فصل: أساس الخير الإيمان بما شاءه تعالى:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الفوائد (نسخة منقحة)



.الرغبة في الآخرة تقتضي الزهد بالدنيا:

لا تتم الرغبة في الآخرة إلا بالزهد في الدنيا، ولا يستقيم الزهد في الدنيا إلا بعد نظرين صحيحين: نظر في الدنيا وسرعة زوالها، وفنائها، واضمحلالها، ونقصها، وخستها، وألم المزاحمة عليها والحرص عليها، وما في ذلك من الغصص والنغص والأنكاد، وآخر ذلك الزوال والانقطاع مع ما يعقب من الحسرة والأسف، فطالبها لا ينفك من هم قبل حصولها وهم في حال الظفر بها، وغم الحزن بعد فواتها فهذا أحد النظرين.
النظر الثاني: النظر في الآخرة وإقبالها ومجيئها ولا بد، ودوامها وبقائها وشرف ما فيها من الخيرات والمسرات، والتفاوت الذي بينه وبين ما ههنا. فهي كما قال الله سبحانه: {والآخرة خير وأبقى} الآية: 17 من سورة الأعلى فهي خيرات كاملة دائمة. وهذه خيالات ناقصة متقطعة مضمحلة. فإذا تم له هذان النظران آثر ما يقتضي العقل إيثاره، وزهد فيما يقتضي الزهد فيه، فكل أحد مطبوع على أن يترك النفع العاجل واللذة الحاضرة إلى النفع الآجل واللذة الغائبة المنتظرة إلا إذا تبين له فضل الآجل على العاجل وقويت رغبته في الأعلى الأفضل، فإذا آثر الفاني الناقص كان ذلك إما لعدم تبين الفضل له، وإما لعدم رغبته في الأفضل، وكل واحد من الأمرين يدل على ضعف الإيمان وضعف العقل والبصيرة، فإن الراغب في الدنيا الحريص عليها المؤثر لها: إما أن يصدق بأن ما هناك أشرف وأفضل وأبقى وإما ألا يصدق، فإن لم يصدق ذلك كان عادماً للإيمان رأساً، وإن صدق بذلك ولم يؤثره كان فاسد العقل سيئ الاختيار لنفسه.
وهذا تقسيم حاضر لا ينفك العبد من أحد القسمين منه، فإيثار الدنيا على الآخرة إما فساد في الإيمان وإما من فساد في العقل. وما أكثر ما يكون منهما؛ ولهذا نبذها رسول الله صلى الله عليه وسلم وراء ظهره هو وأصحابه وصرفوا عنها قلوبهم واطرحوها ولم يألفوها، وهجروها ولو يميلوا إليها، وعدوها سجناً لا جنة؛ فزهدوا فيها حقيقة الزهد، ولو أرادوها لنالوا منها كل محبوب، ولوصلوا منها إلى كل مرغوب، فقد عرضت عليه مفاتيح كنورها فردوها، وفاضت على أصحابه فآثروا بها ولم يبيعوا حظهم من الآخرة بها. وعلموا أنها معبر وممر لا دار مقام ومستقر، وأنها دار سرور. وأنها سحابة صيف تنقشع عن قليل، وخيال طيف ما استتم الزيارة حتى أذن بالرحيل.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما لي وللدنيا إنما أنا كراكب قال في ظل شجرة ثم راح وتركها» رواه البخاري ومسلم وقال: «ما الدنيا في الآخرة إلا كما يدخل أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بما رجع».
وقال خالقهما سبحانه: {إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون. والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} الآيتان 24، 25 من سورة يونس فأخبر عن خسة الدنيا وزهَّد فيها وأخبر عن دار السلام ودعا إليها.
وقال تعالى: {واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيماً تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدراً المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير أملا} الآيتان 45،46 من سورة الكهف.
وقال تعالى: {اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرًّا ثم يكون حطاماً وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور} الآية 20 من سورة الحديد.
وقال تعالى: {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب. قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد} الآيتان 14،15 من سورة آل عمران.
وقال تعالى: {وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع} الآية 26 من سورة الرعد.
وقد توعد سبحانه أعظم الوعيد لمن رضي بالحياة الدنيا واطمأن بها وغفل عن آياته ولم يرج لقاءه فقال: {إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون} الآيتان 7،8 من سورة الشعراء.
وعير سبحانه من رضي بالحياة الدنيا من المؤمنين فقال: {يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل} الآية 38 من سورة التوبة.
وعلى قدر رغبة في الدنيا ورضاه بها يكون تثاقله عن طاعة الله وطلب الآخرة.
ويكفي في الزهد في الدنيا قوله تعالى {أفرأيت إن متعناهم سنين. ثم جاءهم ما كانوا يوعدون. ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون} الآيتان 205-207 من سورة الشعراء.
وقوله: {ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم} الآية 45 من سورة يونس.
وقوله: {كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون} الآية 35 من سورة الأحقاف.
وقوله تعالى: {يسألونك عن الساعة أيان مرساها. فيم أنت من ذكراها. إلى ربك منتهاها. إنما أنت منذر من يخشاها. كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها} الآيات 42-46 من سورة النازعات.
وقوله: {ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة} الآية 35 من سورة الروم.
وقوله: {قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين. قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم فاسأل العادِّين. قال إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون} الآيتان 112-114 من سورة المؤمنون.
وقوله: {يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقاً. يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشراً. نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوماً} الآيتان 103، 104 من سورة طه.
والله المستعان وعليه التكلان.

.أساس الخير الإيمان بما شاءه تعالى:

أساس كل خير أن تعلم أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فتتيقن حينئذ أن الحسنات من نعمه فتشكره عليها. وتتضرع إليه ألا يقطعان عنك، وأن السيئات من خذلانه وعقوبته، فنبتهل إليه أن يحول بينك وبينها، ولا يكلك في فعل الحسنات وترك السيئات إلى نفسك.
وقد أجمع العارفون على أن كل خير فأصله بتوفيق الله للعبد. وكل شر فأصله خذلانه لعبده. وأجمعوا أن التوفيق ألا يكلك الله نفسك وأن الخذلان هو أن يخلي بينك وبين نفسك. فإذا كان كل خير فأصله التوفيق وهو بيد العبد فمفتاحه الدعاء والافتقار وصدق اللجئ والرغبة والرهبة إليه، فمتى أعطي العبد هذا المفتاح فقد أراد أن يفتح له، ومتى أضله عن المفتاح بقي باب الخير مُرْتَجًا دونه.
قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: إني لا أحمل هم الإجابة ولكن هم الدعاء فإن الإجابة معه. وعلى قدر نية العبد وهمته ومراده ورغبته في ذلك يكون توفيقه سبحانه وإعانته، فالمعونة من الله تنزل على العباد على قدرهم وثباتهم ورغبتهم ورهبتهم، والخذلان ينزل عليهم على حسب ذلك، فالله سبحانه أحكم الحاكمين وأعلم العالمين، يضع التوفيق في مواضعه اللائقة به والخذلان في مواضعه اللائقة به، وهو العليم الحكيم.
وما أتي من أتي إلا من قِبَل إضاعة الشكر وإهمال الافتقار والدعاء، ولا ظفر من ظفر بمشيئة الله وعونه إلا بقيامه بالشكر وصدق الافتقار والدعاء. وملاك ذلك الصبر فإنه من الإيمان بمنزله الرأس من الجسد، فإذا قطع الرأس فلا بقاء لجسد.
ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب والبعد عن الله.
خلقت النار لإذابة القلوب القاسية.
أبعد القلوب من الله القلب القاسي.
إذا قسا القلب قحطت العين.
قسوة القلب من أربعة أشياء إذا جاوزت قدر الحاجة: الأكل والنوم والكلام والمخاطبة. كما أن البدن إذا مرض لم ينفع فيه الطعام والشراب. فكذلك القلب إذا مرض بالشهوات لم تنجح فيه المواعظ.
من أراد صفاء قلبه فليؤثر الله على شهوته.
القلوب المتعلقة بالشهوات محجوبة عن الله بقدر تعلقها بها.
القلوب آنية الله في أرضه، فأحبها إليه أرقها وأصلبها وأصفاها.
شغلوا قلوبهم بالدنيا، ولو شغلوها بالله والدار الآخرة لجالت في معاني كلامه وآياته المشهودة ورجعت إلى أصحابها بغرائب الحكم وظرف الفوائد.
إذا غذي القلب بالتذكر وسقي بالتفكر ونقي من الدغل، رأى العجائب وألهم الحكمة.
ليس كل من تحلى بالمعرفة والحكمة وانتحلها كان من أهلها، بل أهل المعرفة والحكمة الذين أحيوا قلوبهم بقتل الهوى. وأما من قتل قلبه فأحيا الهوى، فالمعرفة والحكمة عارية على لسانه.
خراب القلب من الأمن والغفلة، وعمارته من الخشية والذكر.
إذا زهدت القلوب في موائد الدنيا قعدت على موائد الآخرة بين أهل تلك الدعوة، وإذا رضيت بموائد الدنيا فاتتها تلك الموائد.
الشوق إلى الله ولقائه نسيم يهب على القلب يروح عنه وهج الدنيا.
من وطن قلبه عند ربه سكن واستراح، ومن أرسله في الناس اضطرب واشتد به القلق.
لا تدخل محبة الله في قلب فيه حب الدنيا إلا كما يدخل الجمل في سم الإبرة.
إذا أحب الله عبدا اصطنعه لنفسه واجتباه لمحبته واستخلصه لعبادته فشغل همته بخدمته.

.مرض القلب:

والقلب يمرض كما يمرض البدن وشفاؤه في التوبة والحمية، ويصدأ كما تصدأ المرآة وجلاؤه بالذكر. ويعرى كما يعرى الجسم وزينته التقوى، ويجوع ويظمأ كما يجوع البدن، وشرابه المعرفة والمحبة والتوكل والإنابة والخدمة.
إياك والغفلة عمن جعل لحياتك أجلا ولأيامك وأنفاسك أمداً، ومن كل ما سواه بد ولا بد لك منه.

.ترك الاختيار:

من ترك الاختيار والتدبير في طلب زيادة دنيا أو جاه أو في خوف نقصان أو في التخلص من عدو؛ توكلا على الله وثقة بتدبيره له وحسن اختياره له، فألقى كنفه بين يديه وسلم الأمر إليه ورضي بما يقضيه له، استراح من الهموم والغموم والأحزان. ومن أبى إلا بتدبيره لنفسه وقع في النكد والنصب وسوء الحال والتعب، فلا عيش يصفو، ولا قلب يفرح، ولا عمل يزكو، ولا أمل يقوم، ولا راحة تدوم.
والله سبحانه سهل لخلقه السبيل إليه، وحجبهم عنه بالتدبير، فمن رضي بتدبير الله له وسكن إلى اختياره وسلم لحكمه، أزال ذلك الحجاب فأفضى القلب إلى ربه واطمأن إليه وسكن.
المتوكل لا يسأل غير الله ولا يرد على الله ولا يدخر مع الله.
من شغل بنفسه شغل عن غيره، ومن شغل بربه شغل عن نفسه.
الإخلاص هو ما لا يعلمه ملك فيكتبه، ولا عدو فيفسده، ولا يعجب به صاحبه فيبطله.
الرضا سكون القلب تحت مجاري الأحكام.
الناس في الدنيا معذبون على قدرهم بها.
للقلب ستة مواطن يجول فيها لا سابع لها: ثلاثة سافلة وثلاثة عالية: فالسافلة: دنيا تتزين له، ونفس تحدثه، وعدو يوسوس له. فهذه مواطن الأرواح السافلة التي لا تزال تجول فيها. والثلاثة العالية: علم يتبين له، وعقل يرشده، وإله يعبده. والقلوب جوالة في هذه المواطن.
اتباع الهوى وطول الأمل مادة كل فساد، فإن اتباع الهوى يعمي عن الحق معرفة وقصداً. وطول الأمل ينسي الآخرة ويصد عن الاستعداد لها.
لا يشم عبد رائحة الصدق ويداهن نفسه أو يداهن غيره.
إذا أراد الله بعبد خيرا جعله معترفا بذنبه ممسكا عن ذنب غيره، جوادا بما عنده، زاهداً فيما عند غيره، محتملا لأذى غيره، وإن أراد به شرا عكس ذلك.
الهمة العلية لا تزال حائمة حول ثلاثة أشياء: تعرف الصفة من الصفات العليا؛ تزداد بمعرفتها محبة وإرادة، وملاحظة المنة؛ تزداد بملاحظتها شكراً وطاعة، وتذكُّر الذنب؛ تزداد بتذكره توبة وخشية، فإذا تعلقت الهمة بسوى هذه الثلاثة جالت في أودية الوساوس والخطرات.
من عشق الدنيا نظرت إلى قدرها عنده فصيرته من خدمها وعبيدها وأذلته، ومن أعرض عنها نظرت إلى كبر قدره فخدمته وذلت له.
إنما يقطع السفر ويصل المسافر بلزوم الجادة وسير الليل، فإذا حاد المسافر عن الطريق ونام كله فكيف يصل مقصده؟

.قبول فتوى العالم الزاهد في دنياه:

كل من آثر الدنيا من أهل العلم واستحبها، فلا بد أن يقول على الله غير الحق في فتواه وحكمه، وفي خبره وإلزامه؛ لأن أحكام الرب سبحانه كثيراً ما تأتي على خلاف أغراض الناس ولا سيما أهل الرياسة والذين يتبعون الشبهات فإنهم لا تتم لهم أغراضهم إلا بمخالفة الحق ودفعه كثيراً.
فإذا كان العالم والحاكم محبين للرياسة متبعين للشهوات لم يتم لهما ذلك إلا بدفع ما يضاده من الحق ولا سيما إذا قامت له شبهة فتتفق الشبهة والشهوة ويثور الهوى فيخفى الصواب وينطمس وجه الحق، وإن كان الحق ظاهراً لا خفاء به ولا شبهة فيه أقدم على مخالفته وقال: لي مخرج بالتوبة، وفي هؤلاء وأشباههم قال تعالى: {فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات} الآية 59 من سورة مريم. وقال الله تعالى فيهم أيضاً: {فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون} الآية 169 من سورة الأعراف. فأخبر سبحانه أنهم أخذوا العرض الأدنى مع علمهم بتحريمه عليهم وقالوا سيغفر لنا، وإن عرض لهم عرض آخر أخذوه، فهم مصرون على ذلك، وذلك هو الحامل لهم على أن يقولوا على الله غير الحق، فيقولون: هذا حكمه وشرعه ودينه، وهم يعلمون أن دينه وشرعه وحكمه خلاف ذلك، أو لا يعلمون أن ذلك دينه وشرعه وحكمه، فتارة يقولون على الله ما لا يعلمون وتارة يقولون عليه ما يعلمون بطلانه.
وأما الذين يتقون فيعلمون أن الدار الآخرة خير من الدنيا فلا يحملهم حب الرياسة والشهوة على أن يؤثروا الدنيا على الآخرة. وطريق ذلك أن يتمسكوا بالكتاب والسنة ويستعينوا بالصبر والصلاة، ويتفكروا في الدنيا وزوالها وخستها، والآخرة وإقبالها ودوامها، وهؤلاء لا بد أن يبتدعوا في الدين مع الفجور في العمل، فيجتمع لهم الأمران، فإن اتباع الهوى يعمي عين القلب فلا يميز بين السنة والبدعة، أو ينكسه فيرى البدعة سنة والسنة بدعة، فهذه آفة العلماء إذا آثروا الدنيا واتبعوا الرياسات والشهوات. وهذا الآيات فيهم إلى قوله: {واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين. ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث} الآيتان 175، 176 من سورة الأعراف فهذا مثل عالم السوء الذي يعمل بخلاف عمله.
وتأمل ما تضمنته هذه الآية من ذمه وذلك من وجوه:
أحدها: أنه ضل بعد العلم واختار الكفر على الإيمان عمداً لا جهلاً.
ثانيها: أنه فارق الإيمان مفارقة من لا يعود إليه أبداً فإنه انسلخ من الآيات بالجملة كما تنسلخ الحية من قشرها، ولو بقي معه منها شيء لم ينسلخ منها.
ثالثها: أن الشيطان أدركه ولحقه بحيث ظفر به وافترسه، ولهذا قال: {فأتبعه الشيطان} ولم يقل: يتبعه، فإن في معنى {أتبعه}: أدركه ولحقه، وهو أبلغ من {تبعه} لفظاً ومعنى.
رابعها: أنه غوي بعد الرشد، وألفى الضلال في العلم والقصد. وهو أخص بفساد القصد والعمل، كما أن الضلال أخص بفساد العلم والاعتقاد، فإذا أُفرد أحدهما دخل فيه الآخر، وإن اقترنا فالفرق ما ذكر.
خامسها: أنه سبحانه لم يشأ أن يرفعه بالعلم فكان سبب هلاكه؛ لأنه لم يرفع به فصار وبالاً عليه، فلو لم يكن عالماً كان خيراً له وأخف لعذابه.
سادسها: أنه سبحانه أخبر عن خسة همته وأنه اختار الأسفل الأدنى على الأشرف الأعلى.
سابعها: أن اختياره للأدنى لم يكن عن خاطر وحديث نفس، ولكنه كان عن إخلاد إلى الأرض وميل بكليته إلى ما هناك. وأصل الإخلاد: اللزوم على الدوام كأنه قيل لزم الميل إلى الأرض. ومن هذا يقال: أخلد فلان بالمكان إذا لزم الإقامة به، قال مالك بن نويرة:
بأبناء حي من قبائل مالك ** وعمرو بن يربوع أقاموا فأخلدوا

وعبر عن ميله إلى الدنيا بإخلاده إلى الأرض؛ لأن الدنيا هي الأرض وما فيها وما يستخرج من الزينة والمتاع.
ثامنها: أنه رغب عن هداه واتبع هواه فجعل هواه إماماً له يقتدي به ويتبعه.
تاسعها: أنه شبهه بالكلب الذي هو أخس الحيوانات همة، وأسقطها نفساً وأبخلها وأشدها كلباً؛ ولهذا سمي كلباً.
عاشرها: أنه شبه لهثه على الدنيا وعدم صبره عنها وجزعه لفقدها وحرصه على تحصيلها بلهث الكلب في حالتي تركه والحمل عليه بالطرد وهكذا. هذا إن ترك فهو لهثان على الدنيا، وإن وعظ وزجر فهو كذلك، فاللهث لا يفارقه في كل حال كلهث الكلب.
قال ابن قتيبة: كل شيء يلهث فإنما يلهث من إعياء أو عطش إلا الكلب فإنه يلهث في الكلال وحال الراحة، وحال الري وحال العطش، فضربه الله مثلا لهذا الكافر فقال: إن وعظته فهو ضال، وإن تركته فهو ضال كالكلب إن طردته لهث وإن تركته على حاله لهث. وهذا التمثيل لم يقع بكل كلب وإنما وقع بالكلب اللاهث. وذلك أسوأ ما يكون وأشنعه.

.احذروا فتنة العالم الفاجر وفتنة العابد الجاهل:

فهذا حال العالم المؤثر الدنيا على الآخرة. وأما العابد الجاهل فآفته من إعراضه عن العلم وأحكامه وغلبة خياله وذوقه ووجده وما تهواه نفسه. ولهذا قال سفيان بن عيينة وغيره: احذروا فتنة العالم الفاجر، وفتنة العابد الجاهل فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون، فهذا بجهله يصد عن العلم وموجبه، وذاك بغيه يدعو إلى الفجور.
وقد ضرب الله سبحانه وتعالى مثل النوع الآخر بقوله: {كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين. فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها وذلك جزاء الظالمين} الآيتان: 16،17 من سورة الحشر وقصته معروفة فإنه بنى أساس أمره على عبادة الله بجهل فأوقعه الشيطان بجهله، وكفره بجهله. فهذا إمام كل عابد جاهل يكفر ولا يدري. وذاك إمام كل عالم فاجر يختار الدنيا على الآخرة، وقد جعل سبحانه رضا العبد بالدنيا وطمأنينته وغفلته عن معرفة آياته وتدبرها والعمل بها سبب شقائه وهلاكه. ولا يجتمع هذان _ أعني: الرضا بالدنيا والغفلة عن آيات الرب _ إلا في قلب من لا يؤمن بالمعاد ولا يرجو لقاء رب العباد، وإلا فلو رسخ قدمه في الإيمان بالمعاد لما رضي الدنيا ولا اطمئن إليها، ولا أعرض عن آيات الله.
وأنت إذا تأملت أحوال الناس وجدت هذا الضرب هو الغالب على الناس وهم عمار الدنيا، وأقل الناس عدداً من هو خلاف ذلك، وهو من أشد الناس غربة بينهم، لهم شأن وله شأن، علمه غير علومهم وإرادته غير إرادتهم. وطريقه غير طريقهم، فهو في واد وهم في واد، قال تعالى: {إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون. أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون} الآيتان 7،8 من سورة يونس.
ثم ذكر وصف ضد هؤلاء ومآلهم وعاقبتهم بقوله: {الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم} الآية 9 من سورة يونس فهؤلاء إيمانهم بلقاء الله أورثهم عدم الرضا بالدنيا والطمأنينة إليها ودوام ذكر آياته.
فهذه مواريث الإيمان بالمعاد وتلك مواريث عدم الإيمان به والغفلة عنه.