فصل: يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الفوائد (نسخة منقحة)



.كمال النفس:

كمال النفس المطلوب ما تضمن أمرين:
أحدهما: أن يصير هيئة راسخة وصفة لازمة لها.
الثاني: أن يكون صفة كمال في نفسه. فإذا لم يكن كذلك لم يكن كمالا، فلا يليق بمن يسعى في كمال نفسه المنافسة عليه ولا الأسف على فوته، وذلك ليس إلا معرفة بارئها وفاطرها ومعبودها وإلهها الحق الذي لا صلاح لها ولا نعيم ولا لذة إلا بمعرفته وإرادة وجهه وسلوك الطريق الموصلة إليه وإلى رضاه وكرامته. وأن تعتاد ذلك فيصير لها هيئة راسخة لازمة. وما عدا ذلك من العلوم والإرادات والأعمال فهي بين ما لا ينفعها ولا يكملها وما يعود بضررها ونقصها وألمها، ولا سيما إذا صار هيئة راسخة لها، فإنها تعذب وتتألم به بحسب لزومه لها.
وأما الفضائل المنفصلة عنها كالملابس والمراكب والمساكن والجاه والمال فتلك في الحقيقة عوار أعيرتها مدة، ثم يرجع فيها المعير، فتتألم وتتعذب برجوعه فيها بحسب تعلقها بها، ولا سيما إذا كانت هي غاية كمالها، فإذا سلبتها أحضرت أعظم النقص والألم والحسرة.
فليتدبر من يريد سعادة نفسه ولذتها هذه النكتة، فأكثر هذا الخلق إنما يسعون في حرمان نفوسهم وألمها وحسرتها ونقصها من حيث يظنون أنهم يريدون سعادتها ونعيمها. فلذتها بحسب ما حصل لها من تلك المعرفة والمحبة والسلوك. وألمها وحسرتها بحسب ما فاتها من ذلك. ومتى عدم ذلك وخلا منه لم يبق فيه إلا القوى البدنية النفسانية التي بها يأكل ويشرب وينكح ويغضب وينال سائر لذاته ومرافق حياته. ولا يلحقه من جهتها شرف ولا فضيلة، بل خساسة ومنقصة؛ إذ كان إنما يناسب بتلك القوى البهائم ويتصل بجنسها ويدخل في جملتها ويصير كأحدها. وربما زادت في تناولها عليه واختصت دونه بسلامة عاقبتها والأمن من جلب الضرر عليها. فكمالٌ تشاركك فيه البهائم وتزيد عليك وتختص عنك فيه بسلامة العاقبة حقيق أن تهجره إلى الكمال الحقيقي الذي لا كمال سواه، وبالله التوفيق.

.ثواب الانشغال بالله:

إذا أصبح العبد وأمسى وليس همه إلا الله وحده تحمل الله سبحانه حوائجه كلها، وحمل عنه كل ما أهمه، وفرغ قلبه لمحبته، ولسانه لذكره، وجوارحه لطاعته، وإن أصبح وأمسى والدنيا همه حمله الله همومها وغمومها وأنكادها، ووكله إلى نفسه، فشغل قلبه عن محبته بمحبة الخلق، ولسانه عن ذكره بذكرهم، وجوارحه عن طاعته بخدمتهم وأشغالهم، فهو يكدح كدح الوحش في خدمة غيره كالكير ينفخ بطنه ويعصر أضلاعه في نفع غيره. فكل من أعرض عن عبودية الله وطاعته ومحبته بلي بعبودية المخلوق ومحبته وخدمته. قال تعالى: {ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين}.
قال سفيان بن عيينة: لا تأتون بمثل مشهور للعرب إلا جئتكم به من القرآن. فقال له قائل: فأين في القرآن «أعط أخاك تمرة فإن لم يقبل فأعطه جمرة؟» فقال في قوله: {ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا} الآية.

.أقسام العلوم:

العلم: نقل صورة المعلوم من الخارج وإثباتها في النفس.
والعمل: نقل صورة علمية من النفس وإثباتها في الخارج. فإن كان الثابت في النفس مطابقا للحقيقة في نفسها فهو علم صحيح. وكثيرا ما يثبت ويتراءى في النفس صور ليس لها وجود حقيقي، فيظنها الذي قد أثبتها في نفسه علما، وإنما هي مقدرة لا حقيقة لها. وأكثر علوم الناس من هذا الباب. وما كان منها مطابقا للحقيقية في الخارج فهو نوعان: نوع تكمل النفس بإداركه والعلم به، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من علم لا ينفع. وهذا حال أكثر العلوم الصحيحة المطابقة التي لا يضر الجهل بها شيئاً، كالعلم بالفلك ودقائقه ودرجاته، وعدد الكواكب ومقاديرها. والعلم بعدد الجبال وألوانها ومساحاتها ونحو ذلك.
فشرف العلم بحسب شرف معلومه وشدة الحاجة إليه. وليس ذلك إلا العلم بالله وتوابع ذلك.
وأما العلم فآفته عدم مطابقته لمراد الله الديني الذي يحبه الله ويرضاه، وذلك يكون من فساد العلم تارة ومن فساد الإرادة تارة. ففساده من جهة العلم أن يعتقد أن هذا مشروع محبوب لله وليس كذلك، أو يعتقد أنه يقربه إلى الله وإن لم يكن مشروعا، فيظن أنه يتقرب إلى الله بهذا العمل، وإن لم يعلم إنه مشروع.
وأما فساده من جهة القصد فألا يقصد به وجه الله والدار الآخرة، بل يقصد به الدنيا والخلق.
وهاتان الآفتان في العلم والعمل لا سبيل إلى السلامة منهما إلا بمعرفة ما جاء به الرسول في باب العلم والمعرفة وإرادة وجه الله والدار الآخرة في باب القصد والإرادة. فمتى خلا من هذه المعرفة وهذه الإرادة فسد علمه وعلمه.
والإيمان واليقين يورثان صحة المعرفة وصحة الإرادة، وهما يورثان الإيمان ويمدانه. ومن هنا يتبين انحراف أكثر الناس عن الإيمان لانحرافهم عن صحة المعرفة وصحة الإرادة، ولا يتم الإيمان إلا بتلقي المعرفة من مشكاة النبوة، وتجريد الإرادة عن شوائب الهوى وإرادة الخلق، فيكون علمه مقتبسا من مشكاة النبوة، وتجريد الإرادة عن شوائب الهوى وإرادة الخلق، فيكون علمه مقتبسا من مشكاة الوحي، وإرادته لله والدار الآخرة، فهذا أصح الناس علما وعملا وهو من الأئمة الذين يهدون بأمر الله ومن خلفاء رسوله في أمته.

.ظاهر الإيمان وباطنه:

الإيمان له ظاهر وباطن، وظاهره قول اللسان وعمل الجوارح، وباطنه تصديق القلب وانقياده ومحبته. فلا ينفع ظاهر لا باطن له وإن حقن به الدماء وعصم به المال والذرية، ولا يجزئ باطن لا ظاهر له إلا إذا تعذر بعجز أو إكراه وخوف هلاك. فتخلف العمل ظاهرا مع عدم المانع دليل على فساد الباطن وخلوه من الإيمان، ونقصه دليل نقصه، وقوته دليل قوته.
فالإيمان قلب الإسلام ولبه. واليقين قلب الإيمان ولبه. وكل علم وعمل لا يزيد الإيمان واليقين قوة فمدخول، وكل إيمان لا يبعث على العمل فمدخول.

.التوكل على الله:

التوكل على الله نوعان:
أحدهما: توكل عليه في جلب حوائج العبد وحظوظه الدنيوية، أو دفع مكروهاته ومصائبه الدنيوية. والثاني: التوكل عليه في حصول ما يحبه هو ويرضاه من الإيمان واليقين والجهاد والدعوة إليه. وبين النوعين من الفضل ما لا يحصيه إلا الله. فمتى توكل عليه العبد في النوع الثاني حق توكله كفاه النوع الأول تمام الكفاية. ومتى توكل عليه في النوع الأول دون الثاني كفاه أيضا، لكن لا يكون له عاقبة المتوكل فيما يحبه ويرضاه.
فأعظم التوكل عليه التوكل في الهداية وتجريد التوحيد ومتابعة الرسول وجهاد أهل الباطل، فهذا توكل الرسل وخاصة أتباعهم.
والتوكل تارة يكون توكل اضطرار وإلجاء، بحيث لا يجد العبد ملجأ ولا وزرا إلا التوكل، كما إذا ضاقت عليه الأسباب وضاقت عليه نفسه وظن ألا ملجأ من الله إلا إليه، وهذا لا يتخلف عنه الفرج والتيسير ألبتة. وتارة يكون توكل اختيار، وذلك التوكل مع وجود السبب المفضي إلى المراد، فإن كان السبب مأمورا به ذم على تركه. وإن قام بالسبب وترك التوكل ذم على تركه أيضا، فإنه واجب باتفاق الأمة ونص القرآن، والواجب القيام بهما والجمع بينهما. وإن كان السبب محرما حرم عليه مباشرته وتوحد السبب في حقه في التوكل فلم يبق سبب سواه، فإن التوكل من أقوى الأسباب في حصول المراد ودفع المكروه، بل من أقوى الأسباب على الإطلاق. وإن كان السبب مباحا نظرت هل يضعف قيامك به التوكل أو لا يضعفه؟ فإن أضعفه وفرق عليك وشتت همك فتركه أولى، وإن لم يضعفه فمباشرته أولى؛ لأن حكمة أحكم الحاكمين اقتضت ربط المسبب به فلا تعطل حكمته مهما أمكنك القيام بها، ولا سيما إذا فعلته عبودية، فتكون قد أتيت بعبودية القلب بالتوكل وعبودية الجوارح بالسبب المنوي به القربة. والذي يحقق التوكل القيام بالأسباب المأمور بها، فمن عطلها لم يصح توكله كما أن القيام بالأسباب المفضية إلى حصول الخير يحقق رجاءه، فمن لم يقم بها كان رجاؤه تمنيا، كما أن من عطلها يكون توكله عجزا وعجزه توكلا.
وسر التوكل وحقيقته هو اعتماد القلب على الله وحده، فلا يضره مباشرة الأسباب مع خلو القلب من الاعتماد عليها والركون إليها، كما لا ينفعه قوله: توكلت على الله، مع اعتماده على غيره وركونه إليه وثقته به، فتوكل اللسان شيء وتوكل القلب شيء، كما أن توبة اللسان مع إصرار القلب شيء، وتوبة القلب وإن لم ينطق اللسان شيء. فقول العبد: توكلت على الله، مع اعتماد قلبه على غيره، مثل قوله: تبت إلى الله، وهو مصر على معصيته مرتكب لها.

.شكوى الجاهل:

الجاهل يشكو الله إلى الناس، وهذا غاية الجهل بالمشكو والمشكو إليه فإنه لو عرف ربه لما شكاه، ولو عرف الناس لما شكا إليهم. ورأى بعض السلف رجلا يشكو إلى رجل فاقته وضرورته، فقال: يا هذا، والله ما زدت على أن شكوت من يرحمك إلى من لا يرحمك، وفي ذلك قيل:
وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما ** تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم

والعارف إنما يشكو إلى الله، وأعرف العارفين من جعل شكواه إلى الله من نفسه لا من الناس،فهو يشكو من موجبات تسليط الناس عليه، ناظر إلى قول الله تعالى: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم} سورة الشورى، الآية 30، وقوله {وما أصابكم من سيئة فمن نفسك} النساء: 79، وقوله: {أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم} آل عمران: 165 فالمراتب ثلاثة: أخسها أن تشكو الله إلى خلقه، وأعلاها أن يشكو نفسك إليه، وأوسطها أن تشكو خلقه إليه.

.يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول:

قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون} الأنفال: 24 فتضمنت هذه الآية أمورا:
أحدها: ن الحياة النافعة إنما تحصل بالاستجابة لله ورسوله، فمن لم تحصل له الاستجابة فلا حياة له، وإن كانت له حياة بهيمية مشتركة بينه وبين أرذل الحيوانات. فالحياة الطيبة هي حياة من استجاب لله والرسول ظاهرا وباطنا. فهؤلاء هم الأحياء وإن ماتوا،وغيرهم أموات وإن كانوا أحياء الأبدان. ولهذا كان أكمل الناس حياة أكملهم استجابة لدعوة الرسول،فإن كل ما دعا إليه ففيه الحياة، فمن فاته جزء منه فاته جزء من الحياة،وفيه من الحياة بحسب ما استجاب للرسول.
قال مجاهد: {لما يحييكم} يعني للحق. وقال قتادة: هو هذا القرآن فيه الحياة والثقة والنجاة والعصمة في الدنيا والآخرة. وقال السدي: هو الإسلام أحياهم به بعد موتهم بالكفر. وقال ابن إسحق وعروة بن الزبير: واللفظ له {لما يحييكم} يعني للحرب التي أعزكم الله بها بعد الذل،وقواكم بعد الضعف، ومنعكم بها من عدوكم بعد القهر منهم لكم. وكل هذه عبارات عن حقيقة واحدة وهي القيام بما جاء به الرسول ظاهرا وباطنا. قال الواحدي والأكثرون على أن معنى قوله {لما يحييكم} هو الجهاد،وهو قول ابن إسحق واختيار أكثر أهل المعاني. قال الفراء: إذا دعاكم إلى إحياء أمركم بجهاد عدوكم يريد أن أمرهم إنما يقوى بالحرب والجهاد،فلو تركوا الجهاد ضعف أمرهم واجترأ عليهم عدوهم.
قلت: الجهاد من أعظم ما يحييهم به في الدنيا وفي البرزخ وفي الآخرة:
أما في الدنيا فإن قوتهم وقهرهم لعدوهم بالجهاد. وأما في البرزخ فقد قال تعالى: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون} آل عمران: 169.
وأما في الآخرة فإن حظ المجاهدين والشهداء من حياتهم ونعيمها أعظم من حظ غيرهم.
ولهذا قال ابن قتيبة: {لما يحييكم} يعني الشهادة. وقال بعض المفسرين: {لما يحييكم} يعني الجنة. فإنها الحياة الدائمة الطيبة. حكاه أبو علي الجرجاني.
والآية تتناول هذا كله، فإن الإيمان والإسلام والقرآن والجهاد تحيي القلوب الحياة الطيبة. وكمال الحياة في الجنة، والرسول داع إلى الإيمان وإلى الجنة، فهو داع إلى الحياة في الدنيا والآخرة. والإنسان مضطر إلى نوعين من الحياة: حياة بدنه التي بها يدرك النافع والضار ويؤثر ما ينفعه على ما يضره. ومتى نقصت فيه هذه الحياة ناله من الألم والضعف بحسب ذلك. ولذلك كانت حياة المريض والمحزون وصاحب الهم والغم والخوف والفقر والذل دون حياة من هو معافى من ذلك. وحياة قلبه وروحه التي بها يميز بين الحق والباطل والغي والرشاد والهوى والضلال، فيختار الحق على ضده. فتفيده هذه الحياة قوة التمييز بين النافع والضار في العلوم والإرادات والأعمال. وتفيده قوة الإيمان والإرادة والحب للحق، وقوة البغض والكراهة للباطل. فشعوره وتمييزه وحبه ونفرته بحسب نصيبه من هذه الحياة، كما أن البدن الحي يكون شعوره وإحساسه بالنافع والمؤلم أتم، ويكون ميله إلى النافع ونفرته عن المؤلم أعظم. فهذا بحسب حياة البدن، وذاك بحسب حياة القلب. فإذا بطلت حياته بطل تمييزه. وإن كان له نوع تمييز لم يكن فيه قوة يؤثر بها النافع على الضار.
كما أن الإنسان لا حياة له حتى ينفخ فيه الملك، الذي هو رسول الله، من روحه،فيصير حيا بذلك النفخ، وكان قبل ذلك من جملة الأموات.
وكذلك لا حياة لروحه وقلبه حتى ينفخ فيه الرسول صلى الله عليه وسلم من الروح الذي ألقي إليه، قال تعالى {ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده} النحل: 2، وقال: {يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده} غافر: 15، وقال: {وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا} الشورى: 52 فأخبر أن وحيه روح ونور،فالحياة والاستنارة موقوفة على نفخ الرسول الملكي، فمن أصابه نفخ الرسول الملكي ونفخ الرسول البشري حصلت له الحياتان.
ومن حصل له نفخ الملك دون نفخ الرسول حصلت له إحدى الحياتين وفاتته الأخرى.
وقال تعالى: {أومن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها} الأنعام: 122، فجمع له بين النور والحياة كما جمع لمن أعرض عن كتابه بين الموت والظلمة. قال ابن عباس وجميع المفسرين: كان كافراً ضالاًّ فهديناه.
وقوله: {وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس} الأنعام: 122 يتضمن أموراً:
أحدها: أنه يمشي في الناس بالنور وهم في الظلمة، فمثله ومثلهم كمثل قوم أظلم عليهم الليل فضلوا ولم يهتدوا للطريق، وآخر معه نور يمشي به في الطريق ويراها ويرى ما يحذره فيها.
ثانيها: أنه يمشي فيهم بنوره فهم يقتبسون منه لحاجتهم إلى النور.
ثالثها: أنه يمشي بنوره يوم القيامة على الصراط إذا بقي أهل الشرك والنفاق في ظلمات شركهم ونفاقهم.
قوله: {واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه} الآية: 24 من سورة الأنفال المشهور في الآية أنه يحول بين المؤمن وبين الكفر، وبين الكافر وبين الإيمان، ويحول بين أهل طاعته وبين معصيته، وبين أهل معصيته وبين طاعته، وهذا قول ابن عباس وجمهور المفسرين.
وفي الآية قول آخر: أن المعنى: أنه سبحانه قريب من قلبه لا تخفى عليه خافية فهو بينه وبين قلبه، ذكره الواحدي عن قتادة، وكان هذا أنسب بالسياق؛ لأن الاستجابة أصلها بالقلب، فلا تنفع الاستجابة بالبدن دون القلب، فإن الله سبحانه بين العبد وبين قلبه، فيعلم هل استجاب له قلبه وهل أضمر ذلك أو أضمر خلافه؟
وعلى القول الأول فوجه المناسبة أنكم إن تثاقلتم عن الاستجابة وأبطأتم عنها فلا تأمنوا أن الله يحول بينكم وبين قلوبكم فلا يمكنكم بعد ذلك الاستجابة عقوبة لكم على تركها بعد وضوح الحق واستبانته؛ فيكون كقوله: {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة} الآية: 110 من سورة الأنعام، وقوله: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} الآية: 5 من سورة الصف، وقوله: {وما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل} الآية: 101 من سورة الأعراف، ففي الآية تحذير عن ترك الاستجابة بالقلب وإن استجاب بالجوارح.
وفي الآية سر آخر وهو أنه جمع لهم بين الشرع والأمر به وهو الاستجابة، وبين القدر والإيمان به، فهي كقوله: {لمن شاء منكم أن يستقيم. وما تشاءون إلا أن الله رب العالمين} الآيتان: 28، 29 من سورة التكوير، وقوله: {فمن شاء ذكره. وما يذكرون إلا أن يشاء الله} الآيتان: 55، 56 من سورة المدثر، والله أعلم.

.{وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم}:

قوله تعالى: {كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون} الآية: 216 من سورة البقرة، وقوله عز وجل: {وإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً} الآية: 19 من سورة النساء، فالآية الأولى في الجهاد الذي هو كمال القوة الغضبية، والثانية في النكاح الذي هو كمال القوة الشهوانية، فالعبد يكره مواجهة عدوه بقوته الغضبية خشية على نفسه منه، وهذا المكروه خير له في معاشه ومعاده، ويحب الموادعة والمتاركة، وهذا المحبوب شر له في معاشه ومعاده، وكذلك يكره المرأة لوصف من أوصافها، وله في إمساكها خير كثير لا يعرفه، ويحب المرأة لوصف من أوصافها، وله في إمساكها شر كثير لا يعرفه، فالإنسان كما وصفه خالقه: ظلوم جهول فلا ينبغي أن يجعل المعيار على ما يضره وينفعه وميله وحبه، ونفرته وبغضه، بل المعيار على ذلك ما اختاره الله له بأمره ونهيه.
فأنفع الأشياء له على الإطلاق طاعة ربه بظاهره وباطنه. وأضر الأشياء عليه على الإطلاق معصيته بظاهره وباطنه، فإذا قام بطاعته وعبوديته مخلصا له فكل ما يجري عليه مما يكرهه يكون خيرا له، وإذا تخلى عن طاعته وعبوديته فكل ما هو فيه من محبوب هو شر له، فمن صحت له معرفة ربه والفقه في أسمائه وصفاته علم يقيناً أن المكروهات التي تصيبه والمحن التي تنزل به فيها ضروب من المصالح والمنافع التي لا يحصيها علمه ولا فكرته، بل مصلحة العبد فيما يكره أعظم منها فيما يحب.
فعامة مصالح النفوس في مكروهاتها، كما أن عامة مضارها وأسباب هلكتها في محبوباتها، فانظر إلى غارس جنة من الجنات، خبير بالفلاحة، غرس جنة وتعاهدها بالسقي والإصلاح حتى أثمرت أشجارها فأقبل عليها يفصل أوصالها ويقطع أغصانها؛ لعلمه أنها لو خليت على حالها لم تطب ثمرتها فيطعمها من شجرة طيبة الثمرة، حتى إذا التحمت بها واتحدت وأعطت ثمرتها أقبل يقلمها ويقطع أغصانها الضعيفة التي تذهب قوتها ويذيقها ألم القطع والحديد لمصلحتها وكمالها لتصلح ثمرتها أن تكون بحضرة الملوك، ثم لا يدعها ودواعي طبعها من الشرب كل وقت بل يعطشها وقتاً ويسقيها وقتاً ولا يترك الماء عليها دائماً، وإن كان ذلك أنضر لورقها وأسرع لنباتها، ثم يعمد إلى الزينة التي زينت بها من الأوراق فيلقي عنها كثيراً منها؛ لأن تلك الزينة تحول بين ثمرتها وبين كمال نضجها واستوائها، كما في شجر العنب ونحوه، فهو يقطع أعضاءها بالحديد. ويلقي عنها كثيراً من زينتها، وذلك عين مصلحتها، فلو أنها ذات تمييز وإدراك كالحيوان لتوهمت أن ذلك إفساد لها وإضرار بها، وإنما هو عين مصلحتها.
وكذلك الأب الشفيق على ولده بمصلحته، إذا رأى مصلحته في إخراج الدم الفاسد عنه بضع جلده وقطع عروقه، وأذاقه الألم الشديد. وإن رأى شفاءه في قطع عضو من أعضائه أبانه عنه، كل ذلك رحمة به وشفقة عليه، وإن رأى مصلحته في أن يمسك عنه العطاء لم يعطه ولم يوسع عليه؛ لعلمه أن ذلك أكبر الأسباب إلى فساده وهلاكه، وكذلك يمنعه كثيرًا من شهواته حماية له ومصلحة لا بخلاً عليه، فأحكم الحاكمين وأرحم الراحمين وأعلم العالمين الذي هو أرحم بعباده منهم بأنفسهم، ومن آبائهم وأمهاتهم إذا أنزل بهم ما يكرهون كان خيراً لهم من ألا ينزله بهم، نظراً منه لهم وإحساناً إليهم ولطفاً بهم. ولو مكنوا من الاختيار لأنفسهم لعجزوا عن القيام بمصالحهم علماً وإرادة وعملاً، لكنه سبحانه تولى تدبير أمورهم بموجب علمه وحكمته ورحمته، أحبوا أم كرهوا فعرف ذلك الموقنون بأسمائه وصفاته، فلم يتهموه في شيء من أحكامه وخفي ذلك على الجهال به، وبأسمائه وصفاته، فتنازعوا تدبيره وقدحوا في حكمته ولم ينقادوا لحكمه وعارضوا حكمه بعقولهم الفاسدة وآرائهم الباطلة وسياساتهم الجائرة، فلا لربهم عرفوا، ولا لمصالحهم حصلوا، والله الموفق.
ومتى ظفر العبد بهذه المعرفة سكن في الدنيا قبل الآخرة في جنة لا يشبه نعيمها إلا نعيم جنة الآخرة، فإنه لا يزال راضياً عن ربه والرضا جنة الدنيا ومستراح العارفين، فإنه طيب النفس بما يجري عليه من المقادير التي هي عين اختيار الله له، وطمأنينتها إلى أحكامه الدينية، وهذا هو الرضا بالله ربًّا وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً.
وما ذاق طعم الإيمان من لم يحصل له ذلك، وهذا الرضا هو بحسب معرفته بعدل الله وحكمته ورحمته وحسن اختياره. فكلما كان بذلك أعرف كان به أرضى، فقضاء الرب سبحانه في عبده دائر بين العدل والمصلحة والحكمة والرحمة، لا يخرج عن ذلك ألبتة، كما قال صلى الله عليه وسلم في الدعاء المشهور: «اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك. أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي وغمي. ما قالها أحد قط إلا أذهب الله همه وغمه وأبدله مكانه فرحاً» قالوا: «أفلا نتعلمهن يا رسول الله؟» قال: «بلى ينبغي لمن يسمعهن أن يتعلمهن».
والمقصود: قوله «عدل في قضاؤك» وهذا يتناول كل قضاء يقضيه على عبده من عقوبة أو ألم. وسبب ذلك فهو الذي قضى بالسبب وقضى بالمسبب، وهو عدل في هذا القضاء، وهذا القضاء خير للمؤمن كما قال صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيراً له، وليس ذلك إلا للمؤمن».
قال العلامة ابن القيم: فسألت شيخنا: هل يدخل في ذلك قضاء الذنب؟ فقال: نعم؛ بشرطه، فأجمل في لفظه بشرطه ما يترتب على الذنب من الآثار المحبوبة لله من التوبة والانكسار والندم والخضوع والذل والبكاء وغير ذلك.