فصل: العوائق:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الفوائد (نسخة منقحة)



.الإخلاص وحب الثناء لا يجتمعان:

لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبة المدح والثناء والطمع فيما عند الناس إلا كما يجتمع الماء والنار والضب والحوت. فإذا حدثتك نفسك بطلب الإخلاص فأقبل على الطمع أولا فاذبحه بسكين اليأس، وأقبل على المدح والثناء فازهد فيهما زهد عشاق الدنيا في الآخرة، فإذا استقام لك ذبح الطمع والزهد في الثناء والمدح سهل عليك الإخلاص.
فإن قلت: وما الذي يسهل علي ذبح الطمع، والزهد في الثناء والمدح؟ قلت: أما ذبح الطمع فيسهله عليك علمك يقينا أنه ليس من شيء يطمع فيه إلا وبيد الله وحده خزائنه لا يملكها غيره ولا يؤتي العبد منها شيئا سواه. وأما الزهد في الثناء والمدح فيسهله عليك علمك أنه ليس أحد ينفع مدحه ويزين ويضر ذمه ويشين إلا الله وحده، كما قال ذلك الأعرابي للنبي صلى الله عليه وسلم: إن مدحي زين وذمي شَيْن، فقال: ذلك الله عز وجل. فازهد في مدح من لا يزينك مدحه وفي ذم من لا يشينك ذمه، وارغب في مدح من كل الزين في مدحه وكل الشين في ذمه، ولن يقدر على ذلك إلا بالصبر واليقين فمتى فقدت الصبر واليقين كنت كمن أراد السفر في البحر في غير مركب. قال تعالى: {فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون} سورة الروم: الآية رقم: 60، وقال تعالى: {وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون} السجدة: الآية رقم: 24

.اللذة حسب الهمة:

لذة كل أحد على حسب قدره وهمته وشرف نفسه، فأشرف الناس نفسا وأعلاهم همة وأرفعهم قدرا من لذته في معرفة الله ومحبته والشوق إلى لقائه والتودد إليه بما يحبه ويرضاه فلذته في إقباله عليه وعكوف همته عليه ودون ذلك مراتب لا يحصيها إلا الله، حتى تنتهي إلى من لذته في أخس الأشياء من القاذورات والفواحش في كل شيء من الكلام والفعال والأشغال. فلو عرض عليه ما يلتذ به الأول لم تسمح نفسه بقبوله ولا التفتت إليه وربما تألمت من ذلك، كما أن الأول إذا عرض عليه ما يلتذ به هذا لم تسمح نفسه به ولم تلتفت إليه ونفرت نفسه منه.
وأكمل الناس لذة من جمع له بين لذة القلب والروح ولذة البدن، فهو يتناول لذاته المباحة على وجه لا ينقص حظه من الدار الآخرة ولا يقطع عليه لذة المعرفة والأنس بربه فهذا ممن قال تعالى فيه: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة} سورة الأعراف: الآية رقم: 22، وأنجسهم حظا من اللذة من تناولها على وجه يحول بينه وبين لذات الآخرة فيكون ممن يقال لهم يوم استيفاء اللذات: {أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها} الأحقاف: الآية رقم: 20، فهؤلاء تمتعوا بالطيبات وأولئك تمتعوا بالطيبات. وافترقوا في وجه التمتع، فأولئك تمتعوا بها على الوجه الذي آذن لهم فيه فجمع لهم بين لذة الدنيا والآخرة وهؤلاء تمتعوا بها على الوجه الذي دعاهم إليه الهوى والشهوة وسواء أذن لهم فيه أم لا، فانقطعت عنهم لذة الدنيا وفاتتهم لذة الآخرة فلا لذة الدنيا دامت لهم ولا لذة الآخرة حصلت لهم، فمن أحب اللذة ودوامها والعيش الطيب فليجعل لذة الدنيا موصلا له إلى لذة الآخرة بأن يستعين بها على فراغ قلبه لله إرادته وعبادته، فيتناولها بحكم الاستعانة والقوة على طلبه لا بحكم مجرد الشهوة والهوى، وإن كان ممن زويت عنه لذات الدنيا وطيباتها فليجعل ما نقص منها زيادة في لذة الآخرة، ويجم نفسه ههنا بالترك ليستوفيها كاملة هناك، فطيبات الدنيا ولذاتها نعم العون لمن صح طلبه لله والدار الآخرة وكانت همته لما هناك، وبئس القاطع لمن كانت هي مقصوده وهمته، وحولها يدندن، وفواتها في الدنيا نعم العون لطالب الله والدار الآخرة، وبئس القاطع النازع من الله والدار الآخرة. فمن أخذ منافع الدنيا على وجه لا ينقص حظه من الآخرة ظفر بهما جميعا وإلا خسرهما جميعا.

.آثار ترك المعاصي:

سبحان الله رب العالمين. لو لم يكن في ترك الذنوب والمعاصي إلا إقامة المروءة وصون العرض وحفظ الجاه وصيانة المال الذي جعله الله قواما لمصالح الدنيا والآخرة، ومحبة الخلق وجواز القول بينهم وصلاح المعاش وراحة البدن وقوة القلب وطيب النفس ونعيم القلب وانشراح الصدر، والأمن من مخاوف الفساق والفجار، وقلة الهم والغم والحزن، وعز النفس عن احتمال الذل، وصون نور القلب أن تطفئه ظلمة المعصية، وحصول المخرج له مما ضاق على الفساق والفجار، وتيسير الرزق عليه من حيث لا يحتسب، وتيسير ما عسر على أرباب الفسوق والمعاصي، وتسهيل الطاعات عليه، وتيسير العلم والثناء الحسن في الناس، وكثرة الدعاء له، والحلاوة التي يكتسبها وجهه، والمهابة التي تلقى له في قلوب الناس، وانتصارهم وحميتهم له إذا أوذي وظلم، وذبهم عن عرضه إذا اغتابه مغتاب، وسرعة إجابة دعائه، وزوال الوحشة التي بينه وبين الله، وقرب الملائكة منه، وبعد شياطين الإنس والجن منه، وتنافس الناس على خدمته وقضاء حوائجه، وخطبتهم لمودته وصحبته، وعدم خوفه من الموت، بل يفرح به لقدومه على ربه ولقائه له ومصيره إليه، وصغر الدنيا في قلبه، وكبر الآخرة عنده، وحرصه على الملك الكبير، والفوز العظيم فيها، وذوق حلاوة الطاعة ووجد حلاوة الإيمان، ودعاء حملة العرش ومن حوله من الملائكة له، وفرح الكاتبين به ودعاؤهم له كل وقت، والزيادة في عقله وفهمه وإيمانه ومعرفته، وحصول محبة الله له وإقباله عليه وفرحه بتوبته، وهكذا يجازيه بفرح وسرور لا نسبة له إلى فرحه وسروره بالمعصية بوجه من الوجوه.
فهذه بعض آثار ترك المعاصي في الدنيا فإذا مات تلقته الملائكة بالبشرى من ربه بالجنة، وبأنه لا خوف عليه ولا حزن، وينتقل من سجن الدنيا وضيقها إلى روضة من رياض الجنة ينعم فيها إلى يوم القيامة فإذا كان يوم القيامة كان الناس في الحر والعرق، وهو في ظل العرش، فإذا انصرفوا من بين يدي الله أخذ به ذات اليمين مع أوليائه المتقين وحزبه المفلحين و{ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم}.

.ورع عمر بن عبد العزيز:

ذكر ابن سعد في الطبقات عن عمر بن عبد العزيز أنه كان إذا خطب على المنبر فخاف على نفسه العجب قطعه، وإذا كتب كتابا فخاف فيه العجب مزقه ويقول: اللهم إني أعوذ بك من شر نفسي.
اعلم أن العبد إذا شرع في قول أو عمل يبتغي به مرضاة الله مطالعا فيه منة الله عليه به وتوفيقه له فيه وأنه بالله لا بنفسه ولا بمعرفته وفكره وحوله وقوته، بل هو الذي أنشأ له اللسان والقلب والعين والأذن، فالذي من عليه بذلك هو الذي من عليه بالقول والفعل فإذا لم يغب ذلك عن ملاحظته ونظر قلبه لم يحضره العجب الذي أصله رؤية نفسه وغيبته عن شهود منة ربه وتوفيقه قلبه لم يحضره العجب الذي أصله رؤية نفسه وغيبت عن شهود منه ربه وتوفيقه وإعانته. فإذا غاب عن تلك الملاحظة وثبت النفس وقامت في مقام الدعوى، فوقع العجب ففسد عليه القول والعمل، تارة يحال بينه وبين تمامه ويقطع عليه ويكون ذلك رحمة به حتى لا يغيب عن مشاهدة المنة والتوفيق. وتارة يتم له ولكن لا يكون له ثمرة، وإن أثمر ثمرة ضعيفة غير محصلة للمقصود. وتارة يكون ضرره عليه أعظم من انتفاعه، ويتولد له منه مفاسد شتى بحسب غيبته عن ملاحظة التوفيق والمنة ورؤية نفسه وإن القول والفعل به.
من هذا الموضع يصلح الله سبحانه أقوال عبده وأعماله ويعظم له ثمرتها أو يفسدها عليه ويمنعه ثمرتها فلا شيء أفسد للأعمال من العجب ورؤية النفس، فإذا أراد الله بعبده خيرا أشهده منته وتوفيقه وإعانته له في كل ما يقوله ويفعله فلا يعجب به. ثم أشهده تقصيره فيه وأنه لا يرضى لربه به فيتوب إليه منه ويستغفره، ويستحي أن يطلب عليه أجرا وإذا لم يشهده ذلك وغيبه عنه فرأى نفسه في العمل ورآه بعين الكمال والرضا، لم يقع ذلك العمل منه موقع القبول والرضا والمحبة، فالعارف يعمل العمل لوجهه مشاهدا فيه منته وفضله وتوفيقه، معتذرا منه إليهن مستحييا منه إذ لم يوفه حقه، والجاهل يعمل العمل لحظه وهواه ناظرا فيه إلى نفسه يمن به على ربه راضيا بعمله، فهذا لون وذاك لون آخر.

.فوائد هجر العوائد:

الوصول إلى المطلوب موقوف على هجر العوائد وقطع العوائق. فالعوائد السكون إلى الدعة والراحة وما ألفه الناس واعتادوه من الرسوم والأوضاع التي جعلوها بمنزلة الشرع المتبع، بل هي عندهم أعظم من الشرع فإنهم ينكرون على من خرج عنها وخالفها ما لا ينكرون على من خالف صريح الشرع، وربما كفروه أو بدعوه وضللوه، أو هجروه وعاقبوه لمخالفة تلك الرسوم، وأماتوا لها السنن، ونصبوها أندادا للرسول يوالون عليها ويعادون،فالمعروف عندهم ما وافقها والمنكر ما خالفها.
وهذه الأوضاع والرسوم قد استولت على طوائف بني آدم من الملوك والولاة والفقهاء والصوفية والفقراء والمطوعين والعامة. فربي فيها الصغير ونشأ عليها الكبير واتخذت سننا بل هي أعظم عند أصحابها من السنن. الواقف معها محبوس والمتقيد بها منقطع. عم بها المصاب، وهجر لأجلها السنة والكتاب. من استنصر بها فهو عند الله مخذول، ومن اقتدى بها دون كتاب الله وسنة رسوله فهو عند الله غير مقبول، وهذه أعظم الحجب والموانع بين العبد وبين النفوذ إلى الله ورسوله.

.العوائق:

وأما العوائق فهي أنواع المخالفات ظاهرها وباطنها، فإنها تعوق القلب عن سيره إلى الله وتقطع عليه طريقه، وهي ثلاثة أمور: شرك، وبدعة، ومعصية، فيزول عائق الشرك بتجريد التوحيد، وعائق البدعة بتحقيق السنة، وعائق المعصية بتصحيح التوبة. وهذه العوائق لا تبين للعبد حتى يأخذ في أهبة السفر ويتحقق بالسير إلى الله والدار الآخرة. فحينئذ تظهر له هذه العوائق ويحسن بتعويقها له بحسب قوة سيره وتجرده للسفر، وإلا فما دام قاعدا لا يظهر له كوامنها وقواطعها.

.العلائق:

وأما العلائق فهي كل ما تعلق به القلب دون الله ورسوله من ملاذ الدنيا وشهواتها ورياساتها وصحبة الناس والتعلق بهم، ولا سبيل له إلى قطع هذه الأمور الثلاثة ورفضه إلا بقوة التعلق بالمطلب الأعلى، وإلا فقطعها عليه بدون تعلقه بمطلوبه ممتنع. فإن النفس لا تترك مألوفها ومحبوبها إلا لمحبوب هو أحب إليها منه وآثر عندها منه. وكلما قوي تعلقه بمطلوبه ضعف تعلقه بغيره، وكذا بالعكس. والتعلق بالمطلوب هو شدة الرغبة فيه. وذلك على قدر معرفته وشرفه وفضله على ما سواه.

.منزلة الرسول صلى الله عليه وسلم:

لما كمل الرسول صلى الله عليه وسلم مقام الافتقار إلى الله سبحانه أحوج الخلائق كلها إليه في الدنيا والآخرة، أما حاجتهم إليه في الدنيا فأشد من حاجتهم إلى الطعام والشراب والنفس الذي به حياة أبدانهم. وأما حاجتهم إليه في الآخرة فإنهم يستشفعون بالرسل إلى الله حتى يريحهم من ضيق مقامهم. فكلهم يتأخر عن الشفاعة فيشفع هو لهم وهو الذي يستفتح لهم باب الجنة.

.علامات السعادة والشقاوة:

من علامات السعادة والفلاح أن العبد كلما زيد في علمه زيد في تواضعه ورحمته وكلما زيد في عمله زيد في خوفه وحذره. وكلما زيد في عمره نقص من حرصه. وكلما زيد في ماله زيد في سخائه وبذله. وكلما زيد في قدره وجاهه زيد في قربه من الناس وقضاء حوائجهم والتواضع لهم.
وعلامات الشقاوة أنه كلما زيد في علمه زيد في كبره وتيهه، وكلما زيد في عمله زيد فخره واحتقاره للناس وحسن ظنه بنفسه، وكلما زيد في عمره زيد في حرصه، وكلما زيد في ماله زيد في بخله وإمساكه، وكلما زيد في قدره وجاهه زيد في كبره وتيهه، وهذه الأمور ابتلاء من الله وامتحان يبتلي بها عباده فيسعد بها أقوام ويشقى بها أقوام.
وكذلك الكرامات امتحان وابتلاء، كالملك والسلطان والمال. قال تعالى عن نبيه سليمان لما رأى عرش بلقيس عنده: {هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر} سورة النمل: الآية رقم: 40 فالنعم ابتلاء من الله وامتحان يظهر بها شكر الشكور وكفر الكفور. كما أن المحن بلوى منه سبحانه، فهو يبتلي بالنعم كما يبتلي بالمصائب، قال تعالى: {فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن، وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن كلا....} الفجر: الآية رقم: 15- 17 أي ليس كل من وسعت عليه وأكرمته ونعمته يكون ذلك إكراما مني له، ولا كل من ضيقت عليه رزقه وابتليته يكون ذلك إهانة مني له.

.الأعمال بنيان أساسه الإيمان:

من أراد علو بنيانه فعليه بتوفيق أساسه وإحكامه وشدة الاعتناء به فإن علو البنيان على قدر توثيق الأساس وأحكامه فالأعمال والدرجات بنيان وأساسها الإيمان، ومتى كان الأساس وثيقا حمل البنيان واعتلى عليه، وإذا تهدم شيء من البنيان سهل تداركه، وإذا كان الأساس غير وثيق لم يرتفع البنيان ولم يثبت، وإذا تهدم شيء من الأساس سقط البنيان أو كاد.
فالعارف همته تصحيح الأساس فلا يلبث بنيانه أن يسقط. قال تعالى: {أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم} سورة التوبة: الآية رقم: 109. فالأساس لبناء الأعمال كالقوة لبدن الإنسان فإذا كانت القوة قوية حملت البدن ودفعت عنه كثيرا من الآفات، وإذا كانت القوة ضعيفة ضعف حملها للبدن وكانت الآفات إليه أسرع شيء.
فاحمل بنيانك على قوة أساس الإيمان، فإذا تشعث شيء من أعالي البناء وسطحه كان تداركه أسهل عليك من خراب الأساس. وهذا الأساس أمران:
الأول: صحة المعرفة بالله وأمره وأسمائه وصفاته، والثاني: تجريد الانقياد له ولرسوله دون ما سواه، فهذا أوثق أساس أسس العبد عليه بنيانه وبحسبه يعتلي البناء ما شاء. فأحكم الأساس واحفظ القوة ودم على الحمية واستفرغ إذا زاد بك الخلط، والقصد القصد وقد بلغت المراد، وإلا فما دامت القوة ضعيفة والمادة الفاسدة موجودة والاستفراغ معدوما:
فأقر السلام على الحياة فإنها ** قد آذنتك بسرعة التوديع

فإذا كمل البناء فبيضه بحسن الخلق والإحسان إلى الناس، ثم حطه بسور من الحذر لا يقتحمه عدو ولا تبدو منه العورة، ثم أرخ الستور على أبوابه، ثم اقفل الباب الأعظم بالسكوت عما تخشى عاقبته، ثم ركب له مفتاحا من ذكر الله تفتحه وتغلقه. فإن فتحت فتحت بالمفتاح وإن أغلقت الباب أغلقته به، فتكون حينئذ قد بنيت حصنا تحصنت فيه من أعانك إذا أطاف به العدو لم يجد منه مدخلا فييأس منك. ثم تعاهد بناء الحصن كل وقت، فإن العدو إذا لم يطمع في الدخول من الباب نقب عليك النقوب من بعيد بمعاول الذنوب، فإن أهملت أمره وصل إليك النقب، فإذا العدو معك في داخل الحصن فيصعب عليك إخراجه، وتكون معه على ثلاثة خلال: إما أن يغلبك على الحصن ويستولي عليه، وأما أن يساكنك فيه، وإما أن يشغلك بمقابلته عن تمام مصلحتك، وتعود إلى سد النقب ولم شعت الحصن. وإذا دخل نقبة إليك نالك منه ثلاث آفات: إفساد الحصن والإغارة على حواصله حواصله وذخائره، ودلالة السراق من بني جنسه على عورته، فلا تزال تبلى منه بغارة بعد غارة حتى يضعفوا قواك ويوهنوا عزمك فتتخلي عن الحصن وتخلي بينهم وبينه.
وهذه حال أكثر النفوس مع العدو، ولهذا تراهم يسخطون ربهم برضا أنفسهم، بل برضا مخلوق مثلهم لا يملك لهم ضرا ولا نفعا، ويضيعون كسب الدين بكسب الآمال، ويهلكون أنفسهم بما لا يبقى لهم، ويحرصون على الدنيا وقد أدبرت عنهم، ويزهدون في الآخرة وقد هجمت عليهم، ويخالفون ربهم باتباع أهوائهم، ويتكلون على الحياة ولا يذكرون الموت، ويذكرون شهواتهم وحظوظهم وينسون ما عهد الله إليهم، ويهتمون بما ضمنه الله لهم ولا يهتمون بما أمرهم به، ويفرحون بالدنيا ويحزنون على فوات حظهم منها ولا يحزنون على فوات الجنة وما فيها ولا يفرحون بالإيمان فرحهم بالدرهم والدينار، ويفسدون حقهم بباطلهم وهداهم بضلالهم ومعروفهم بمنكرهم، ويلبسون إيمانهم بظنونهم، ويخلطون حلالهم بحرامهم، ويترددون في حيرة آرائهم وأفكارهم، ويتركون هدى الله الذي أهداه إليهم. ومن العجب أن هذا العدو يستعمل صاحب الحصن في هدم حصنه بيديه.

.أركان الكفر:

أركان الكفر أربعة: الكبر والحسد والغضب والشهوة فالكبر يمنعه الانقياد، والحسد يمنعه قبول النصيحة وبذلها، والغضب يمنعه العدل، والشهوة تمنعه التفرغ للعبادة. فإذا انهدم ركن الكبر سهل عليه الانقياد، وإذا انهدم ركن الحسد سهل عليه قبول النصح وبذله، وإذا انهدم ركن الغضب سهل عليه العدل والتواضع، وإذا انهدم ركن الشهوة سهل عليه الصبر والعفاف والعبادة. وزوال الجبال عن أماكنها أيسر من زوال هذه الأربعة عمن بلي بها، ولا سيما إذا صارت هيئات راسخة وملكات وصفات ثابتة، فإنه لا يستقيم له معها عمل ألبتة ولا تزكو نفسه مع قيامها بها. وكلما اجتهد في العمل أفسدته عليه هذه الأربعة، وكل الآفات متولدة منها. وإذا استحكمت في القلب أرته الباطل في صورة الحق والحق في صورة الباطل، والمعروف في صورة المنكر والمنكر في صورة المعروف، وقربت منه الدنيا وبعدت منه الآخرة، وإذا تأملت كفر الأمم رأيته ناشئا منها وعليها يقع العذاب، وتكون خفته وشدته بحسب خفتها وشدتها فمن فتحها على نفسه فتح عليه أبواب الشرور كلها عاجلا وآجلا، ومن أغلقها على نفسه أغلق عنه أبواب الشرور، فإنها تمنع الانقياد والإخلاص والتوبة والإنابة وقبول الحق ونصيحة المسلمين والتواضع لله ولخلقة.
ومنشأ هذه الأربعة من جهله بنفسه، فإنه لو عرف ربه بصفات الكمال ونعوت الجلال، وعرف نفسه بالنقائص والآفات، لم يتكبر ولم يغضب لها ولم يحسد أحدا على ما آتاه الله. فإن الحسد في الحقيقة نوع من معاداة الله، فإنه يكره نعمة الله على عبده وقد أحبها الله، ويحب زوالها عنه والله يكره ذلك. فهو مضاد لله في قضائه وقدره ومحبته وكراهته، ولذلك كان إبليس عدوه حقيقة لأن ذنبه كان عن كبر وحسد، فقلع هاتين الصفتين بمعرفة الله وتوحيده والرضا به وعنه والإنابة إليه. وقلع الغضب بمعرفة النفس وأنها لا تستحق أن يغضب لها وينتقم لها، فإن ذلك إيثار لها بالرضا والغضب على خالقها وفاطرها، وأعظم ما تدفع به هذه الآفة أن يعودها أن تغضب له سبحانه وترضى له، فكلما دخلها شيء من الغضب والرضا له خرج منه مقابلة من الغضب والرضا لها، وكذا بالعكس.
أما الشهوة فدواؤها صحة العلم والمعرفة بأن إعطاءها شهواتها أعظم أسباب حرمانها إياها ومنعها منها. وحميتها أعظم أسباب اتصالها إليها، فكلما فتحت عليها باب الشهوات كنت ساعيا في حرمانها إياها وكلما أغلقت عنها ذلك الباب كنت ساعيا في إيصالها إليها على أكمل الوجوه.
فالغضب مثل السبع إذا أفلته صاحب بدأ بأكله، والشهوة مثل النار إذا أضرمها صاحبها بدأت بإحراقه والكبر بمنزلة منازعة الملك ملكه فإن لم يهلكك طردك عنه، والحسد بمنزلة معاداة من هو أقدر منك، والذي يغلب شهوته وغضبه يفرق الشيطان من ظله، ومن تغلبه شهوته وغضبه يفرق من خياله.

.صفات الجهال بالله:

الجهال بالله وأسمائه وصفاته المعطلون لحقائقها يبغضون الله إلى خلقه، ويقطعون عليهم طريق محبته، والتودد إليه بطاعته من حيث لا يعلمون ونحن نذكر من ذلك أمثلة تحتذي عليها.
فمنها: أنهم يقررون في نفوس الضعفاء أن الله سبحانه لا تنفع معه طاعة، وإن طال زمانها وبالغ العبد وأتى بها بظاهره وباطنه. وأن العبد ليس على ثقة ولا أمن من مكره، بل شأنه سبحانه أن يأخذ المطيع المتقي من المحراب إلى الماخور، ومن التوحيد والمسبحة إلى الشرك والمزمار. ويقلب قلبه من الإيمان الخالص إلى الكفر. ويروون في ذلك آثارا صحيحة لم يفهموها، وباطلة لم يقلها المعصوم، ويزعمون أن هذا حقيقة التوحيد، ويتلون على ذلك قوله تعالى: {لا يسأل عما يفعل}، وقوله: {أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون} سورة الأعراف: الآية رقم: 99 وقوله: {واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه} الأنفال: الآية رقم: 24، ويقيمون إبليس حجة لهم على هذه المعرفة وأنه كان طاووس الملائكة وأنه لم يترك في السماء رقعة في الأرض ولا بقعة إلا وله فيها سجدة أو ركعة، لكن جنى عليه جاني القدر وسطا عليه الحكم فقلب عينه الطيبة وجعلها أخبث شيء حتى قال بعض عارفيهم: إنك ينبغي أن تخاف الله كما تخاف الأسد الذي يثب عليك بغير جرم منك ولا ذنب أتيته إليه. ويحتجون بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها».
ويروون عن بعض السلف: أكبر الكبائر الأمن من مكر الله والقنوط من رحمة الله.
وذكر الإمام أحمد عن عون بن عبد الله أو غيره أنه سمع رجلا يدعو: اللهم لا تؤمني مكرك، فأنكر ذلك وقال: قل اللهم لا تجعلني ممن يأمن مكرك. وبنوا هذا على أصلهم الباطل وهو إنكار الحكمة والتعليل والأسباب، وأن الله لا يفعل لحكمة ولا بسبب إنما يفعل بمشيئته مجردة من الحكمة والتعليل والسبب، فلا يفعل لشيء ولا بشيء، وأنه يجوز عليه أن يعذب أهل طاعته أشد العذاب، وينعم أعداءه أهل معصيته بجزيل الثواب، وأن الأمرين بالنسبة إليه سواء ولا يعلم امتناع ذلك إلا بخبر من الصادق أنه لا يفعله. فحينئذ يعلم امتناعه لوقوع الخبر بأنه لا يكون، لا لأنه في نفسه باطل وظلم، فإن الظلم في نفسه مستحيل فإنه غير ممكن بل هو بمنزلة جعل الجسم الواحد في مكانين في آن واحد، والجمع بين الليل والنهار في ساعة واحدة وجعل الشيء موجودا ومعدوما معا في آن واحد، فهذا حقيقة الظلم عندهم فإذا رجع العامل إلى نفسه قال: من لا يستقر له أمر ولا يؤمن له مكر، كيف يوثق بالتقرب إليه؟ وكيف يعول على طاعته واتباع أوامره وليس لنا سوى هذه المدة اليسيرة؟! فإذا هجرنا فيها اللذات وتركنا الشهوات وتكلفنا أثقال العبادات وكنا مع ذلك غير ثقة منه أن يقلب علينا الإيمان كفرا والتوحيد شركا والطاعة معصية والبر فجورا ويديم علينا العقوبات، كنا خاسرين في الدنيا والآخرة.
فإذا استحكم هذا الاعتقاد في قلوبهم وتخمر في نفوسهم صاروا إذا أمروا بالطاعات وهجر اللذات بمنزلة إنسان جعل يقول لولده: معلمك إن كتبت وأحسنت وتأدبت ولم تعصه ربما أقام لك حجة وعاقبك، وإن كسلت وبطلت وتعطلت وتركت ما أمرك به ربما قربك وأكرمك فيودع بهذا القول قلب الصبي ما لا يثق بعده إلى وعيد المعلم على الإساءة ولا وعده على الإحسان. وإن كبر الصبي وصلح للمعاملات والمناصب قال به هذا سلطان بلدنا يأخذ اللص من الحبس فيجعله وزيراً أميراً ويأخذ الكيس المحسن لشغله فيخلده في الحبس ويقتله ويصلبه. فإذا قال له ذلك أوحشه من سلطانه وجعله على غير ثقة من وعده ووعيده، وأزال محبته من قلبه وجعله يخاف مخافة الظالم الذي يأخذ المحسن بالعقوبة والبريء بالعذاب، فأفلس هذا المسكين من اعتقاد كون الأعمال نافعة أو ضارة، فلا بفعل الخير يستأنس، ولا بفعل الشر يستوحش، وهل في التنفير عن الله وتبغيضه إلى عباده أكثر من هذا؟ ولو اجتهد الملاحدة على تبغيض الدين والتنفير عن الله لما أتوا بأكثر من هذا.
وصاحب هذه الطريقة يظن أنه يقرر التوحيد والقدر ويرد على أهل البدع وينصر الدين، ولعمر الله العدو العاقل أقل ضرراً من الصديق الجاهل. وكتب الله المنزلة كلها ورسله كلهم شاهدة بضد ذلك ولا سيما القرآن. فلو سلك الدعاة المسلك الذي دعا الله ورسوله به الناس إليه لصح العالم صلاحاً لا فساد معه، فالله سبحانه أخبر وهو الصادق الوفي أنه إنما يعامل الناس بكسبهم ويجازيهم بأعمالهم ولا يخاف المحسن لديه ظلماً ولا هضماً، ولا يخاف بخساً ولا رهقا، ولا يضيع عمل محسن أبداً، ولا يضيع على العبد مثقال ذرة ولا يظلمها {وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيماً}، وإن كان مثقال حبة من خردل جازاه بها ولا يضيعها عليه. وأنه يجزي بالسيئة مثلها ويحبطها بالتوبة والندم والاستغفار والحسنات والمصائب، ويجزي بالحسنة عشر أمثالها ويضاعفها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة.
وهو الذي أصلح الفاسدين وأقبل بقلوب المعرضين وتاب على المذنبين، وهدى الضالين وأنقذ الهالكين، وعلم الجاهلين، وبصر المتحيرين وذكر الغافلين، وآوى الشاردين. وإذا أوقع عقابا أوقعه بعد شدة التمرد والعتو عليه، ودعوة العبد إلى الرجوع إليه والإقرار بربوبيته وحقه مرة بعد مرة، حتى إذا أيس من استجابته والإقرار بربوبيته ووحدانيته أخذه ببعض كفره وعتوه وتمرده بحيث يعذر العبد من نفسه ويعترف بأنه سبحانه لم يظلمه وأنه هو الظالم لنفسه كما قال تعالى عن أهل النار: {فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير} سورة الملك، الآية 11، وقال عمن أهلكهم في الدنيا إنهم لما رأوا آياته وأحسوا بعذابه قالوا: {يا ويلنا إنا كنا ظالمين. فمازالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيداً خامدين} الأنبياء: 14-15، وقال أصحاب الجنة التي أفسدها عليهم لما رأوها: {قالوا سبحان الله إنا كنا ظالمين} القلم: 29، قال الحسن لقد دخلوا النار وإن حمده لفي قلوبهم ما وجدوا عليه حجة ولا سبيلا. ولهذا قال تعالى: {فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين} الأنعام: 45.فهذه الجملة في موضع الحال أي قطع دابرهم حال كونه سبحانه محمودا على ذلك فقطع دابرهم قطعا مصاحباً لحمده، فهو قطع وإهلاك يحمد عليه الرب تعالى لكمال حكمته وعدله ووضعه العقوبة في موضعها الذي لا يليق به غيرها. فوضعها في الوضع الذي يقول من علم الحال: لا تليق العقوبة إلا بهذا المحل، ولا يليق به إلا العقوبة، ولهذا قال عقيب إخباره عن الحكم بين عباده ومصير أهل السعادة إلى الجنة وأهل الشقاء إلى النار: {وقضى بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين} الزمر: 75، فحذف فاعل القول إشعارا بالعموم وأن الكون كله قال: {الحمد لله رب العالمين} لما شهدوا من حكمه الحق وعدله وفضله. ولهذا قال في حق أهل النار: {قيل ادخلوا أبواب جهنم} الزمر: 72، كأن الكون كله يقول ذلك حتى تقوله أعضاؤهم وأرواحهم وأرضهم وسماؤهم، وهو سبحانه يخبر أنه إذا أهلك أعداءه أنجى أولياءه ولا يعمه بالهلاك بمحض المشيئة.
ولما سأله نوح نجاة ابنه أخبر أنه يغرقه بسوء عمله وكفره، ولم يقل إني أغرقه بمحض مشيئتي وإرادتي بلا سبب ولا ذنب، وقد ضمن سبحانه زيادة الهداية للمجاهدين في سبيله ولم يخبر أنه يضلهم ويبطل سعيهم.
وكذلك ضمن زيادة الهداية للمتقين الذين يتبعون رضوانه، وأخبر أنه لا يضل إلا الفاسقين الذين ينقضون عهده من بعد ميثاقه، وأنه إنما يضل من آثر الضلال واختاره على الهدى فيطبع حينئذ على سمعه وقلبه، وأنه يقلب قلب من لم يرض بهداه إذا جاءه ولم يؤمن به ودفعه ورده فيقلب فؤاده وبصره عقوبة له على رده ودفعه لما تحققه وعرفه، وأنه سبحانه لو علم في تلك المحال التي حكم عليها بالضلال والشقاء خيراً لأفهمها وهداها، ولكنها لا تصلح لنعمته ولا تليق بها كرامته. وقد أزاح سبحانه العلل وأقام الحجج ومكن من أسباب الهداية لا يضل إلا الفاسقين والظالمين ولا يطبع إلا على قلوب المعتدين ولا يركس في الفتنة إلا المنافقين بكسبهم وأن الرين الذي غطى به قلوب الكفار هو عين كسبهم وأعمالهم كما قال: {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} سورة المطففين: الآية رقم: 14 وقال عن أعدائه من اليهود: {وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم} النساء: الآية رقم: 155 وأخبر أنه لا يضل من هداه حتى يبين له ما يتقى، فيختار لشقوته وسوء طبيعته الضلال على الهدى والغي على الرشاد، ويكون مع نفسه وشيطانه وعدو ربه عليه.