فصل: لا غنى لولي الأمر عن المشاورة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الشورى في ظل نظام الحكم الإسلامي (نسخة منقحة)



.الشورى وعلماء السلف:

قلت أن منطق التجهيل والتفسيق، وإخراج المسلم من دائرة السلف لخلاف في الرأي أمر مرفوض، وقلت أن رمي المسلم لأخيه المسلم بالآيات التي نزلت بشأن اليهود أسلوب مستنكر وفتنة عظيمة- وكان قد مضى شيء من ذلك وقع فيه الأخ محمد سلامة جبر في رده على الأخ إبراهيم الصديقي.
وقلت أيضًا بأن قوله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم {وشاورهم في الأمر} على ظاهرها من الوجوب في حق الرسول صلى الله عليه وسلم وأجبت عن شبهات الأخ محمد سلامة ودعواه أنها ليست للوجوب لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ترك الشورى في أمهات المسائل - وحاشاه ذلك صلى الله عليه وسلم وإذا كانت للوجوب في حقه صلى الله عليه وسلم وهو من هو نظرًا ورأيًا ورجاحة عقل واستنادًا إلى الوحي وتأييدًا بروح القدس فكيف بمن بعده صلى الله عليه وسلم؟.
واليوم أنا معك أخي القارئ لنناقش أمرًا خطيرًا آخر، ذلك هو دعوى الإجماع على ما ذهب إليه الأخ محمد سلامة، من أن الشورى ليست واجبة في حق الرسول ولا في حق الإمام المجتهد بل هي جائزة!! وادعى أن ذلك هو الإجماع الذي لا مخالف له ولا محيد عنه وأنه حكم الله وحكم رسوله وقول السلف قاطبة، وأن من لم يقل ذلك فقد خالف حكم الله ولم يرض به حيث قال بالنص:
(أقول هذا لأمر قررته، وحكم قضيته (هكذا!!) لم أقل فيه برأيي-وأعوذ بالله من القول بالرأي- ولا أفتيت باجتهادي فلست من أهل ذلك المقام، وإنما حكيت ما لا أعلم له مخالفًا من علمائنا الأعلام، ولا أعرف له رادًا من أسلافنا الكرام) (البلاغ العدد 218-ص32).
واليوم أخي القارئ سأعفيك من رأيي وتعال ننظر ما قال السلف في هذه الآية {وشاورهم في الأمر}.
قال أبو حيان في البحر المحيط عن ابن عطية قوله: (الشورى من قواعد الشريعة، وعزائم الأحكام، ومن لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب هذا مما لا خلاف فيه) أ.هـ (البحر ج3 ص99).
ونقل هذا القول أيضًا الشوكاني في فتح القدير (ج1 ص360).
أرأيت قوله أن الشورى من قواعد الشريعة أتكون القاعدة أمرًا جائزًا أو أمرًا مستحبًا؟ ثم أرأيت قوله بأنه إذا ثبت أن الإمام لا يستشير أهل العلم والدين وجب عزله!! ثم أرأيت قوله بأن هذا مما لا خلاف فيه!.
عجبًا أرأيت هذه الدعوى لابن عطية التي ينقلها عنه من سلف ويثبتونها في كتبهم والتي يقول فيها ابن عطية-وقوله حق- إن السلف قاطبة على هذا هل العلم الموافق للنص أو ما ذهب إليه الأستاذ محمد سلامة، من أن الشورى أمر جائز وحالة استثنائية ولا تجب إلا على إمام مقلد. وهل يجوز أن يكون هناك إمام مقلد!!؟.
-لهذا كلام مستقل يأتي إن شاء الله-.
قال الفخر الرازي في تفسيره ج3 ص83.
(ظاهر الأمر للوجوب فقوله وشاورهم في الأمر يقتضي الوجوب).
وهذا نص لا يحتاج إلى تعليق. ثم انظر معي كيف يرد الفخر الرازي قول من يقول بأن الأمر هنا للاستحباب:-
(وحمل ذلك الشافعي على الندب فقال هذا كقوله عليه السلام البكر تستأمر في نفسها ولو أكرهها الأب على النكاح جاز لكن الأولى ذلك تطييبًا لنفسها فكذا هنا).
قال الفخر الرازي قبل ذلك:- (والتحقيق في القول أنه تعالى أمر أولي الأبصار بالاعتبار فقال فاعتبروا يا أولي الأبصار وكان عليه السلام سيد أولي الأبصار، ومدح المستنبطين فقال سبحانه: {لعلمه الذين يستنبطونه منهم}، وكان صلى الله عليه وسلم أكثر الناس عقلًا وذكاء وهذا يدل على أنه كان مأمورًا بالاجتهاد إذا لم ينزل عليه وحي، والاجتهاد يتقوى بالمناظرة والمباحثة فلهذا كان مأمورًا بالمشاورة، وقد شاورهم يوم بدر في الأسارى وهو من أمور الدين..)، ثم انظر بعد ذلك كيف يعيب الرازي من يخصصون النص بالقياس فيقول بعد النص السالف مباشرة:
(والدليل على أنه لا يجوز تخصيص النص بالقياس أن النص كان لعامة الملائكة في سجود آدم ثم ان إبليس خص نفسه بالقياس وهو قوله خلقتني من نار وخلقته من طين فصار ملعونًا فلو كان تخصيص النص بالقياس جائزًا لما استحق اللعن بهذا السبب).
هذه بعض آراء السلف واضحة صريحة وهذا حجاجهم فيما ذهبوا إليه. ولكن العجب أن الأستاذ محمد سلامة قد رد الوجوب في الآية بما لا أظن أن أحدًا من السلف قاله فقد قال بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد ترك الشورى في أمهات المسائل وقد أجبت عن هذا في المقال السابق، وحيث قلت أنني سأعفي القارئ من رأيي في هذا المقال فإني سأستشهد في هذا الأمر بسيد من سادات السلف حفظ مسند الإمام أحمد وهو خمسة وثلاثين ألف حديث وكتب خير سيرة للرسول والخلفاء ودول الإسلام وكتب خير التفاسير ذلكم هو ابن كثير رحمه الله قال في كتابه التفسير ج2 ص142: ({فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر} ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه في الأمر إذا حدث تطييبًا لقلوبهم ليكون أنشط لهم فيما يفعلونه. كما شاورهم يوم بدر في الذهاب إلى العير.. وشاورهم أيضًا أين يكون المنزل..
وشاورهم في أحد في أن يقعد في المدينة أو يخرج إلى العدو..، وشاورهم يوم الخندق في مصالحة الأحزاب بثلث ثمار المدينة عامئذ، فأبى عليه السعدان سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، فترك ذلك، وشاورهم يوم الحديبية في أن يميل على ذراري المشركين. فقال له الصديق إنا لم نجيء لقتال أحد وإنما جئنا معتمرين فأجابه إلى ما قال، وقال في حديث الإفك «أشيروا عليّ معشر المسلمين في قوم أبنوا أهلي ورموهم، وايم الله ما علمت على أهلي من سوء!! وأبنوهم بمن؟ والله ما علمت عليهم إلا خيرًا»، واستشار عليًّا وأسامة في فراق عائشة رضي الله عنها، فكان يشاورهم في الحروب ونحوها).
انتهى منه بلفظه مع حذف بعض الفقرات الزائدة عن مواضع الاستشهاد لأنها استطراد لما حدث بعد الشورى.
أرأيت أخي القارئ- بعد هذا كيف أن دعوى ترك الرسول للشورى في أمهات المسائل دعوى بلا برهان. فالعجب بعد ذلك من الأخ محمد سلامة قال:- (حكيت ما لم أعلم له مخالفًا.. وأعوذ بالله من القول بالرأي) سبحان الله إذا لم يكن هذا رأي فأين الرأي إذن؟!.
وإذا كان الرسول تاركًا للشورى في أمهات المسائل فلماذا يفعلها في أموره الخاصة والمحرجة أيضًا!!.
والأمر الخطير كل الخطر فيما ذكره الأخ محمد سلامة هو ادعاؤه الإجماع على كل ما قاله وهذا يعني أن كل قول مخالف إنما هو خروج عن سبيل المؤمنين وذلك قال ما قال في شأن الأخ إبراهيم الصديقي وقد علمت-أخي القارئ- من صدر المقال أن وجوب الشورى هو الذي كان عليه عامة السلف قبل ابن عطية ولذلك قال: (هذا مما لا خلاف فيه) فكيف يدعي الأخ الكاتب الإجماع على أن الشورى غير واجبة. هذا أمر خطير جدًا!!.
واعلم أخي القارئ، أن الخلاف في الآية فقط إنما هو هل الشورى تلزم الرسول أم لا؟.
ولذلك قال ابن كثير رحمه الله:- (وقد اختلف الفقهاء هل كان ذلك واجبًا عليه أو من باب الندب تطييبًا لقلوبهم) على قولين.
إذن الخلاف هو في شأن الرسول وليس في شأن الأئمة بعده. وأما رأي الشافعي رحمه الله فقد علمت رد الفخر الرازي له واعلم أيضًا أن الشافعي قاس أمر الشورى على مشاورة البكر في الزواج وهو يراها غير واجبة بل للأب أن يزوج ابنته بغير رضاها وهذا أيضًا خلاف للحديث فالأمر المقيس له باطل أيضًا بل يجب على الأب استئذان ابنته البكر في الزواج كما دلت على ذلك النصوص وليس هنا مجال تفصيل هذا الأمر.

.لا غنى لولي الأمر عن المشاورة:

وأما الإمام ابن تيمية رحمه الله وهو من هو منزلة في علماء السلف فإنه يقول:- (لا غنى لولي الأمر عن المشاورة فإن الله تعالى أمر بها نبيه صلى الله عليه وسلم) أ.هـ.
انظر قوله (لا غنى لولي الأمر عن المشاورة) لتعلم أنه يقول بوجوبها لأن ما لا غنى لك عنه فهو واجب وما يجوز أن تستغني عنه فليس بواجب وقد اعتمد رحمه الله على الوجوب بالآية النازلة في حق الرسول صلى الله عليه وسلم وهي قوله تعالى: {وشاورهم في الأمر} (انظر السياسة الشرعية ص135).
ثم استدل على ذلك أيضًا بحديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم كان أكثر الناس مشورة لأصحابه. ثم روى القول الثاني في تفسير الآية وهو أن الله قد أمر بالشورى نبيه لتأليف قلوب أصحابه ورواها بصيغة التضعيف (وقد قيل) ثم قال بعد ذلك (فغيره صلى الله عليه وسلم أولى بالمشاورة) أي إذا كان الله قد أمر بذلك نبيه صلى الله عليه وسلم فغيره أولى لأن الرسول صلى الله عليه وسلم مؤيد بالوحي. فهل يجوز بعد أن يقول أحد ليست الشورى لازمة ولا ملزمة ولا مخالف لذلك من علماء السلف!!؟.
وأما شيخ أهل التفسير كلهم ابن جرير رحمه الله فيقول في تفسيره عند أية الشورى بعد أن ذكر أقوال الناس فيها:
(وأولى الأقوال بالصواب أن يقال إن الله عز وجل أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بمشاورة أصحابه فيما حزمه من أمر عدوه ومكايد حربه تألفًا منه بذلك من لم يكن بصيرته بالإسلام البصيرة التي يؤمن عليه فتنة الشيطان، وتعريفًا منه أمته ما في الأمور التي تحزبهم من بعده، ومطلبها ليتقدوا به في ذلك عند النوازل التي تنزل بهم فيتشاوروا فيما بينهم كما كانوا يرونه في حياته صلى الله عليه وسلم بفعله).
وهذا نص صريح أيضًا من الطبري رحمه الله فهو وإن كان يرى أن الله قد أغنى نبيه عن آراء الناس إلا أن ذلك كان تأليفًا لأصحابه حتى لا يظنوا أنه يستأثر بالأمر دونهم، وليكون هذا سنة مثبتة في أمته من بعده فيقتدوا به صلى الله عليه وسلم، ولا يمكن أن يكون أمر الشورى سنة مثبتة إلا إذا كان الأمر بها لازمًا.
لست أرى بعد عرض كل هذه الأقوال لعلماء السلف رضوان الله عليهم إلا التحذير من أن يتكلم إنسان ما باسمهم وهو لم يطلع على أقوالهم.
ثم إنني أذكر بأننا أمة وصلنا الحضيض الآن لعوامل كثيرة كان من أهمها استئثار بعض حكامها بالأمر دونهم فأي سند شرعي للظلم والاستبداد أبلغ من أن يقال لا يجب على ولي الأمر المجتهد أن يستشير بل له أن يبت برأيه فيما ينزل بأمته من نوازل!!.
ثم إنني لست أدري كيف نسمي ولي الأمر هذا الذي لا يستشير مجتهدًا والشورى لازمة من لوازم الاجتهاد، وهل يستطيع إمام ما أن يصل إلى اجتهاد صحيح في نازلة من النوازل دون استشارة أهل الرأي والخبرة والتجربة؟!.
هذا ما لا أظن عاقلًا يخالف فيه.
فالقول بأن الإمام المجتهد له أن ينفرد برأيه دون مشورة ويحكم في الناس بما أداه إليه اجتهاده ظاهر السقوط واضح البطلان. لأن الشورى من لوازم الاجتهاد.