فصل: من كلام الشيخ علي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الفوائد (نسخة منقحة)



.من صفات التوحيد:

التوحيد ألطف شيء وأنزهه أنظفه وأصفاه، فأدنى شيء يخدشه ويدنسه ويؤثر فيه، فهو كأبيض ثوب يكون يؤثر فيه أدنى أثر، وكالمرآة الصافية جدا أدنى شيء يؤثر فيها. ولهذا تشوشه اللحظة واللفظة والشهوة الخفية. فإن بادر صاحبه وقلع ذلك الأثر بضده، وإلا استحكم وصار طبعا يتعسر عليه قلعه.
وهذه الآثار والطبوع التي تحصل فيه: منها ما يكون سريع الحصول سريع الزوال، ومنها ما يكون سريع الحصول بطيء الزوال، ومنها ما يكون بطيء الحصول سريع الزوال، ومنها ما يكون بطيء الحصول بطيء الزوال.
ولكن من الناس من يكون توحيده كبيرا عظيما، ينغمر فيه كثير من تلك الآثار، ويستحيل فيه بمنزلة الماء الكثير الذي يخالطه أدنى نجاسة أو وسخ فيغتر به صاحب التوحيد الذي هو دونه، فيخلط توحيده الضعيف بما خلط به صاحب التوحيد العظيم الكثير توحيده، فيظهر من تأثيره فيه ما لم يظهر في التوحيد الكثير.
وأيضا فإن المحل الصافي جدا يظهر لصاحبه مما يدنسه ما لا يظهر في المحل الذي لم يبلغ في الصفاء مبلغه فيتدراكه بالإزالة دون هذا فإنه لا يشعر به.
وأيضا فإن قوة الإيمان والتوحيد إذا كانت قوية جدا أحالت المواد الرديئة وقهرتها بخلاف القوة الضعيفة.
وأيضا فإن صاحب المحاسن الكثيرة والغامرة للسيئات ليسامح بما لا يسامح به من أتى مثل تلك السيئات وليست له مثل تلك المحاسن، كما قيل:
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد ** جاءت محاسنه بألف شفيع

وأيضا فإن صدق الطلب وقوة الإرادة وكمال الانقياد يحيل تلك العوارض والغواشي الغريبة إلى مقتضاه وموجبه، كما أن الكذب وفساد القصد وضعف الانقياد يحيل الأقوال والأفعال الممدوحة إلى مقتضاه وموجبه، كما يشاهد ذلك في الأخلاط الغالبة وإحالتها لصالح الأغذية إلى طبعها.

.لا يجمع الله ذخائره في قلب فيه سواه:

ترك الشهوات لله، وإن أنجى من عذاب الله وأوجب الفوز برحمته، فذخائر الله وكنوز البر ولذة الأنس والشوق إليه والفرح والابتهاج به، لا تحصل في قلب فيه غيره، وإن كان من أهل العبادة والزهد والعلم فإن الله سبحانه أبى أن يجعل ذخائره في قلب فيه سواه وهمته متعلقة بغيره، وإنما يودع ذخائره في قلب يرى الفقر غنى مع الله، والغنى فقرا دون الله، والعز ذلا دونه، والذل عزا معه، والنعيم عذابا دونه، والعذاب نعيما معه.
وبالجملة، فلا يرى الحياة إلا به ومعه، والموت والألم والهم والغم والحزن، إذا لم يكن معه، فهذا له جنتان: جنة في الدنيا معجلة، وجنة يوم القيامة.

.الإنابة والاعتكاف:

الإنابة هي عكوف القلب على الله عز وجل كاعتكاف البدن في المسجد لا يفارقه. وحقيقة ذاك عكوف القلب على محبته وذكره بالإجلال والتعظيم، وعكوف الجوارح على طاعته بالإخلاص له والمتابعة لرسوله، ومن لم يعكف قلبه على الله وحده عكف على التماثيل المتنوعة كما قال إمام الحنفاء لقومه: {ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون} سورة الأنبياء: الآية رقم: 52، فاقتسم هو وقومه حقيقة العكوف، فكان حظ قومه العكوف على التماثيل، وكان حظه العكوف على الرب الجليل. والتماثيل جمع تمثال، وهي الصور الممثلة. فتعلق القلب بغير الله واشتغاله به والركون إليه عكوف منه على التماثيل التي قامت بقلبه، وهو نظير العكوف على تماثيل الأصنام، ولهذا كان شرك عباد الأصنام بالعكوف بقلوبهم وهممهم وإراداتهم على تماثيلهم، فإذا كان في القلب تماثيل قد ملكته واستعبدته بحيث يكون عاكفا عليها، فهو نظير عكوف الأصنام عليها، ولهذا سماه النبي صلى الله عليه وسلم عبدا لها ودعا عليه بالتعس والنكس فقال: «تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش» رواه البخاري في كتاب الجهاد. وابن ماجه في الزهد الناس في هذه الدار على جناح سفر كلهم، وكل مسافر فهو ظاعن إلى مقصده ونازل على من يسر بالنزول عليه، وطالب الله والدار والآخرة إنما هو ظاعن إلى الله في حال سفره ونازل عليه عند القدوم عليه، فهذه همته في سفره وفي انقضائه: {يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي} سورة الفجر: الآية رقم: 27- 30،وقالت امرأة فرعون: {رب ابن لي عندك بيتا في الجنة} التحريم الآية رقم: 11 فطلبت كون البيت عنده قبل طلبها أن يكون في الجنة، فإن الجار قبل الدار.

.من كلام الشيخ علي:

قيل لي في نوم كاليقظة أو يقظة كالنوم: لا تبد فاقة إلى غيري فأضاعفها عليك مكافأة لخروجك عن حدك في عبوديتك. ابتليتك بالفقر لتصير ذهبا خالصا فلا تزيفن بعد السبك. حكمت لك بالفقر ولنفسي بالغنى، فإن وصلتها بي وصلتك بالغنى وإن وصلتها بغيري حسمت عنك مواد معونتي طردا لك عن بابي. لا تركن إلى شيء دوننا فإنه وبال عليك وقاتل لك، إن ركنت إلى العمل رددناه عليك، وإن ركنت إلى المعرفة ذكرناها عليك، وإن ركنت إلى الوجد استدرجناك فيه.
وإن ركنت إلى العلم أوقفناك معه، وإن ركنت إلى المخلوقين وكلناك إليهم، ارضنا لك ربا نرضاك لنا عبدا.

.الشهقة عند سماع القرآن:

الشهقة التي تعرض عند سماع القرآن أو غيره لها أسباب:
أحدها: أن يلوح له عند السماع درجة ليست له فيرتاح إليها فتحدث له الشهقة فهذه شهقة شوق.
وثانيها: أن يلوح له ذنب ارتكبه فيشهق خوفا وحزنا على نفسه، وهذه شهقة خشية.
وثالثها: أن يلوح له نقص فيه لا يقدر على دفعه عنه فيحدث له ذلك حزنا فيشهق شهقة حزن.
ورابعها: أن يلوح له كمال محبوبه ويرى الطريق إليه مسدودة عنه فيحدث ذلك شهقة آسف وحزن.
وخامسها: أن يكون قد توارى عنه محبوبه واشتغل بغيره فذكره السماع محبوبه، فلاح له جماله ورأى الباب مفتوحا والطريق ظاهرة، فشهق فرحا. وسرورا بما لاح له.
وبكل حال: فسبب الشهقة قوة الوارد وضعف المحل عن الاحتمال. والقوة أن يعمل ذلك الوارد عمله داخلا ولا يظهر عليه، وذلك أقوى له وأدوم، فإنه إذا أظهره ضعف أثره وأوشك انقطاعه. هذا حكم الشهقة من الصادق، فإن الشاهق إما صادق وإما سارق وإما منافق.

.أنواع الفكر:

أصل الخير والشر من قبل التفكر، فإن الفكر مبدأ الإرادة والطلب في الزهد والترك والحب والبغض. وأنفع الفكر الفكر في مصالح المعاد وفي طرق اجتلابها وفي دفع مفاسد المعاد وفي طرق اجتنابها، فهذه أربعة أفكار هي أجل الأفكار. ويليها أربعة: فكر في مصالح الدنيا وطرق تحصيلها، وفكر في مفاسد الدنيا وطرق الاحتزاز منها، فعلى هذه الأقسام الثمانية دارت أفكار العقلاء. ورأس القسم الأول الفكر في آلاء الله ونعمه وأمره ونهيه وطرق العلم به وبأسمائه وصفاته من كتابه وسنة نبيه وما والاهما، وهذا الفكر يثمر لصاحبه المحبة والمعرفة. فإذا فكر في الآخرة وشرفها ودوامها وفي الدنيا وخستها وفنائها أثمر له ذلك الرغبة في الآخرة والزهد في الدنيا، وكلما فكر في قصر الأمل وضيق الوقت أورثه ذلك الجد والاجتهاد وبذل الوسع في اغتنام الوقت.
وهذه الأفكار تعلي همته وتحييها بعد موتها وسفولها وتجعله في واد والناس في واد. وبإزاء هذه الأفكار الأفكار الرديئة التي تجول في قلوب أكثر هذا الخلق كالفكر فيما لم يكلف الفكر فيه ولا أعطي الإحاطة به من فضول العلم الذي لا ينفع، كالفكر في كيفية ذات الرب وصفاته، مما لا سبيل للعقول إلى إدراكه.
ومنها الفكر في الصناعات الدقيقة التي لا تنفع بل تضر، كالفكر في الشطرنج والموسيقى وأنواع الأشكال والتصاوير.
ومنها الفكر في العلوم التي لو كانت صحيحة لم يعط الفكر فيها النفس كمالا ولا شرفا، كالفكر في دقائق المنطق والعلم الرياضي والطبيعي، وأكثر علوم الفلاسفة التي لو بلغ الإنسان غاياتها لم يكمل بذلك ولم يزك نفسه.
ومنها الفكر في الشهوات واللذات وطرق تحصيلها، وهذا وإن كان للنفس فيه لذة لكن لا عاقبة له ومضرته في عاقبة الدنيا قبل الآخرة أضعاف مسرته.
ومنها الفكر فيما لم يكن لو كان كيف كان يكون، كالفكر فيما إذا صار ملكا أو وجد كنزا أو ملك ضيعة ماذا يصنع وكيف يتصرف ويأخذ ويعطي وينتقم ونحو ذلك من أفكار السفل.
ومنها الفكر في جزئيات أحوال الناس وما جراياتهم ومداخلهم ومخارجهم وتوابع ذلك من فكر النفوس المبطلة الفارغة من الله ورسوله والدار الآخرة.
ومنها الفكر في دقائق الحيل والمكر التي يتوصل بها إلى أغراضه وهواه مباحة كانت أو محرمة.
ومنها الفكر في أنواع الشعر وصروفه وفانينه في المدح والهجاء والغزل والمراثي ونحوها، فإنه يشغل الإنسان عن الفكر فيما فيه سعادته وحياته الدائمة.
ومنها الفكر في المقدرات الذهنية التي لا وجود لها في الخارج ولا بالناس حاجة إليها ألبتة، وذلك موجود في كل علم حتى في علم الفقه والأصول والطب، فكل هذه الأفكار مضرتها أرجح من منفعتها، ويكفي في مضرتها شغلها عن الفكر فيما هو أولى به وأعود عليه بالنفع عاجلا وآجلا.

.الطلب والصبر:

الطلب لقاح الإيمان، فإذا اجتمع الإيمان والطلب أثمرا العمل الصالح.
وحسن الظن بالله لقاح الافتقار والاضطرار إليه، فإذا اجتمعا أثمرا إجابة الدعاء.
والخشية لقاح المحبة، فإذا اجتمعا أثمرا امتثال الأوامر واجتناب المناهي. والصبر لقاح اليقين، فإذا اجتمعا أورثا الإمامة في الدين، قال تعالى: {وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون} سورة السجدة: الآية رقم: 24.وصحة الاقتداء بالرسول لقاح الإخلاص، فإذا اجتمعا أثمرا قبول العمل والاعتداد به.
والعمل لقاح العلم، فإذا اجتمعا كان الفلاح والسعادة، وإن انفرد أحدهما عن الآخر لم يفد شيئا.
والحلم لقاح العلم، فإذا اجتمعا حصلت سيادة الدنيا والآخرة وحصل الانتفاع بعلم العالم، وإن انفرد أحدهما عن صاحبه فات النفع والانتفاع.
والعزيمة لقاح البصيرة، فإذا اجتمعا نال صاحبهما خير الدنيا والآخرة وبلغت به همته من العلياء كل مكان، فتخلف الكمالات إما من عدم البصيرة وإما من عدم العزيمة.
وحسن القصد لقاح لصحة الذهن، فإذا فقدا فقد الخير كله، وإذا اجتمعا أثمرا أنواع الخيرات.
وصحة الرأي لقاح الشجاعة، فإذا اجتمعا كان النصر والظفر، وإن فقدا فالخذلان والخيبة، وإن وجد الرأي بلا شجاعة فالجبن والعجز، وإن حصلت الشجاعة بلا رأي فالتهور والعطب، والصبر لقاح البصيرة، فإذا اجتمعا فالخير في اجتماعهما. قال الحسن: إذا شئت أن نرى بصيرا لا صبر له رأيته، وإذا شئت أن ترى صابرا لا بصيرة له رأيته، فإذا رأيت صابرا بصيرا فذاك.
والنصيحة لقاح العقل، فكلما قويت النصيحة قوى العقل واستنار.
والتذكر والتفكر كل منهما لقاح الآخر، إذا اجتمعا أنتجا الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة. والتقوى لقاح التوكل، فإذا اجتمعا استقام القلب. ولقاح أخذ أهبة الاستعداد للقاء قصر الأمل، فإذا اجتمعا فالخير كله في اجتماعهما والشر في فرقتهما. ولقاح الهمة العالية النية الصحيحة، فإذا اجتمعا بلغ العبد غاية المراد.

.موقف العبد بين يدي الله:

للعبد بين يدي الله موقفان: موقف بين يديه في الصلاة، وموقف بين يديه يوم لقائه، فمن قام بحق الموقف الأول هون عليه الموقف الآخر، ومن استهان بهذا الموقف ولم يوفه حقه شدد عليه ذلك الموقف. قال تعالى {ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا، إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا} سورة الإنسان: الآية رقم: 26- 27.

.لذة الآخرة أبقى:

اللذة من حيث هي مطلوبة للإنسان بل ولكل حي فلا تذم من جهة كونها لذة وإنما تذم ويكون تركها خيرا من نيلها وأنفع إذا تضمنت فوات لذة أعظم منها وأكمل، أو أعقبت ألما حصوله أعظم من ألم فواتها. فههنا يظهر الفرق بين العاقل الفطن والأحمق الجاهل. فمتى عرف العقل التفاوت بين اللذتين والألمين وأنه لا نسبة لأحدهما إلى الآخر هان عليه ترك أدنى اللذتين لتحصيل أعلاهما، واحتمال أيسر الألمين لدفع أعلاهما.
وإذا تقررت هذه القاعدة فلذة الآخرة أعظم وأدوم، ولذة الدنيا أصغر وأقصر، وكذلك ألم الآخرة وألم الدنيا، والمعول في ذلك على الإيمان واليقين، فإذا قوي اليقين وباشر القلب آثر الأعلى على الأدنى في جانب اللذة واحتمل الألم الأسهل على الأصعب، والله المستعان.

.مناداة أيوب ربه:

قوله تعالى: {وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين} سوره الأنبياء، الآية 83 جمع في هذا الدعاء بين حقيقة التوحيد وإظهار الفقر والفاقة إلى ربه ووجود طعم المحبة في التملق له، والإقرار له بصفة الرحمة وأنه أرحم الراحمين والتوسل إليه بصفاته سبحانه وشدة حاجته هو وفقره، ومتى وجد المبتلى هذا كشفت عنه بلواه. وقد جرب أنه من قالها سبع مرات ولا سيما مع هذه المعرفة كشف الله ضره.

.دعاء يوسف:

قوله تعالى عن يوسف نبيه أنه قال: {أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين} يوسف: 101. جمعت هذه الدعوة الإقرار بالتوحيد والاستسلام للرب وإظهار الافتقار إليه والبراءة من موالاة غيره سبحانه، وكون الوفاة على الإسلام أجل غايات العبد وأن ذلك بيد الله لا بيد العبد، والاعتراف بالمعاد وطلب مرافقة السعداء.

.وإن من شيء إلا عندنا خزائنه:

قوله تعالى: {وإن من شيء إلا عندنا خزائنه} الحجر: 21 متضمن لكنز من الكنوز وهو أن كل شيء لا يطلب إلا ممن عنده خزائنه ومفاتيح تلك الخزائن بيده. وأن طلبه من غيره طلب ممن ليس عنده ولا يقدر عليه. وقوله: {وأن إلى ربك المنتهى} سوره النجم، الآية 42 متضمن لكنز عظيم، وهو أن كل مراد إن لم يرد لأجله ويتصل به فهو مضمحل منقطع فإنه ليس إليه المنتهى وليس المنتهى إلا إلى الذي انتهت إليه الأمور كلها فانتهت إلى خلقه ومشيئته وحكمته وعلمه، فهو غاية كل مطلوب، وكل محبوب لا يحب لأجله فمحبته عناء وعذاب. وكل عمل لا يراد لأجله فهو ضائع وباطل. وكل قلب لا إليه فهو شقي محجوب عن سعادته وفلاحه، فاجتمع ما يراد منه كله في قوله {وإن من شيء إلا عندنا خزائنه}، واجتمع ما يراد له كله في قوله: {وأن إلى ربك المنتهى}، فليس وراءه سبحانه غاية تطلب وليس دونه غاية إليها المنتهى.

.من أسرار التوحيد:

وتحت هذا سر عظيم من أسرار التوحيد، وهو أن القلب لا يستقر ولا يطمئن ويسكن إلا بالوصول إليه، وكل ما سواه مما يحب ويراد فمراد لغيره. وليس المراد المحبوب لذاته إلا واحد إليه المنتهى ويستحيل أن يكون المنتهى إلى اثنين كما يستحيل أن يكون ابتداء المخلوقات من اثنين، فمن كان انتهاء محبته ورغبته وإرادته وطاعته إلى غيره بطل عليه ذلك وزال عنه وفارقه أحوج ما كان إليه. ومن كان انتهاء محبته ورغبته ورهبته وطلبه هو سبحانه ظفر بنعيمه ولذاته وبهجته وسعادته أبد الآباد.
العبد دائما متقلب بين أحكام الأوامر وأحكام النوازل، فهو محتاج بل مضطر إلى العون عند الأوامر، وإلى اللطف عند النوازل، وعلى قدر قيامه بالأوامر يحصل له من اللطف عند النوازل، فإن كمل القيام بالأوامر ظاهرا وباطنا ناله اللطف ظاهرا وباطنا، وإن قام بصورها دون حقائقها وبواطنها ناله اللطف في الظاهر وقل نصيبه من اللطف في الباطن.
فإن قلت: وما اللطف الباطن؟ فهو ما يحصل للقلب عند النوازل من السكينة والطمأنينة وزوال القلق والاضطراب والجزع، فيستخذى بين يدي سيده ذليلا له مستكينا ناظرا إليه بقلبه ساكنا إليه بروحه وسره، قد شغله مشاهدة لطفه به عن شدة ما هو فيه من الألم، وقد غيبه عن شهود ذلك معرفته بحسن اختياره له وأنه عبد محض يجري عليه سيده أحكامه رضي أو سخط، فإن رضي نال الرضا وإن سخط فحظه السخط، فهذا اللطف الباطن ثمرة تلك المعاملة الباطنة يزيد بزيادتها وينقص بنقصانها.

.محبة الله:

لا يزال العبد منقطعا عن الله حتى تصل إرادته ومحبته بوجهه الأعلى. والمراد بهذا الاتصال أن تفضي المحبة إليه وتتعلق به وحده فلا يحجبها شيء دونه، وأن تتصل المعرفة بأسمائه وصفاته وأفعاله فلا يطمس نورها ظلمة التعطيل، كما لا يطمس نور المحبة ظلمة الشرك، وأن يتصل ذكره به سبحانه فيزول بين الذاكر والمذكور حجاب الغفلة والتفاته في حال الذكر إلى غير مذكوره. فحينئذ يتصل الذكر به ويتصل العمل بأوامره ونواهيه فيفعل الطاعة لأنه أمر بها وأحبها، ويترك المناهي لكونه نهي عنها وأبغضها.
فهذا معنى اتصال العمل بأمره ونهيه، وحقيقة زوال العلل الباعثة على الفعل والترك من الأغراض والحظوظ العاجلة، ويتصل التوكل والحب به بحيث يصير واثقا به سبحانه مطمئنا إليه راضيا بحسن تدبيره له غير متهم له في حال من الأحوال، ويتصل فقره وفاقته به سبحانه دون من سواه، ويتصل خوفه ورجاؤه وفرحه وسروره وابتهاجه به وحده، فلا يخاف غيره ولا يرجوه ولا يفرح به كل الفرح ولا يسر به غاية السرور.
وإن ناله بالمخلوق بعض الفرح والسرور فليس الفرح التام والسرور الكامل والابتهاج والنعيم وقرة العين وسكون القلب إلا به سبحانه، وما سواه إن أعان على هذا المطلوب فرح به وسر به، وإن حجب عنه فهو بالحزن به والوحشة منه واضطراب القلب بحصوله أحق منه بأن يفرح به، فلا فرحة ولا سرور إلا به أو بما أوصل إليه أعان على مرضاته. وقد أخبر سبحانه أنه لا يحب الفرحين بالدنيا وزينتها، وأمر بالفرح بفضله ورحمته وهو الإسلام والإيمان والقرآن، كما فسره الصحابة والتابعون.
والمقصود أن من اتصلت له هذه الأمور بالله سبحانه فقد وصل، وإلا فهو مقطوع عن ربه متصل بحظه ونفسه ملبس عليه في معرفته وإرادته وسلوكه.

.النعم كلها من الله:

قد فكرت في هذا الأمر فإذا أصله أن تعلم أن النعم كلها من الله وحده، نعم الطاعات ونعم اللذات، فترغب إليه أن يلهمك ذكرها ويوزعك شكرها، قال تعالى: {وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون} سورة النحل: الآية رقم: 53، وقال {واشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون} الأعراف: الآية رقم: 69، وكما أن تلك النعم منه ومن مجرد فضله فذكرها وشكرها لا ينال إلا بتوفيقه.
والذنوب من خذلانه وتخليه عن عبده وتخليته بينه وبين نفسه، وإن لم يكشف ذلك عن عبده فلا سبيل له إلى كشفه عن نفسه فإذا هو مضطر إلى التضرع والابتهال إليه أن يدفع عنه أسبابها حتى لا تصدر منه، وإذا وقعت بحكم المقادير ومقتضى البشرية فهو مضطر إلى التضرع والدعاء أن يدفع عنه موجباتها وعقوباتها فلا ينفك العبد عن ضرورته إلى هذه الأصول الثلاثة، ولا فلاح له إلا بها: الشكر، وطلب العافية، والتوبة النصوح.
ثم فكرت فإذا مدار ذلك على الرغبة والرهبة، وليسا بيد العبد بل بيد مقلب القلوب ومصرفها كيف يشاء، فإن وفق عبده بقلبه إليه وملأه رغبة ورهبة، وإن خذله تركه ونفسه ولم يأخذ بقلبه إليه ولم يسأله ذلك، وما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.