَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ أَبِي أَيُّوبٍ، عَنْ كَعْبِ بْنِ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ‏:‏ «إِذَا سَمِعْتُمُ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ، ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ، فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ مَرَّةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا، ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِيَ الْوَسِيلَةَ، فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إِلَّا لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ‏.‏ فَمَنْ سَأَلَ اللَّهَ لِيَ الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ عَلَيْهِ الشَّفَاعَةُ»‏.‏

وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ‏:‏ «الْوَسِيلَةُ أَعْلَى دَرَجَةٍ فِي الْجَنَّةِ»‏.‏

وَعَنْ أَنَسٍ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «بَيْنَا أَنَا أَسِيرُ فِي الْجَنَّةِ إِذْ عَرَضَ لِي نَهْرٌ حَافَّتَاهُ قِبَابُ اللُّؤْلُؤِ‏.‏ قُلْتُ لِجِبْرِيلَ‏:‏ مَا هَذَا‏؟‏‏!‏ قَالَ‏:‏ هَذَا الْكَوْثَرُ الَّذِي أَعْطَاكَهُ اللَّهُ‏.‏ قَالَ‏:‏ ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدِهِ إِلَى طِينَتِهِ، فَاسْتَخْرَجَ مِسْكَاهُ»‏.‏

وَعَنْ عَائِشَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مِثْلُهُ، قَالَ‏:‏ «وَمَجْرَاهُ عَلَى الدُّرِّ، وَالْيَاقُوتِ، وَمَاؤُهُ أَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، وَأَبْيَضُ مِنَ الثَّلْجِ»‏.‏

وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ‏:‏ «فَإِذَا هُوَ يَجْرِي، وَلَمْ يُشَقَّ شَقًّا، عَلَيْهِ حَوْضٌ تَرِدُ عَلَيْهِ أُمَّتِي»‏.‏، وَذِكْرُ حَدِيثِ الْحَوْضِ‏.‏

وَنَحْوِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏.‏

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا، قَالَ‏:‏ الْكَوْثَرُ الْخَيْرُ الَّذِي أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ‏.‏

وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ‏:‏ وَالنَّهْرُ الَّذِي فِي الْجَنَّةِ مِنَ الْخَيْرِ الَّذِي أَعْطَاهُ اللَّهُ‏.‏

وَعَنْ حُذَيْفَةَ فِيمَا ذَكَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رَبِّهِ‏:‏ «وَأَعْطَانِي الْكَوْثَرَ، وَهُوَ نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ، يَسِيلُ فِي حَوْضِي»‏.‏

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ‏:‏ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى‏}‏ ‏[‏الضُّحَى‏:‏ 5‏]‏، قَالَ‏:‏ أَلْفُ قَصْرٍ مِنْ لُؤْلُؤٍ تُرَابُهُنَّ الْمِسْكُ، وَفِيهِ مَا يُصْلِحُهُنَّ‏.‏

وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى‏:‏ وَفِيهِ مَا يَنْبَغِي لَهُ مِنَ الْأَزْوَاجِ، وَالْخَدَمِ‏.‏

الفصل الثَّانِي عَشَرَ‏:‏ فِي الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي النَّهْيِ عَنْ تَفْضِيلِهِ

فَإِنْ قُلْتَ‏:‏ إِذَا تَقَرَّرَ مِنْ دَلِيلِ الْقُرْآنِ وَصَحِيحِ الْأَثَرِ، وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ كَوْنُهُ أَكْرَمَ الْبَشَرِ، وَأَفْضَلَ الْأَنْبِيَاءِ فَمَا مَعْنَى الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ بِنَهْيِهِ عَنِ التَّفْضِيلِ‏؟‏ كَقَوْلِهِ ‏[‏فِيمَا حَدَّثَنَاهُ الْأَسَدِيُّ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا السَّمَرْقَنْدِيُّ، حَدَّثَنَا الْفَارِسِيُّ، حَدَّثَنَا الْجُلُودِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ سُفْيَانَ حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ سَمِعْتُ أَبَا الْعَالِيَةِ يَقُولُ‏:‏ حَدَّثَنِي ابْنُ عَمِّ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْنِي ابْنَ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ «مَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ‏:‏ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى»‏.‏

وَفِي غَيْرِ هَذَا الطَّرِيقِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ يَعْنِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ مَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ‏.‏‏.‏‏.‏ الْحَدِيثَ‏.‏

وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْيَهُودِيِّ الَّذِي قَالَ‏:‏ وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْبَشَرِ، فَلَطَمَهُ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَقَالَ‏:‏ تَقُولُ ذَلِكَ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا‏.‏ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ‏:‏ «لَا تُفَضِّلُوا بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ»‏.‏

وَفِي رِوَايَةٍ‏:‏ «لَا تُخَيِّرُونِي عَلَى مُوسَى» فَذَكَرَ الْحَدِيثَ‏.‏

وَفِيهِ‏:‏ «وَلَا أَقُولُ‏:‏ إِنَّ أَحَدًا أَفْضَلَ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى»‏.‏

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ‏:‏ «مَنْ قَالَ‏:‏ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى فَقَدْ كَذَبَ»‏.‏

وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ‏:‏ ‏[‏لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى‏]‏‏.‏

وَفِي حَدِيثِهِ الْآخَرِ‏:‏ فَجَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ لَهُ‏:‏ يَا خَيْرَ الْبَرِيَّةِ، فَقَالَ‏:‏ «ذَاكَ إِبْرَاهِيمُ‏.‏‏.‏‏.‏»‏.‏

فَاعْلَمْ أَنَّ لِلْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ تَأْوِيلَاتٌ‏:‏

أَحَدُهَا‏:‏ أَنَّ نَهْيَهُ عَنِ التَّفْضِيلِ كَانَ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ، فَنَهَى عَنِ التَّفْضِيلِ، إِذْ يَحْتَاجُ إِلَى تَوْقِيفٍ، وَأَنَّ مَنْ فَضَّلَ بِلَا عِلْمٍ فَقَدْ كَذَبَ‏.‏

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ لَا أَقُولُ إِنَّ أَحَدًا أَفْضَلُ مِنْهُ لَا يَقْتَضِي تَفْضِيلُهُ هُوَ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي الظَّاهِرِ كَفٌّ عَنِ التَّفْضِيلِ‏.‏

الْوَجْهُ الثَّانِي‏:‏ أَنَّهُ قَالَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى طَرِيقِ التَّوَاضُعِ، وَنَفْيِ التَّكَبُّرِ، وَالْعُجْبِ، وَهَذَا لَا يَسْلَمُ مِنَ الِاعْتِرَاضِ‏.‏

الْوَجْهُ الثَّالِثُ‏:‏ أَلَّا يُفَضِّلَ بَيْنَهُمْ تَفْضِيلًا يُؤَدِّي إِلَى تَنَقُّصِ بَعْضِهِمْ، أَوِ الْغَضِّ مِنْهُ، لَا سِيَّمَا فِي جِهَةِ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِذْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ بِمَا أَخْبَرَ لِئَلَّا يَقَعُ فِي نَفْسِ مَنْ لَا يَعْلَمُ مِنْهُ بِذَلِكَ غَضَاضَةً، وَانْحِطَاطٌ مِنْ رُتْبَتِهِ الرَّفِيعَةِ، إِذْ قَالَ تَعَالَى عَنْهُ‏:‏ ‏{‏إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ‏}‏ ‏[‏الصَّافَّاتِ‏:‏ 140‏]‏‏.‏ ‏{‏إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏الْأَنْبِيَاءِ‏:‏ 87‏]‏ فَرُبَّمَا يُخَيَّلُ لِمَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ حَطِيطَتُهُ بِذَلِكَ‏.‏

الْوَجْهُ الرَّابِعُ‏:‏ مَنْعُ التَّفْضِيلِ فِي حَقِّ النُّبُوَّةِ، وَالرِّسَالَةِ، فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ فِيهَا عَلَى حَدٍّ وَاحِدٍ، إِذْ هِيَ شَيْءٌ وَاحِدٌ لَا يَتَفَاضَلُ، وَإِنَّمَا التَّفَاضُلُ فِي زِيَادَةِ الْأَحْوَالِ، وَالْخُصُوصِ، وَالْكَرَامَاتِ، وَالرُّتَبِ، وَالْأَلْطَافِ، وَأَمَّا النُّبُوَّةُ فِي نَفْسِهَا فَلَا تَتَفَاضَلُ، وَإِنَّمَا التَّفَاضُلُ بِأُمُورٍ أُخَرَ زَائِدَةً عَلَيْهَا، وَلِذَلِكَ مِنْهُمْ رُسُلٌ، وَمِنْهُمْ أُولُو عَزْمٍ مِنَ الرُّسُلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ رُفِعَ مَكَانًا عَلِيًّا، وَمِنْهُمْ مَنْ أُوتِيَ الْحُكْمَ صَبِيًّا، وَأُوتِيَ بَعْضُهُمُ الزَّبُورَ، وَبَعْضُهُمُ الْبَيِّنَاتِ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ، وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ‏}‏ ‏[‏الْإِسْرَاءِ‏:‏ 55‏]‏ الْآيَةَ‏.‏

وَقَالَ‏:‏ ‏{‏تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 253‏]‏ الْآيَةَ‏.‏

قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ‏:‏ وَالتَّفْضِيلُ الْمُرَادُ لَهُمْ هُنَا فِي الدُّنْيَا، وَذَلِكَ بِثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ‏:‏

أَنْ تَكُونَ آيَاتُهُ، وَمُعْجِزَاتُهُ أَبْهَرُ، وَأَشْهَرُ، أَوْ تَكُونُ أُمَّتُهُ أَزْكَى، وَأَكْثَرُ، أَوْ يَكُونُ فِي ذَاتِهِ أَفْضَلُ، وَأَطْهَرُ، وَفَضْلُهُ فِي ذَاتِهِ رَاجِعٌ إِلَى مَا خَصَّهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ كَرَامَتِهِ، وَاخْتِصَاصِهِ مِنْ كَلَامٍ أَوْ خِلَّةٍ أَوْ رُؤْيَةٍ أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ أَلْطَافِهِ، وَتُحَفِ وِلَايَتِهِ، وَاخْتِصَاصِهِ‏.‏

وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ «إِنَّ لِلنُّبُوَّةِ أَثْقَالًا، وَإِنَّ يُونُسَ تَفَسَّخَ مِنْهَا تَفَسُّخَ الرُّبَعِ» فَحَفِظَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْضِعَ الْفِتْنَةِ مِنْ أَوْهَامِ مَنْ يَسْبِقُ إِلَيْهِ بِسَبَبِهَا جَرْحٌ فِي نَبُوَّتِهِ، أَوْ قَدْحٌ فِي اصْطِفَائِهِ، وَحَطٌّ عَنْ رُتْبَتِهِ، وَوَهْنٌ فِي عِصْمَتِهِ، شَفَقَةً مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أُمَّتِهِ‏.‏

وَقَدْ يَتَوَجَّهُ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ وَجْهٌ خَامِسٌ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ ‏[‏أَنَا‏]‏ رَاجِعًا إِلَى الْقَائِلِ نَفْسِهِ، أَيْ لَا يَظُنُّ أَحَدٌ ـ وَإِنْ بَلَغَ مِنَ الذَّكَاءِ وَالْعِصْمَةِ وَالطَّهَارَةِ مَا بَلَغَ ـ أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ، لِأَجْلِ مَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُ، فَإِنَّ دَرَجَةَ النُّبُوَّةِ أَفْضَلُ، وَأَعْلَى، وَإِنَّ تِلْكَ الْأَقْدَارَ لَمْ تَحُطَّهُ، عَنْهَا حَبَّةَ خَرْدَلٍ، وَلَا أَدْنَى‏.‏

وَسَنَزِيدُ فِي الْقِسْمِ الثَّالِثِ فِي هَذَا بَيَانًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى‏.‏

فَقَدْ بَانَ لَكَ الْغَرَضُ، وَسَقَطَ بِمَا حَرَّرْنَاهُ شُبْهَةُ الْمُعْتَرِضِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ، وَهُوَ الْمُسْتَعَانُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ‏.‏

الفصل الثَّالِثَ عَشَرَ‏:‏ فِي أَسْمَائِهِ‏:‏ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ فَضِيلَتِهِ

‏[‏حَدَّثَنَا أَبُو عِمْرَانَ مُوسَى بْنُ أَبِي تَلِيدٍ الْفَقِيهُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عُمَرَ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ نَصْرٍ، حَدَّثَنَا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ وَضَّاحٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «لِي خَمْسَةُ أَسْمَاءَ‏:‏ أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَنَا أَحْمَدُ، وَأَنَا الْمَاحِي، الَّذِي يَمْحُو اللَّهُ بِيَ الْكُفْرَ، وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِي، وَأَنَا الْعَاقِبُ»‏.‏

وَقَدْ سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ مُحَمَّدًا وَأَحْمَدَ‏.‏

فَمِنْ خَصَائِصِهِ تَعَالَى لَهُ أَنْ ضَمَّنَ أَسْمَاءَهُ ثَنَاءَهُ، وَطَوَى أَثْنَاءَ ذِكْرِهِ عَظِيمَ شُكْرِهِ‏.‏

فَأَمَّا اسْمُهُ أَحْمَدُ فَأَفْعَلُ مُبَالَغَةً مِنْ صِفَةِ الْحَمْدِ‏.‏

وَمُحَمَّدٌ‏:‏ مُفَعَّلٌ، مُبَالَغَةٌ مِنْ كَثْرَةِ الْحَمْدِ، فَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجَلُّ مَنْ حَمِدَ، وَأَفْضَلُ مَنْ حَمِدَ، وَأَكْثَرُ النَّاسِ حَمْدًا، فَهُوَ أَحْمَدُ الْمَحْمُودِينَ، وَأَحْمَدُ الْحَامِدِينَ، وَمَعَهُ لِوَاءُ الْحَمْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِيَتِمَّ لَهُ كَمَالُ الْحَمْدِ، وَيُتْشَهَرَ فِي تِلْكَ الْعَرَصَاتِ بِصِفَةِ الْحَمْدِ، وَيَبْعَثَهُ رَبُّهُ هُنَاكَ مَقَامًا مَحْمُودًا كَمَا وَعَدَهُ، يَحْمَدُهُ فِيهِ الْأَوَّلُونَ، وَالْآخِرُونَ بِشَفَاعَتِهِ لَهُمْ، وَيَفْتَحُ عَلَيْهِ فِيهِ مِنَ الْمَحَامِدِ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَمْ يُعْطَ غَيْرُهُ، وَسَمَّى أُمَّتَهُ فِي كُتُبِ أَنْبِيَائِهِ بِالْحَمَّادِينَ، فَحَقِيقٌ أَنْ يُسَمَّى مُحَمَّدًا، وَأَحْمَدَ‏.‏

ثُمَّ فِي هَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ مِنْ عَجَائِبِ خَصَائِصِهِ، وَبَدَائِعِ آيَاتِهِ فَنٌّ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ اسْمُهُ حَمَى أَنْ يُسَمَّى بِهِمَا أَحَدٌ قَبْلَ زَمَانِهِ‏.‏

أَمَّا أَحْمَدُ الَّذِي أَتَى فِي الْكُتُبِ، وَبَشَّرَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ فَمَنَعَ اللَّهُ تَعَالَى بِحِكْمَتِهِ أَنْ يُسَمَّى بِهِ أَحَدٌ غَيْرُهُ، وَلَا يُدْعَى بِهِ مَدْعُوٌّ قَبْلَهُ حَتَّى لَا يَدْخُلَ لَبْسٌ عَلَى ضَعِيفِ الْقَلْبِ أَوْ شَكٌّ‏.‏

وَكَذَلِكَ مُحَمَّدٌ أَيْضًا لَمْ يُسَمَّ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ، وَلَا غَيْرُهُمْ إِلَى أَنْ شَاعَ قُبَيْلَ وُجُودِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِيلَادُهُ أَنَّ نَبِيًّا يُبْعَثُ اسْمُهُ مُحَمَّدٌ، فَسَمَّى قَوْمٌ قَلِيلٌ مِنَ الْعَرَبِ أَبْنَاءَهُمْ بِذَلِكَ، رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمْ هُوَ‏.‏ وَاللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ‏]‏، وَهُمْ‏:‏ مُحَمَّدُ بْنُ أُحَيْحَةَ بْنِ الْجُلَاحِ الْأَوْسِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ الْأَنْصَارِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَرَاءٍ الْبَكْرِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ سُفْيَانَ بْنِ مُجَاشِعٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ حُمْرَانَ الْجُعْفِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ خُزَاعِيٍّ السُّلَمِيُّ، لَا سَابِعَ لَهُمْ‏.‏

وَيُقَالُ‏:‏ أَوَّلُ مَنْ سُمِّيَ مُحَمَّدًا مُحَمَّدُ بْنُ سُفْيَانَ‏.‏ وَالْيَمَنُ تَقُولُ‏:‏ بَلْ مُحَمَّدُ بْنُ الْيَحْمَدِ مِنَ الْأَزْدِ‏.‏

ثُمَّ حَمَى اللَّهُ كُلَّ مَنْ تَسَمَّى بِهِ أَنْ يَدَّعِيَ النُّبُوَّةَ أَوْ يَدَّعِيَهَا أَحَدٌ لَهُ، أَوْ يَظْهَرَ عَلَيْهِ سَبَبٌ يُشَكِّكُ أَحَدًا فِي أَمْرِهِ حَتَّى تَحَقَّقَتِ السِّمَتَانِ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يُنَازَعْ فِيهِمَا‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «وَأَنَا الْمَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللَّهُ بِيَ الْكُفْرَ» فَفُسِّرَ فِي الْحَدِيثِ‏:‏ وَيَكُونُ مَحْوُ الْكُفْرِ إِمَّا مِنْ مَكَّةَ، وَبِلَادِ الْعَرَبِ، وَمَا زُوِيَ لَهُ مِنَ الْأَرْضِ، وَوُعِدَ أَنَّهُ يَبْلُغُهُ مُلْكُ أُمَّتِهِ، أَوْ يَكُونُ الْمَحْوُ عَامًّا، بِمَعْنَى الظُّهُورِ، وَالْغَلَبَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ‏}‏ ‏[‏التَّوْبَةِ‏:‏ 33‏]‏‏.‏

‏[‏، وَقَدْ وَرَدَ تَفْسِيرُهُ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ الَّذِي مُحِيَتْ بِهِ سَيِّئَاتُ مَنِ اتَّبَعَهُ‏]‏‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ «وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِي» أَيْ عَلَى زَمَانِي، وَعَهْدِي، أَيْ لَيْسَ بَعْدِي نَبِيٌّ، كَمَا قَالَ‏:‏ ‏{‏وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ‏}‏ ‏[‏الْأَحْزَابِ‏:‏ 40‏]‏‏.‏

وَسُمِّيَ عَاقِبًا، لِأَنَّهُ عَقَبَ غَيْرَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ‏.‏

وَفِي الصَّحِيحِ ‏:‏ «أَنَا الْعَاقِبُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدِي نَبِيٌّ»‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ مَعْنَى عَلَى قَدَمِي، أَيْ يُحْشَرُ النَّاسُ بِمُشَاهَدَتِي، كَمَا قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 143‏]‏‏.‏

وَقِيلَ عَلَى قَدَمِي‏:‏ عَلَى سَابِقَتِي، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ‏}‏ ‏[‏يُونُسَ‏:‏ 2‏]‏‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ عَلَى قَدَمِي‏:‏ أَيْ قُدَّامِي، وَحَوْلِي، أَيْ يَجْتَمِعُونَ إِلَيَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏.‏

وَقِيلَ عَلَى قَدَمِي‏:‏ عَلَى سُنَّتِي‏.‏

وَمَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ لِي خَمْسَةُ أَسْمَاءَ‏:‏ قِيلَ‏:‏ إِنَّهَا مَوْجُودَةٌ فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَعِنْدَ أُولِي الْعِلْمِ مِنَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏

وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «لِي عَشْرَةُ أَسْمَاءَ» وَذَكَرَ مِنْهَا‏:‏ ‏"‏ طه ‏"‏، وَ ‏"‏ يس ‏"‏، حَكَاهُ مَكِّيٌّ ‏.‏

وَقَدْ قِيلَ فِي بَعْضِ تَفْسِيرِ طه‏:‏ إِنَّهُ يَا طَاهِرُ يَا هَادِي‏.‏ وَفِي يس‏:‏ يَا سَيِّدُ، حَكَاهُ السُّلَمِيُّ عَنِ الْوَاسِطِيُّ ، وَجَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ‏.‏

وَذَكَرَ غَيْرُهُ‏:‏ «لِي عِشْرَةُ أَسْمَاءٍ» فَذَكَرَ الْخَمْسَةَ الَّتِي فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ، قَالَ‏:‏ «وَأَنَا رَسُولُ الرَّحْمَةِ، وَرَسُولُ الرَّاحَةِ، وَرَسُولُ الْمَلَاحِمِ، وَأَنَا الْمُقَفِّي، قَفَّيْتُ النَّبِيِّينَ، وَأَنَا قَيِّمٌ»‏.‏

وَالْقَيِّمُ‏:‏ الْجَامِعُ الْكَامِلُ، كَذَا وَجَدْتُهُ، وَلَمْ أَرْوِهِ‏.‏

وَأَرَى أَنَّ صَوَابَهُ قَثْمٌ بِالثَّاءِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ بَعْدُ عَنِ الْحَرْبِيِّ، وَهُوَ أَشْبَهُ بِالتَّفْسِيرِ‏.‏

وَقَدْ وَقَعَ أَيْضًا فِي كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ‏:‏ قَالَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ‏:‏ اللَّهُمَّ ابْعَثْ لَنَا مُحَمَّدًا مُقِيمَ السُّنَّةِ بَعْدَ الْفَتْرَةِ، فَقَدْ يَكُونُ الْقَيِّمُ بِمَعْنَاهُ‏.‏

وَرَوَى النَّقَّاشُ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «لِي فِي الْقُرْآنِ سَبْعَةُ أَسْمَاءٍ‏:‏ مُحَمَّدٌ، وَأَحْمَدُ، وَ ‏"‏ يس ‏"‏، وَ ‏"‏ طه ‏"‏، وَالْمُدَّثِّرُ، وَالْمُزَّمِّلُ، وَعَبْدُ اللَّهِ»‏.‏

وَفِي حَدِيثٍ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-‏:‏ هِيَ سِتٌّ‏:‏ مُحَمَّدٌ، وَأَحْمَدُ، وَخَاتَمٌ، وَعَاقِبٌ، وَحَاشِرٌ، وَمَاحٍ‏.‏

وَفِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَمِّي لَنَا نَفْسَهُ أَسْمَاءَ، فَيَقُولُ‏:‏ أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَحْمَدُ، وَالْمُقَفِّي، وَالْحَاشِرُ، وَنَبِيُّ التَّوْبَةِ، وَنَبِيُّ الْمَلْحَمَةِ‏.‏

وَيُرْوَى‏:‏ الْمَرْحَمَةِ، وَالرَّاحَةِ‏.‏ وَكُلٌّ صَحِيحٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ‏.‏

وَمَعْنَى الْمُقَفِّي مَعْنَى الْعَاقِبِ‏.‏

وَأَمَّا نَبِيُّ الرَّحْمَةِ، وَالتَّوْبَةِ، وَالْمَرْحَمَةِ، وَالرَّاحَةِ فَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الْأَنْبِيَاءِ‏:‏ 107‏]‏، وَكَمَا، وَصَفَهُ بِأَنَّهُ يُزَكِّيهِمْ، وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ، وَالْحِكْمَةَ‏.‏ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ‏.‏ وَ ‏{‏بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ‏}‏‏.‏

وَقَالَ فِي صِفَةِ أُمَّتِهِ‏:‏ إِنَّهَا أُمَّةٌ مَرْحُومَةٌ‏.‏

وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِيهِمْ‏:‏ ‏{‏وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ‏}‏ ‏[‏الْبَلَدِ‏:‏ 17‏]‏، أَيْ يَرْحَمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَبَعَثَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبُّهُ تَعَالَى رَحْمَةً لِأُمَّتِهِ، وَرَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، وَرَحِيمًا بِهِمْ، وَمُتَرَحِّمًا، وَمُسْتَغْفِرًا لَهُمْ، وَجَعَلَ أُمَّتَهُ مَرْحُومَةً، وَوَصَفَهَا بِالرَّحْمَةِ‏.‏

وَأَمَرَهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّرَاحُمِ، فَقَالَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ فَقَالَ‏:‏ «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ»‏.‏

وَقَالَ‏:‏ «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ‏.‏ ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمُكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ»‏.‏

وَأَمَّا رِوَايَةُ نَبِيِّ الْمَلْحَمَةِ فَإِشَارَةٌ إِلَى مَا بُعِثَ بِهِ مِنَ الْقِتَالِ، وَالسَّيْفِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهِيَ صَحِيحَةٌ‏.‏

وَرَوَى حُذَيْفَةُ مِثْلَ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى، وَفِيهِ نَبِيُّ الرَّحْمَةِ، وَنَبِيُّ التَّوْبَةِ، وَنَبِيُّ الْمَلَاحِمِ‏.‏

وَرَوَى الْحَرْبِيُّ فِي حَدِيثِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ «أَتَانِي مَلَكٌ فَقَالَ لِي‏:‏ أَنْتَ قُثَمُ» أَيْ مُجْتَمِعٌ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَالْقَثُومُ‏:‏ الْجَامِعُ لِلْخَيْرِ، وَهَذَا اسْمٌ هُوَ فِي أَهْلِ بَيْتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْلُومٌ‏.‏

وَقَدْ جَاءَتْ مِنْ أَلْقَابِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَسِمَاتِهِ فِي الْقُرْآنِ عِدَّةٌ كَثِيرَةٌ سِوَى مَا ذَكَرْنَاهُ، كَالنُّورِ، وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ، وَالْمُنْذِرِ وَالنَّذِيرِ، وَالْمُبَشِّرِ، وَالْبَشِيرِ، وَالشَّاهِدِ، وَالشَّهِيدِ، وَالْحَقِّ الْمُبِينِ، وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ، وَالرَّءُوفِ الرَّحِيمِ، وَالْأَمِينِ، وَقَدَمِ الصِّدْقِ، وَرَحْمَةٍ لِلْعَالِمِينَ، وَنِعْمَةِ اللَّهِ، وَالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، وَالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَالنَّجْمِ الثَّاقِبِ، وَالْكَرِيمِ، وَالنَّبِيِّ الْأُمِّيِّ، وَدَاعِي اللَّهِ فِي أَوْصَافٍ كَثِيرَةٍ، وَسِمَاتٍ جَلِيلَةٍ‏.‏

وَجَرَى مِنْهَا فِي كُتُبِ اللَّهِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَكُتُبِ أَنْبِيَائِهِ، وَأَحَادِيثِ رَسُولِهِ، وَإِطْلَاقِ الْأُمَّةِ جُمْلَةً شَافِيَةً، كَتَسْمِيَتِهِ بِالْمُصْطَفَى، وَالْمُجْتَبَى، وَأَبِي الْقَاسِمِ، وَالْحَبِيبِ، وَرَسُولِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالشَّفِيعِ الْمُشَفَّعِ، وَالْمُتَّقِي، وَالْمُصْلِحِ، وَالطَّاهِرِ، وَالْمُهَيْمِنِ، وَالصَّادِقِ، وَالْمَصْدُوقِ، وَالْهَادِي، وَسَيِّدِ وَلَدِ آدَمَ، وَسَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ، وَإِمَامِ الْمُتَّقِينَ، وَقَائِدِ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِينَ، وَحَبِيبِ اللَّهِ، وَخَلِيلِ الرَّحْمَنِ وَصَاحِبِ الْحَوْضِ الْمَوْرُودِ، وَالشَّفَاعَةِ، وَالْمَقَامِ الْمَحْمُودِ، وَصَاحِبِ الْوَسِيلَةِ، وَالْفَضِيلَةِ، وَالدَّرَجَةِ الرَّفِيعَةِ، وَصَاحِبِ التَّاجِ، وَالْمِعْرَاجِ، وَاللِّوَاءِ، وَالْقَضِيبِ، وَرَاكِبِ الْبُرَاقِ، وَالنَّاقَةِ، وَالنَّجِيبِ، وَصَاحِبِ الْحُجَّةِ، وَالسُّلْطَانِ وَالْخَاتَمِ، وَالْعَلَامَةِ، وَالْبُرْهَانِ وَصَاحِبِ الْهِرَاوَةِ، وَالنَّعْلَيْنِ‏.‏

وَمِنْ أَسْمَائِهِ فِي الْكُتُبِ‏:‏ الْمُتَوَكِّلُ، وَالْمُخْتَارُ، وَمُقِيمُ السُّنَّةِ، وَالْمُقَدَّسُ، وَرُوحُ الْقُدُسِ، وَرُوحُ الْحَقِّ، وَهُوَ مَعْنَى الْبَارِقَلِيطَ فِي الْإِنْجِيلِ‏.‏

وَقَالَ ثَعْلَبُ‏:‏ الْبَارُقَلِيطُ‏:‏ الَّذِي يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ، وَالْبَاطِلِ‏.‏

وَمِنْ أَسْمَائِهِ فِي الْكُتُبِ السَّالِفَةِ‏:‏ مَاذٌ مَاذٌ، وَمَعْنَاهُ طَيِّبٌ، طَيِّبٌ، وَجِمَّاطَايَا، وَالْخَاتَمُ، وَالْخَاتِمُ، حَكَاهُ كَعْبُ الْأَحْبَارِ‏.‏

قَالَ ثَعْلَبٌ‏:‏ فَالْخَاتَمُ الَّذِي خَتَمَ ‏[‏اللَّهُ بِهِ‏]‏ الْأَنْبِيَاءَ‏.‏ وَالْخَاتِمُ‏:‏ أَحْسَنُ الْأَنْبِيَاءِ خُلُقًا وَخَلْقًا‏.‏

وَيُسَمَّى بِالسُّرْيَانِيَّةِ‏:‏ مُشَقَّحٌ، وَالْمَنْحَمِنَّا، وَاسْمُهُ فِي التَّوْرَاةِ أُحَيْدٌ رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ‏.‏

وَمَعْنَى صَاحِبِ الْقَضِيبِ‏:‏ أَيِ السَّيْفِ، وَقَعَ ذَلِكَ مُفَسَّرًا فِي الْإِنْجِيلِ، قَالَ‏:‏ مَعَهُ قَضِيبٌ مِنْ حَدِيدٍ يُقَاتِلُ بِهِ، وَأُمَّتُهُ كَذَلِكَ‏.‏

وَقَدْ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ الْقَضِيبُ الْمَمْشُوقُ الَّذِي كَانَ يُمْسِكُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ الْآنَ عِنْدَ الْخُلَفَاءِ‏.‏

وَأَمَّا الْهِرَاوَةُ الَّتِي وُصِفَ بِهَا فَهِيَ فِي اللُّغَةِ الْعَصَا، وَأَرَاهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ الْعَصَا الْمَذْكُورَةُ فِي حَدِيثِ الْحَوْضِ‏:‏ أَذُودُ النَّاسَ عَنْهُ بِعَصَايَ لِأَهْلِ الْيَمَنِ‏.‏

وَأَمَّا التَّاجُ فَالْمُرَادُ بِهِ الْعِمَامَةُ، وَلَمْ تَكُنْ حِينَئِذٍ إِلَّا لِلْعَرَبِ، وَالْعَمَائِمُ تِيجَانُ الْعَرَبِ‏.‏

وَأَوْصَافُهُ، وَأَلْقَابُهُ، وَسِمَاتُهُ فِي الْكُتُبِ كَثِيرَةٌ، وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْهَا مَقْنَعٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ‏.‏

وَكَانَتْ كُنْيَتُهُ الْمَشْهُورَةُ أَبَا الْقَاسِمِ‏.‏

وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ لَمَّا وُلِدَ إِبْرَاهِيمُ جَاءَهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ لَهُ‏:‏ السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا أَبَا إِبْرَاهِيمَ‏.‏

الفصل الرَّابِعَ عَشَرَ‏:‏ فِي تَشْرِيفِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا سَمَّاهُ مِنْ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى، وَوَصَفَهُ بِهِ مِنْ صِفَاتِهِ الْعُلَى

قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ - وَفَّقَهُ اللَّهُ- تَعَالَى‏:‏ مَا أَحْرَى هَذَا الْفَصْلَ بِفُصُولِ الْبَابِ الْأَوَّلِ، لِانْخِرَاطِهِ فِي سِلْكِ مَضْمُونِهَا، وَامْتِزَاجِهِ بِعَذْبِ مَعِينِهَا، لَكِنْ لَمْ يَشْرَحِ اللَّهُ الصَّدْرَ لِلْهِدَايَةِ إِلَى اسْتِنْبَاطِهِ، وَلَا أَنَارَ الْفِكْرَ لِاسْتِخْرَاجِ جَوْهَرِهِ، وَالْتِقَاطِهِ إِلَّا عِنْدَ الْخَوْضِ فِي الْفَصْلِ الَّذِي قَبْلَهُ، فَرَأَيْنَا أَنْ نُضِيفَهُ إِلَيْهِ، وَنَجْمَعَ بِهِ شَمْلَهُ‏.‏

فَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ بِكَرَامَةٍ خَلَعَهَا عَلَيْهِمْ مِنْ أَسْمَائِهِ، كَتَسْمِيَةِ إِسْحَاقَ، وَإِسْمَاعِيلَ بِعَلِيمٍ، وَحَلِيمٍ، وَإِبْرَاهِيمَ بِحَلِيمٍ، وَنُوحٍ بِشَكُورٍ، وَعِيسَى، وَيَحْيَى بِبَرٍّ، وَمُوسَى بِكَرِيمٍ، وَقَوِيٍّ، وَيُوسُفَ بِحَفِيظٍ عَلِيمٍ، وَأَيُّوبَ بِصَابِرٍ، وَإِسْمَاعِيلَ بِصَادِقِ الْوَعْدِ، كَمَا نَطَقَ بِذَلِكَ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ مِنْ مَوَاضِعِ ذِكْرِهِمْ‏.‏

وَفَضَّلَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ بِأَنْ حَلَّاهُ مِنْهَا فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ، وَعَلَى أَلْسِنَةِ أَنْبِيَائِهِ بِعِدَّةٍ كَثِيرَةٍ اجْتَمَعَ لَنَا مِنْهَا جُمْلَةٌ بَعْدَ إِعْمَالِ الْفِكْرِ، وَإِحْضَارِ الذِّكْرِ، إِذْ لَمْ نَجِدُ مَنْ جَمَعَ مِنْهَا فَوْقَ اسْمَيْنِ، وَلَا مَنْ تَفَرَّغَ فِيهَا لِتَأْلِيفِ فَصْلَيْنِ‏.‏

وَحَرَّرْنَا مِنْهَا فِي هَذَا الْفَصْلَ نَحْوَ ثَلَاثِينَ اسْمًا، وَلَعَلَّ اللَّهَ تَعَالَى كَمَا أَلْهَمَ إِلَى مَا عُلِمَ مِنْهَا، وَحَقَّقَهُ يُتِمُّ النِّعْمَةَ بِإِبَانَةِ مَا لَمْ يُظْهِرْهُ لَنَا الْآنَ وَيَفْتَحُ غَلْقَهُ‏.‏

فَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى‏:‏ الْحَمِيدُ، وَمَعْنَاهُ الْمَحْمُودُ، لِأَنَّهُ حَمِدَ نَفْسَهُ، وَحَمَدَهُ عِبَادُهُ، وَيَكُونُ أَيْضًا بِمَعْنَى الْحَامِدِ لِنَفْسِهِ، وَلِأَعْمَالِ الطَّاعَاتِ‏.‏

وَسَمَّى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحَمَّدًا، وَأَحْمَدَ، فَمُحَمَّدٌ بِمَعْنَى مَحْمُودٍ، وَكَذَا وَقَعَ اسْمُهُ فِي زَبُورِ دَاوُدَ‏.‏

وَأَحْمَدُ بِمَعْنَى أَكْبَرُ مَنْ حَمِدَ، وَأَجَلُّ مَنْ حَمِدَ، وَأَشَارَ إِلَى نَحْوِ هَذَا حَسَّانٌ بِقَوْلِهِ‏:‏

وَشَقَّ لَهُ مِنَ اسْمِهِ لِيُجِلَّهُ *** فَذُو الْعَرْشِ مَحْمُودٌ وَهَذَا مُحَمَّدُ

وَمِنْ أَسْمَائِهِ‏:‏ الرَّءُوفُ الرَّحِيمُ، وَهُمَا بِمَعْنًى مُتَقَارِبٍ‏.‏

وَقَدْ سَمَّاهُ فِي كِتَابِهِ بِذَلِكَ، فَقَالَ‏:‏ ‏{‏بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ‏}‏‏.‏

وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى الْحَقُّ الْمُبِينُ‏.‏ وَمَعْنَى الْحَقِّ‏:‏ الْمَوْجُودُ، وَالْمُتَحَقِّقُ أَمْرُهُ، وَكَذَلِكَ الْمُبِينُ، أَيِ الْبَيِّنُ أَمْرُهُ، وَإِلَهِيَّتُهُ‏.‏

بَانَ وَأَبَانَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ‏.‏ وَيَكُونُ بِمَعْنَى الْمُبَيِّنِ لِعِبَادِهِ أَمْرَ دِينِهِمْ، وَمَعَادِهِمْ‏.‏

وَسَمَّى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فِي كِتَابِهِ، فَقَالَ‏:‏ ‏{‏حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ‏}‏ ‏[‏الزُّخْرُفِ‏:‏ 29‏]‏‏.‏

وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ‏}‏ ‏[‏الْحِجْرِ‏:‏ 89‏]‏‏.‏

وَقَالَ‏:‏ ‏{‏جَاءَكُمُ الْحَقُّ‏}‏ ‏[‏يُونُسَ‏:‏ 108‏]‏‏.‏

وَقَالَ‏:‏ ‏{‏فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ‏}‏ ‏[‏الْأَنْعَامِ‏:‏ 5‏]‏، قِيلَ‏:‏ مُحَمَّدٌ، وَقِيلَ الْقُرْآنُ‏.‏ وَمَعْنَاهُ هُنَا ضِدَّ الْبَاطِلِ، وَالْمُتَحَقِّقُ صِدْقُهُ، وَأَمْرُهُ، وَهُوَ بِمَعْنَى الْأَوَّلِ‏.‏

وَالْمُبِينُ‏:‏ الْبَيِّنُ أَمْرُهُ، وَرِسَالَتُهُ، أَوِ الْمُبِينُ عَنِ اللَّهِ مَا بَعَثَهُ بِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ‏}‏ ‏[‏النَّحْلِ‏:‏ 44‏]‏‏.‏

وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى‏:‏ النُّورُ، وَمَعْنَاهُ ذُو النُّورِ، أَيْ خَالِقُهُ، أَوْ مُنَوِّرُ السَّمَاوَاتِ، وَالْأَرْضِ بِالْأَنْوَارِ، وَمُنَوِّرُ قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْهِدَايَةِ‏.‏

وَسَمَّاهُ نُورًا، فَقَالَ‏:‏ ‏{‏قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ‏}‏ ‏[‏الْمَائِدَةِ‏:‏ 15‏]‏، قِيلَ مُحَمَّدٌ، وَقِيلَ الْقُرْآنُ‏.‏

وَقَالَ فِيهِ‏:‏ ‏{‏وَسِرَاجًا مُنِيرًا‏}‏ ‏[‏الْأَحْزَابِ‏:‏ 46‏]‏، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِوُضُوحِ أَمْرِهِ، وَبَيَانِ نُبُوَّتِهِ، وَتَنْوِيرِ قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ الْعَارِفِينَ بِمَا جَاءَ بِهِ‏.‏

وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى‏:‏ الشَّهِيدُ، وَمَعْنَاهُ الْعَالِمُ، وَقِيلَ‏:‏ الشَّاهِدُ عَلَى عِبَادِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏.‏

وَسَمَّاهُ شَهِيدًا وَشَاهِدًا، فَقَالَ‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا‏}‏ ‏[‏الْفَتْحِ‏:‏ 8‏]‏‏.‏

وَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 143‏]‏، وَهُوَ بِمَعْنَى الْأَوَّلِ‏.‏

وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى‏:‏ الْكَرِيمُ، وَمَعْنَاهُ الْكَثِيرُ الْخَيْرِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ الْمُفَضَّلُ، وَقِيلَ الْعَفُوُّ، وَقِيلَ‏:‏ الْعَلِيُّ‏.‏

وَفِي الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ فِي أَسْمَائِهِ تَعَالَى‏:‏ الْأَكْرَمُ‏.‏

وَسَمَّاهُ تَعَالَى كَرِيمًا بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ‏}‏ ‏[‏الْحَاقَّةِ‏:‏ 40‏]‏، قِيلَ‏:‏ مُحَمَّدٌ، وَقِيلَ‏:‏ جِبْرِيلُ‏.‏

وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «أَنَا أَكْرَمُ وَلَدِ آدَمَ»‏.‏ وَمَعَانِي الِاسْمِ صَحِيحَةٌ فِي حَقِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى‏:‏ الْعَظِيمُ، وَمَعْنَاهُ الْجَلِيلُ الشَّأْنِ الَّذِي كُلُّ شَيْءٍ دُونَهُ‏.‏

وَقَالَ فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏{‏وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ‏}‏ ‏[‏الْقَلَمِ‏:‏ 4‏]‏‏.‏

وَوَقَعَ فِي أَوَّلِ سِفْرٍ مِنَ التَّوْرَاةِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ‏:‏ وَسَتَلِدُ عَظِيمًا لِأُمَّةٍ عَظِيمَةٍ، فَهُوَ عَظِيمٌ، وَعَلَى خَلْقٍ عَظِيمٍ‏.‏

وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى‏:‏ الْجَبَّارُ، وَمَعْنَاهُ الْمُصْلِحُ، وَقِيلَ الْقَاهِرُ، وَقِيلَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ الشَّأْنِ وَقِيلَ الْمُتَكَبِّرُ‏.‏

وَسُمِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كِتَابِ دَاوُدَ بِجَبَّارٍ، فَقَالَ‏:‏ تَقَلَّدْ أَيُّهَا الْجَبَّارُ سَيْفَكَ، فَإِنَّ نَامُوسَكَ، وَشَرَائِعَكَ مَقْرُونَةٌ بِهَيْبَةِ يَمِينِكَ‏.‏

وَمَعْنَاهُ فِي حَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ إِمَّا لِإِصْلَاحِهِ الْأُمَّةَ بِالْهِدَايَةِ، وَالتَّعْلِيمِ، أَوْ لِقَهْرِهِ أَعْدَاءَهُ، أَوْ لِعُلُوِّ مُنْزِلَتِهِ عَلَى الْبَشَرِ، وَعَظِيمِ خَطَرِهِ‏.‏

وَنَفَى عَنْهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ جَبْرِيَّةَ التَّكَبُّرِ الَّتِي لَا تَلِيقُ بِهِ، فَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 45‏]‏‏.‏

وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى‏:‏ الْخَبِيرُ، وَمَعْنَاهُ الْمُطَّلِعُ بِكُنْهِ الشَّيْءِ، الْعَالِمُ بِحَقِيقَتِهِ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ الْمُخْبِرُ‏.‏

وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا‏}‏ ‏[‏الْفُرْقَانِ‏:‏ 59‏]‏‏.‏

وَقَالَ الْقَاضِي بَكْرُ بْنُ الْعَلَاءِ ‏:‏ الْمَأْمُورُ بِالسُّؤَالِ غَيْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏ وَالْمَسْئُولُ الْخَبِيرُ هُوَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

وَقَالَ غَيْرُهُ‏:‏ بَلِ السَّائِلُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏ وَالْمَسْئُولُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، فَالنَّبِيُّ خَبِيرٌ بِالْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، قِيلَ‏:‏ لِأَنَّهُ عَالِمٌ عَلَى غَايَةٍ مِنَ الْعِلْمِ بِمَا أَعْلَمَهُ اللَّهُ مِنْ مَكْنُونِ عِلْمِهِ، وَعَظِيمِ مَعْرِفَتِهِ، مُخْبِرٌ لِأُمَّتِهِ بِمَا أَذِنَ لَهُ فِي إِعْلَامِهِمْ بِهِ‏.‏

وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى‏:‏ الْفَتَّاحُ، وَمَعْنَاهُ الْحَاكِمُ بَيْنَ عِبَادِهِ، أَوْ فَاتِحُ أَبْوَابِ الرِّزْقِ وَالرَّحْمَةِ وَالْمُنْغَلِقِ مِنْ أُمُورِهِمْ عَلَيْهِمْ، أَوْ يَفْتَحُ قُلُوبَهُمْ، وَبَصَائِرَهُمْ لِمَعْرِفَةِ الْحَقِّ، وَيَكُونُ أَيْضًا بِمَعْنَى النَّاصِرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ‏}‏ ‏[‏الْأَنْفَالِ‏:‏ 19‏]‏ أَيْ إِنْ تَسْتَنْصِرُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ النَّصْرُ، وَقِيلَ‏:‏ مَعْنَاهُ مُبْتَدَئُ الْفَتْحِ، وَالنَّصْرِ‏.‏

وَسَمَّى اللَّهُ تَعَالَى مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْفَاتِحِ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ الطَّوِيلِ مِنْ رِوَايَةِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، وَغَيْرِهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، وَفِيهِ‏:‏ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى‏:‏ وَجَعَلْتُكَ فَاتِحًا، وَخَاتَمًا‏.‏

وَفِيهِ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ثَنَائِهِ عَلَى رَبِّهِ، وَتَعْدِيدِ مَرَاتِبِهِ‏:‏ «وَرَفَعَ لِي ذِكْرِي، وَجَعَلَنِي فَاتِحًا، وَخَاتَمًا»، فَيَكُونُ الْفَاتِحُ هُنَا بِمَعْنَى الْحَاكِمِ، أَوِ الْفَاتِحِ لِأَبْوَابِ الرَّحْمَةِ عَلَى أُمَّتِهِ، أَوِ الْفَاتِحِ لِبَصَائِرِهِمْ لِمَعْرِفَةِ الْحَقِّ، وَالْإِيمَانِ بِاللَّهِ، أَوِ النَّاصِرِ لِلْحَقِّ، أَوِ الْمُبْتَدِئِ بِهِدَايَةِ الْأُمَّةِ، أَوِ الْمُبْدِئُ الْمُقَدَّمُ فِي الْأَنْبِيَاءِ، وَالْخَاتِمُ لَهُمْ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «كُنْتُ أَوَّلَ الْأَنْبِيَاءِ فِي الْخَلْقِ، وَآخِرَهُمْ فِي الْبَعْثِ»‏.‏

وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى فِي الْحَدِيثِ‏:‏ الشَّكُورُ، وَمَعْنَاهُ الْمُثِيبُ عَلَى الْعَمَلِ الْقَلِيلِ، وَقِيلَ الْمُثْنِي عَلَى الْمُطِيعِينَ، وَوَصَفَ بِذَلِكَ نَبِيَّهُ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا‏}‏ ‏[‏الْإِسْرَاءِ‏:‏ 3‏]‏‏.‏

وَقَدْ وَصَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفْسَهُ بِذَلِكَ، فَقَالَ‏:‏ «أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا» أَيْ مُعْتَرِفًا بِنَعِيمِ رَبِّي، عَارِفًا بِقَدْرِ ذَلِكَ، مُثْنِيًا عَلَيْهِ، مُجْهِدًا نَفْسِي فِي الزِّيَادَةِ مِنْ ذَلِكَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ‏}‏ ‏[‏إِبْرَاهِيمَ‏:‏ 7‏]‏‏.‏

وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى‏:‏ الْعَلِيمُ، وَالْعَلَّامُ‏.‏ وَعَالِمُ الْغَيْبِ، وَالشَّهَادَةِ‏.‏

وَوَصَفَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعِلْمِ، وَخَصَّهُ بِمَزِيَّةٍ مِنْهُ، فَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا‏}‏ ‏[‏النِّسَاءِ‏:‏ 113‏]‏‏.‏ ‏{‏وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 151‏]‏‏.‏

وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى‏:‏ الْأَوَّلُ، وَالْآخِرُ، وَمَعْنَاهُمَا السَّابِقُ لِلْأَشْيَاءِ قَبْلَ، وُجُودِهَا، وَالْبَاقِي بَعْدَ فَنَائِهَا‏.‏ وَتَحْقِيقُهُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَوَّلٌ، وَلَا آخِرٌ‏.‏

وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «كُنْتُ أَوَّلَ الْأَنْبِيَاءِ فِي الْخَلْقِ، وَآخِرَهُمْ فِي الْبَعْثِ»‏.‏ وَفُسِّرَ بِهَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ‏}‏ ‏[‏الْأَحْزَابِ‏:‏ 7‏]‏، فَقَدَّمَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

وَقَدْ أَشَارَ إِلَى نَحْوٍ مِنْهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-‏.‏

وَمِنْهُ قَوْلُهُ‏:‏ «نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ»‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ «أَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ الْأَرْضُ عَنْهُ، وَأَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، وَأَوَّلُ شَافِعٍ، وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ» وَهُوَ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، وَآخِرُ الرُّسُلِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى‏:‏ الْقَوِيُّ‏.‏ وَذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ، وَمَعْنَاهُ‏:‏ الْقَادِرُ‏.‏

وَقَدْ وَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ، فَقَالَ‏:‏ ‏{‏ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ‏}‏ ‏[‏التَّكْوِيرِ‏:‏ 20‏]‏، قِيلَ مُحَمَّدٌ، وَقِيلَ جِبْرِيلُ‏.‏

وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى‏:‏ الصَّادِقُ، فِي الْحَدِيثِ الْمَأْثُورِ‏.‏

وَوَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَيْضًا اسْمُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّادِقِ، وَالْمَصْدُوقِ‏.‏

وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى‏:‏ الْوَلِيُّ، وَالْمَوْلَى، وَمَعْنَاهُمَا النَّاصِرُ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ‏}‏ ‏[‏الْمَائِدَةِ‏:‏ 55‏]‏‏.‏

وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «أَنَا وَلِيُّ كُلِّ مُؤْمِنٍ»‏.‏

وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏الْأَحْزَابِ‏:‏ 6‏]‏‏.‏

وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ»‏.‏

وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى‏:‏ الْعَفُوُّ، وَمَعْنَاهُ الصَّفُوحُ‏.‏

وَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَذَا نَبِيَّهُ فِي الْقُرْآنِ وَالتَّوْرَاةِ، وَأَمَرَهُ بِالْعَفْوِ، فَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏خُذِ الْعَفْوَ‏}‏ ‏[‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 199‏]‏‏.‏

وَقَالَ‏:‏ ‏{‏فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ‏}‏ ‏[‏الْمَائِدَةِ‏:‏ 13‏]‏‏.‏

وَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ وَقَدْ سَأَلَهُ عَنْ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏خُذِ الْعَفْوَ‏}‏ ‏[‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 199‏]‏، قَالَ‏:‏ أَنْ تَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ‏.‏

وَقَالَ فِي التَّوْرَاةِ، وَالْإِنْجِيلِ فِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ، فِي صِفَتِهِ‏:‏ لَيْسَ بِفَظٍّ، وَلَا غَلِيظٍ، وَلَكِنْ يَعْفُو، وَيَصْفَحُ‏.‏

وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى‏:‏ الْهَادِي، وَهُوَ بِمَعْنَى تَوْفِيقِ اللَّهِ لِمَنْ أَرَادَ مِنْ عِبَادِهِ، وَبِمَعْنَى الدَّلَالَةِ، وَالدُّعَاءِ‏.‏ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ‏}‏ ‏[‏يُونُسَ‏:‏ 25‏]‏‏.‏ وَقَالَ فِيهِ‏:‏ ‏{‏وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ‏}‏ ‏[‏الْأَحْزَابِ‏:‏ 46‏]‏‏.‏

فَاللَّهُ تَعَالَى مُخْتَصٌّ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ‏}‏ ‏[‏الْقَصَصِ‏:‏ 56‏]‏‏.‏

وَبِمَعْنَى الدَّلَالَةِ يُطْلَقُ عَلَى غَيْرِهِ تَعَالَى‏.‏

وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى‏:‏ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ قِيلَ‏:‏ هُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، فَمَعْنَى الْمُؤْمِنِ فِي حَقِّهِ تَعَالَى‏:‏ الْمُصَدِّقُ وَعْدَهُ عِبَادَهُ، وَالْمُصَدِّقُ قَوْلَهُ الْحَقَّ، وَالْمُصَدِّقُ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَرُسُلِهِ، وَقِيلَ‏:‏ الْمُوَحِّدُ نَفْسَهُ، وَقِيلَ‏:‏ الْمُؤْمِنُ عِبَادَهُ فِي الدُّنْيَا مِنْ ظُلْمِهِ، وَالْمُؤْمِنِينَ فِي الْآخِرَةِ مِنْ عَذَابِهِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ الْمُهَيْمِنُ بِمَعْنَى الْأَمِينِ، مُصَغَّرٌ مِنْهُ، فَقُلِبَتِ الْهَمْزَةُ هَاءً‏.‏

وَقَدْ قِيلَ‏:‏ إِنَّ قَوْلَهُمْ فِي الدُّعَاءِ‏:‏ آمِينَ إِنَّهُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَعْنَاهُ مَعْنَى الْمُؤْمِنِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ الْمُهَيْمِنُ بِمَعْنَى الشَّاهِدِ، وَالْحَافِظِ‏.‏

وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمِينٌ، وَمُهَيْمِنٌ وَمُؤْمِنٌ وَقَدْ سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى أَمِينًا، فَقَالَ‏:‏ ‏{‏مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ‏}‏ ‏[‏التَّكْوِيرِ‏:‏ 21‏]‏‏.‏

وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْرَفُ بِالْأَمِينِ، وَشُهِرَ بِهِ قَبْلَ النُّبُوَّةِ، وَبَعْدَهَا، وَسَمَّاهُ الْعَبَّاسُ، فِي شِعْرِهِ مُهَيْمِنًا فِي قَوْلِهِ‏:‏

ثُمَّ احْتَوَى بَيْتُكَ الْمُهَيْمِنُ مِنْ *** خِنْدِفَ عَلْيَاءَ تَحْتَهَا النُّطُقُ

قِيلَ‏:‏ الْمُرَادُ‏:‏ يَا أَيُّهَا الْمُهَيْمِنُ قَالَهُ الْقُتَيْبِيُّ، وَالْإِمَامُ أَبُو الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيُّ ‏.‏

وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏التَّوْبَةِ‏:‏ 61‏]‏، أَيْ يُصَدِّقُ‏.‏

وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «أَنَا آمِنَةٌ لِأَصْحَابِي» فَهَذَا بِمَعْنَى الْمُؤْمِنِ‏.‏

وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى‏:‏ الْقُدُّوسُ، وَمَعْنَاهُ الْمُنَزَّهُ عَنِ النَّقَائِصِ الْمُطَهَّرُ مِنْ سِمَاتِ الْحَدَثِ، وَسُمِّيَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ، لِأَنَّهُ يُتَطَهَّرُ فِيهِ مِنَ الذُّنُوبِ، وَمِنْهُ الْوَادِي الْمُقَدَّسُ، وَرُوحُ الْقُدُسِ‏.‏

وَوَقَعَ فِي كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ فِي أَسْمَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ الْمُقَدَّسُ، أَيِ الْمُطَهَّرُ مِنَ الذُّنُوبِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ‏}‏ ‏[‏الْفَتْحِ‏:‏ 2‏]‏‏.‏

أَوِ الَّذِي يُتَطَهَّرُ بِهِ مِنَ الذُّنُوبِ، وَيُتَنَزَّهُ بِاتِّبَاعِهِ عَنْهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ‏}‏ ‏[‏الْمَائِدَةِ‏:‏ 16‏]‏‏.‏

أَوْ يَكُونُ مُقَدَّسًا بِمَعْنَى مُطَهَّرًا مِنَ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ، وَالْأَوْصَافِ الدَّنِيئَةِ‏.‏

وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى‏:‏ الْعَزِيزُ، وَمَعْنَاهُ‏:‏ الْمُمْتَنِعُ الْغَالِبُ، أَوِ الَّذِي لَا نَظِيرَ لَهُ، أَوِ الْمُعِزُّ لِغَيْرِهِ، وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ‏}‏ ‏[‏الْمُنَافِقُونَ‏:‏ 8‏]‏، أَيْ الِامْتِنَاعُ، وَجَلَالَةُ الْقَدْرِ‏.‏

وَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى نَفْسَهُ بِالْبِشَارَةِ، وَالنِّذَارَةِ، فَقَالَ‏:‏ ‏{‏يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ‏}‏ ‏[‏التَّوْبَةِ‏:‏ 21‏]‏‏.‏

وَقَالَ‏:‏ ‏{‏أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ‏}‏ ‏[‏آلُ عِمْرَانَ‏:‏ 39‏]‏‏.‏

وَسَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى مُبَشِّرًا، وَنَذِيرًا ‏:‏ أَيْ مُبَشِّرًا لِأَهْلِ طَاعَتِهِ، وَنَذِيرًا لِأَهْلِ مَعْصِيَتِهِ‏.‏

وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى فِيمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ‏:‏ ‏"‏ طه ‏"‏، وَ ‏"‏ يس ‏"‏‏.‏ وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَيْضًا أَنَّهُمَا مِنْ أَسْمَاءِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ وَشَرَّفَ وَكَرَّمَ‏.‏

الفصل الْخَامِسَ عَشَرَ‏:‏ اسْتِدْرَاكٌ فِي صِفَاتِ الْخَالِقِ، وَالْمَخْلُوقِ

قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ ‏:‏- وَفَّقَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، وَهَا أَنَا أَذْكُرُ نُكْتَةً أُذَيِّلُ بِهَا هَذَا الْفَصْلَ، وَأَخْتِمُ بِهَا هَذَا الْقِسْمَ، وَأُزِيحُ الْإِشْكَالَ بِهَا فِيمَا تَقَدَّمَ عَنْ كُلِّ ضَعِيفِ الْوَهْمِ، سَقِيمِ الْفَهْمِ، تُخَلِّصُهُ مِنْ مَهَاوِي التَّشْبِيهِ، وَتُزَحْزِحُهُ عَنْ شُبَهِ التَّمْوِيهِ، وَهُوَ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَلَّ اسْمُهُ فِي عَظَمَتِهِ، وَكِبْرِيَائِهِ، وَمَلَكُوتِهِ، وَحُسْنَى أَسْمَائِهِ، وَعُلِيِّ صِفَاتِهِ، لَا يُشْبِهُ شَيْئًا مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ، وَلَا يُشَبَّهُ بِهِ، وَأَنَّ مَا جَاءَ مِمَّا أَطْلَقَهُ الشَّرْعُ عَلَى الْخَالِقِ، وَعَلَى الْمَخْلُوقِ، فَلَا تَشَابُهَ بَيْنَهُمَا فِي الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ، إِذْ صِفَاتُ الْقَدِيمِ بِخِلَافِ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِ، فَكَمَا أَنَّ ذَاتَهُ لَا تُشْبِهُ الذَّوَاتَ كَذَلِكَ صِفَاتُهُ لَا تُشْبِهُ صِفَاتَ الْمَخْلُوقِينَ، إِذْ صِفَاتُهُمْ لَا تَنْفَكُّ عَنِ الْأَعْرَاضِ، وَالْأَغْرَاضِ، وَهُوَ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ، بَلْ لَمْ يَزَلْ بِصِفَاتِهِ، وَأَسْمَائِهِ، وَكَفَى فِي هَذَا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ‏}‏ ‏[‏الشُّورَى‏:‏ 11‏]‏‏.‏

وَلِلَّهِ دَرُّ مَنْ قَالَ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْعَارِفِينَ الْمُحَقِّقِينَ‏:‏ التَّوْحِيدُ إِثْبَاتُ ذَاتٍ غَيْرِ مُشْبِهَةٍ لِلذَّوَاتِ، وَلَا مُعَطَّلَةٍ عَنِ الصِّفَاتِ‏.‏

وَزَادَ هَذِهِ النُّكْتَةَ الْوَاسِطِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ- بَيَانًا، وَهِيَ مَقْصُودُنَا، فَقَالَ‏:‏ لَيْسَ كَذَاتِهِ ذَاتٌ، وَلَا كَاسْمِهِ اسْمٌ، وَلَا كَفِعْلِهِ فِعْلٌ، وَلَا كَصِفَتِهِ صِفَةٌ، إِلَّا مِنْ جِهَةِ مُوَافَقَةِ اللَّفْظِ اللَّفْظَ، وَجَلَّتِ الذَّاتُ الْقَدِيمَةُ أَنْ تَكُونَ لَهَا صِفَةٌ حَدِيثَةٌ، كَمَا اسْتَحَالَ أَنْ تَكُونَ لِلذَّاتِ الْمُحْدَثَةِ صِفَةٌ قَدِيمَةٌ‏.‏

وَهَذَا كُلُّهُ مَذْهَبُ أَهْلِ الْحَقِّ، وَالسُّنَّةِ، وَالْجَمَاعَةِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ-‏.‏

وَقَدْ فَسَّرَ الْإِمَامُ أَبُو الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ- قَوْلَهُ هَذَا، لِيَزِيدَهُ بَيَانًا، فَقَالَ‏:‏ هَذِهِ الْحِكَايَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى جَوَامِعِ مَسَائِلِ التَّوْحِيدِ، وَكَيْفَ تُشْبِهُ ذَاتُهُ ذَاتَ الْمُحْدَثَاتِ، وَهِيَ بِوُجُودِهَا مُسْتَغْنِيَةٌ، وَكَيْفَ يُشْبِهُ فِعْلُهُ فِعْلَ الْخَلْقِ، وَهُوَ لِغَيْرِ جَلْبِ أُنْسٍ، أَوْ دَفْعِ نَقْصٍ حَصَلَ، وَلَا بِخَوَاطِرَ وَأَغْرَاضٍ وُجِدَ، وَلَا بِمُبَاشَرَةٍ وَمُعَالَجَةٍ ظَهَرَ، وَفِعْلُ الْخَلْقِ لَا يَخْرُجُ عَنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ‏.‏

وَقَالَ آخَرُ مِنْ مَشَايِخِنَا‏:‏ مَا تَوَهَّمْتُمُوهُ بِأَوْهَامِكُمْ، أَوْ أَدْرَكْتُمُوهُ بِعُقُولِكُمْ فَهُوَ مُحْدَثٌ مِثْلُكُمْ‏.‏

وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيُّ ‏:‏ مَنِ اطْمَأَنَّ إِلَى مَوْجُودٍ انْتَهَى إِلَيْهِ فِكْرُهُ فَهُوَ مُشَبِّهٌ، وَمَنِ اطْمَأَنَّ إِلَى النَّفْيِ الْمَحْضِ فَهُوَ مُعَطِّلٌ، وَإِنْ قَطَعَ بِمَوْجُودٍ اعْتَرَفَ بِالْعَجْزِ عَنْ دَرْكِ حَقِيقَتِهِ فَهُوَ مُوَحِّدٌ‏.‏

وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ ذِي النُّونِ الْمِصْرِيِّ‏:‏ حَقِيقَةُ التَّوْحِيدِ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ قُدْرَةَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْأَشْيَاءِ بِلَا عِلَاجٍ، وَصُنْعَهُ لَهَا بِلَا مِزَاجٍ، وَعِلَّةُ كُلِّ شَيْءٍ صُنْعُهُ، وَلَا عِلَّةَ لِصُنْعِهِ، وَمَا تُصُوِّرَ فِي وَهْمِكَ فَاللَّهُ بِخِلَافِهِ‏.‏

وَهَذَا كَلَامٌ عَجِيبٌ نَفِيسٌ مُحَقَّقٌ‏.‏

وَالْفَصْلُ الْآخَرُ، تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ‏}‏ ‏[‏الشُّورَى‏:‏ 11‏]‏‏.‏

وَالثَّانِي تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ‏}‏ ‏[‏الْأَنْبِيَاءِ‏:‏ 23‏]‏، وَالثَّالِثُ، تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ‏}‏ ‏[‏النَّحْلِ‏:‏ 40‏]‏‏.‏

ثَبَّتَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ عَلَى التَّوْحِيدِ، وَالْإِثْبَاتِ، وَالتَّنْزِيهِ، وَجَنَّبَنَا طَرَفَيِ الضَّلَالَةِ، وَالْغَوَايَةِ مِنَ التَّعْطِيلِ، وَالتَّشْبِيهِ بِمَنِّهِ، وَرَحْمَتِهِ‏.‏

الفصل الْأَوَّلُ‏:‏ مُقَدِّمَةُ الْبَابِ‏.‏

الْفَصْلُ الثَّانِي‏:‏ اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ اسْمُهُ قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ الْمَعْرِفَةِ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ‏.‏

الْفَصْلُ الثَّالِثُ‏:‏ اعْلَمْ أَنَّ مَعْنَى تَسْمِيَتِنَا مَا جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ مُعْجِزَةً‏.‏

الْفَصْلُ الرَّابِعُ‏:‏ فِي إِعْجَازِ الْقُرْآنِ‏.‏

الْفَصْلُ الْخَامِسُ‏:‏ الْوَجْهُ الثَّانِي مِنْ إِعْجَازِهِ‏.‏

الْفَصْلُ السَّادِسُ‏:‏ الْوَجْهُ الثَّالِثُ مِنْ إِعْجَازِهِ‏.‏

الْفَصْلُ السَّابِعُ‏:‏ الْوَجْهُ الرَّابِعُ مَا أَنْبَأَ بِهِ مِنْ أَخْبَارِهِ وَالْقُرُونِ السَّالِفَةِ‏.‏

الْفَصْلُ الثَّامِنُ‏:‏ هَذِهِ الْوُجُوهُ الْأَرْبَعَةُ مِنْ إِعْجَازِهِ بِنْيَةً لَا نَزْعَ فِيهَا وَلَا مِرْيَةَ‏.‏

الْفَصْلُ التَّاسِعُ‏:‏ وَمِنْهَا الرَّوْعَةُ‏.‏

الْفَصْلُ الْعَاشِرُ‏:‏ وَمِنْ وُجُوهِ إِعْجَازِهِ‏.‏

الْفَصْلُ الْحَادِي عَشَرَ‏:‏ وَقَدْ عَدَّ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ‏.‏

الْفَصْلُ الثَّانِي عَشَرَ‏:‏ فِي انْشِقَاقِ الْقَمَرِ وَحَبْسِ الشَّمْسِ‏.‏

الْفَصْلُ الثَّالِثَ عَشَرَ‏:‏ فِي نَبْعِ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ وَتَكْثِيرِهِ بِبَرَكَتِهِ‏.‏

الْفَصْلُ الرَّابِعَ عَشَرَ‏:‏ وَمِمَّا يُشْبِهُ هَذَا مِنْ مُعْجِزَاتِهِ تَفْجِيرُ الْمَاءِ بِبَرَكَتِهِ‏.‏

الْفَصْلُ الْخَامِسَ عَشَرَ‏:‏ وَمِنْ مُعْجِزَاتِهِ تَكْثِيرُ الطَّعَامِ بِبَرَكَتِهِ وَدُعَائِهِ‏.‏

الْفَصْلُ السَّادِسَ عَشَرَ‏:‏ فِي كَلَامِ الشَّجَرَةِ وَشَهَادَتِهَا لَهُ بِالنُّبُوَّةِ وَإِجَابَتِهَا دَعْوَتَهُ‏.‏

الْفَصْلُ السَّابِعَ عَشَرَ‏:‏ فِي قِصَّةِ حَنِينِ الْجِذْعِ‏.‏

الْفَصْلُ الثَّامِنَ عَشَرَ‏:‏ وَمِثْلُ هَذَا سَائِرٌ فِي الْجَمَادَاتِ‏.‏

الْفَصْلُ التَّاسِعَ عَشَرَ‏:‏ فِي الْآيَاتِ فِي ضُرُوبِ الْحَيَوَانَاتِ‏.‏

الْفَصْلُ الْعِشْرُونَ‏:‏ فِي إِحْيَاءِ الْمَوْتَى وَكَلَامِهِمْ وَكَلَامِ الصِّبْيَانِ وَالْمَرَاضِعِ‏.‏

الْفَصْلُ الْوَاحِدُ وَالْعِشْرُونَ‏:‏ فِي إِبْرَاءِ الْمَرْضَى وَذَوِي الْعَاهَاتِ‏.‏

الْفَصْلُ الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ‏:‏ فِي إِجَابَةِ دُعَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

الْفَصْلُ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ‏:‏ فِي كَرَامَاتِهِ وَبَرَكَاتِهِ وَانْقِلَابِ الْأَعْيَانِ لَهُ فِيمَا لَمَسَهُ أَوْ بَاشَرَهُ‏.‏

الْفَصْلُ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ‏:‏ وَمِنْ ذَلِكَ مَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ مِنَ الْغُيُوبِ وَمَا يَكُونُ‏.‏

الْفَصْلُ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ‏:‏ فِي عِصْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ مِنَ النَّاسِ وَكِفَايَتِهِ مِنْ أَذَاهُ‏.‏

الْفَصْلُ السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ‏:‏ مِنْ مُعْجِزَاتِهِ الْبَاهِرَةِ‏.‏

الْفَصْلُ السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ‏:‏ وَمِنْ خَصَائِصِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَرَامَاتِهِ وَبَاهِرِ آيَاتِهِ أَنْبَاؤُهُ مَعَ الْمَلَائِكَةِ‏.‏

الْفَصْلُ الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ‏:‏ وَمِنْ دَلَائِلِ نُبُوَّتِهِ وَعَلَامَاتِ رِسَالَتِهِ مَا تَرَادَفَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ‏.‏

الْفَصْلُ التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ‏:‏ وَمِنْ ذَلِكَ مَا ظَهَرَ مِنَ الْآيَاتِ‏.‏

الْفَصْلُ الثَّلَاثُونَ‏:‏ خَاتِمَةٌ وَتَذْيِيلٌ‏.‏

الْبَابُ الرَّابِعُ‏:‏ فِيمَا أَظْهَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى يَدَيْهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ، وَشَرَّفَهُ بِهِ مِنَ الْخَصَائِصِ، وَالْكَرَامَاتِ

وَفِيهِ ثَلَاثُونَ فَصْلًا‏:‏

الفصل الْأَوَّلُ

قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ ‏:‏ حَسْبُ الْمُتَأَمِّلِ أَنَّ يُحَقِّقَ أَنَّ كِتَابَنَا هَذَا لَمْ نَجْمَعْهُ لِمُنْكِرِ نُبُوَّةِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا لِطَاعِنٍ فِي مُعْجِزَاتِهِ، فَنَحْتَاجُ إِلَى نَصْبِ الْبَرَاهِينِ عَلَيْهَا، وَتَحْصِينِ حَوْزَتِهَا، حَتَّى لَا يَتَوَصَّلَ الْمُطَاعِنُ إِلَيْهَا، وَنَذْكُرُ شُرُوطَ الْمُعْجِزِ، وَالتَّحَدِّي، وَحْدَهُ، وَفَسَادُ قَوْلِ مَنْ أَبْطَلَ نَسْخَ الشَّرَائِعِ، وَرَدُّهُ، بَلْ أَلَّفْنَاهُ لِأَهْلِ مِلَّتِهِ، الْمُلَبِّينَ لِدَعْوَتِهِ، الْمُصَدِّقِينَ لِنُبُوَّتِهِ، لِيَكُونَ تَأْكِيدًا فِي مَحَبَّتِهِمْ لَهُ، وَمَنْمَاةً لِأَعْمَالِهِمْ، وَ ‏{‏لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ‏}‏ ‏[‏الْفَتْحِ‏:‏ 5‏]‏‏.‏

وَنِيَّتُنَا أَنْ نُثْبِتَ فِي هَذَا الْبَابِ أُمَّهَاتِ مُعْجِزَاتِهِ، وَمَشَاهِيرَ آيَاتِهِ، لِتَدُلَّ عَلَى عَظِيمِ قَدْرِهِ عِنْدَ رَبِّهِ‏.‏ وَأَتَيْنَا مِنْهَا بِالْمُحَقَّقِ، وَالصَّحِيحِ الْإِسْنَادِ، وَأَكْثَرُهُ مِمَّا بَلَغَ الْقَطْعَ، أَوْ كَادَ، وَأَضَفْنَا إِلَيْهَا بَعْضَ مَا وَقَعَ فِي مَشَاهِيرِ كُتُبِ الْأَئِمَّةِ‏.‏

وَإِذَا تَأَمَّلَ الْمُتَأَمِّلُ الْمُنْصِفُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ جَمِيلِ أَثَرِهِ، وَحَمِيدِ سِيَرِهِ، وَبَرَاعَةِ عِلْمِهِ، وَرَجَاحَةِ عَقْلِهِ، وَحِلْمِهِ، وَجُمْلَةِ كَمَالِهِ، وَجَمِيعِ خِصَالِهِ، وَشَاهِدِ حَالِهِ، وَصَوَابِ مَقَالِهِ لَمْ يَمْتَرِ فِي صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ، وَصِدْقِ دَعْوَتِهِ‏.‏

وَقَدْ كَفَى هَذَا غَيْرُ وَاحِدٍ فِي إِسْلَامِهِ، وَالْإِيمَانِ بِهِ‏.‏

فَرَوَيْنَا عَنِ التِّرْمِذِيِّ، وَابْنِ قَانِعٍ ، وَغَيْرِهِمَا بِأَسَانِيدِهِمْ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ قَالَ‏:‏ لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ جِئْتُهُ لِأَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا اسْتَبَنْتُ وَجْهَهُ عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ‏.‏

‏[‏حَدَّثَنَا بِهِ الْقَاضِي الشَّهِيدُ أَبُو عَلِيٍّ - رَحِمَهُ اللَّهُ-، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ الصَّيْرَفِيُّ، وَأَبُو الْفَضْلِ بْنُ خَيْرُونَ، عَنْ أَبِي يَعْلَى الْبَغْدَادِيِّ، عَنْ أَبِي عَلِيٍّ السِّنْجِيِّ، عَنِ ابْنِ مَحْبُوبٍ، عَنِ التِّرْمِذِيِّ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، وَابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عَوْفِ بْنِ أَبِي جَمِيلَةَ الْأَعْرَابِيِّ، عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ‏.‏‏.‏‏.‏ الْحَدِيثَ‏]‏‏.‏

وَعَنْ أَبِي رِمْثَةَ التَّيْمِيِّ‏:‏ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَعِي ابْنٌ لِي، فَأُرِيتُهُ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُ قُلْتُ‏:‏ هَذَا نَبِيُّ اللَّهِ‏.‏

وَرَوَى مُسْلِمٌ ، وَغَيْرُهُ أَنَّ ضِمَادًا لَمَّا وَفَدَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ، وَرَسُولُهُ» قَالَ لَهُ‏:‏ أَعِدْ عَلَيَّ كَلِمَاتِكَ هَؤُلَاءِ، فَلَقَدْ بَلَغْتَ قَامُوسَ الْبَحْرِ هَاتِ يَدَكَ أُبَايِعْكَ‏.‏

وَقَالَ جَامِعُ بْنُ شَدَّادٍ ‏:‏ كَانَ رَجُلٌ مِنَّا يُقَالُ لَهُ طَارِقٌ، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ، فَقَالَ‏:‏ «هَلْ مَعَكُمْ شَيْءٌ تَبِيعُونَهُ‏؟‏» قُلْنَا‏:‏ هَذَا الْبَعِيرُ‏.‏ قَالَ‏:‏ «بِكَمْ‏؟‏» قُلْنَا‏:‏ بِكَذَا، وَكَذَا، وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ، فَأَخَذَ بِخِطَامِهِ، وَسَارَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَقُلْنَا‏:‏ بِعْنَا مِنْ رَجُلٍ لَا نَدْرِي مَنْ هُوَ، وَمَعَنَا ظَعِينَةٌ، فَقَالَتْ‏:‏ أَنَا ضَامِنَةٌ لِثَمَنِ الْبَعِيرِ، رَأَيْتُ وَجْهَ رَجُلٍ مِثْلَ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَا يَخِيسُ فِيكُمْ‏.‏

فَأَصْبَحْنَا، فَجَاءَ رَجُلٌ بِتَمْرٍ فَقَالَ‏:‏ أَنَا رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْكُمْ، يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ هَذَا التَّمْرِ، وَتَكْتَالُوا حَتَّى تَسْتَوْفُوا‏.‏ فَفَعَلْنَا‏.‏

وَفِي خَبَرِ الْجُلَنْدِيِّ مَلِكِ عَمَّانَ لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُوهُ إِلَى الْإِسْلَامِ قَالَ الْجُلَنْدِيُّ‏:‏ وَاللَّهِ لَقَدْ دَلَّنِي عَلَى هَذَا النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ أَنَّهُ لَا يَأْمُرُ بِخَيْرٍ إِلَّا كَانَ أَوَّلَ آخِذٍ بِهِ، وَلَا يَنْهَى عَنْ شَيْءٍ إِلَّا كَانَ أَوَّلَ تَارِكٍ لَهُ، وَأَنَّهُ يَغْلِبُ فَلَا يَبْطُرُ، وَيُغْلَبُ فَلَا يَضْجَرُ، وَيَفِي بِالْعَهْدِ، وَيُنْجِزُ الْمَوْعُودَ، وَأَشْهَدُ أَنَّهُ نَبِيٌّ‏.‏

وَقَالَ ‏"‏ نِفْطَوَيْهِ ‏"‏ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ‏}‏ ‏[‏النُّورِ‏:‏ 35‏]‏‏:‏ هَذَا مَثَلٌ ضَرْبَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ‏:‏ يَكَادُ مَنْظَرُهُ يَدُلُّ عَلَى نُبُوَّتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَتْلُ قُرْآنًا كَمَا قَالَ ابْنُ رَوَاحَةَ‏:‏

لَوْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ آيَاتٌ مُبَيِّنَةٌ *** لَكَانَ مَنْظَرُهُ يُنْبِيكَ بِالْخَبَرِ

وَقَدْ آنَ أَنْ نَأْخُذَ فِي ذِكْرِ النُّبُوَّةِ، وَالْوَحْيِ، وَالرِّسَالَةِ، وَبَعْدَهُ فِي مُعْجِزَةِ الْقُرْآنِ، وَمَا فِيهِ مِنْ بُرْهَانٍ، وَدَلَالَةٍ‏.‏