فصل: أخطر من الشورى:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الشورى في ظل نظام الحكم الإسلامي (نسخة منقحة)



.أخطر من الشورى:

تابعت باهتمام المناقشة حول الشورى في مجلة البلاغ، وكان ذلك بطلب من الأستاذ محمد سلامة جبر الذي أراد معرفة رأيي في الموضوع.
قرأت مقالي الأستاذ محمد سلامة جبر الأولين ثم رد الأستاذ إبراهيم الصديقي، ثم قرأت المقال الثالث الذي رد فيه على الأستاذ إبراهيم وما انتهيت منه حتى رأيتني أحمل عبئًا كبيرًا، وألمًا مضافًا إلى الآلام التي أحملها- ويشاركني في حملها كل مسلم يحس بآلام المسلمين ومشاكلهم.
فقد كان عنوان المقال خارجًا عن مضمون البحث وموضوعيته (الفقه الفقه يا معشر المتفقهين!) وتحت هذا العنوان عنوانان آخران مثيران (لو كان أبا حنيفة حيًّا وسمع هذا الكلام لمات بالسكتة القلبية!) (من أعطى أبا بكر وعمر وعثمان شهادة الدكتوراه..) وهذه العناوين الثلاثة لا علاقة لها بموضوع الخلاف وهي الشورى، وإنما هي وعظ وإرشاد للمتفقهين وتشنيع على الأستاذ الذي خالف الأستاذ محمد سلامة رأيه حول الشورى.
وقلت في نفسي إذا كان هذا هو العنوان فكيف بالموضوع ذاته؟.
لقد قدم الأستاذ محمد سلامة رده مستدلًا بآيات وأحاديث وأقوال لبعض العلماء، ولا شك أن الاستدلال بهذه الآيات في موطن الرد يلزم منه أن المقصود بها هو المردود عليه فتعالوا ننظر طرفًا مما استدل به:
(العلم نكتة واحدة كثرها الجهل) هذا قول نقله عن الغزالي ولا يعني هذا إلا أن الأستاذ إبراهيم الصديقي رجل جاهل..
يدل على هذا المقصود الشرح الآتي بعد الاستشهاد السابق:
لقد كانت الكلمة الواحدة تكفي في عصر الصحابة.. ثم لما عم الجهل، وفشا وطم، احتجنا إلى مجلدات لبيان مسألة واحدة، فهل ألف الأستاذ محمد مجلدات لبيان مسألة واحدة مما يجهله الناس أم أنه محتاج كغيره إلى هذه المجلدات لبيان المسألة الواحدة؟.
- استدل أيضًا بحديث عائشة رضي الله عنها «إن الله لا ينزع العلم من الناس انتزاعًا، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، فإذا لم يبق عالمًا اتخذ الناس رؤوسًا جهالًا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا» فهل يعني الأستاذ أن غريمه الذي خالفه الرأي في لزوم الأخذ بالشورى للإمام رأسًا جاهلًا! أم ساق الحديث لمعنى آخر لا نفهمه نحن؟
- «أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار» وهذا يوحي بأن غيره تجرأ وأنه لم يتجرأ.
ثم ساق الأستاذ محمد سلامة، كلامًا طويلًا في وجوب التسليم لحكم الرسول صلى الله عليه وسلم وأنه ليس مسلمًا من لم يفعل ذلك، وهذا معناه أن الرجل الآخر الذي خالفه الرأي كأنما قال لا أرضى بحكم الله ورسوله وإنما أرضى بحكم البشر ثم ختم هذه المقدمة بقوله بالنص:
(فلعلني أطلت في التمهيد إلا أنه كلام لا مفر عنه فلقد تطاول الكثيرون على الأحكام، وتجرأوا على الفتيا بلا برهان، وزعموا أن ذلك هو الإسلام، وإن كان قد وقع ذلك ممن نعلم أمرهم، ونكشف جهلهم وعوارهم فما ذلك بالأمر العجيب، ولا هو علينا بمستبعد غريب) أ.هـ.
ولم يكتف الأستاذ بهذا كله قبل أن يقاضي الرجل فيما قال وما رد به النصوص حتى رماه بما هو أعظم من ذلك حيث قال:
(أما أن يجرؤ هذا على الفتوى برأيه، دون سند من علم يستنير به أو أهلية يتقدم بها، فهذا ما أخافه كل خوف على أنفسنا، فإنما هلك من كان قبلنا بالرأي والهوى، وضل من ضل بفتنتهم، وتقديمهم المعقول على المنقول)، ثم استدل بعد ذلك بآية نزلت في شأن اليهود حيث قال: {وحسبوا أن لا تكون فتنة فعموا وصموا}..
فتذكرت السياق القرآني الذي جاءت فيه هذه الآية فإذا هو كما يلي:
{لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلًا كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقًا كذبوا وفريقًا يقتلون وحسبوا أن لا تكون فتنة فعموا وصموا} الآية!.
فقلت سبحان الله آية في اليهود يقذف بها مسلم في وجه أخيه المسلم حيث خالفه الرأي في مسألة الحق فيها-إن شاء الله- كما سترى أيها القارئ مع الذي سيقت إليه كل هذه التهم ورمي بكل هذه النصوص!
وهنا أيقنت أننا أمام قضية أخطر من بحث قضية الشورى أنها قضية الفرقة والخلاف، قضية الرمي بالجهل والفسق والكفر من المسلم للمسلم. قضية الطريق الوعر في الوصول إلى الحق. وليس ما عرضته الآن أمامك أيها القارئ إلا حلقة من حلقات طويلة للفرقة والخلاف الذي نعيش فيه، ولا أعني بالفرقة اختلاف الرأي ولكني أعني به رمي المسلم للمسلم بما قرأت، وما تقرأ كل يوم على صفحات الكتب والمجلات.
فهل كتب علينا أن نتجرع كل يوم آثار هذه الفرقة! وإلى متى؟ وممن؟ من الذين يهتمون بالثقافة الإسلامية والنصح للمسلمين! هذا منطق مرفوض، وأسلوب عقيم يجب أن نعمل جميعًا على رفضه وإقصائه.
وإذا كان الأستاذ محمد سلامة جبر قد طلب رأيي في الموضوع، وهو صديق عزيز فلن تمنعني صداقته من أن أقول له. لقد أخطأت يا صاحبي الطريق وغاليت في الأمر ورميت أخاك الذي يخالفك الرأي بما لا يجوز مسلم لمسلم قطعًا. وهب أن الحق معك أفهكذا تكون الدعوة إليه وأنت ممن يشهد على نفسه باتباع مسلك السلف والتمسك بالمأثور؟
وما دمنا في صدد رمي الأخ أخاه بما ليس فيه فقد جاءت عبارة في مقال الأستاذ إبراهيم الصديقي يقول فيها: ثم أين هذا من إيراده لقول ابن تيمية في كتابه السياسة الشرعية (ستون سنة من إمام جائر أصلح من ليلة واحدة بلا سلطان) فهل يمكن أن يكون هذا القول قاعدة لبناء دولة وفتوى دستورية شرعية اقتنع بها الكاتب أم أنه قول ربما قيل لظروف سياسية أكثر منها شرعية.
ولنا هنا أيضًا عتاب مع الأخ إبراهيم الصديقي الذي رمى الإمام ابن تيمية-وإن كان رميه بتغليب جانب الشك- بأنه قال قوله السالف لظروف سياسية وليس لبيان حكم شرعي نقول: هل اطلعت على رأيه في الكتاب المذكور وعلى السياق الذي ساقه فيه حتى تصدر هذا الحكم.
وهل سمعت أن ابن تيمية الذي أمضى سنوات طويلة من عمره سجينًا ومات في سجنه كان يدبج فتاواه لإرضاء الحكام والسلاطين وهو الذي وقف حياته على الجهاد في سبيل الله فرد على أهل الأهواء من معطلة الصفات ونفاتها ومن المتصوفة المغالين ودعاة الباطنية، والرافضة، والمقلدين الجامدين وكتبه وسيرته شاهدة بذلك. ونحيلك على كتابه المذكور لتعلم أنه قال هذا القول في إمامة الضرورة والاضطرار لا في حكم الشورى والاختيار. هذا ولقد كان لسوء استدلال الأستاذ محمد سلامة بهذا النص نصيب في تجويزه إمامة غير المجتهد وهذا لم يقله أحد من سلف الأمة إلا في حكم الضرورة والإجبار كما سلف عن ابن تيمية رحمه الله.
لقد تعرض الأستاذ محمد سلامة جبر في كلامه في الشورى لقضايا بالغة الخطورة واستدل بأدلة عليها لا يخلو دليل مما استدل به على نقاش ولست بخائض غمار هذا الأمر إلا أن يكون لدى قراء المجلة ما يدعوهم إلى هذا الأمر وعند ذلك أتجشم مشقته، وأحمل تبعته.
ومن الأمور الخطيرة التي وصل إليها جواز إمامة المقلد هكذا على إطلاقها ونسبة هذا القول إلى الإمام ابن تيمية رحمه الله والسلف. وقد ذكرت أن كلام ابن تيمية في هذا الصدد إنما هو في إمامة الجبر والإكراه لا الشورى والاختيار. والأمر الخطير الآخر هو أن استشارة الإمام المجتهد لأهل الشورى مستحبة لا واجبة وقد ورد الوجوب الثابت في قوله تعالى: {وشاورهم في الأمر} بأدلة في غاية العجب.
- الأمر الأول: أنه مستغن بالوحي عن الشورى.. ومعلوم أن مجال الشورى هو ما لا نص فيه من الله، فالرسول صلى الله عليه وسلم مأمور أن يستشير أصحابه رضوان الله عليهم فيما لا وحي فيه من الله. لأنه كان مفروض عليه أن يجتهد في مسائل كثيرة وهذه المسائل هي مجال الشورى، وغير الرسول صلى الله عليه وسلم من الأئمة يجب عليهم الاستشارة فيما لا نص فيه من الله عز وجل أو في مجالات تطبيق النصوص.
وأما القول بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أمره الله بهذا تطييبًا لخاطر أصحابه فإنما هي دعوى تحتاج إلى دليل وبرهان على ذلك من قول الله أو قول رسوله صلى الله عليه وسلم؟
وأما قول الأخ محمد سلامة بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تركها في الأمهات من المسائل فليس بصحيح إطلاقًا فالتوجه إلى بني قريظة كان بأمر الله حيث أتاه جبريل فقال له: (إن الله يأمرك أن تذهب إلى بني قريظة!) ومعلوم أن هذا أمر لا يحتاج إلى استشارة ولذلك جمع الناس في المسجد في صلاة الظهر وقال لهم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة!».
وأما عزمه علي مصالحة قبائل غطفان الذي استدل به الأستاذ محمد سلامة فلست أدري هل يحتاج العزم على فعل ما إلى استشارة ومعلوم أن العزم هو أمر يراه الإنسان لم يخرج بعد إلى الوجود!.
- وأما صلح الحديبية- الذي استدل به أيضًا على أن الرسول أنفذه دون استشارة فهو استدلال غريب لأن هناك نصوصًا صريحة واضحة تدل على أن الرسول أنفذ هذا الصلح بأمر الله تبارك وتعالى ومعلوم أن ما فيه نص من الله فليس من مواطن الشورى. ألا ترى أن ناقة الرسول بركت قبل مكة. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لقد حبسها حابس الفيل عن مكة!» ومعلوم أن ناقة الرسول كانت مأمورة. ألا ترى أن مكان مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم الحالي بالمدينة المنورة لم يعينه إلا بروك ناقته صلى الله عليه وسلم. وأصرح من قول الرسول صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه لما اعترض على الصلح: «إنه ربي ولن يضيعني» أي نص أوضح من هذا يبين أن صلح الحديبية كان بأمر ووحي. لو كان غير ذلك لقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: (يا عمر إنه رأي رأيته راجحًا وعليك التزام أمري إن كنت مؤمنًا).
ولكننا علمنا أنه صلى الله عليه وسلم لما قال «إنه ربي ولن يضيعني» إنه فعل ذلك بأمر الله تبارك وتعالى.
ولو قلنا مع الأخ محمد سلامة أن الشورى لم تلزم الرسول صلى الله عليه وسلم فما هو موقفنا من وصف الله للمؤمنين بالجملة الاسمية التي تدل على الثبات والاستقرار {وأمرهم شورى بينهم}؟؟!.
ألا يرى الأخ الكريم أن في قوله بأن الرسول صلى الله عليه وسلم ترك الشورى في أمهات المسائل تكذيب للأثر الصحيح حديث أبي هريرة «ما رأيت أحدًا أكثر استشارة لأصحابه من رسول الله لأصحابه» وهذا يعني أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان أكثر استشارة لأصحابه من أبي بكر لأصحابه، ومن عمر لأصحابه، ومن عثمان لأصحابه، ومن علي لأصحابه.
ثم ألا يرى معي الأخ الكريم أن إطلاق هذا القول إنما هو خدمة جليلة للاستبداد بالرأي، وقتل الحريات، وإماتة النصيحة في وقت نحن أشد ما نكون إلى تقييد سلطة الحاكم، فضلًا عن أنه مصادمة للنصوص.
البحث طويل وهناك أمور كثيرة جدًا تحتاج إلى نقاش، ولعلي أوفق إلى بيان بعضها والله أسأل للجميع التوفيق والسداد والصلاح.