فصل: باب في خفة الظهر وقلة العيال والأهل

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: العزلة **


  كتاب آداب العزلة

بسم الله الرحم الرحيم

أخبرنا الفقيه أبو زكريا يحيى بن مطرف قال‏:‏ أخبرنا الفقيه أبو محمد جعفر بن محمد بن علي المروزي رضي الله عنهما قال أخبرنا الشيخ أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي رضي الله عنه‏.‏

وأخبرنا الشيخ أبو الحسن علي بن محمد بن نصر اللبان الدينوري قال حدثنا الشيخ أبو عمرو محمد بن عبد الله بن أحمد الفارسي رحمه الله قال أخبرنا الشيخ أبو سليمان قال‏:‏ الحمد لله رب العالمين أبدا وصلى الله على محمد دائما سرمدا‏.‏

فهمت قولك أخي - ألهمك الله الصواب وأراك المحاب - وما قد أذكرتني به من أمر كتاب ‏(‏العزلة‏)‏ وبعثتني عليه من إتمامه بعد إبتدائه والفراغ منه بعد إنشائه‏.‏

وما يشكونه مع ذلك من طول مأخذه‏.‏

وما خفته من الملال على الناظر فيه وسألت أن ألتقط لك جوامعه وأحذف أطرافه وزوائده وأسدد بالقول فيه نحو الغرض لا أعدوه ولا أتجاوزه ليكون أوجز في القول وأسهل إلي على الذكر‏.‏

فرأيت إسعافك به والمصير إلى مسرتك وأنحوه من موافقتك‏.‏

ما أحببت منه أمرا لازما لي فيما أتوخاه من ثم إني لم أر شيئا منه في المقدار الذي انتهى إليه كان زائدا على قدره أو خارجا عن حده أخبرنا أبو سليمان قال حدثنا الأصم قال حدثنا الربيع بن سليمان قال أخبرنا الشافعي قال أخبرنا سفيان بن عيينة عن عبد الله بن أبي لبيد عن ابن سليمان بن يسار عن أبيه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏‏(‏من سره بحبوبة الجنة فليزم الجماعة فإن الشيطان مع الفذ وهو من الاثنين أبعد‏)‏‏.‏

أخبرنا أبو سليمان قال أخبرنا محمد بن هاشم قال‏:‏ حدثنا الدبري عن عبد الرزاق قال حدثنا معمر عن أيوب عن غيلان بن جرير عن زياد بن رياح عن أبي هريرة قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏من فارق الجماعة فمات فميتته جاهلية).‏

أخبرنا أبو سليمان قال حدثنا إبراهيم بن فراس قال حدثنا موسى بن هارون حدثنا الهيثم بن أيوب الطالقاني حدثنا يحيى بن سليم أخبرنا إبراهيم بن ميمون الصنعاني قال سمعت ابن طاوس يحدث عن أبيه عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(من شق عصا المسلمين - والمسلمون في إسلام دامج - فقد خلع ربقة الاسلام‏).‏

قالوا‏:‏ قد نطقت هذه الأخبار بأن المعتزل عن الناس المنفرد عنهم مفارق للجماعة شاد عن الجملة شاق لعصا الأمة خالع للربقة مخالف للسنة قال الشيخ أبو سليمان‏:‏ قالوا وأقل ما في العزلة أنها إذا امتدت واستمرت بصاحبها صارت هجرة وقد نهى رسول الله صلى الله عليه أخبرنا أبو سليمان قال حدثنا ابن الأعرابي وعمر بن أحمد المستوفي قال حدثنا أبو مسلم قال حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري قال حدثنا سليمان التيمي عن أنس قال قال رسول الله صلى الله لعيه وسلم (‏لا هجرة بين المسلمين فوق ثلاثة أيام أو قال ثلاث ليال‏)‏.‏

فالجواب وبالله التوفيق أن الآي التي تلوها في ذم العزلة والأحاديث التي رووها في التحذير من مفارقة الجماعة لا يعترض شيء منها على المذهب الذي نذهب إليه في العزلة ولا يناقض تفصيلها جملته لكنها تجري معه على سنن الوفاق وقضية الإئتلاف والاتساق وسأوضح لك التوفيق بينهما بما أقسمه لك من بيان وجوهها وترتيب منازلها‏.‏

قال الشيخ أبو سليمان فأقول‏:‏ الفرقة فرقتان فرقة الآراء والأديان وفرقة الأشخاص والأبدان والجماعة جماعتان‏:‏ جماعة هي الأئمة والأمراء وجماعة هي العامة والدهماء‏.‏

فأما الإفتراق في الآراء والأديان فإنه محظور في العقول محرم في قضايا الأصول لأنه داعية الضلال وسبب التعطيل والإهمال‏.‏

ولو ترك الناس متفرقين لتفرقت الآراء والنحل ولكثرت الأديان والملل ولم تكن فائدة في بعثة الرسل وهذا هو الذي عابه الله عز وجل من التفرق في كتابه وذمه في الآي التي تقدم ذكرها‏.‏

وعلى هذه الوتيرة نجري الأمر أيضا في الافتراق على الأئمة والأمراء فإن في مفارقتهم مفارقة الألفة وزوال العصمة والخروج من كنف الطاعة وظل الأمنة وهو الذي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه وأراده بقوله صلى الله عليه وسلم ‏(‏من فارق الجماعة فمات فميتته جاهلية‏) وذلك أن أهل الجاهلية لم يكن لهم إمام يجمعهم على دين ويتألفهم على رأي واحد بل كانوا طوائف شتى وفرقا مختلفين آراؤهم متناقضة وأديانهم متباينة وذلك الذي دعا كثيرا منهم إلى عبادة الأصنام وطاعة الأزلام رأيا فاسدا اعتقدوه في أن عندها خيران وأنها تملك لهم نفعا أو تدفع عنهم ضرا‏.‏

وأما عزلة الأبدان ومفارقة الجماعة التي هي العوام فإن من حكمها أن تكون تابعة للحاجة وجارية مع المصلحة وذلك أن عظم الفائدة في اجتماع الناس في المدن وتجاورهم في الأمصار إنما هو أن يتضافروا فيتعاونوا على المصالح ويتآزروا فيها إذ كانت مصالحهم لا تكمل إلا به ومعايشهم لا تزكوا إلا عليه‏.‏

فعلى الإنسان أن يتأمل حال نفسه فينظر في أية طبقة يقع منهم وفي أية جنبة ينحاز من جملتهم فإن كانت أحواله تقتضيه المقام بين ظهراني العامة لما يلزمه من إصلاح المهنة التي لا غنية له عنها ولا يجد بدا من الاستعانة بهم فيها ولا وجه لمفارقتهم في الدار ومباعدتهم في السكن والجوار فإنه إذا فعل ذلك تضرر بوحدته وأضر بمن وراءه من أهله واسرته‏.‏

وإن كانت نفسه بكلها مستقلة وحاله في ذاته وذويه متماسكة فالاختيار له في هذا الزمان اعتزال الناس ومفارقة عوامهم فإن السلامة في مجانبتهم والراحة في التباعد منهم‏.‏

ولسنا نريد - رحمك الله - بهذه العزلة التي نختارها مفارقة الناس في الجماعات والجمعات وترك حقوقهم في العبادات وإفشاء السلام ورد التحيات وما جرى مجراها من وظائف الحقوق الواجبة لهم وصنائع السنن والعادات المستحسنة فيما بينهم فإنها مستثناة بشرائطها جارية على سيلها ما لم يحل دونها حائل شغل ولا يمنع عنها مانع عذر‏.‏

إنما نريد بالعزلة ترك فضول الصحبة ونبذ الزيادة منها وحط العلاوة التي لا حاجة بك غليها فإن من جرى في صحبة الناس والاستكثار من معرفتهم على ما يدعو إليه شغف النفوس وإلف العادات وترك الاقتصاد فيها والاقتصار الذي تدعوه الحاجة إليه كان جديرا ألا يحمد غبه وأن تستوخم عاقبته وكان سبيله في ذلك سبيل من يتناول الطعام في غير أوان جوعهن ويأخذ منه فوق قدر حاجته فإن 1 لك لا يلبث أن يقع في أمراض مدنفة وأسقام متلفة وليس من علم كمن جهل ولا من حرب وامتحن كمن ماد وخاطر‏.‏

ولله در أبي الدرداء حيث يقول‏:‏‏ (وجدت الناس أخبر تقله‏) قال أنشدني ابن أبي الدق قال أنشدنا شكر قال أنشدني ابن أبي الدنيا‏:‏ مَن حَمَدَ الناسَ وَلَم يَبلِهٍم ثُمَّ بَلاهُم ذَمّ مَن يَحمُدِ ولنذكر الآن ما جاء في مدح العزلة وما روي فيها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمن بعده من الصحابة وعمن وراءهم من أهل العلم والفضل ونخبر عن محلها من الحكمة وموقعها من المصلحة لينظر المرء لدينه ويحسن الارتياد لنفسه ونسأل الله السلامة من شر هذا الزمان وأهله إنه لا خيفة على من حفظه ولا وحشة على من عرفه‏.‏

  باب ما جاء في العزلة

قال الله تعالى ذكره حكاية عن إبراهيم صلى الله عليه وسلم ‏(وَأَعتَزَلَكُم وَما تَدعونَ مِن دونِ اللَهِ وَأَدعو رَبي عَسى أَلا أَكونَ بِدُعاءِ رَبي شَقِياً‏).‏

اعتصم خليل الله سبحانه بالعزلة واستظهر بها على قومه عند جفائهم إياه وخلافهم له في عبادة الأصنام ومعاندة الحق وكفاه الله تعالى أمرهم وعصمه من شرهم وأثابه على ذلك بالموهبة الجزيلة وعوضه النصرة بالذرية الطيبة قال الله - وهو أجل قائل - (‏فَلَما اِعتَزَلَهُم وَما يَعبدونَ مِن دونِ اللَهِ وَهبنا لَهُ إسحاقَ وَيعقوبَ وَكُلاً جَعَلنا نَبِيا‏)‏ .‏

وقال تعالى في قصة موسى عليه السلام ‏(‏وَإِنّي عُذتُ بِرَبي وَرَبِكُم أَن تَرجمون وَإِن لَم تُؤمِنوا بِي فاعتَزِلون)‏ فزع نبي الله تعالى إلى العزلة حين ظهر له عنادهم في قبول الدعوة وإصرارهم على منابذة الحق وقال تعالى ذكره في قصة أصحاب الكهف‏:‏ (‏وَإذ اعتَزلتُموهُم وَما يَعبدونَ إِلاّ اللَهَ فَأووا إِلى الكَهفِ يَنشُر لَكُم رَبُكُم مِن رَحمَتِهِ وَيُهيىء لَكُم مِن أَمرِكُم مِرفَقاً‏‏) وكانوا قوما كرهوا المقام بين ظهراني بأهل الباطل ففروا من فتنة الكفر وعبادة الأوثان فصرف الله تعالى عنهم شرهم ودفع عنهم بأسهم ورفع في الصالحين ذكرهم‏.‏

قال الشيخ أبو سليمان رضي الله عنه‏:‏ وقد اعتزل رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه قريشا لما جفوه وآذوه فدخل الشعب وأمر أصحابه باعتزالهم والهجرة إلى أرض الحبشة ثم تحول إلى المدينة مهاجرا حتى تلاحق به أصحابه وتوافوا بها معه فأعلى الله تعالى كلمته وتولى إعزازه ونصره صلى الله عليه وسلم‏.‏

والعزلة عند الفتنة سنة الأنبياء وعصمة الأولياء وسيرة الحكماء والأولياء فلا أعلم لمن عابها عذرا لا سيما في هذا الزمان القليل خيره البكيء دره وبالله نستعيذ من شره وريبه‏.‏

أخبرنا الشيخ أبو سليمان قال أخبرنا ابن الأعرابي قال حدثنا أبو يحيى بن أبي مسرة قال‏:‏ حدثنا سعيد بن منصور قال حدثنا ابن المبارك قال حدثنا يحيى بن أيوب عن عبيد الله بن زحر عن علي بن زيد عن القاسم عن أبي أمامة قال ‏(قال عقبة بن عامر الجهني‏:‏ يا رسول الله ما النجاة قال‏:‏ ليسعك بيتك وأمسك عليك دينك وابك على خطيئتك)‏‏.‏

أخبرنا أبو سليمان قال حدثنا جعفر بن نصير الخلدي قال حدثنا الحارث ابن أبي أسامة قال حدثنا أبو نعيم قال حدثنا يونس عن هلال بن خباب أبي العلاء قال حدثني عكرمة قال حدثني عبد الله بن عمرو بن العاص قال ‏بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ذكر الفتنة - أو ذكرت عنده - فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ (‏إذا رأيتم الناس مرجت عهودهم وخفت أماناتهم وكانوا هكذا) وشبك بين أصابعه قال‏:‏ فقمت إليه فقلت‏:‏ كيف أفعل عند ذلك جعلني الله فداك فقال صلى الله لعيه وسلم‏:‏ (‏الزم بيتك واملك عليك لسانكن وخذ ما تعرف ودع ما تنكر وعليك بأمر الخاصة ودع عنك أمر العامة‏).‏

قال الشيخ رضي الله عنه‏:‏ قد نصح صلى الله عليه وسلم كثيرا ولم يأل شفقة ونصحا وكان جديرا أن يفعل ذلك وبه وصفه الله تعالى في كتابه قال سبحانه وتعالى (‏عَزيزٌ عَلَيهِ ما عَنِتُم حَريصٌ عَلَيكُم بِالمُؤمِنِين رَءوفٌ رَحيم‏) وذلك أن قسم له كل واحد من أمر دينه ودنياه إلى قسمين اثنين فقال في الأول وهو قسم أمر الدين (خذ ما تعرف‏) فكان هذا إشارة إلى معهود تعارفوه فيما بينهم وكان الذي تعارفوه معهودا من حقوق الأئمة ومتعلقا بهم من أمور الدين‏:‏ إقامة الصلاة خلفهم وأداء الزكاة إليهم وجهاد الكفار معهم إلى ما يشبه هذا من الأمور التي يليها الأمراء فأمره بطاعتهم فيها ثم قال ‏(ودع ما تنكر‏) وهو كل ما حدث بعده من الفتن ونشب بين بعض أصحابه من الحروب والتنازع في الملك يقول‏:‏ إذا دعوك إلى شيء منها فدعهم واعتزلهم ولا تكن معهم‏.‏

ثم قسم صلى الله عليه وسلم له القسمة الثانية التي هي قسم أمر دنياه فقال صلى الله عليه وسلم (‏عليك بأمر الخاصة‏)‏ وهو كل ما يخصه ويعنيه ويخص كل إنسان في ذاته من إعالة أهله وسياسة ذويه والقيام لهم والسعي في مصالحهم ونهاه عن التعرض لأمر العامة والتعاطي لسياستهم والترأس عليهم والتوس في أمورهم فقال صلى الله عليه وسلم (‏دع عنك أمر العامة‏).‏

فقد نظم له صلى الله عليه وسلم الطويل العريض من أمر دينه ودنياه في القصير الوجيز من كلامه‏.‏

أخبرنا الشيخ أبو سليمان قال حدثنا محمد بن بكر بن عبد الرزاق قال حدثنا سليمان بن أشعث قال حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة عن أبيه عن أبي سعيد الخدري قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعاف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن‏.‏

أخبرنا أبو سليمان قال حدثنا محمد بن هاشم قال حدثنا الدبري عن عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن الزهري عن عطاء بن يزيد عن أبي سعيد قال‏:‏ (قال رجل يا رسول الله أي الناس أفضل قال‏:‏ مؤمن مجاهد بنفسه وماله في سبيل الله‏.‏ قال‏:‏ ثم من قال‏:‏ ثم رجل معتزل) في أخبرنا أبو سليمان قال حدثنا أحمد بن سلمان النجار قال حدثنا محمد ابن يونس الكديمى قال حدثنا محمد بن منصور الجشمي قال حدثنا سلم بن سالم قال حدثنا السري بن يحيى عن الحسن عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏)‏ليأتين على الناس زمان لا يسلم لذي دينه دينه إلا من فر بدينه من قرية إلى قرية ومن شاهق إلى شاهق ومن جحر إلى جحر كالثعلب الذي يروغ‏.‏

قالوا‏:‏ ومتى ذاك يا رسول الله قال‏:‏ إذا لم تنل المعيشة إلا بمعاصي الله عز وجل فإذا كان ذلك الزمان حلت العزوبة‏.‏

قال‏:‏ وكيف ذاك يا رسول الله وقد أمرتنا بالتزوج قال‏:‏ لأنه إذا كان ذلك الزمان كان هلاك الرجل على يدي أبويه فإن لم يكن له أبوان فعلي يدي زوجته وولده فإن لم يكن له زوجة ولا ولد فعلى يدي قرابته‏.‏

قالوا وكيف ذاك يا رسول الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ (‏يعيرونه بضيق المعيشة فيتكلف ما لا يطيق حتى يورده موارد الهلكة‏).‏

حدثنا الحسن بن يحيى بن حمويه البرجاني عن محمد بن إسماعيل الصائغ قال حدثنا عفان قال‏:‏ أخبرنا عبد الواحد بن زياد قال حدثنا عاصم الأحول قال حدثني أبو كبشة قال‏:‏ سمعت أبا موسى يقول‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (‏إن بين أيديكم فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل فيها مؤمنا ويمسي كافرا ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا‏.‏القاعد فيها خير من القائم والقائم).

أخبرنا أبو سليمان قال أخبرنا محمد بن هاشم قال‏:‏ حدثنا الدبري عن عبد الرزاق قال أخبر معمر عن اسحاق بن راشد عن عمرو بن وابصة الأسدي عن أبيه قال‏:‏ حدثني عبد الله بن مسعود قال‏:‏ (ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الفتنة وأيام الهرج قلت‏:‏ وما الهرج قال حين لا يأمن الرجل جليسه‏.‏

قلت‏:‏ فبم تأمرني إن أدركت ذلك الزمان قال‏:‏ تكف نفسك ويدك وادخل دارك‏.‏

قال‏:‏ قلت يا رسول الله أرأيت إن دخل على داري قال‏:‏ فادخل بيتك قال قلت يا رسول الله أرأيت أن دخل على بيتي قال‏:‏ فادخل مسجدك واصنع هكذا - وقبض بيمينه على الكوع - وقل ربي الله حتى تموت على ذلك‏).‏

قال الشيخ أبو سليمان قد أنذر رسول الله صلى الله لعيه وسلم أمته أيام الهرج في عدة أخبار وحذرهم فتنة وأوضح في هذا الخبر معناه وذكر أن أمارة الهرج أن لا يأمن الرجل جليسه‏.‏

فتأملوا رحمكم الله فإن كنتم لا تأمنون جلساءكم في هذا الزمان ولا تسلمون على أكثر من تصحبون فاعلموا أن قد حلت العزلة وطاب الهرب وحان الفرار منهم‏.‏

وإن كانوا على خلاف هذا النعت فكونوا لهم على خلاف هذا الرأي وما التوفيق إلا بالله‏.‏

حدثنا أبو سليمان قال حدثنا عبد الله بن محمد المكي قال حدثنا محمد ابن عبد الله بن الجنيد قال حدثنا عبد الوارث عن عبد الله بن المبارك قال أخبرنا شعبة عن حبيب بن عبد الرحمن عن حفص بن عاصم بن عمر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال‏:‏ خذوا بحظكم من العزلة‏.‏

أخبرنا أبو سليمان قال حدثنا محمد بن الطيب المروزي قال حدثنا عليك الرازي قال حدثنا عليك الرازي قال حدثنا محمد بن منصور الجواز قال حدثنا سفيان بن عيينة عن عنبسة بن سعيد القرشي عن إسماعيل بن أمية قال‏:‏ قال عمر رضي الله عنه‏:‏ في العزلة راحة من خليط السوء‏.‏

أخبرنا أبو سليمان قال أخبرنا ابن الأعرابي قال حدثنا بكر بن فرقد قال حدثنا يحيى بن سعيد القطان قال حدثنا إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن طلحة بن عبيد الله قال‏:‏ إن أقل شيء يعيب الرجل أن يجلس في داره‏.‏

أخبرنا الحسن بن يحيى عن موسى بن هارون قال حدثنا العلاء بن سالم قال أخبرنا حفص قال أخبرنا ثوبان عن أبي يحيى الكلاعي قال‏:‏ قال أبو الدرداء‏:‏ نعم صومعة الرجل بيته يكف سمعه وبصره ودينه وعرضه‏.‏

وإياكم والجلوس في الأسواق فإنها تلهي وتلقي‏.‏

أخبرنا أبو سليمان قال حدثنا محمد بن أحمد بن عمرو الزيبقي قال حدثنا محمد بن سنان القزاز قال حدثنا أبو بكر الحنفي قال حدثنا بكير بن مسمار قال سمعت عامر ابن سعد بن أبي وقاص قال‏:‏ كان سعد في إبل له وغنم فأتاه ابنه عمر بن سعد فلما رآه قال‏:‏ أعوذ بالله من هذا الراكب فلما انتهى إليه قال‏:‏ يا أبت أرضيت أن تكون أعرابيا في إبلك وغنمك والناس يتنازعون في الملك قال فضرب سعد صدر عمر بيده وقال‏:‏ اسكت يا بني فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ (‏إن الله يحب العبد التقي الغني الحفي)‏ قال الشيخ‏:‏ كان سعد رحمه الله ممن اعتزل أيام الفتنة فلم يكن مع واحد من الفريقين فأرادوه على الخروج فأبى وضرب لذلك مثلا‏.‏

أخبرنا أبو سليمان قال أخبرنا ابن الأعرابي قال حدثنا محمد بن أحمد بن أبي العوام قال حدثنا أبي قال حدثنا كثير من مروان الفلسطيني قال حدثني جعفر بن برقان عن ميمون بن مهران قال‏:‏ إن سعداً لما دعوه إلى الخروج معهم أبى عليهم ثم قال‏:‏ لا إلا أن تعطوني سيفا له عينان بصيرتان ولسان ينطق بالكافر فاقتله والمؤمن فاكف عنه وضرب لهم مثلا فقال‏:‏ مثلنا ومثلكم كمثل قوم كانوا على محجة بيضاء فينا هم كذلك يسيرون هاجت ريح عجاجة فضلوا الطريق والتبس عليهم فقال بعضهم‏:‏ الطريق ذات اليمين فأخذوا فيها فتاهوا وضلوا وضلوا وقال آخرون‏:‏ الطريق ذات الشمال فأخذوا فيها فتاهوا وضلوا وقال آخرون‏:‏ كنا في الطريق حيث هاجت الريح فنيخ فأناخوا فأصبحوا فذهب الريح وتبين الطريق فهؤلاء هم الجماعة قالوا‏:‏ نلزم ما فارقنا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نلقاه ولا ندخل في شيء من الفتن‏.‏

قال أبو سليمان قال ميمون فصار الجماعة والفئة التي تدعي فيه الإسلام ما كان عليه بعد بن ابي وقاص وأصحابه الذين اعتزلوا الفتن حتى أذهب الله الفرقة وجمع الألفة فدخلوا الجماعة ولزموا الطاعة وانقادوا فمن فعل ذلك ولزمه نجا ومن لم يلزمه وقع في المهالك‏.‏

قال الشيخ أبو سليمان‏:‏ وممن اعتزل تلك الفتنة فلم يكن مع واحد من الفريقين حتى انجلت محمد الانصاري وعبد الله بن عمر بن الخطاب في عدة كثيرة من الصحابة‏.‏

وأخبرنا أبو سليمان قال‏:‏ أخبرنا ابن داسة قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عمر بن مرزوق قال حدثنا شعبة عن الأشعث بن سليم عن أبي بردة عن ثعلبة بن ضبيعة قال‏:‏ دخلنا على حذيفة فقال‏:‏ إني لأعرف رجلا لا تضره الفتن شيئا فخرجنا فإذا فسطاط مضروب فدخلناه فإذا فيه محمد بن مسلمة الأنصاري فسألناه عن ذلك فقال‏:‏ ما أريد أن يشتمل عليَّ شيء من أمصارهم حتى تنجلي عما انجلت‏.‏

أخبرنا أبو سليمان قال أخبرنا محمد بن هاشم قال حدثنا الدبري عن عبد الرزاق عن محمد بن أيوب عن ابن سيرين قال‏:‏ ثارت الفتنة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف فلم يخف فيها أربعون رجلا‏.‏

أخبرنا أبو سليمان قال حدثنا ابن الزيبقي قال حدثنا أبي قال حدثنا إسماعيل بن إسحاق قال حدثنا إبراهيم بن بشار قال حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار قال أخبرني من سمع عمرو بن العاص يوم صفين يقول لابنه عبد الله‏:‏ يا بني أنظر أين ترى عليا قال‏:‏ أراه في تلك الكتيبة القتماء ذات الرماح عليه عمامة بيضاء قال‏:‏ لله در بني عمرو بن مالك لئن كان تخلفهم عن هذا الأمر خيرا كان خيرا مبرورا ولئن كان ذنبا كان ذنبا مغفورا‏.‏

فقال له ابنه أي أبت فما يمنعك إذ غبطتهم أن ترجع فقال‏:‏ يا بني إن الشيخ مثلي إذا دخل في الأمر لم يدعه حتى يحكه أخبرنا أبو عبد الله‏:‏ إذا حككت قرحة أدميتها‏.‏

أخبرنا أبو سليمان قال أخبرنا ابن الأعرابي قال حدثنا محمد بن يحيى بن المنذر قال حدثنا أبي قال حدثنا المبارك بن فضالة عن الحسن عن أبي بكرة قال‏:‏ لما اشتد القتال يوم الجمل ورأى علي رضي الله عنه الرؤوس تندر أخذ الحسن ابنه وضمه إلى صدره ثم قال‏:‏ إنا لله يا حسن أي خير يرجى بعد هذا أخبرنا أبو سليمان قال أخبرني إسماعيل بن محمد قال حدثنا اسحاق إبن إبراهيم قال سمعت الرياشي يقول قال الأصمعي‏:‏ وقعت الفتنة وكان عمرو ابن العاص أعف الناس فيهان فأصبح ذات يوم فجمع ابنيه عبد الله ومحمدا فقال‏:‏ يا بني أصبحت العرب غادين مضطربين وليس مثلي يرضى بهذه المنزلة فإلى من تريان قال عبد الله‏:‏ فقلت له يا أبت أما إذا ثبت فإلى علي‏.‏

قال‏:‏ يا بني إن أتيت عليا كنت عنده كأحد المسلمين وإن أتيت معاوية أشركني في أمره‏.‏

قال فوالله ما خير لأبي عبد الله‏.‏

قال الشيخ أبو سليمان‏:‏ وكان ابن عمر من اشد الصحابة حذرا من الوقوع في الفتن وأكثرهم تحذيرا للناس من الدخول فيها وبقي إلى أيام فتنة إبن الزبير فلم يقاتل معه ولم يدافع عنه إلا أنه كان يشهد الصلاة معه فإذا فاتته صلاها مع الحجاج وكان يقول‏:‏ إذا دعونا إلى الله أجبناهم وإذا دعونا إلى الشيطان تركناهم‏.‏

قال أخبرنا أبو سليمان قال حدثنا أحمد بن زياد قال حدثنا الحسن بن سعيد قال حدثنا غسان بن عبيد قال الأسود بن شيبان السدوسي عن أبي نوفل بن أبي عقرب قال‏:‏ لما قتل الحجاج بن الزبير وصلبه على طريق المدينة يغايظ به قريش المدينة فمر به عبد الله بن عمر فوقف عليه فقال‏:‏ السلام عليك أبا خبيب - ثلاث مرات - والله كنت أنهاك عن هذا - ثلاثا - والله لقد كنت صواما قواما وصولا للرحم والله لأمة أنت شرها لنعم تلك الأمة ثم مضى‏.‏

وكان كذلك أيضا يكره للحسين بن علي رضي الله عنهما الخروج إلى العراق وأشار عليه بالانصراف إلى المدينة فأبى إلا مضيا لوجهه فجرى عليه من القوم ما جرى حسيبهم الله أخبرنا أبو سليمان قال أخبرنا ابن الأعرابي قال حدثنا يحيى بن جعفر ابن الزبرقان قال حدثنا شبابة بن سوار قال حدثنا يحيى بن إسماعيل بن سالم الأسدي قال سمعت الشعبي يحدث عن ابن عمر أنه كان بماله فبلغه أن الحسين رضي الله عنه قد توجه إلى العراق فلحقه على مسيرة ثلاثة أيام فإذا معه طوامير وكتب فقال‏:‏ هذه كتبهم وبيعتهم فقال‏:‏ لا تأتهم فقال‏:‏ إني محدثك حديثاي إن جبرائيل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فخيره بين الدنيا والآخرة فاختار الآخرة ولم يرد الدنيا وإنكم بضعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم والله لا يليها أحد منكم أبدا وما صرفها عنكم إلا للذي هو خير لكم‏.‏

فأبى أن يرجع‏.‏

قال فاعتنقه ابن عمر وبكى وقال‏:‏ أستودعك الله من قتيل‏.‏

أخبرنا أبو سليمان قال لحدثنا عبد الله بن شاذان الكراني قال حدثنا الساجي قال حدثنا بندار قال حدثنا أبي قال حدثنا أبو محمد قال حدثنا سفيان عن أبي أمية عن داود بن شابور قال‏:‏ كان طاوس قد جلس في بيته فقلنا له في ذلك فقال‏:‏ فساد الناس وحيف الأئمة‏.‏

أخبرنا أبو سليمان قال‏:‏ قال أبو عبيد القاسم بن سلام‏:‏ روى عن ابن سيرين أنه قال‏:‏ العزلة عبادة‏.‏

أخبرنا أبو سليمان قال حدثنا الحسن بن عبد الرحيم قال حدثنا محمد ابن الحسين اللخمي قال حدثنا حميد بن الربيع قال حدثنا أنس بن عياض قال حدثنا هشام بن عروة قال‏:‏ لما بنى عروى قصره بالعقيق لزمه قيل له‏:‏ مالك لزمت هذا القصر وتركت مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ رأيت مساجدكم لاهية وأسواقكم لاغية والفاحشة في فجاجكم عالية وكان فيما هنالك عما أنتم فيه عافية‏.‏

أخبرنا أبو سليمان قال حدثاني الكراني قال حدثنا عبد الله بن شبيب قال حدثنا زكريا بن يحيى المنقري قال حدثنا الأصمعي عن سفيان بن عيينة قال‏:‏ قالوا لعبد الله بن عروة بن الزبير‏:‏ ألا تأتي المدينة فقال‏:‏ ما بقي بالمدينة إلا حاسد لنعمة أو فرح بنقمة‏.‏

أخبرنا أبو سليمان قال حدثنا محمد بن العباس الدرفس ح‏.‏

وحدثنا أحمد بن الحواري قال حدثنا ابن الأعرابي قال حدثنا محمد بن تاروح عن شعيب بن حرب قال‏:‏ دخلت على مالك بن مغول وهو في داره بالكوفة جالس وحده فقلت‏:‏ أما تستوحش في هذه الدار فقال‏:‏ ما كنت أظن أحدا يستوحش مع الله عز وجل‏.‏

قال الشيخ أبو سليمان ما أشرف هذه المنزلة وأعلى هذه الدرجة وأعظم هذه الموهبة إنما لا يستوحش مع الله من عمر قلبه بحبه وأنس بذكره وألف مناجاته بسره وشغل به عن غيره فهو مستأنس بالوحدة مغتبط بالخلوة‏.‏

أخبرنا أبو سليمان قال أخبرني محمد بن الحسين الآبري قال سمعت فارس بن عيسى يقول سمعت يوسف بن الحسين يقول سمعت ذا النون يقول‏:‏ وجدت صخرة بيت المقدس عليها أسطر‏.‏

فجئت بمن ترجمها فإذا عليها مكتوب‏:‏ كل عاص مستوحش وكل مطيع مستأنس وكل خائف هارب وكل راج طالب وكل قانع غني وكل محب ذليل قال أبو سليمان أنشدني بعض أهل المعرفة‏:‏

فَإِن كُنتَ قَد أَوحَشتُكَ الذُنوبُ ** فَدَعها إِذا شِئتَ وَاستأنَسِ

قال‏:‏ وأنشدني رجل فاضل من أهل زماننا لنفسه في كلمة له‏:‏

وَيَأنَسُ مَن وِحدَةُ العارِفِ ** وَيوحَشُ مَن وِحدَةُ الجاهِلِ

قال بعض الحكماء‏:‏ إنما يستوحش الإنسان بالوحدة لخلاء ذاته وعدم الفضيلة من نفسه فيتكثر حينئذ بملاقاة الناس ويطر الوحشة عن نفسه بالكون معهم فإذا كانت ذاته فاضلة طلب الوحدة ليستعين بها على الفكرة ويتفرغ لاستخراج الحكمة‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ الاستئناس بالناس من علامات الافلاس‏.‏

قال الشيخ‏:‏ وأخبرني الحسن بن عبد الرحيم قال حدثنا محمد بن الحسين اللخمي قال حدثنا عمر بن سعيد الطائي عن خلف بن تميم قال‏:‏ جئت أطلب إبراهيم بن أدهم في مطير فاطلعت فلم أره فأعدت النظر فإذا هو قاعد تحت السرير وقد فر من الوكف فلما نظر إليَّ قال‏:‏ قَلبُ الناسِ كَيفَ شِئتَ تَجِدُهُم عَقارِبا أخبرنا أبو سليمان قال سمعت ابن الأعرابي يقول سمعت سلم بن عبد الله يقول سمعت الفضيل بن عياض رحمه الله يقول‏:‏ كفى بالله محبا وبالقرآن مؤنسا وبالموت واعظا اتخذ الله صاحبا وذر الناس الناس جانبا‏.‏

أخبرنا أبو سليمان قال أخبرني محمد بن الحسين بن عاصم قال حدثنا أبو عمرو الحيري قال حدثنا علي بن حرب قال حدثنا إسماعيل بن زيان قال حدثنا أبو الربيع الزاهد قال قلت لداود الطائي‏:‏ أوصني‏.‏

قال‏:‏ صم عن الدنيا واجعل فطرك الآخرة وفر من الناس فرارك من الأسد‏.‏

أخبرنا الشيخ أبو سليمان قال أخبرني الحسين بن سعد أنه قال حدثنا محمد بن حميد قال حدثني عبد الله بن أسامة قال سمعت جعفر بن عمران الثعلبي قال سمعت ابن السماك يقول‏:‏ كتب إلينا صاحب لنا (‏أما بعد فإن الناس كانوا دواء يتداوى به فأصبحوا داء لا يقبل الدواء ففر منهم فرارك من الأسد واتخذ الله تعالى مؤنسا والسلام‏.‏

أخبرنا أبو سليمان قال أخبرنا ابن الأعرابي قال حدثنا علي بن سهل بن المغيرة قال سمعت أبي يقول رأيت شريكا وقد خرج من دار المهدي فاحتوشه أصحاب الحديث فتقدمت إليه وقلت له‏:‏ اطردهم عنك يا أبا عبد الله قال‏:‏ وأنطرد معهم‏.‏

أخبرنا أبو سليمان قال أخبرنا إسماعيل بن أسد قال حدثنا اسحاق بن إبراهيم قال‏:‏ بلغني عن الحسن رحمه الله أنه كان يقول‏:‏ كلمات احفظهن من التوراة‏.‏

قنع ابن آدم فاستغني اعتزل الناس فسلم ترك الشهوات فصار حرا ترك الحسد فظهرت مروءته صبر قليلا فتمتع طويلا‏.‏

أخبرني أبو سليمان قال أخبرني أبو عمرو الحيري قال حدثنا مسدد بن قطن قال حدثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي قال حدثني محمد بن يزيد عن وعيب بن الورد قال‏:‏ بلغنا أن الحكمة عشرة أجزاء‏:‏ تسعة منها في الصمت والعاشرة في عزلة الناس‏.‏

قال الشيخ‏:‏ ورأيت أن خير هذه الأجزاء عزلة الناس‏.‏

أخبرنا أبو سليمان قال أخبرنا ابن الأعرابي قال حدثنا عبد الله بن محمد القزويني قال سمعت يوسف بن مسلم يقول‏:‏ قيل لعلي بن بكار ما أصبرك على الوحدة وقد كان لزم البيت فقال‏:‏ كنت وأنا شاب أصبر على أشد من هذا كنت أجالس الناس ولا أكلمهم‏.‏

أخبرنا أبو سليمان قال أخبرنا أبو الطيب طبطب الوراق قال حدثني محمد بن يوسف النحوي الوراق قال حدثني بعض مشايخنا قال‏:‏ ركبت في سفينة ومعنا شاب من العلوية فمكث معنا سبعا لا نسمع له كلاما فقلنا له‏:‏ يا هذا قد جمعنا الله وإياك منذ سبع لا نراك تخالطنا ولا تكلمنا فأنشأ يقول‏:‏

قَضى وَطَرُ الصِبا وَأَفادَ عِلماً ** فَغايَتُهُ التَفَرُدُ وَالسُكوتُ

قال أبو سليمان‏:‏ هذا من نمط قول سفيان رحمه الله‏:‏ هذا زمان السكوت ولزوم البيوت‏.‏

أخبرنا أبو سليمان قال حدثنيه الحسين بن محمد الزبيري قال حدثنا محمد بن المسيب قال حدثنا ابن خبيق عن يوسف بن أسباط عن سفيان وأخذه علي بن حجر فقال‏:‏

زَمانُكَ ذا زَمانٌ لُزومُ بَيتِ ** وَحِفظُكَ لِلِسانِ وَخَفضُ صَوتِ

أخبرنا أبو سليمان قال وأخبرني الخزيمي في إسناد له قال‏:‏ قال إبراهيم النخعي لمغيرة‏:‏ تفقه ثم اعتزل‏.‏

أخبرنا أبو سليمان قال وأخبرني أبو عمرو الحيري قال حدثنا مسدد بن قطن قال حدثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي قال حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال سمعت محمد بن النضر الحارثي قال قال ربيع بن خثيم‏:‏ تفقه ثم اعتزل‏.‏

قال وأنشدني بعض أصحابنا المنصور بن إسماعيل‏:‏

لَيسَ هَذا زَمانُ قَولِكَ ما الحُكـ ** ـم عَلى مَن يَقولُ أَنتِ حَرامُ

وَالحَقي بائِناً بِأَهلِكِ أَو أَنـ ** ــتَ عَتيقٌ مُحَرَّرٌ يا غُلامُ

وَمَتى تُنكَحُ المُصابَةُ في العِدَّ ** ةِ عَن شُبهَةٍ وَكيفَ الكَلامُ

في حَرامٍ أَصاب سِنّ غَزالٍ ** فَتَولى وَلِلغَزالِ بِغامُ

أخبرنا أبو سليمان قال أخبرني المطهر بن عبد الله قال حدثني أبو الحسن محمد بن العباس النحوي قال‏:‏ كتب إليَّ ابن لمجة يستزيرني فكتبت إليه‏:‏ أَنَستَ نَفسي بِنَفسي فَهِيَ في الوِحدَةِ أَنسي وَإِذا آنَستَ غَيري فَأَحَقُ الناسِ نَفسي فَسَدَ الناسُ فَأَضحَى جِنسُهُم مِن شَرِ جِنسِ فَلَزِمتُ البَيتَ إِلا عِندَ تَأذيني لِخمسِ قال‏:‏ وكان مؤذن مسجده قال وأنشدني آخر‏:‏

وَإِذا ضَجَرتُ بِوحدتَي فَمُؤانِسي ** هُوَ وِحشَتي حَتى يَقومَ القاعِدُ

أخبرنا أبو سليمان قال أخبرني محمد بن أحمد بن سليمان قال حدثنا ابن شبيب قال حدثنا إبراهيم بن محمد النحوي قال حدثنا الرياشي قال حدثنا الأصمعي قال‏:‏ سألني الرشيد عن أعراب البادية وعن أخبارها فحدثته أني كنت في مكان يقال له الخفة وهي قرية لبني كلاب رأيت فيها أعربيا في عنقه طوف ملتو من فضة وبيده زكرة ومعه قدح نبع فتتبعت أثره فجاء إلى جذم حائط فجمع رميلة ثم اتكأ عليها وجعل يصب من شكوته نباذة له في قدح النبع ويشربه ويرجز عليه فسلمت عليه ووقفت عنده فقال‏:‏ إن فيه خلالا ثلاثا إن سمع مني حديثا لم ينمه علي وإن تفلت في وجهه احتمل وإن عربدت عليه لم يغضب‏.‏

قال الأصمعي‏:‏ فقال الرشيد زهدتني في الندماء‏.‏

قال الشيخ أبو سليمان‏:‏ هذا من الأعرابي في ومن قول بعضهم - وقد كان لزم المقابر فكان يغدو إليها ويروح ومعه دفتر فقيل له في ذلك فقال‏:‏ لم أر اسلم من وحدة ولا أوعظ من قبر ولا جليسا أمتع من دفتر‏.‏

قال‏:‏ ومما يدخل في نمط صنيغ الأعرابي - وإن لم يكن من شكل ما نستحسنه - ما أنشدنيه بعض أهل الأدب لبعضهم‏.‏

لَما رَأَيتُ الزَمانَ نَكِسا ** وَلَيسَ بِالحِكمَةِ إِنتِفاعُ

كُلُ رَئيسٍ لَهُ مَلالُ ** وَكُلُ رَأسٍ لَهُ صُداعُ

أَزمَت بيتي وَصُنتُ عَرضاً ** بِهِ عَنِ الذِلَةِ امتِناعُ

أَشَرتَ مِما اِدَخَرتَ راحا لَها ** عَلى راحتَي شُعاعُ

لي مِن قواريرِها نَدَامى ** وَمِن قَواقيزها سَماعُ

وَأَجتَني مِن عُقولِ قَومٍ ** قَد أَقفَرَت مِنهُمُ البِقاعُ

وفي نسخة الشيخ‏:‏ ومما يقرب من هذا قول بعضهم‏:‏

تَبَيَنَ هَداكَ اللَهُ وَابتَغِ صاحِباً ** تَقِياً وَإِلاّ عِش وَصاحِبُكَ الظِلُ

أَجَلّ مَكانٍ في الدُنى مَتنٌ سابِحُ ** وَخيرُ جَليسٍ في الزَمان كِتابُ

أخبرنا أبو سليمان قال أخبرني محمد بن نافع الخزاعي قال حدثنا عمي اسحاق بن أحمد قال حدثنا الأزرقي قال‏:‏ لما انصرف أبو موسى الأشعري من الحكمين نزل مكة فبنى سقيفة من حجارة على فوهة شعب أبي الدب وهناك مقبرة فقال‏:‏ أجاور قوما لا يغدرون‏.‏

يعني أهل القبور‏.‏

قال أبو سليمان فأما نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الهجرة أكثر من ثلاث فإن العزلة لا تجري مجراها ولا تدخل في معناها إنما المكروه من الهجرة ما يدعوك إليه عتب أو موجودة وما قصدت به إلا يحاش لأخيك وتعمدت الإضرار به والإخلال بحقوقه في منع الكلام ورد التحية والسلام وليس في شيء من هذا يجري مؤثر العزلة ومن يميل إلى الإقلال من الخلطة لأنه لا يهمل هذه الحقوق ولا يقصد فيها بها قصد الجفاء والعقوق وقد يحتمل عندي أن يقال إنه ليس يضير هجران الظالم أكثر من ثلاث إذا لم تؤمن بوائقه ولا هجران من تريد بهجرك إياه تقويمه واستصلاحه إذا كان خاصا بك أو منقطعا إليك أو داخلا في جملتك ومن طبقات أهل سياستك ورب هجر أشبه وصلا والله يعلم المفسد من المصلح‏.‏

وأخبرنا أبو سليمان قال أخبرنا محمد بن بكر بن عبد الرزاق قال حدثنا أبو داود سليمان بن الأشعب قال حدثنا موسى بن إسماعيل التبوذكي قال حدثنا حماد عن ثابت عن سمية عن عائشة رضي الله عنها (‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هجرها ذا الحجة والمحرم وبعض صفر‏)‏.‏

أخبرنا أبو سليمان قال أخبرني الحسن بن محمد قال حدثنا إسحاق بن إبراهيم قال حدثنا بندار قال حدثني عمر بن يونس اليماني قال حدثنا عكرمة بن عمار قال حدثني سماك أبو زميل قال حدثني عبد الله بن عباس قال حدثني عمر بن الخطاب رضي الله عنهما (‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتزل نساءه شهرا وصعد إلى غرفة له - وهي خزانته - فلبث تسعة وعشرين فلما نزل قيل‏:‏ يا رسول الله إنما كنت في الغرفة تسعة وعشرين قال‏:‏ إن الشهر قد يكون تسعة وعشرين‏.‏

أخبرنا أبو سليمان قال أخبرنا ابن الأعرابي قال حدثنا محمد بن إسماعيل الصائغ قال حدثنا محمد بن الحجاج المصفر قال حدثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ (‏لا يصح لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام إلا أن يكون ممن لا تؤمن بوائقه)‏ قال الشيخ أبو سليمان رحمه الله‏:‏ ومحمد بن الحجاج المصفر وإن لم يكن بالقوي عند أهل الحديث فإن دلائل الكتاب والسنة والقياس متضافرة على جواز هجران من لا تؤمن بوائقه والتباعد منه بل هو الواجب على كل أحد من الناس‏.‏

أخبرنا ابو سليمان قال أخبرنا ابن الأعرابي قال حدثنا إبراهيم بن مهدي الأبلي قال حدثنا سلمة بن شبيب قال حدثنا الثوري عن يونس عن الحسن قال‏:‏ هجران الأحمق قربة إلى الله عز وجل‏.‏

أخبرنا أبو سليمان قال وأخبرني محمد بن نافع الخزاعي قال‏:‏ قال الحارث بن أبي أسامة‏:‏ ذكر عند محمد بن عمر الواقدي رجل هجر رجلا حتى مات فقال‏:‏ هذا شيء قد تقدم فيه قوم سعد بن أبي وقاص كان مهاجرا لعمار بن ياسر حتى هلكا وعثمان بن عفان كان مهاجرا لعبد الرحمن بن عوف وعائشة رضي الله عنها مهاجرة لحفصة وكان طاوس مهاجرا لوهب بن منبه حتى مات‏.‏

قال أبو سليمان‏:‏ أما ما شجر بين الصحابة من الأمور وحدث في زمانهم من اختلاف الآراء فإنه باب كلما قل التسرع فيه والبحث عنه كان أولى بنا وأسلم لنان ومما يجب علينا أن نعتقد في أمرهم أنهم كانوا أئمة علماء قد اجتهدوا في طلب الحق وتحروا جهته وتوخوا قصده فالمصيب منهم مأخور والمخطىء معذور وقد تعلق كل منهم بحجة وفزع إلى عذر والمقايسة عليهم والمباحثة عنهم اقتحام فيما لا يعنينا‏.‏

والله تعالى يغفر لنا ولهم برحمته‏.‏

وليس التهاجر منهم والتصارم بأكثر من التقاتل في الحروب والتواجه بالسيوف ولا أعجب من التباهل فيما شجر بينهم من الاختلاف والتنازع في التأويل وكل منهم في ذلك مأجور على قدر اجتهاده في طلب الحق وحسن نيته والله يغفر لنا ولإخواننا الذين بالإيمان ونسأله أن لا يجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا إنه رؤوف رحيم‏.‏

فأما من بعد الصحابة من التابعين ومن وراءهم من طبقات المتأخرين فلنا مناظرتهم في مذاهبم وموافقتهم عليها والكشف عن حججهم والقول بترجيح بعضها على بعض واظهار الحق من أقاويلهم ليقتدي بهم والتنبيه على الخطأ منهم لينتهي عنه‏.‏

وفي نسخة الشيخ قال أبو سليمان رحمه الله‏:‏ وإنما كان هجران طاوس وهبا لأن وهبا مال في آخر أمره إلى رأي القدرية وأظهره للناس فعاتبه طاوس على ذلك فلما لم ينته عنه نابذه وهجره‏.‏

أخبرنا أبو سليمان قال أخبرني إسماعيل بن محمد قال حدثنا إسحاق بن إبراهيم قال‏:‏ كان مالك بن أنس يشهد الجنائز ويعود المرضى ويعطي الإخوان حقوقهم فترك ذلك واحدا واحدا حتى تركها كلها وكان يقول‏:‏ لا يتهيأ للمر أن يخبر بكل عذر‏.‏

أخبرنا أبو سليمان قال أخبرنا محمد بن إبراهيم المكتب قال حدثني شكر قال حدثنا أحمد بن محمد بن مدرك البصري قال سمعت حرملة بن يحيى يقول قال لي ابن وهب‏:‏ لا تعد غلا من يعودك ولا تشهد جنازة من لا يشهد جنازتك ولا تؤد حق من لا يؤدي حقك وإن عدلت عن ذلك فاشتر بالجور في الكيل‏.‏

قال الشيخ‏:‏ مثل هذه المحاسبة إذا كان من الأئمة وأهل القدوة فإنما يراد به التأديب والتقويم دون المكافأة والمجازاة وبعض هذا مما يراد به بعض الناس ويصلح بذلك من أود أخلاقهم وقد روي فيما يشبه هذا المعنى حديث مرفوع‏.‏

أخبرنا أبو سليمان قال حدثنا الحسن بن يحيى بن صالح قال حدثنا محمد بن قتيبة العقلاني قال حدثنا إبراهيم بن أيوب الحوراني قال حدثنا بكر بن سليم قال حدثنا ابن أبي حازم عن أبيه عن سهل بن سعد الساعدي قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (‏لا خير في صحبة من لا يرى لك مثل الذي ترى له‏)‏.‏

أخبرنا أبو سليمان قال أخبرني محمد بن منصور بن أبي الدق قال حدثنا محمد بن المنذر بن سعيد قال حدثني أحمد بن محمد قال حدثني عمرو بن علي قال قلت لأبي عاصم يا أبا عاصم إن لي قرابة إذا كلمته آذاني وإذا تركته استرحت منه فقال أبو عاصم‏:‏

وَفي الأَرضِ مُنَجاةٍ وَ في الصَرمِ راحَةً ** وَفي الناسِ أَندادٌ سِواهُ كَثيرُ

ثم قال‏:‏ حدثتني زينب أبي طليق قال حدثتني الصحيحة قالت قلت لعائشة رضي الله عنها‏:‏ إن لي قرابة يهينوني وجيرانا يكرمونني فقلت‏:‏ (أكرمي من أكرمك وأهيني من أهانك).‏

قال أنشدني أبو رجاء الغنوي قال أنشدني محمد بن حكيم‏:‏

فَإِنّ الغَني وَإِن الفَقَيرَ ** وَإِن البَخيلَ وَإِن الجَوادَا

عَليَّ سَواءُ فَما لي أَذَلُ ** لِمَن لا يَذَلُ وَاعطي القيادا

وَمَن لَم يَكُن مُنصِفاً في الأَخا ** ءإِذا زارَ وَإِن عُدتَ عادا

يَراني سَواءٌ فَيُعطي السَوا ** ءِ عَلى كُلِ حالٍ وَإِن زِدتَ زادا

أَبيتُ عَليهِ أِشَد الإِبا ** ءِ وَإِن كانَ أَعلى قُريشٍ عِمادا

وَقارَضتُهُ الفِعلَ وَزناً بِوَزنِ ** وَكيلاً بِكيلَ عَلى ما أرادا

وَنافَقتُهُ بِاقتِصارِ السَلا ** مَ عَلَيهِ وَلَم آلُ عَنهُ بِعادا

وَإِن هُوَ سارَ بِسيرِة حُرٍ ** جَعَلتُ اللِسانَ لَهُ وَالفُؤادا

صِحِبتُ الزَمانَ فَإِما مُقيماً ** وَإِما مُفيداً أَجوبُ البِلادا

وَأَستَعرِضُ الناسَ عَرضَ العَيا ** نِ وَأَسأَلُ عَن ذا وَذاك إعتِمادا

فَلَم أَرَ مِثلَ الرِضا صاحِباً ** أَعَزُ وَأَوطَأُ مِنهُ مِهاداً

وَمَن فارَقَ الصَبرَ أَعطى القِيا ** دَ وَراح يَذُمُ إِليكَ العِِبادا

وعلى المعنى الأول من هذا الشعر قول معن بن أوس‏:‏

إّذا أَنتَ لَم تُنَصِف أَخاكَ وَجَدتَهُ ** عَلى طَرَفِ الهِجرانِ إِن كانَ يَعقِلُ

وَيَركَبُ حَدَ السَيفِ مِن أَن تُضيمِهِ ** إِذا لَم يَكُن عَن شَفَرٍ فَالسَيفُ مُزحِلِ

وأنشدونا عن أبي العباس محمد بن يزيد المبرد لمالك بن الريب‏:‏

فَإِن تَنصِفونا يآلَ مِروانٍ نَقتَرِب ** إِليكُم وَإِلا فَأذنوا بِِبِعادِ

فإَنّ لَنا عَنكُم مِراحا وَمِزحَلا ** بِعيسَ إٍلى رِيحِ الفُلاةِ صوادي

فَفي الأرضِ عَن دارِ المَذَلَةِ مَذهَبُ ** وَكُلُ بِلادٍ أَوطَنَت كَبِلادي

وقال‏:‏ وبلغني عن ابن شبرمة أنه رأى من صديق له انقباضا فكتب إليه‏:‏ كِلانا غَنيٌ عَن أَخيهِ حَياتَهُ وَنَحنُ إِذا مِتنا أِشَدُ تَغانِيا في ذكر أسباب تسهل على المرء العزلة وتفطمه عن صحبة كثير من ذوي الخلطة‏.‏

أخبرنا أبو سليمان قال أخبرني إسماعيل بن محمد قال سمعت ابن إبراهيم يقول‏:‏ لو لم يكن في العزلة أكثر من أنك لا تجد أعوانا على الغيبة لكفى‏.‏

قال أبو سليمان‏:‏ صدق أبو محمد رحمه الله فإنه ما من أحد جالس الناس في هذا الزمان وعاشرهم إلا قلت سلامته من الغيبة فإن من شأنهم اليوم أن يقع بعضهم في بعض وأن يشبع بعضهم بعضا وأن يتمضمضوا بذكر الأعراض ويتفكهوا بها ويتنقلوا بحلاوتها فإما أن يساعدهم جليسهم على إثم وترك مروءة وإما أن يخالفهم عن قلى وشنآن فمجالستهم داء يعدي يضر ولا يجي‏.‏

قال‏:‏ ولو لم يكن في العزلة إلا السلامة من آفة الرياء والتصنع للناس وما يدفع إليه الإنسان إذا كان فيهم من استعمال المداهنة معهم وخداع المواربة في رضاهم لكان في ذلك ما يرغب في العزلة ويحرك إليها‏.‏

وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏إن من شرار الناس ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه)‏‏.‏

أخبرنا أبو سليمان قال حدثنا ابن داسة قال حدثنا أبو داود قال حدثنا مسدد قال حدثنا سفيان عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله‏.‏

قال الشيخ أبوس سليمان‏:‏ فمن أحب السلامة من هذه الخلة فليقل من مخالطة الناس وليحذر مداخلتهم والتوسط في أمورهم فإنه إذا مني بذلك وابتلى بشيء منه لم يسلم أن يلقى هذا بوجه وصاحبه بوجه آخر ولئن خالف هذه الطريقة أوشك أن يشنأه الناس ويتخذوه عدوا‏.‏

قال الشيخ أبو سليمان‏:‏ وفي العزلة للسلامة من المأثم في المنكر يراه الإنسان فلا يغيره والأمان من غوائل أهله ومن عاديتهم إذا غيره فقد أبى أكثر أهل هذا الزمان قبول النصائح ونصبوا العداوة لمن دعاهم إلى هدى أو نهاهم عن ردى‏.‏

فلو لم يكن في الوحدة والتباعد منهم إلا السلامة من إثم المداهنة وخطر المكافحة لكان في ذلك الربح الرابح والغنيمة الباردة‏.‏

أخبرنا أبو سليمان قال سمعت ابن الأعرابي يقول‏:‏ سمعت سالم بن عبد الله يقول سمعت الفضيل بن عياض يقول‏:‏ من خالط الناس لم يسلم من أحد إثنين إما أن يخوض معهم إذا خاضوا في الباطل أو يسكت إن رأى منكرا فيأثم‏.‏

وقد جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الوعيد وسوى في العقوبة بين من أتى المنكر وبين من رآه فلا يغيره ولا يأباه‏.‏

حدثنا أبو سليمان قال حدثنا إسماعيل بن محمد الصفار قال حدثنا عباس الدوري قال حدثنا أبو النضر قال‏:‏ حدثنا أبو خيثمة زهير بن معاوية قال حدثنا إسماعيل بن خالد عن قيس بن أبي حازم قال‏:‏ قام أبوبكر رضي الله عنه خطيبا فحمد الله تعالى وأثنىعليه ثم قال‏:‏ أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية (‏يا أَيُها الَّذَينَ آَمَنوا عَلَيكُم أَنفُسَكُم لا يَضُرُكُم مَن ضَلَّ إِذا اِهتَديتم‏) وأنكم تضعونها على غير مواضعها فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ (‏إنّ الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب‏).‏

قال أبو سليمان‏:‏ ومن مناقب العزلة السلامة من آفات النظر إلى زينة الدنيا وزهرتها والاستحسان لما ذمه الله تعالى من زخرفتها وعابه من زبرج غرورها وفيها منع النفس من التطلع إليها والاستشراف لها ومن محاكاة أهلها ومنافستهم عليها قال الله تعالى ‏‏(‏وَلا تَمُدَنَّ عَينَيكَ إِلى ما مَتَعنا بِهِ أَزواجاً مِنهُم زَهرَةَ الحَياةِ الدُنيا لِنَفتِنَهُم فيهِ‏) وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (‏انظروا إلى من هو دونكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فإنه أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم‏).‏

أخبرنا أبو سليمان قال حدثنا محمد بن عبد الله بن عتاب العتدي ومحمد بن أحمد بن زيرك قالا حدثنا إبراهيم بن عبد الله العبسي قال حدثنا وكيع عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال‏:‏ وحدثنا ابن عتاب قال حدثنا أبو الأحوص القاضي قال حدثنا محمد بن كثير بن مخلد بن حسين عن هشام عن الحسن قال‏:‏ (‏إياكم ومجالسة أهل البسطة فإن مجالستهم مسخطة للرزق‏).‏

قال وقال عون بن عبد الله‏:‏ كنت أجالس الأغنياء فلا أزال مغموما كنت أرى ثوبا أحسن من ثوبي ودابة أفره من دابتي فجالست الفقراء فاسترحت‏.‏

أخبرنا أبو سليمان قال أخبرنا الكراني قال حدثنا عبد الله بن شبيب قال حدثنا زكريا بن يحيى المنقري قال حدثنا الأصمعي قال حدثنا يزيد بن زريع عن أبي رجاء عبيد الله بن شاذان الأزدي عن الحسن في قوله عز وجل: (‏‏وَجَعَلنا بَعضُكُم لِبَعضٍ فِتنَةً أَتَصبِرون‏) قال‏:‏ جعلنا للغني فتنة للفقير والفقير فتنة الغني‏.‏

قال أبو سليمان سمعت ابن أبي هريرة أو غيره من فقهاء أصحابنا يقول‏:‏ بلغني أن المزني خرج من باب جامع الفسطاط معلقا نعله وقد أقبل ابن عبد الحكم في موكبه فبهره ما رأى من جماله وحسن هيئته فتلا قوله عز وجل: (‏وَجَعَلنا بَعضُكُم لِبَعضٍ فِتنَةً أَتَصبِرون‏)‏ ثم قال‏:‏ اللهم بلى أصبر وأرضى وكان مقلا رحمة الله عليه‏.‏

قال ومن مناقب العزلة أنها خالعة عنك ربقة ذل الآمال وقاطعة رق الأطماع ومعيدة عز اليأس من الناس فإن من صحبهم وكان فيهم ومعهم لم يكد يخلو من أن يحدث نفسه بنوع من الطمع فيهم إما في مال أو جاه والطمع فقر حاضر وذل صاغر وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ (‏الغنى اليأس عما في أيدي الناس ومن مشى منكم إلى طمع فليمش رويدا‏)‏.‏

أخبرنا أبو سليمان قال أخبرنا ابن الأعرابي قال حدثنا الفضل بن يوسف الجعفي قال حدثنا إبراهيم بن زياد العجلي قال حدثنا أبو بكر بن عياش عن عاصم عن زر عن عبد الله بن مسعود‏.‏

وحدثنا ابن داسة قال حدثنا العباس بن الفضل الاسقاطي قال حدثنا سعيد بن سليمان النشيطي قال حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن الحسن عن جندب عن حذيفة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ (‏ليس لمؤمن أن يذل نفسه‏)‏ قال أبو سليمان أنشدني

تُكَلِفُني إِذلالَ نَفسي لِعِزِها ** وَهانَ عَلَيها أَن أَهانَ فَتُكرَما

تقول‏:‏ سَلِ المَعروفَ يَحيى بِن أَكثَمِ ** فَقُلتُ‏:‏ سَليهِ رُبّ يَحيى بن أَكثَما

قال أبو سليمان‏:‏ وأنشدني أبو عمر قال أنشدنا أبو العباس ثعلب عن ابن الأعرابي‏:‏

إِذا كانَ بابُ الذُلِ مِن جانِبِ الغِنى ** سَموتَ إِلى العَلياءِ مِن جانِبِ الفَقرِ

صَبَرت وَكانَ الصَبرُ مِني سَجيَةً ** وَحَسبُكَ أَنّ اللَهَ أَثنى عَلى الصَبرِ

قال ولو لم يربح الإنسان في العزلة والتخلي عن الناس وعن مساويهم والانقطاع عن محاورتهم إلا ما يكفاه من فضل مؤنة التحرز منهم وما يستفيده من الأمان أن يرفعوا عليه قولا يسمعونه يتكلم به في حال غفلة واسترسال أو يتأولوا عليه كلاما لا يبلغ عقولهم كنهه فيوجهوه إلى غير جهته وينحلوه غير صفته فكان فيه كفاية كافية وعصمة واقية وقد روينا عن عبد الله بن مسعود أنه قال‏:‏ ما أنت محدثا قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة‏.‏

أخبرنا أبو سليمان قال حدثناه علكان المروزي قال حدثنا أبو العلاء الوكيعي قال حدثنا هشام بن عمار قال حدثنا عبد العزيز بن الحصين عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن مسعود‏.‏

قال أبو سليمان‏:‏ وحدثني ابن أبي الدق قال حدثنا شكر قال حدثنا كثير بن عبد الله قال حدثنا العلاء بن سعد الكندي قال حدثني شيخ لنا قال‏:‏ كنت أماشي إسماعيل بن سهل - وكان أحد الحكماء - فقال‏:‏ ألا أخبرك ببيت شعر خير لك من عشرة آلاف درهم فقلت‏:‏ بيت شعر خير من عشرة آلاف درهم قلت‏:‏ نفسي‏:‏ فأنشأ يقول‏:‏

اِخفُضِ الصَوتَ إن نَطَقتَ بِلَيلٍ ** وَالتَفَت بِالنَهارِ قَبلَ المَقالِ

لَيسَ في القَولِ رَجعَةٌ حِينَ يَبدو ** بِقبيحٍ يكون أو بجمالِ

قال أبو سليمان‏:‏ فصاحب العزلة في أمان من هذا الوجلف وفي حصن من هذا الثغر‏.‏

وقد أنعم بيان هذا المعنى ذو الرمة حيث يقول‏:‏

أُحِبُ المَكانَ القَفرَ مِن أَجلِ أَنَني ** بِهِ أَتَغَنى بِاسمِها غَيرَ مُعجَمِ

قال أبو سليمان‏:‏ ولو لم يكن في العزلة إلا السلامة من صحبة العامة والراحة من تعب مجالستهم ومصابرة أخلافهم وما يستفيده الإنسان بمفارقتهم ويكفاه من مؤونة تقويخم ويأمنه من غوائلهم في صدقهم عن أنفسهم ة وامحاض النصيحة لهم - فإن الحق كما قيل مغضبة وبعض النصح للعداوة مكسبة - لكان في ذلك راحة مريحة وقد قل من يعرف وأقل منه من ينصف‏.‏

أخبرنا أبو سليمان قال أخبرني أحمد بن إبراهيم بن مالك قال حدثنا الدغولي عن سليمان بن معبد قال‏:‏ قلت للأصمعي‏:‏ ما قول الناس (‏الحق مغضبة‏) فقال‏:‏ يا بني وهل يسال عن مثل وَكَم سَقَت في آَثارِكُم مِن نَصيحَةٍ وَقَد يَستفيد البَغضَة المُتَنَصِحِ قال‏:‏ وقد روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم في الترخص لمن رأى منكرا فلم يغيره حذر الفتنى وخوف الغائلة من الناس‏.‏

أخبرنا أبو سليمان قال حدثنا أحمد بن إبراهيم بن مالك قال حدثنا بشر بن موسى قال حدثنا الحميد قال حدثنا سفيان قال حدثنا يحيى بن سعيد أنه سمع أبا طوالة يحدث عن نهار العبدي عن أبي سعيد الخدري قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ (‏إن الله تبارك وتعالى ليسأل العبد حتى يقول‏:‏ ما منعك إذ رأيت المنكر في الدنيا أن تنكره فإذا لقن الله عبدا حجته قال‏:‏ يا رب رجوتك وخفت الناس‏)‏ قال أبو سليمان هذا طريق في الرواية يرتضيه أهل النقل من أهل الحديث فعلى هذا لا يحرج المرء إن شاء الله إن ترك أن يتعرض لأهل المنكر إذا خاف عاديتهم ولم يأمن بوائقهم ما دام كارهاً لفعلهم بقلبه ومصارما لهم بعزمه ونيته ثم اعلم يا أخي أن عامة أهل هذا الزمان قد ساءت رغبتهم وقلت آدابهم وغلظت مجنتهم على من يعاشرهم لأن موقفه فيهم بين أن يخونهم فيسالمهم وبين أن لا يصون نفسه فيناصحهم لأن موقفه فيهم بين أن يخونهم فيسألهم وبين أن لا يصون نفسه فيناصحهم وقد كانوا والناس ناس والزمان زمان يستبشعون الحق ولا يستمرئون طعم النصح وينكرون على من يهدي إليهم عيوبهم ويصدقهم عن أنفسهم فما ظنك بهم الآن مع فساد هذا الزمان الكلب المنقلب أتراهم يذعنون للحق ويصغون إلى النصح كلا إنك إلى أن تفسد بهم يخضعون أقرب منهم إلى أن يصلحوا بك يستمعون وقد قال بعض الحكماء‏:‏ من قابل الكثير من الفساد باليسير من الصلاح فقد غر نفسه مثاله أن يميل جدار فيأتيه رجل فيدعمه بيده ليقيمه فإنه يوشك أن يسقط عليه فيكون فيه تلفه‏.‏

بلى إذا وجد أعوانا وآلة فدعمه بأعمدة وردفه بقوائم من خشب ونحوها كان جديرا أن يستقل ويثبت وكان الرجل حقيقا أن يسلم وينجح‏.‏

قال أبو سليمان‏:‏ فانظر رحمك الله وتأمل هل تجد اليوم أعوانا على المعروف ودعاة إلى الخير ونهاة عن المنكر فإن كنت لا تظفر بهم ولا تقدر عليهم فانج برأسك ولا تغرر بنفسك إن رضى الناس غاية لا تدرك قد أعيا الأولين دواؤهم وانقطعت فيهم حيلهم فما حاجتك إلى عناء لا غنى له وتعب لا نجح فيه وما أربك بصحبة قوم لا تستفيد بلقيهم علما ولا بمشهدهم جمالا ولا بمعونتهم مالا إذا تأملتهم حقا وجدتهم إخوان العلانية أعداء السريرة إذا لقوك تملقوك وإذا غبت عنهم سلقوك‏.‏

من أتاك منهم كان عليك رقيبا ومن خرج قام بك خطيبا‏.‏

أهل نفاق وخديعة وأصحاب نقل ونميمة وإخوان بهت وعظيمة‏.‏

ولا يغرنك ما ترى من احتشادهم عندك وازدحامهم عليك ولا تتوهمن أن بهم تعظيما لعلمك أو تقديما لحقك إن عظم ما يقودهم اليوم إلى مجالس العلماء ويحشرهم إلى أبوابهم الرغبة في منال لمآربهم وما يتخذونه سلما إلى أوطارهم وحميرا لحاجاتهم فهم المساكين بين شرين منهم ومن تكاليفهم‏:‏ إن أسعفوهم ببعضها احتجروهم بكثرة توابعها وآذوهم وأن امتنعوا عليهم فيها شنعوهم وعادوهم ثم أنهم على ذلك يلزمونهم بدالة المعرفة أن يهدفوا لهم أغراضهم فيخاصموا عنهم من خاصمهم ويعادوا من عاداهم وينازلوا من نازلهم فيصيرون - من حيث يبدو أنهم فقهاء - سفهاء ومن حيث ظنوا أنهم متبوعون رؤساء أتباعا أخساء فمن أخسر صفقة واشد بلية من هؤلاء معهم أليس الفرار منهم حقا واجبا والتخلص من بينهم غنما بلى إنه كذلك وبحق ما قيل‏:‏ (‏اعتزال العامة مروءة تامة‏).‏

قال أبو سليمان‏:‏ ومن مناقب العزلة أنها تحسم عنك أوهام المتجنين وتقطع مواد شكايات المتجرين‏.‏

وذلك أن طباع الناس متفاوتة متعادية وهممهم مختلفة ووساوس صدورهم كثيرة وإن سوء ضمائرهم يصور لهم ويوحي إلى قلوبهم أن إجتماع كل طائفة من الناس وتناجي كل شرذمة منهم إنما هو في التنفير عنهم والبحث عن عيوبهم أو في تبييت رأي ودسيس غائلة عليهم ويغلب هذا الظن خصوصا على من يحس من نفسه بتهمة ويعرف عند الناس بريبة وقد وصف الله عز وجل المنافقين بذلك فقال عزوجل ‏(‏يَحسَبونَ كُلَ صَيحَةٍ عَليهِم هم العدو فَاحذَرهُم قاتَلَهُمُ الله أَنّى يُؤفَكون‏) وما أحسن قول المتنبي في أهل هذه الطبقة حيث يقول‏:‏

إِذا ساءَ فِعلُ المَرءِ ظُنونَهُ وَصَدّقَ ما يَعتادُهُ مِن تَوَهُمِ ةوَعادى مُحِبيهِ بِقولِ عَداتِهِ وَأصبَحَ في لَيلٍ مِنَ الشَكِ مُظلِمُ قال بعضهم‏:‏ معاشرة الأشرار تورث سوء الظن بالأبرار فمن اعتزل الناس وانقطع عن مجالستهم فقد أحسن في هذا الباب الدفاع عن نفسه واستظهر بالاحتياط في طلب السلامة لها‏.‏

ومما يقطع بها عنك مواد الشكايات أنك إذا عرفت بها لم تستبطأ في حق إذا فاتك من عيادة أو شهود جنازة أو حضور إملاك أو وليمة أو نحوها فإن الناس إذا فقدوك عذروك وإذا وجدوك عذلوك واستقصروك وقد يكون للإنسان في بعض الأوقات أعذار لا تفصح بها الأخبار‏.‏

وقد روينا فيما مضى من هذا الكتاب عن مالك بن أنس أنه كان يشهد الجنائز ويعود المرضى ويؤدي الحقوق ثم ترك واحدا واحدا حتى تركها كلها وكان يقول‏:‏ ليس كل عذر يتهيأ للمرء أن يخبر به ويطلع الناس عليه قال‏:‏ وفي العزلة السلامة من قرين السوء وصاحب السوء وعشير السوء‏.‏

وقد شبهه رسول الله صلى الله عليه وسلم بحرق النار وقال عليه السلام‏:‏ (‏مثل جليس السوء كمثل الكير إن لم يحرقك بشرره علق بك من ريحه‏)‏‏.‏

أخبرنا أبو سليمان قال حدثنا ابن مالك قال حدثنا بشر بن موسى قال حدثنا الحميدي قال حدثنا سفيان قال حدثنا بريدة بن عبد الله بن أبي بردة عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم يعني ‏(به‏).‏

وقال بعض الحكماء‏:‏ إنك لن تصلح أبدا حتى تصلح جليسك قال‏:‏ وأنشدني بعض أهل العلم‏:‏ إِذا كُنتَ مِن أَهلِ العَفافِ فَلا يَكُن قَرينُكَ إِلا كُلَ مَن يَتَعَفَفِ وقد أفردنا لهذا بابا في الكتاب‏.‏

قال أبو سليمان وفي العزلة السلامة من التبذل لعوام الناس واحواشيهم والتصون عن ذلة الامتهان منهم وأمان الملال عن الصديق واستحداث الكراهية عند اللقاء فإن كل موجود مملول وكل ممنوع مطلوب‏.‏

وفي هذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ (‏زر غبا تزدد حبا)‏ أخبرنا أبو سليمان قال أخبرناه ابن الأعرابي قال حدثنا الحارث بن أبي أسامة قال حدثنا أبو عاصم قال حدثنا طلحة بن عمرو عن عطاء عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وَطولَ مَقامِ المَرءِ في الحَي مُخَلَقُ ** لِديباجَتَيه فاغتَرَبِ تَتَجَدَدِ

فَإِنّي رَأَيتُ الشَمسَ زيدَت مَحبَةً ** إِِلى الناسِ أَن لَيسَت عَليهِم بِسَرمَدِ

قال‏:‏ وفي العزلة أنها تستر الفاقة وتكشف جلباب التجمل فلا يظهر على عورة إن كانت وراءه تسوء صديقا أو تشمت عدوا فإن التجمل من شيم الأحرار وشمائل ذوي الهمم والأخطار وقد وصف الله تعالى به الأبرار من عباده فقال تعالى ذكره: (‏يَحسَبُهُمُ الجاهِلُ أَغنِياء مِنَ التَعَفُفِ‏)‏ قال أنشدني الكراني قال أنشدنا عبد الله بن شبيب العتابي‏:‏ إِنّ الكَريمَ لَيُخفي عَنكِ خِلَتَهُ حَتى تَراه غَنياً وَ هَوَ مَجهودُ وفي معناه لعلي بن الجهم‏:‏ وَلا عارَ إِن زالَت عَنِ الحُرِ نِعمَةً وَلَكِن عاراً أَن يَزولَ التَجَمُلُ وقال‏:‏ وفي العزلة أنها معينة لمن أراد نظرا في علم أو إثارة لدفين رأي أو استنباطا لحكمه لأن شيئا منها لا يجيء إلا مع خلاء الذرع وفراغ القلب ومخالطة الناس ملهاة ومشغلة‏.‏

أخبرنا أبو سليمان قال حدثني الحسين بن إسماعيل الفقيه قال بلغني أن محمد بن الحسن رحمة الله عليه لما أخذ في تصنيف (‏الجامع الكبير‏) خلا في سرداب وأمر أهله أن يراعوا وقت غدائه ووضوئه فيقدموا إليه حاجته منهما وأن يؤخذ من شعره إذا طال وأن ينظف ثوبه إذا اتسخ وأن لا يوردوا عليه شيئا يشتغل به خاطره وأقام على ماله وكيلا وفوض إليه أمره ثم أقبل على تصنيف الكتاب ولم يشعر غلا برجل ينزل إليه بشيء حتى وقف بين يديه فأنكره فقال له‏:‏ من أنت قال أنا صاحب الدار‏.‏

قال‏:‏ وكيف ذاك قال لأني قد ابتعت هذه الدار من فلان - يعني وكيله - وكان وكله إياه عن تفويض فاحتاج إلى الانتقال‏.‏

قال ولمجنون العامري في هذا‏:‏

وَإِنّي لأَستَغشي وَما بي نَعسَةٌ ** لَعَلَ خَيالاً مِنكِ يُلقي خَياليا

وَأَخرَجَ مِن بَينَ الجلوسِ لَعلَنَي ** أَحدَث عَنكَ النَفسَ بِالسِرِ خالِيا

قال أخبرنا أبو سليمان حدثنا ابن الأعرابي قال حدثنا أحمد بن عمر القطواني قال حدثنا عمرو بن مرزوق قال حدثنا زائدة عن الأعمش عن مسلم بن صبيح عن مسروق قال‏:‏ المر حقيق أن يكون له مجالس يخلو فيها فيذكر ذنوبه ويستغفر منها‏.‏

قال‏:‏ وفي العزلة السلامة من صحبة الثقيل ومؤنة النظر إليه فإن ذلك هو العمى الأصغر‏.‏

حدثنا أبو سليمان قال أخبرني الحسن بن عبد الرحيم عن الغلابي قال‏:‏ حدثنا عبد الله بن الضحاك عن الهيثم بن عدي قال قيل للأعمش‏:‏ مم عمشت عيناك قال‏:‏ من النظر إلى أخبرنا أبو سليمان قال حدثني محمد بن معاذ قال حدثنا أحمد بن محمد بن الحسن قال حدثنا العباس بن أبي طالب قال حدثنا إبراهيم بن المنذر قال حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن ابن سيرين قال‏:‏ سمعت رجلا يقول‏:‏ نظرت إلى ثقيل مرة فغشي عليّ‏.‏

قال وفي العزلة الأمان ببلد بست خاصة من دواهي الكنف الشارعة والمثاعب السائتلة فإن جنايتها عند أهلها جناية لا أرش لها ودماء قتلاها مطلولة لا عقل ولا قود فيها فكلما قل بروز الإنسان إليها وعبوره عليها كان أوفر لمروءته وأبقى لنظافته وأبعد له من أذاها وغائلتها وأسلم له من دائها وعاديتها‏.‏

  باب في خفة الظهر وقلة العيال والأهل

أخبرنا أبو سليمان قال أخبرنا ابن الأعرابي وقال حدثنا عباس بن عب الله الترقفي قال حدثنا داود بن الجراح عن سفيان عن منصور عن ربعي بن حراش عن حذيفة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (‏خياركم في المائتين كل خفيف الحاذ قالوا‏:‏ يا رسول الله وما الخفيف الحاذ قال‏:‏ الذي لا أهل له ولا ولد‏)‏.‏

اخبرنا أبو سليمان قال حدثنا أحمد بن إبراهيم بن مالك قال حدثنا بشر قال حدثنا الحميدي قال حدثنا سفيان قال حدثنا مطرح أبو المهلب عن عبيد الله بن زحر عن القاسم عن أبي أمامة الباهلي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (‏أغبط أوليائي عندي منزلة رجل مؤمن خفيف الحاذ ذو حظ من صلاة وكان غامضا فعجلت له منيته تراثه وقلت بواكيه‏).‏

قال أبو سليمان‏:‏ قد غبط النبي صلى الله عليه وسلم من كان بهذه الصفة من غموض الشخص وخمول الذكر في الناس واشترط له الرضا بقلة المال لأن القناعة تقطعه عن الناس واشترط له أيضا خفة العيال لئلا يشغله الكسب لهم ثم تعجيل الوفاة لئلا يطول مقامه فيما بينهم وهذه الأسباب كلها تشير إلى العزلة وتبين عن فضيلتها‏.‏

أخبرنا أبو سليمان قال أخبرنا ابن الأعرابي قال حدثنا أحمد بن ملاعب قال حدثنا ثابت بن محمد الزاهد قال حدثنا سفيان الثوري عن الأوزاعي عن عبد الرحمن إبن اليمان عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ (‏رحم عبد في سبيل الله إن كان غزو غزا فيه وإن كانت سرية خرج فيها وإن غاب لم يفتقد وإن شهد لم يعرف طوبى له ثم طوبى له)‏.‏

أخبرنا أبو سليمان قال حدثنا غبراهيم بن فراس قال حدثنا ابن سالم قال حدثنا اسحاق بن راهويه قال حدثنا عبد الرزاق قال حدثنا محمد بن مسلم عن إبراهيم من ميسرة عن ابن أبي سويد قال سمعت عمر بن عبد العزيز يقول‏:‏ (‏زعمت المرأة الصالحة خولة بنت حكيم أن رسول الله خرج وهو محتضن أحد ابني بنته وهو يقول‏:‏ والله إنكم لتبخلون وتجبنون وتجهلون وإنكم لمن قال أبو سليمان‏:‏ يريد أنهم يحملون الرجل على البخل والجبن ويدعونه إلى الجهل حبا لهم وشفقة عليهم‏.‏

قال أبو عمر أنشدنا أبو العباس ثعلب‏:‏ لَولا أُمَيمَةٌ لَم أَجزَع مِنَ العَدَمِ وَلَم أُجِب في الليالي حَندَسُ الظُلمِ وَزادَني حَذراً لِلمَوتِ مَعرِفَتي ذُلُ اليَتيمَةِ يَجفوها ذوو الرَحمِ تَهوى حَياتي وَأَهوى مَوتَها شَفقاً وَالمَوتُ أَكرَمُ نِزالٍ عَلى الحَرَمِ قال أبو سليمان وأنشدني ابن الزيبق قال أنشدنا الكديمي قال أنشدني الأصمعي لأعرابي‏:‏ لَقَد زادَ الحَياةَ إِليَّ حُباً بَناتي إِنّهُنّ من الضِعافِ مَخافَةَ أَن يُذقِنَ الفَقرُ بَعدي وَأن يَشرَبنَ رَنَقاً بَعدَ صافي وَأَن يَعرينَ إِن كَسى الجواري فَتَنبو العَينُ عَ كَومٍ عِجافِ قال وأنشدني بعض أهل الأدب لأعرابي‏:‏ وَإِنّي لأَهوى وَهُوَ يَغتالُ مُدَتي مُرورَ اللَيالي كي يَشِبَ حَكيمُ مَخافَة أَن يَغتالَنَي المَوتُ دونَهُ فَيغشَى بُيوتَ الحَي وَهوَ يَتيمُ أخبرنا أبو سليمان قال أخبرنا ابن الأعرابي قال حدثنا أبو داود قال حدثنا هناد ابن السري عن أبي الأحوص عن عطاء بن السائب عن أبي البختري قال‏:‏ كان بين عمار بن ياسر وبين رجل كلام في المسجد فقال عمار‏:‏ أسأل الله تعالى إن كنت كاذبا أن لا يميتك حتى يكثر مالك وولدك ويوطأ عقبك‏.‏

أخبرنا أبو سليمان قال أخبرني إسماعيل بن محمد قال حدثنا إسحاق إبن إبراهيم قال حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب قال حدثنا عمي قال حدثني ابن لهيعة عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال أن داود النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول (‏اللهم إني أعوذ بك من جار السوء ومن مال يكون عليَّ عذابا‏.‏

ومن ولد يكون عليَّ وبالا ومن زوجة تشيبني قبل المشيب ومن خليل ماكر عينه ترعاني وقلبه يشناني إن رأى خيرا أخفاه وإن رأى شرا أفشاه‏).‏

أخبرنا أبو سليمان قال أخبرنا أحمد بن محمد بن زياد قال ابن أبي الجحيم حدثنا عصمة بن سليمان الكوفي قال حدثنا جعفر بن أبي شعيب الكندي قال‏:‏ كان رجل من أهل البصرة وكانت له تجارة وكان له عقل فأراد الله خيرا فترك التجارة وأقبل على العبادة فكان يسمع الناس يقولون‏:‏ مالك بن دينار‏.‏

قال‏:‏ والله لأذهبن إلى مالك هذا الذي شغف الناس به فلأنظرن ما عمله قال فأتيته فإذا هو جالس وحوله قوم يقرؤون القرآن فجلست في جانب المسجد حتى تفرقوا وجاءه قوم آخرون فسمعوا الحديث وسمعوا الزهد والكلام فلما تفرقوا قام فصلى ركعتين أبو أربعاً ثم خرج وتبعته فقال لي‏:‏ ألك حاجة قلت‏:‏ نعم أردت أن أجيء معك إلى بيتك قال‏:‏ مر‏.‏

فذهبت معه فأدخلني إلى حجرة نظيفة وظل بارد رطب وبيت نظيف وفيه بدري ودورق ومطهرة وجلة فيها كسر فقلت‏:‏ يا مالك ألك امرأة قال‏:‏ أعوذ بالله‏.‏

قلت‏:‏ يا مالك ألك ولد قال‏:‏ أعوذ بالله‏.‏

قلت‏:‏ يا مالك ألك تجارة قال أعوذ بالله‏.‏

قلت‏:‏ يا مالك أعليك دين قال‏:‏ أعوذ بالله‏.‏

قلت يا مالك يزعم الناس أنك زاهد الناس وأنت خديم ناعم قال فشهق شهقة‏.‏

قال أبو سليمان صدق القائل فيما وصفه من أمر مالك إلا ما قصر فيه من التشبيه وإني لخريم ذلك وإنما قيل له الناعم للبسه الجيد في الشتاء والخلق في الصيف‏.‏

وما عسى أن يبلغ ذكك أو نحوه من التنعم ولعله من وراء ذلك قد يكون عليه عيال يؤدونه مؤنة تفدحه وتثقله وأمور من أسباب المعيشة تهمه وتكدره لكن الناعم حقا مالك وما سعد به من خفة الظهر وقلة من يشغله ويفتنه من العيال والأهل‏.‏

هذا إلى ما ناله من فضل العلم وحازه من كرم النفس‏.‏

وقد قيل‏:‏ في كثرة العيال فضيحة الرجال‏.‏

ويقال‏:‏ ما أيسر ذو عيال يفلح‏.‏

وقيل لسفيان بن عيينة في قبول عطاء السلطان فقال‏:‏ صاحب العيال لا يفلح‏.‏

قال‏:‏ وحكى لنا عن سفيان الثوري أنه كان يقول‏:‏ ما العيش إلا القفل والمفتاح وغرفة تصفقها   باب في ترك الاستكثار من الأصدقاء وما يستحب من قلة الالتقاء

أخبرنا أبو سليمان قال أخبرنا ابن الأعرابي قال حدثنا أحمد بن عبيد النخعي قال حدثنا مؤمل بن إهاب قال حدثنا مالك بن سعيد عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عمر قال: (‏أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال‏:‏ كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل‏)‏.‏

أخبرنا أبو سليمان قال حدثنا أحمد بن مالك قال حدثنا بشر بن موسى قال حدثنا الحميدي قال حدثنا سفيان قال حدثنا معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (‏تجدون الناس كإبل مائة ليس فيها راحلة‏) قال أبو سليمان الراحلة البعير الذلول الذي يرحل ويركب فاعل بمعنى مفعول كقولهم سر كاتم أي مكتوم وماء دافق بمعنى مدفوق يريد والله أعلم ليعلم أن غير الواحد من المائة من الناس لا يصلح أن يصحب كما أن غير الواحد من هذه المائة من الإبل لا يصلح أن يركب يشير به إلى الإقلال من صحبة الناس والتحذير منهم‏.‏

أخبرنا أبو سليمان قال حدثني محمد بن إبراهيم المكتب قال حدثنا شكر قال حدثنا إبراهيم بن هانئ قال حدثنا سعيد بن عفير قال حدثنا يحيى بن أيوب عن موسى بن علي عن أبيه عن عمرو بن العاص أنه قال‏:‏ (إذا كثر الأخلاء كثر الغرماء‏).‏

أخبرنا أبو سليمان قال أخبرني أبو عمر غلام ثعلب قال حدثنا السياري عن الناشىء قال‏:‏ الإستكثار من الإخوان وسيلة الهجران قال أبو سليمان‏:‏ يريد أنهم إذا كثروا كثرت حقوقهم فلم يسعهم برَك فإذا تأخرت عنهم حقوقهم استبطؤوك فهجروك وعادوك وما أحسن ما عبر به ابن الرومي عن هذا حيث يقول‏:‏ عَدوُكَ مِن صَديقِكَ مُستَفادُ فَلا تَستَكثِرنَ مِنَ الصٍحابِ فَإِنّ الدَاءَ أَولَ ما تَراهُ يَكونُ مِن الطَعامِ أو الشَرابِ قال أبو سليمان‏:‏ فأما قول سفيان الثوري‏:‏ كثرة أصدقاء المرء من سخافة دينه يريد أنه ما لم يداهنهم ولم يحابهم لم يكثروا لأن الكثرة إنما هي في أهل الريبة وإذا كان الرجل صلب الدين لم يصحب إلا الأبرار الأتقياء وفيهم قلة‏.‏

قال أنشدني بعض العلماء لبعض الشعراء‏:‏ لَكَلِ اِمرىء شَكلٌ مِنَ الناسِ مِثلُهُ فَأكثَرُهُم شَكلاً أَقَلُهُم عَقلاً وَكُلُ أُناسٍ آلفونَ لِشَكلِهِم فَأَكثَرُهُم عَقلاً أَقَلُهُم شَكلاً أخبرنا أبو سليمان قال حدثونا عن محمد بن الحسن الخلادي قال‏:‏ قال يوسف بن أسباط‏:‏ كنت مع سفيان في المسجد فنظر إلى الخلق فقال‏:‏ ترى هذا الخلق ما تسرني مؤاخاتهم بقيراط فلوس‏.‏

أخبرنا أبو سليمان قال أخبرنا محمد بن منصور قال حدثنا محمد بن المنذر قال حدثنا محمد بن مسلمة الواسطي قال سمعت عبد الله بن يزيد المقرىء قال سمعت ابن عون يقول‏:‏ أسىء ظنك بالناس تقع قريبا وأقل معرفة الناس تسلم‏.‏

أخبرنا أبو سليمبان قال حدثنا محمد بن إبراهيم المكتب قال حدثنا شكر قال حدثنا اسحاق بن إبراهيم بن موسى قال حدثنا إسماعيل بن محمود عن سفيان أن يونس بن عبيد أصيب بمصيبة فقيل له‏:‏ إن ابن عون لم يأتك فقال‏:‏ إنا إذا وثقنا بمودة أخينا ثم يضرنا أن لا يأتينا‏.‏

أخبرنا أبو سليمان قال أخبرنا ابن الأعرابي قال حدثنا مشرف بن سعيد الواسطي قال حدثنا بشر بن قطن قال سمعت شبيب بن شبة يقول‏:‏ إن من إخواني من لا يأتيني في السنة إلا اليوم الواحد هم الذين أعدهم للمحيا والممات‏.‏

ومنهم من يأتيني كل يوم فيقبلني وأقبله ولو قدرت أن أجعل مكان قبلتي إياه عضة لعضضته‏.‏

أخبرنا أبو سليمان قال أخبرنا أبو فارس قال سمعت اسحاق بن إبراهيم يقول‏:‏ كان بين عبد الرحمن بن مهدي ويحيى بن سعيد القطان مودة وإخاء وكانت السنة تمر عليهما لا يلتقيان فقيل لأحدهما في ذلك فقال‏:‏ إذا تقاربت القلوب لم يضر تباعد الأجسام‏.‏

أو كلمة نحوها‏.‏

قال‏:‏ ولقد أبلغ القائل في هذا حين يقول‏:‏ رَأَيتُ تُهاجِرُ الإِلفينَ بَراً إذا اِصطَحَبَ عَلى الوُدِ القُلوب أخبرنا أبو سليمان قال حدثت عن الخلادي قال‏:‏ كتب رجل من أهل الموصل إلى بشر بن الحارث يستأذنه أن يلقاه فقال بشر‏:‏ أحب إخواني إليّ من لا يراني ولا أراه‏.‏

أخبرنا أبو سليمان قال أخبرني إسماعيل بن أسد قال حدثنا اسحاق بن إبراهيم قال سمعت ابن حرب يقول‏:‏ زار الزيادي العتابي فأراد العتابي أن يتزحزح له عن البساط فقال الزيادي‏:‏ مكانك فإن البساط لا يضيق على متحابين والدنيا لا تتسع للمتباغضين‏.‏

أخبرني أبو سليمان قال حدثنا عبد الله بن الزبير قال حدثنا ابن عمرو قال حدثنا أبي قال سمعت عبد الرحمن بن مهدي قال‏:‏ سمعت ابن المبارك يقول‏:‏ إذا قدم الإخاء قبح الثناء‏.‏

أخبرنا أبو سليمان قال أخبرني الدقاق النحوي قال‏:‏ اجتمع أبو العباس ابن سريج وأبو العباس المبرد وأبوبكر بن داود في طريق فأفضى بهم إلى مضيق فتقدم ابن سريج وتلاه أبو العباس محمد المبرد وتأخر ابن داود فلما خرجوا إلى الفضاء التفت ابن سريج فقال‏:‏ العلم قدمني فقال ابن داود‏:‏ الأدب أخرني فقال لهما المبرد أخطأتما جميعا إذا صحت المودة سقط التكلف والتعمل‏.‏

قال أبو سليمان‏:‏ وأعلى ما يذكر في هذا الباب قول ابن عباس قال أخبرناه إبن الأعرابي قال حدثنا سعدان قال حدثنا سفيان عن إبراهيم بن ميسرة عن طاوس قال سمعت ابن عباس يقول‏:‏ إن الرحم تقطع وإن النعم تكفر ولم يُر مثل تقارب القلوب‏.‏

أخبرنا أبو سليمان قال أخبرني محمد بن الحسين بن عاصم قال حدثنا محمد بن اسحاق الثقفي قال سمعت إبراهيم بن بشار يقول سمعت علي بن الفضل قال‏:‏ اتفق أبي وابن المبارك على باب بني شيبة فقال ابن المبارك‏:‏ يا أبا علي ادخل بنا المسجد حتى نتذاكر فقال الفضل لابن المبارك‏:‏ إذا دخلنا المسجد أليس تريد أن تحدثني بغريب ما عندك وأحدثك بغريب ما عندي من العلم فقال ابن المبارك‏:‏ بل فانصرفا ولم يدخلا المسجد قال أبو سليمان‏:‏ وإنما كره من هذا التصنع وخاف الرياء‏.‏

ونحو هذا قول الفضيل‏:‏ لأن يلقى القارىء الشيطان خير له من أن يرى قارئا مثله‏.‏