فصل: باب: قسم الفيء

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكافي في فقه الإمام أحمد ***


باب‏:‏ قسم الفيء

فصل‏:‏ ‏[‏تعريف الفيء‏]‏

وهو‏:‏ كل مال أخذ من المشركين بغير قتال كالجزية والخراج والعشور المأخوذة من تجارهم وما تركوه فزعا هربوا أو بذلوه لنا في الهدنة ونحو ذلك فذكر الخرقي‏:‏ أنه يخمس فيصرف خمسه إلى من يصرف إليه خمس الغنيمة لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل‏}‏ وهؤلاء أهل الخمس وهذا إحدى الروايتين عن أبي عبد الله رحمه الله وظاهر المذهب أنه لا يخمس لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب‏}‏ الآيات فجعله كله لجميع المسلمين قال عمر رضي الله عنه لما قرأها‏:‏ هذه استوعبت المسلمين ولئن عشت ليأتين الراعي وهو بسرو حمير نصيبه منها لم يعرق فيها جبينه وعلى كلتا الروايتين يبدأ فيه بالأهم فالأهم وأهم المصالح كفاية أجناد المسلمين بأرزاقهم وسد الثغور بمن فيه كفاية وكفايتهم بأرزاقهم وبناء ما يحتاج إلى بنائه منها وحفره الخنادق وشراء ما يحتاج إليه من الكراع والسلاح ثم الأهم فالأهم من عمارة القناطر والطرق والمساجد وكري الأنهار وسد البثوق وأرزاق القضاة والأئمة والمؤذنين ومن يحتاج إليه المسلمون وكل ما يعود نفعه إلى المسلمين ثم ما فضل قسمه على المسلمين لما ذكرنا من الآية وقول عمر رضي الله عنه وذكر القاضي‏:‏ أن الفيء لأهل الجهاد خاصة دون غيرهم من الأعراب ومن لا يعد نفسه للجهاد لأنه ذلك كان للنبي صلى الله عليه وسلم لحصول النصرة به فلما مات أعطي لمن يقوم مقامه في ذلك وهم المقاتلة دون غيرهم‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏ما يفرض للمقاتلة من المسلمين‏؟‏‏]‏

ويفرض للمقاتلة من المسلمين قدر كفايتهم لأنهم كفوا المسلمين أمر الجهاد فيجب أن يكفوا المؤنة ويتعاهد عدد عيالهم لأنهم قد يزيدون وينقصون ويتعرف أسعار ما يحتاجون إليه من الطعام والكسوة لأنه قد يغلوا ويرخص لتكون أعطيتهم على قدر كفايتهم ولا يفرض في المقاتلة لصبي ولا مجنون ولا عبد ولا مرأة ولا ضعيف عاجز عن الجهاد ولا لمريض لا يرجى برؤه لأنهم من غير أهل الجهاد ويفرض للمريض المرجو برؤه لأن أحدا لا يخلو من عارض وإن مات مجاهد وله عائلة أجري عليهم قدر كفايته لأن فيه تطبيب قلوب المجاهدين فمتى علموا أن عيالهم يكفون المؤنة بعد موتهم توفروا على الجهاد وإن علموا خلاف ذلك توفروا على الكسب وآثروه على الجهاد فإذا بلغ الذكور منهم فاختاروا أن يكونوا من المقاتلة فرض لهم وإن لم يختاروا تركوا ومتى تزوجت المرأة سقط حقها لأنها خرجت من عيال الميت ومن مات بعد حلول وقت العطاء دفع إلى ورثته حقه لأنه مات بعد الاستحقاق فانتقل حقه إلى وارثه كسائر الموروثات‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏ما ينبغي على الإمام من وضع الدواوين وتقدير الأرزاق ونحو ذلك‏]‏

وينبغي للإمام أن يضع ديوانا يكتب فيه أسماء المقاتلة وقدر أرزاقهم لما روي عن أبي هريرة قال‏:‏ قدمت على عمر رضي الله عنه ثمانمائة ألف درهم فلما أصبح أرسل إلى نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم‏:‏ قد جاء للناس مال لم يأتيهم مثله منذ كان الإسلام أشيروا علي بمن أبدأ‏؟‏ قالوا‏:‏ بك يا أمير المؤمنين إنك ولي ذلك قال‏:‏ لا ولكن ابدأوا بأهل بيت رسول الله عليه وسلم الأقرب فالأقرب فوضع الديوان على ذلك ويجعل لكل طائفة عريفا يقوم بأمرهم ويجمعهم وقت العطاء ووقت الغزو لأنه يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل عام خيبر على كل عشرة عريفا ويجعل العطاء في كل عام مرة أو مرتين ولا يجعل في أقل من ذلك لئلا يشغلهم عن الغزو ويبدأ ببني هاشم لأنهم أقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ذكرنا من خبر عمر ثم ببني المطلب لقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد‏]‏ وشبك بين أصابعه ثم ببني عبد شمس لأنه أخو هاشم لأبيه وأمه قال آدم بن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز‏:‏ عبد شمس كان يتلو هاشما وهما بعد لأم وأب ثم ببني نوفل لأنه أخو هاشم لأبيه ثم يعطى بنو عبد العزى وعبد الدار ويقدم عبد العزى لأن فيهم أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن خديجة منهم فعلى هذا‏:‏ يعطى الأقرب فالأقرب حتى تنقضي قريش وهم بنو النضر بن كنانة ثم يقدم الأنصار على سائر العرب لسابقتهم وآثارهم الجميلة ثم سائر العرب ثم العجم وإن استوى اثنان في الدرجة قدم أسنهما ثم أقدمهما هجرة وسابقة‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏حكم تفضيل بعض المقاتلة على بعض‏]‏

واختلفت الرواية عن أحمد في جواز تفضيل بعضهم على بعض فروي عنه‏:‏ أنه يسوى بينهم في العطاء ولا يجوز التفضيل لأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه سوى بينهم فيه وقال‏:‏ فضائلهم عند ربهم ولأن الغنائم تقسم بين من حضر الوقعة على السواء فكذلك الفيء وعنه‏:‏ أن للإمام تفضيل قوم على قوم لأن عمر رضي الله عنه قسم بينهم على السوابق وقال‏:‏ لا أجعل من قاتل على الإسلام كمن قوتل عليه ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قسم النفل بين أهله متفاضلا وهذا في معناه‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏حكم من ضل من أهل الحرب الطريق فوقع في دار الإسلام‏]‏

ومن ضل من أهل الحرب الطريق فوقع في دار الإسلام أو حملته الريح في المركب إلينا أو شرد من دوابهم فحصل في أيدينا ذكر أبو الخطاب فيه روايتين‏:‏

إحداهما‏:‏ يكون فيئا لأنه مال مشرك ظهر عليه بغير قتال أشبه ما تركوه فزعا وهربوا‏.‏

والثانية‏:‏ هو لمن أخذه لأنه مباح ظهر عليه بغير جهاد فكان لآخذه كمباحات دار الإسلام وقد روي عن أحمد فيمن ضل الطريق منهم فدخل إلى قرية قال‏:‏ هو لأهل القرية كلهم وقال في عبد أبق إلى أرض الروم ثم رجع ومعه متاع‏:‏ فالعبد لمولاه وما معه من متاع والمال فهو للمسلمين وقال القاضي‏:‏ هذا على الرواية التي تجعل غنيمة الذين دخلوا أرض الحرب بغير إذن الإمام فيئا فأما على الرواية الأخرى فيكون المال لسيده لأنه كسب عبده وفي تخميسه روايتان ولو أسر الكفار رجلا فغنم منهم شيئا وخرج به إلى دار الإسلام كان له لأنه كسبه ويحتمل أن يجب فيه الخمس لأنه غنيمة وقد روى الأوزاعي أنه لما أقفل عمر بن عبد العزبز الجيش الذين كانوا مع مسلمة كسر مركب بعضهم فأخذ المشركون ناسا من القبط فكانوا خدما لهم ثم خرجوا إلى عبد لهم وخلف القبط في مركبهم ورفع القبط القلع وفي المركب متاع الآخرين وسلاحهم فلم يضعوا قلعهم حتى أتوا بيروت فكتب في ذلك إلى عمر بن عبد العزيز فكتب إليهم عمر‏:‏ نفلوهم القلع وكل شيء جاءوا به إلا الخمس رواه سعيد ويحتمل أن يكون فيئا استدلالا بقول عمر‏:‏ نفلوهم الذي جاءوا به ولو كان لهم لم يكن نفلا‏.‏

باب‏:‏ حكم الأرضين المغنومة

الأرض التي بأيدي المسلمين تنقسم قسمين‏:‏

أحدهما‏:‏ ما هو مملوك لأهله لا خراج عليه وهو ما أسلم عليه أهله كأرض مدينة النبي صلى الله عليه وسلم أو غنمه المسلمون فقسم بينهم كأرض خيبر التي قسمها النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه الذين افتتحوها أو ما صالح أهله على أن الأرض لهم كأرض اليمن والحيرة وبانقيا وأليس من العراق أو ما أحياه المسلمون من موات الأرض كأرض البصرة كانت سبخة فأحياها عتبة بن غزوان وعثمان بن أبي العاص فهذا ملك لأهله لهم التصرف فيه بالبيع وسائر التصرفات لأنه مملوك لهم أشبه الثياب والسلاح‏.‏

القسم الثاني‏:‏ ما وقفه الأئمة على المسلمين ولم يقسموه كأرض الشام كلها ما خلا مدنها والعراق كله إلا ما ذكرنا منه والجزيرة ومصر والمغرب وسائر ما افتتح عنوة فهذا وقفه عمر رضي الله عنه ومن بعده من الأئمة ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه أنه قسم أرضا عنوة غير خيبر وروى أبو عبيد بإسناده عن عمر رضي الله عنه‏:‏ أنه قدم الجابية فأراد قسمة الأرض بين المسلمين فقال له معاذ‏:‏ والله إذا ليكونن ما تكره وإنك إن قسمتها اليوم صار الريع العظيم في أيدي القوم ثم يبيدون فيصير ذلك إلى الرجل الواحد والمرأة الواحدة ثم يأتي من بعدهم قوم يسدون من الإسلام مسدا وهم لا يجدون شيئا فانظروا أمرا يسع أولهم وآخرهم فصار عمر إلى قول معاذ‏.‏

ولما افتتح عمرو بن العاص مصر طلب منه الزبير قسمتها فكتب في ذلك إلى عمر فكتب عمر‏:‏ أن دعها حتى يغزو منها حبل الحبلة وروى عن بكير بن عامر قال‏:‏ اشترى عتبة بن فرقد أرضا من أرض الخراج فأتى عمر فأخبره فقال عمر‏:‏ ممن اشتريتها‏؟‏ قال‏:‏ من أهلها قال‏:‏ فهؤلاء أهلها للمسلمين أ بعتموه شيئا‏؟‏ قالوا لا قال‏:‏ فاذهب فاطلب مالك وعن عبد الله بن المغفل أنه قال‏:‏ لا تشتر من أرض السواد إلا من أهل الحيرة وبانقيا وأليس وروى هذا كله أبو عبيد وقد اشتهرت قصة عمر رضي الله عنه في ضرب الخوارج على أرض السواد وإقراره في يد أهله الخوارج الذي ضربه وجعل ذلك أجرة له ولم يقدر مدته لعموم المصلحة فيه فهذا لا يجوز بيعه ولا شراؤه لخبر عتبة بن فرقد ولأنه موقوف للمسلمين كلهم فلم يجز بيعه كسائر الوقوف فأما إجارته فجائزة لأنه مستأجر في أيدي أربابه بالخوارج وإجارة المستأجر جائزة وذكر القاضي في إجارته روايتين والصحيح ما ذكرناه وعن أحمد رحمه الله رواية أخرى‏:‏ أنه كره بيعها وأجاز شراءها لأنه استنقاذ لها فجاز كشراء الأسير ومن كانت في يده أرض فهو أحق بها بالخوارج كالمستأجر وتنتقل إلى وراثه بعده على وجه الذي كانت في يد موروثه وإن آثر بها أحدا صار الثاني أحق بها وإن عجز رب الأرض عن عمارتها وأداء خراجها أجبر على رفع يده عنها ودفعت إلى غيره لأن الأرض للمسلمين فلا يجوز تعطيلها عليهم‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏ما يجب فيه الخراج‏]‏

ويجب الخراج في العامر الذي يمكن زرعه والانتفاع به فأما الموات الذي لا يمكن زرعه فلا خراج فيه لأن الخرج أجرة الأرض ولا أجرة لهذا وعنه‏:‏ يجب فيه الخراج إذا كان على صفقة يمكن إحياؤه ليحييه من هو في يده أو يرفع يده عنه فيحييه غيره وينتفع به وما كان من الأرض لا يمكن زرعها حتى تراح عاما وتزرع عاما فخراجها على النصف من خراج غيرها لأن نفعها على النصف وحكم الخراج حكم الدين يطالب به الموسر وينظر به المعسر لأنه أجرة فأشبه أجرة المساكن وإن رأى الإمام المصلحة في ترك خراج إنسان له أو تخفيفه جاز له لأنه فيء فكان النظر فيه إلى الإمام ويجوز لصاحب الأرض أن يرشو العامل ليدفع عنه الظلم في خراجه لأنه يتوصل بماله إلى كف اليد العادية عنه ولا يجوز له ذلك ليدع له من خراجه شيئا لأنه رشوة لإبطال حق فحرمت على الآخذ والمعطي كرشوة الحاكم ليحكم له بغير الحق‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏ما لا يسقط به الخراج‏]‏

ولا يسقط خراج هذه الأرض بإسلام أهلها أو انتقالها إلى مسلم لأنه أجرة فأشبه أجرة المساكن قال أحمد‏:‏ ما كان من أرض عنوة ثم أسلم صاحبها وضعت عنه الجزية وأقر على أرض الخراج وقال أيضا‏:‏ أرض أهل الذمة فيها الخراج فإن اشتراها المسلم ففيها الخراج لأنه حق على الأرض قال‏:‏ ويكره للمسلم أن يشتري من أرض الخراج والمزارع لأن في الخراج معنى الذلة وبهذا وردت الأخبار عن عمر وغيره ومعنى الشراء هاهنا‏:‏ أن يتقبل الأرض بما عليها من خراجها لأن شراء هذه الأرض غير جائز أو يكون على الرواية التي أجاز شراءها لكونه استنقاذا لها فهو كاستنقاذ الأسير‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏الخراج بما تحمله الأرض‏]‏

ويعتبر الخراج بما تحمله الأرض من القليل والكثير والمرجع فيه إلى اجتهاد الإمام في إحدى الروايات وهي اختبار الخلال وعامة شيوخنا لأنها أجرة فلم تقدر بمقدار ما لا يختلف كأجرة المساكن‏.‏

والثانية‏:‏ يرجع فيه إلى ما فرض عمر رضي الله عنه لا تجوز الزيادة عليه ولا النقصان منه لأن اجتهاد عمر أولى من قول غيره‏.‏

والثالثة‏:‏ تجوز الزيادة عليه ولا يجوز النقصان لما روى عمرو بن ميمون‏:‏ أنه سمع عمر رضي الله عنه يقول لحذيفة وعثمان بن حنيف‏:‏ لعلكما حملتما الأرض ما لا تطيق فقال عثمان‏:‏ والله لئن زدت عليهم لا تشق عليهم ولا تجهدهم فدل على إباحة الزيادة ما لم يجهدهم‏.‏

واختلف عن عمر رضي الله عنه في قدر الخراج إلا أنه روي عن عمرو بن ميمون‏:‏ أنه وضع على كل جريب من أرض السواد قفيزا ودرهما قال أحمد‏:‏ أعلى وأصح حديث في أرض السواد حديث عمرو بن ميمون في الدرهم والقفيز وهذا يل على أنه أخذ به‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏قدر القفيز‏]‏

قال أحمد رضي الله عنه‏:‏ قدر القفيز صاع قدره ثمانية أرطال قال القاضي‏:‏ عندي أن ثمانية أرطال بالمكي فيكون ستة عشر رطلا بالعراقي وقال أبو بكر‏:‏ قد قيل‏:‏ إن قدره ثلاثون رطلا وينبغي أن يكون من جنس ما تخرجه الأرض لأنه روي عن عمر رضي الله عنه‏:‏ أنه ضرب على الطعام درهما وقفيز حنطة وعلى الشعير درهما وقفيز شعير‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏الجريب‏]‏

والجريب‏:‏ عشر قصبات في عشر قصبات والقبضة‏:‏ ستة أذرع بذراع عمر رضي الله عنه وهو ذراع وسط لا أطول ذراع ولا أقصرها وقبضة وإبهام قائمة وما بين الشجر من بياض الأرض تبع لها ومن ظلم في خراجه لم يحتسبه من العشر لأنه ظلم فلم يحتسبه من العشر كالغصب وعنه‏:‏ يحتسبه من العشر لأن الآخذ لهما واحد وهذا اختيار أبي بكر‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏حكم ما فتح عنوة‏]‏

وما فتح عنوة فالإمام مخير بين قسمته بين الغانمين فيصير ملكا لهم لا خراج عليه وبين وقفها على المسلمين وضرب الخراج عليها لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل الأمرين في خيبر فقسم نصفها ووقف نصفها وعمر وقف كل شيء فتحه ولم يقسمه فدل على جواز الأمرين وليس له إلا فعل مايرى المصلحة فيه فما فعل من ذلك لزم قال أحمد رحمه الله‏:‏ هم على ما يفعل الفاتح إذا كان من أئمة الهدى وعنه‏:‏ أن الأرض تصير وقفا بنفس الظهور عليها لأن الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم لم يقسموا أرضا افتتحوها ولأن في قسمتها المحذور الذي ذكره معاذ رضي الله عنه وإنما قسم النبي صلى الله عليه وسلم نصف خيبر في بدء الإسلام لضعفهم وحاجتهم وذكر أبو الخطاب رواية ثالثة‏:‏ أنها تقسم بين الغانمين من غير تخيير لعموم قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه‏}‏ لأن فعل النبي صلى الله عليه وسلم أولى من فعل غيره والأول أولى لأن عمر رضي الله عنه ومن بعده لم يقسموا الأرض وتابعهم علماء الصحابة عليه فحصل إجماعا وما وقفه الإمام فهو مخير بين إقرار أهله بالخراج وبين إجلائهم وجلب غيرهم لأن الأرض قد ملكت عليهم فأما ما جلى عنها أهلها خوفا من المسلمين فتصير وقفا بنفس الظهور عليها لأنها ليست غنيمة فتقسم وعنه‏:‏ لا تصير وقفا حتى يقفها الإمام لأن الوقف لا يثبت بنفسه وحكمها حكم العنوة إذا وقفت وكذلك الحكم فيما صالحونا عليه على أن الأرض للمسلمين وتقر في أيديهم بالخراج فأما إن صالحناهم على أن الأرض لهم ولنا عليها الخراج فهذه ملك لأربابها متى أسلموا سقط عنهم لأنه بمنزلة الجزية فيسقط بالإسلام كالجزية ولهم بيعها والتصرف فيها وإن انتقلت إلى مسلم لم يؤخذ خراجها لما ذكرناه‏.‏

باب‏:‏ الأمان

يحوز عقد الأمان لجميع الكفار وآحادهم لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله‏}‏ وروى علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏[‏ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل‏]‏ رواه البخاري‏.‏

وتصح من كل مسلم بالغ عاقل مختار ذكرا كان أو أنثى حرا أو عبدا للخبر وقالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ إن كانت المرأة لتجير على المؤمنين فيجوز وعن فضيل بن يزيد الرقاشي قال‏:‏ جهز عمر بن الخطاب رضي الله عنه جيشا فكنت فيه فحضرنا موضعا فرأينا أنا سنفتحها اليوم وجعلنا نقبل ونروح ففي عبد منا فراطنهم وراطنوه فكتب لهم الأمان في صحيفة وشدها على سهم ورمى بها إليهم فأخذوها وخرجوا فكتب بذلك إلى عمر فقال‏:‏ العبد المسلم رجل من المسلمين يجوز أمانه رواهما سعيد ويصح أمان الأسير المسلم إذا عقده غير مكره كذلك‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏الأمان من الكافر‏]‏

ولا يصح من كافر لقوله عليه السلام‏:‏ ‏[‏يسعى بها أدناهم‏]‏ وليس الكافر منهم ولأنه متهم في الدين ولا من مجنون ولا طفل لأنه لا حكم لقولهما ولا مكره لأنه عقد أكره عليه بغير حق فلم يصح كالبيع وفي الصبي المميز روايتان‏:‏

إحداهما‏:‏ لا يصح منه لأن القلم مرفوع عنه ولا يلزمه بقوله حكم فلا يلزم غيره كالمجنون‏.‏

والثانية‏:‏ يصح لعموم الخبر ولأنه مسلم عاقل فصح أمانه كالبالغ فإن دخل مشرك بأمان من لا يصح أمانه عالما بفساده جاز قتله وأخذ ماله لأنه حربي لا أمان له وإن لم يعرف عرف ذلك ورد إلى مأمنه ولم يجز قتله لأنه دخل على أنه بأمان‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏حكم عقد الأمان لجميع الكفار‏]‏

وللإمام عقده لجميع الكفار لأن له الولاية على جميع المسلمين وللأمير عقده لمن أقيم بإزائه لأن إليه الأمر فيهم وأما سائر الرعية فلهم عقده للواحد والعشرة والحصن الصغير لحديث عمر في أمان العبد ولا يصح لأهل بلدة ورستاق ونحوهم لأن ذلك يفضي إلى تعطيل الجهاد والافتئات على الإمام وللإمام والأمير أمان الأسير لأن عمر رضي الله عنه أمن الهرمزان وهو أسير ولأن له المن عليه فالأمان أولى وليس ذلك لغيره لأن أمر الأسير إلى الإمام فلم يجز لغيره الافتئاف عليه / ذكر أبو الخطاب‏:‏ أن ذلك لكل مسلم لأن زينب ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أجارت زوجها أبا العاص بن الربيع بعد أسره فأمضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏حكم من طلب الأمان ليسمع كلام الله ويعرف الشريعة‏]‏

ومن طلب الأمان ليسمع كلام الله ويعرف الشريعة وجب أن يعطاه ثم يرد إلى مأمنه لقول الله سبحانه‏:‏ ‏{‏وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه‏}‏ ويجوز عقده للمستأمن غير مقيد بمدة لأن ذلك لا يفضي إلى ترك الجهاد قال القاضي‏:‏ يجوز أن يقيموا في دارنا مدة الهدنة بغير جزية وهو ظاهر كلام أحمد رحمه الله لأن من جاز إقراره بغير جذية فيما دون السنة جاز فيما زاد كالمرأة وقال أبو الخطاب‏:‏ عندي لا يجوز أن يقيموا سنة فصاعدا بغير جزية لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون‏}‏‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏بم يحصل الأمان‏؟‏‏]‏

ويحصل الأمان بما يدل عليه من قول وغيره فالقول مثل أمنتك أو أنت آمن او أجرتك أو أنت مجار أو في جواري أو في ذمي أو في أماني أو في خفارتي أو لا بأس عليك أو لا خوف عليك أو لا تخف أو مترس بالفارسية ونحو ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الفتح‏:‏ ‏[‏من دخل دار أبي سفيان فهو آمن‏]‏ وقال لأم هانئ‏:‏ ‏[‏قد أجرنا من أجرت وأمنا من أمنت‏]‏ وقال أنس لعمر في قصة الهرمزان‏:‏ ليس إلى قتله سبيل قد قلت‏:‏ تكلم لا بأس عليك فأمسك عمر وروى زر عن عبد الله بن مسعود أنه قال‏:‏ إن الله يعلم كل لسان فمن أتى منكم أعجميا فقال‏:‏ له‏:‏ مترس فقد أمنه وإن أشار إليه بالأمان فهو أمان لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال‏:‏ لو أن أحدكم أشار بأصبعه إلى السماء إلى مشرك فنزل إليه فقتله لقتله به فإن قال المسلم‏:‏ لم أرد به الأمان فالقول قوله لأنه أعلم بنيته ويرد المشرك إلى مأمنه لأنه نزل على أنه آمن وإن قال له‏:‏ قف أو قم أو ألق سلاحك فقال أصحابنا‏:‏ هو أمان لأن الكافر يعتقده أمانا فأشبه قوله‏:‏ لا تخف ويحتمل أن يرجع فيه إلى النية فإن نوى به الأمان كان أمنا لأنه يحتمله وإن لم ينو لم يكن أمانا لأنه يستعمل للإرهاب والتخويف والتهديد فلم ينصرف إلى الأمان بغير نية وإذا اختلفا في نيته فالقول قول المسلم لما ذكرنا وإن قال الكافر‏:‏ أنت آمن فرد الأمان لم ينعقد لأنه إيجاب حق بعقده فلم يصح مع الرد كالبيع وإن قبله ثم رده انتفض لأنه حق له فسقط بإسقاطه كالرق‏.‏

وأما الفعل فإذا دخل الحربي دار الإسلام رسولا أو تاجرا وقد جرت العادة بدخول تجارهم إلينا كان أمانا له ولم يجز التعرض له لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرسولي مسيلمة‏:‏ ‏[‏لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكما‏]‏ رواه أبو داود والنسائي بمعناه ولأنهم دخلوا يعتقدون الأمان فأشبه ما لو دخلوا بإشارة المسلم‏.‏

وإن دخل المسلم دار الحرب رسولا أو تاجرا وقد جرت العادة بدخول تجارنا إليهم صار في أمانهم وصاروا في أمان منه لأن الأمان إذا انعقد من أحد الطرفين انعقد من الآخر فلا تحل خيانتهم في أموالهم ولا معاملتهم بالربا لأن من حرم ماله عليك ومالك عليه حرمت معاملته بالربا كالمسلم في دار الإسلام وإذا أخذ المسلمون حربيا فادعى أنه جاء مستأمنا نظرنا فإن كان بغير سلاح قبل قوله لأن تركه السلاح دليل على قصد الأمان وإن كان معه سلاح لم يقبل منه نص عليه أحمد لأن حمله لآلة الحرب دليل على أنه محارب وقال أحمد‏:‏ إذا لقي الرجل العلج فطلب من الأمان لم يعطه وإن كان المسلمون جماعة أعطوه الأمان لأن الواحد لا يأمن غدر العلج عند خلوته به والجماعة يأمنون ذلك‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏حكم من جاء بحربي فادعى الحربي أنه أمنه فأنكر المسلم‏]‏

ومن جاء بحربي فادعى الحربي أنه أمنه فأنكر المسلم ففيه ثلاث روايات‏:‏

إحداهن‏:‏ القول قول المسلم لأن الأصل معه وهو إباحة دم الحربي وعدم الأمان‏.‏

والثانية‏:‏ القول قول الأسير لأنه يدعي حقن دمه فيكون ذلك شبهة في درء القتل‏.‏

والثالثة‏:‏ القول قول من يدل ظاهر الحال على صدقه فمتى كان أقوى من المسلم ومعه سلاحه فالقول قوله‏:‏ لأن الظاهر معه وإن كان ضعيفا مأخوذا سلاحه فالقول قول المسلم لأن الظاهر معه‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏الحكم إذا دخل الحربي دار الإسلام بأمان‏]‏

وإذا دخل حربي دار الإسلام بأمان ثبت الأمان لنفسه وماله الذي معه لأن الأمان يقتضي ترك التعرض له بما يضره وأخذ ماله يضره فإن أودع ماله أو أقرضه مسلما أو ذميا ثم عاد إلى دار الحرب رسولا أو تاجرا أو متنزها ليعود إلى دار الإسلام فهو على أمانه وإن دخل مستوطنا أو محاربا انتقض الأمان في نفسه لأنه تركه وبقي ماله لأنه بطل في نفسه بعوده ولم يوجد ذلك في المال ولأن الأمان ثبت للمال بأخذ المودع والمقترض له فأشبه ما لو استودعه في دار الحرب ودخل به دار الإسلام فإن طلبه صاحبه بعث به إليه وإن مات بعث إلى وارثه وكذلك إن مات المستأمن في دار الإسلام بعث ماله إلى وارثه لأن الأمان حق لازم تعلق بالمال فإذا انتقل إلى الوارث انتقل بحقه كسائر ماله وإن لم يكن له وارث فهو فيء لأنه مال انتقل عن الكافر ولا مستحق له فأشبه مال الذمي الذي يموت ولا وارث له وإن سبي مالكه كان موقوفا فإن عتق رد إليه وإن مات في الرق أو قتل فماله فيء لأنه لا يورث فأشبه مال من لا وارث له‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏الحكم إن أخذ المسلم من الحربي في دار الحرب مالا مضاربة أو وديعة ودخل به دار الإسلام‏]‏

وإن أخذ المسلم من الحربي في دار الحرب مالا مضاربة أو وديعة ودخل به دار الإسلام فهو في أمان حكمه مثل ما ذكرنا وإن أخذه ببيع في الذمة أو اقتراض فالثمن في ذمته عليه أداؤه إليه وإن اقترض حربي من حربي مالا ثم دخل إلينا فأسلم فعليه رد البدل لأنه أخذه على سبيل المعاوضة فأشبه مالو تزوج حربية ثم أسلم فإنه يلزمه مهرها‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏الحكم إن حصر المسلمون حصنا فطلب رجل منهم الأمان ليفتح لهم الحصن‏]‏

وإن حصر المسلمون حصنا فطلب رجل منهم الأمان ليفتح لهم الحصن جاز إعطاؤه وكذلك إن طلبه لجماعة معينين جاز لما روي أن المهاجر بن أبي أمية لما حصر النجير بعث إليه الأشعث بن قيس‏:‏ تعطيني الأمان لعشرة وأفتح لك الحصن‏؟‏ ففعل فإن فتح الحصن فادعى الأمان منهم جماعة كل واحد يقول أنا المعطى وأشكل لم يجز قتل واحد منهم لأنه اشتبه المباح بالمحرم فوجب تغليب التحريم كما لو اختلطت أخته بأجنبيات وفي استرقاقهم وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ لا يسترق واحد منهم كذلك قال القاضي‏:‏ هذا المنصوص عليه‏.‏

والثاني‏:‏ يقرع بينهم فيخرج صاحب الأمان بالقرعة ويسترق الباقون اختارها أبو بكر‏:‏ لأنه استبه الحر بالرقيق فوجب أن يخرج بالقرعة كما لو أعتق عبدا من عبيده وأشكل وإن أسلم واحد في الحصن قبل فتحه ثم فتح فأدعى كل واحد منهم أنه المسلم خرج فيها ما في التي فبلها لأنها في معناها‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏الحكم إذا أسر الكفار أسيرا فأطلقوه بشرط أن يقيم عندهم مدة‏]‏

وإذا أسر الكفار أسيرا فأطلقوه بشرط أن يقيم عندهم مدة كانوا في أمان منه ولم يكن له أن يهرب منهم ولا أن يخونهم في أموالهم لأنهم على هذا أطلقوه وإن أطلقوه ولم يشرطوا عليه شيئا فله أن يقتل ويسرق ويهرب لأنه لم يصدر منه ما يثبت به الأمان وكذلك إن أطلقوه على أن يكون رقيقا لهم وملكا لأنه حر لا يثبت عليه الملك ولم يصدر منه أمان فإن أطلقوه وأمنوه ولم يشرطوا عليه شيئا كان له الهرب لأنه ليس بمال لهم ولم يكن له خيانتهم في أموالهم وأنفسهم أن أمانهم له يقتضي سلامتهم منه وإن شرطوا عليه الإقامة عندهم فالتزمه لزمه الوفاء لهم نص عليه لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم‏}‏ وقوله عليه السلام‏:‏ ‏[‏المؤمنون عند شروطهم‏]‏ وإن شرطوا عليه أن يبعث إليهم فداءه من دار الإسلام لزمه ذلك لما ذكرنا ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لما صالح أهل الحديبية على رد من جاء وفى لهم وقال‏:‏ ‏[‏إنا لا يصلح في ديننا الغدر‏]‏ فإن عجز عن الفداء كان في ذمته يبعثه إليهم متى قدر كثمن المبيع‏.‏

وإن شرطوا عليه أنه لم يقدر على الفداء رجع عليهم فلم يقدر عليه وكان رجلا لزمه الوفاء في إحدى الروايتين لما ذكرناه‏.‏

والثانية‏:‏ لا يعود إليهم لأن العود إليهم معصية فلم يلزم بالشرط وإن كانت امرأة لم ترجع إليهم رواية واحدة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما صالح أهل الحديبية على رد من جاءه منعه الله تعالى رد النساء ولأن في ردها تسليطا على وطئها حراما فلم يجز وإن كان الأسير شرط لهم ذلك مكروها بضرب وتعذيب لم يلزمه الوفاء لهم بشرط مما شرطه وإن اشترى الأسير منهم شيئا مختارا أو اقترضه لزمه الوفاء لهم لأنه عقد معارضة فأشبه غير الأسير وإن كان مكروها لم يصح فإن أكرهوه على قبضه لم يلزمه ضمانه وإن تلف وعليه رده إن كان باقيا لأنهم دفعوه إليه بحكم عقد فاسد وإن قبضه باختياره فعليه ضمانه كذلك والله أعلم‏.‏

باب‏:‏ الهدنة

ومعناها‏:‏ موادعة أهل الحرب ولا يجوز ذلك إلا على وجه النظر للمسلمين وتحصيل المصلحة لهم لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون‏}‏ ولأن هدنتهم من غير حاجة ترك للجهاد الواجب لغير فائدة فإن رأى الإمام المصلحة فيها جازت لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن جنحوا للسلم فاجنح لها‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم‏}‏ وروى مروان ومسور بن مخرمة‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم صالح سهيل بم عمرو بالحديبية على وضع القتال عشر سنين ووادع النبي صلى الله عليه وسلم قبائل من المشركين وقريظة والنضير ولأنه قد تكون المصلحة في الهدنة لضعف المسلمين عن قتالهم أو طمع في إسلامهم أو التزامهم الجزية أو غير ذلك ولا يجوز عقدها إلا من الإمام أو نائبه لأنه عقد بقتضي الأمان لجميع المشركين فلم يجز لغيرهما كعقد الذمة‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏حكم عقد الهدنة بغير مدة مقدرة‏]‏

ولا يجوز عقد الهدنة مطلقا غير مقدرة بمدة لأن إطلاقها بقتضي التأبيد فيقضي إلى ترك الجهاد أبدا ويرجع في تقديرها إلى رأي الإمام على ما يراه من المصلحة في قليل وكثير وقال القاضي‏:‏ وظاهر كلام أحمد أنه لا يجوز أكثر من عشر سنين هو اختيار أبي بكر لأن الأمر بالجهاد يشمل الأوقات كلها خص منه مدة العشر بصلح النبي صلى الله عليه وسلم أهل الحديبية على عشرة ففيما زاد يبقى على العموم‏.‏

ووجه الأول‏:‏ أنه عقد يجوز في العشر فجاز فيما زاد عليها كالإجارة فإن هادنهم أكثر من قدر الحاجة بطل في الزائد وهل يبطل في قدر الحاجة على وجهين بناء على تفريق الصفقة وكذلك إذا هادنهم أكثر من عشر على الرواية الأخرى بطل في الزيادة وفي مدة العشر وجهان فإن قال هدنتكم ما شئتم لم يصح لأنه جعل الكفار متحكمين على المسلمين وإن قال‏:‏ هادنتكم ما شئنا أو ما شاء فلان أو شرط أن له نقضها متى شاء لم يصح لأنه ينافي مقتضى العقد ولأنه عقد مؤقت فلم يجز تعليقه على مشيئة أحدهما كالإجارة وقال القاضي‏:‏ يصح لأنه جعل التحكم إليه وإن قال‏:‏ إلى أن يشاء الله أو نقركم ما أقركم الله لم يجز لأنه لا طريق إلى معرفة ما عند الله‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏الهدنة على غير مال‏]‏

وتجوز الهدنة على غير مال لأن النبي صلى الله عليه وسلم صالح أهل الحديبية وغيرهم بغير مال وتجوز على مال يأخذه منهم لأنه إذا جازت بغير مال فعلى مال أولى فأما مصالحتهم على مال يدفعه إليهم فقد أطلق أحمد المنع منه لأن فيه صغارا على المسلمين وهذا محمول على غير حال الضرورة فأما عند الحاجة مثل أن يخاف على المسلمين قتلا أو أسرا أو تعذيب من عندهم من الأسارى فيجوز لما روى الزهري قال‏:‏ أرسل النبي صلىالله عليه وسلم إلى عيينة بن حصن وهو مع أبي سفيان‏:‏ ‏[‏أرأيت إن جعلت لك ثلث ثمر الأنصار أترجع بمن معك من غطفان وتخذل بين الأحزاب‏]‏ فأرسل إليه عيينة‏:‏ إن جعلت لي الشطر فعلت فلولا أنه جائز لما جعله له النبي صلى الله عليه وسلم ولأن الضرر المخوف أعظم من الضرر ببذل المال فجاز دفع أعلاهما بأدناهما‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏الحكم إذا شرط في العقد رد من جاء من أهل الحرب من الرجال‏]‏

ويجوز في عقد الصلح شرط رد من جاء من أهل الحرب من الرجال لأن النبي صلى الله عليه وسلم شرط ذلك في صلح الحديبية ولا يجوز شرط رد النساء المسلمات لقول الله تعالى ‏{‏يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار‏}‏ ولما عقد النبي صلى الله عليه وسلم الصلح في الحديبية جاءت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط فجاء أخواها يطلبانها فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا ترجعوهن إلى الكفار‏}‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏إن الله منع الصلح في النساء‏]‏ ولأنه لا يؤمن أن تتزوج بمشرك فيصيبها أو تفتن في دينها‏.‏

ولا يجوز رد الصبيان العقلاء لأنهم بمنزلة المرأة في ضعف قلوبهم وقلة معرفتهم فلا يؤمن أن يفتتنوا عن دينهم وإن شرط رد الرجال بها لزم الوفاء لهم بمعنى أنهم إن جاءوا في طلب من جاء منهم لم بمنعوا من أخذه ولا يحبره الإمام على الرجوع معهم وله أن يأمره سرا بالفرار منهم وقتالهم لأن أبا بصير جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية فجاء الكفار في طلبه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏إنا لا يصلح في ديننا الغدر وقد علمت ما عاهدناهم عليه ولعل الله أن يجعل لك فرجا ومخرجا‏]‏ فرجع معهم قتل أحدهم ورجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يلمه ولم ينكر عليه‏.‏

وإن جاءت امرأة مسلمة لم يجز ردها ولا يجب رد مهرها لأن بضعها لا يدخل في الأمان وإنما رد النبي صلى الله عليه وسلم المهر لأنه شرط رد النساء فكان شرطا صحيحا فلما نسخ ذلك وجب رد البدل لصحة الشرط بخلاف حكم من بعده‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏الحكم إن شرط في الهدنة شرطا فاسدا‏]‏

وإن شرط في الهدنة شرطا فاسدا كرد المرأة أو مهرها أو السلاح أو ادخالهم الحرم أو شرط لهم مالا فهل يبطل عقد الهدنة‏؟‏ على وجهين‏:‏ بناء على الشروط الفاسدة ومتى وقع العقد باطلا فدخل بعض الكفار دار الإسلام معتقدا للأمان وكان آمنا لأنه دخل بناء على العقد ويرد إلى دار الحرب ولا يقر في دار الإسلام لأن الأمان لم يصح‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏الحكم إن عقدت الهدنة على مدة‏]‏

وإن عقدت الهدنة على مدة وجب الوفاء بها لما ذكرنا في أول الباب ولأننا لو نقضنا عهدهم عند قدرتنا عليهم لنقضوا عهدنا عند قدرتهم علينا فيذهب معنى الصلح وإن مات الإمام أو عزل وولي غيره لزمه إمضاؤه لأنه عقد لازم فلم يجز نقضه بموت عاقده كعقد الذمة وعلى الإمام منع من يقصدهم من أهل دار الإسلام من المسلمين وأهل ذمتهم لأن الهدنة عقدت على الكف عنهم ولا يجب منعهم ممن يقصدهم من أهل الحرب ولا منع بعضهم من بعض لأن الهدنة لم تعقد على ذلك فإن سباهم قوم لم يكن للمسلمين شراؤهم لأنهم في عهدهم فلم يملكوهم كأهل الذمة وإن أتلف عليهم المسلمون شيئا لزمهم ضمانه لأنهم في عهد فأشبه أهل الذمة وإن جاءنا منهم عبد أو أمة مسلما لم يرد إليهم لأنه صار حرا بقهره سيده وإزالة يده بدخوله دار الإسلام‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏حكم من أتلف منهم شيئا على مسلم‏]‏

ومن أتلف منهم شيئا على مسلم لزمه ضمانه وإن قتله فعليه القصاص وإن قذفه فعليه الحد لأن الهدنة تقتضي أمان المسلمين منهم وأمانهم من المسلمين في النفس والمال والعرض فلزمهم ما يجب في ذلك ومن شرب منهم خمرا أو زنى لم يحد لأنه حق الله تعالى ولم يلتزموه بالهدنة وإن سرق مال مسلم ففيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ لا يقطع لأنه حق خالص لله تعالى أشبه حد الزنا‏.‏

والثاني‏:‏ يقطع لأنه يجب لصيانة حق الآدمي فأشبه حد القذف‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏الحكم إن نقض أهل الذمة العهد بقتال ونحوه‏]‏

وإن نقض أهل الذمة العهد بقتال أو مظاهرة عدو أو قتل مسلم أو أخذ مال انتقض عهدهم لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر‏}‏ الآية والتي بعدها وقوله تعالى ‏{‏إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم‏}‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين‏}‏ ولأن الهدنة تقتضي الكف فانتقضت بتركه ولا يحتاج في نقضها إلى حكم الإمام لأنه إنما يحتاج إلى حكمه في أمر محتمل وفعلهم لا يحتمل غير نقض العهد وإن نقض بعضهم وسكت سائرهم انتقضت الهدنة في الجميع لأن ناقة صالح عقرها واحد فلم ينكر عليه قومه فعذبهم الله سبحانه جميعا ولما هادن النبي صلى الله عليه وسلم قريشا دخلت خزاعة مع النبي صلى الله عليه وسلم وبنو بكر مع قريش فعدت بنو بكر على خزاعة وأعانهم نفر من قريش وأمسك سائر قريش فكان ذلك نقض عهدهم فسار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى فتح مكة فإن أنكر الممسك على الناقض أو اعتزلهم أو راسل الإمام به لم ينتقض عهده لأنه لم ينقض ولا رضي بالنقض ويؤمر بتسليم الناقض أو التميز عنه فإن لم يفعل مع القدرة عليه انتقضت هدنته أيضا لأنه صار مظاهرا للناقض وإن لم يقدر على ذلك فحكمه حكم الأسير فإذا أسر الإمام منهم قوما فادعوا أنهم ممن لم ينقض وأشكل قبل قولهم لأنه لا يتوصل إلى معرفة ذلك إلا من جهتهم‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏الحكم إن خاف الإمام نقض العهد منهم‏]‏

وإن خاف الإمام نقض العهد منهم جاز أن ينبذ إليهم عهدهم لقول الله تعالى ‏{‏وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء‏}‏ ويعني‏:‏ أعلمهم بنقض العهد حتى تصير أنت وهم على سواء في العلم ولا يكفي بمجرد الخوف حتى تظهر أمارة النقض ولا يفعل ذلك الإمام لأن نقضها لخوف الخيانة يحتاج إلى نظر واجتهاد فافتقر إلى الحكم وإن خاف خيانة أهل الذمة لم ينبذ إليهم عهدهم لأن النظر في عقدها إليهم وكذلك إذا طلبوا الذمة لزمته إجابتهم إليه والنظر في الهدنة إلى الإمام فكان النظر إليه عند الخوف ومتى نقضها في دارنا منهم أحد وجب ردهم إلى مأمنهم لأنهم دخلوا بأمان فوجب ردهم إلى مأمنهم كما لو أفردهم بالأمان وإن كان عليهم حق استوفي منهم‏.‏

باب‏:‏ عقد الذمة

ولا يجوز عقد الذمة إلا من الإمام أو نائبه لأنه عقد مؤيد تتعلق به المصالح العامة فلم يصح من غير الإمام ونائبه ويجوز عقدها لأهل الكتاب والمجوس لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون‏}‏ ولما روى عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المجوس‏:‏ ‏[‏سنوا بهم سنة أهل الكتاب‏]‏ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر وسواء كانوا عربا أو عجما لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذا إلى اليمن وأمره أن يأخذ من كل حالم دينارا أو عدله معافر رواه أبو داود وكانوا عربا‏.‏

وأهل الكتاب‏:‏ هم اليهود والنصارى ومن وافقهم في أصل دينهم وآمن بنبيهم وكتابهم كالسامرة الموافقة لليهود في موسى والتوراة والفرنج يوافقون النصارى في عيسى والإنجيل وليس المجوس بأهل كتاب لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏سنوا بهم سنة أهل الكتاب‏]‏ ولا المتمسك بدين إبراهيم وشيث وداود بكتابي ولا تعقد له ذمة لقول الله سبحانه‏:‏ ‏{‏أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا‏}‏ ولا يجوز عقد الذمة لغير أهل الكتاب والمجوس كعبدة الأوثان ومن عبد ما استحسن والدهرية ونحوهم لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏فاقتلوا المشركين‏}‏ ثم خص أهل الكتاب بإعطاء الجزية وألحق بهم صلى الله عليه وسلم المجوس فبقي من عداهم على مقتضى العموم ولأنهم تغلظ كفرهم لكفرهم بجميع أنبياء الله تعالى وكتبه وروى الحسن بن ثواب عن أحمد‏:‏ أن الجزية تقبل من جميع الكفار إلا من عبدة الأوثان من العرب لأنه تغلظ كفرهم بدينهم وجنسهم لكونهم رهط النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم لم يتغلظ كفرهم من الجهتين فقبلت الجزية منهم كالمجوس‏.‏

وأما الصابئون فينتظر فيهم فإن كانوا يوافقون أحد أهل الكتابين في نبيهم وكتابهم فهم فرقة منهم وإن لم يوافقوا واحدا منهم فهم غير أهل الكتاب حكمهم حكم عبدة الأوثان‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏حكم من دخل في دين أهل الكتاب أو المجوس من سائر الكفار‏]‏

ومن دخل في دين أهل الكتاب أو المجوس من سائر الكفار صار منهم وحكمه حكمهم سواء دخل قبل بعث نبينا صلى الله عليه وسلم أو بعده لعموم النصوص فيهم قال القاضي‏:‏ هذا ظاهر كلام أحمد وقال أبو الخطاب‏:‏ من دخل بعد بعث نبينا صلى الله عليه وسلم أو قبل بعثه وبعد تبديل كتابهم لم تعقد له الذمة لأنه دخل في دين باطل ومن كان أحد أبويه ممن تعقد له الذمة والآخر ممن لا تعقد له عقدت له الذمة لما ذكرنا ولأنه تبع لمن يؤخذ منه الجزية لأنه تبعه في الدين فتبعه في الجزية وقال أبو الخطاب‏:‏ فيه وجهان‏.‏

وإن ظهر المسلمون على قوم لا يعرف دينهم فادعوا إنهم أهل كتاب قبل منهم لأنهم لا يعرف دينهم إلا من جهتهم فإن أسلم منهم اثنان وشهدا أنهم من غير أهل الكتاب وكانا عدلين نبذ إليهم عهدهم لأنه بان بطلانهم دعواهم‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏حكم من عقدت له الذمة‏]‏

ومن عقدت له الذمة أخذت منه الجزية وفي قدرها ثلاث روايات‏:‏

إحداهن‏:‏ يرجع إلى ما فرضه عمر رضي الله عنه عليهم‏:‏ على الموسر ثمانية وأربعون درهما وعلى المتوسط أربعة وعشرون درهما وعلى الفقير المعتمل اثنا عشر درهما لا يزاد على ذلك ولا ينقص منه لأن عمر رضي الله عنه فرضها كذلك بمحضر من الصحابة وتابعه سائر الخلفاء بعده فكان إجماعا‏.‏

والثانية‏:‏ يرجع إلى اجتهاد الإمام في الزيادة على ذلك والنقصان منه على ما يراه من المصلحة بعد أن لا يكلفهم فوق طاقتهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا الى اليمن قال له‏:‏ ‏[‏خذ من كل حالم دينارا‏]‏ رواه أبو داود وعمر زاد عليهم فدل على جواز الزيادة والنقصان‏.‏

والثالثة‏:‏ يجوز الزيادة ولا يجوز النقصان لأن عمر رضي الله عنه زاد على ما فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينقص فإذا قلنا‏:‏ لا تجوز الزيادة فمتى بذلوا القدر الواجب لزم قبوله وحرم قتالهم لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى يعطوا الجزية‏}‏ فمد قتالهم إلى إعطائها أي بذلها وإن قلنا له الزيادة فله أن يزيد بقدر ما يراه ولا يحرم قتالهم إلا أن يبذلوا ما طلب منهم‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏حكم أخذ الزكاة مكان الجزية‏]‏

ويؤخذ من نصارى بني تغلب مكان الجزية الزكاة مثلي ما يؤخذ من المسلمين من جميع أموالهم الزكاتية لما روى‏:‏ أن عمر رضي الله عنه دعاهم إلى بذل الجزية فأبوا وأنفوا وقالوا‏:‏ نحن عرب خذ منا كما يأخذ بعضكم من بعض باسم الصدقة فقال عمر‏:‏ لا آخذ من مشرك صدقة فلحق بعضهم بالروم فقال النعمان بن زرعة‏:‏ يا أمير المؤمنين إن القوم لهم بأس وشدة وهم عرب يأنفون من الجزية فلا تعن عليك عدوك بهم خذ منهم الجزية باسم الصدقة فبعث عمر في طلبهم فردهم وضعف عليهم من كل خمس من الإبل شاتين ومن كل ثلاثين بقرة تبيعين ومن كل عشرين دينارا دينارا ومن كل مائتي درهم عشرة دراهم ومما سقت السماء الخمس وفيما سقي بنضح أو غرب أو دولاب العشر فاستقر ذلك من قول عمر ولم يخالفه غيره من الصحابة فكان إجماعا قال أصحابنا‏:‏ حكم المأخوذ منهم حكم الزكاة في أنه يؤخذ من مال كل من تؤخذ منه الزكاة لو كان مسلما فعلى هذا يؤخذ من نسائهم وصبيانهم ومجانينهم وزمناهم ومكافيفهم وشيوخهم لأنهم سألوا عمر أن يأخذ منهم ما يأخذ بعضكم من بعض فأجابهم ولأنهم صينوا عن السبي بهذا الصلح فجاز أن يدخلوا في الواجب به كالرجال ولا يؤخذ من مال لم يبلغ نصابا ولا من مال غير زكاتي كذلك ومن كان المأخوذ منه أقل من دينار أجزأ عنه ومن ليس له نصاب زكاتي فلا شيء عليه لأن عمر رضي الله عنه صالحهم على هذا واختلف أصحابنا في مصرفه فقال القاضي‏:‏ مصرفه مصرف الفيء لأنه جزية باسم الزكاة ومعنى الشيء أخص به من اسمه ولأنه مال مشرك أخذ بغير قتال فكان فيئا كالجزية وقال أبو الخطاب‏:‏ مصرفه مصرف الصدقة لأنه سلك به مسلكها في قدر المأخوذ والمأخوذ منه‏:‏ فكذلك في المصرف فإن بذل تغلبي الجزية مكان المفروض عليهم وكان حربيا قبل منه لأنه كتابي لم يصالح على غير الجزية فحقن دمه بها كغيره وإن كان ممن عقد الذمة لم يقبل منه لأن الصلح وقع على غير ذلك فلم يجز تغيره‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏أخذ الجزية من أهل الكتاب من النصارى وغيرهم‏]‏

فأما سائر أهل الكتاب من النصارى وغيرهم فلا يقبل منهم إلا الجزية ولا يؤخذون بما يؤخذ به بنو تغلب نص عليه أحمد للآية والأخبار والعرب وغيرهم في هذا سواء لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذا إلى اليمن وأمره أن يأخذ من كل حالم دينارا وهم عرب وإنما خص بنو تغلب بالصدقة لصالحهم فبقي من عداهم على مقتضى النصوص وذكر القاضي‏:‏ أن تنوخ وبهرا كبني تغلب وأن عمر صالحهم وقال أبو الخطاب‏:‏ وكذلك الحكم فيمن تنصر من تنوخ وبهرا أو تهود من كنانة وحمير أو تمجس من تميم لأنهم عرب فأشبهوا بني تغلب والصحيح الأول ولم يصح عن عمر ولا غيره مصالحة غير بني تغلب على غير الجزية‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏الجزية على الصبي‏]‏

ولا جزية على صبي لقوله عليه السلام لمعاذ‏:‏ ‏[‏خذ من كل حالم دينارا‏]‏ وروى أسلم أن عمر رضي الله عنه كتب إلى أمراء الأجناد‏:‏ لا تضربوا الجزية على النساء والصبيان ولا تضربوها إلا على من جرت عليه المواسي رواه سعيد ولأنها تجب لحقن الدم وهو محقون بدونها ولا على امرأة كذلك ولا على خنثى مشكل لأنه لا يعلم كونه رجلا فلم تجب عليه مع الشك ولا على مجنون لأنه في معنى الصبي فنقيسه عليه ولا على زمن ولا أعمى ولا شيخ فان ولا راهب لأن دماءهم محقونة فأشبهوا الصبي والمرأة ولا على فقير عاجز عن أدائها لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يكلف الله نفسا إلا وسعها‏}‏‏.‏

فأما المعتل الذي يقدر على كسب ما يقوم بكفايته فعليه الجزية لأنه في حكم الأغنياء ولا تجب على مملوك لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال‏:‏ لا جزية على مملوك ولأنه لا يقتل بالكفر أشبه الصبي وعن أحمد‏:‏ أن على الذمي أداء الجزية عن مملوكه وهو ظاهر كلام الخرقي لأنه ذكر مكلف قوي مكتسب أشبه الحر ومن كان بعضه حرا فعليه من الجزية بقدر ما فيه من الحرية لأن حكمه يتبعض فقسم على قدر ما فيه من الحرية والرق كالميراث‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏حكم من بلغ من صبيانهم أو أفاق من مجانينهم أو عتق من عبيدهم‏]‏

ومن بلغ من صبيانهم أو أفاق من مجانينهم أو عتق من عبيدهم فهو من أهلها بالعقد الأول لأنه تبع من عليه الجزية في الأمان فيتبعه في الذمة وتعتبر جزيته بحاله لا بحال غيره لأنه حكم يختلف باختلاف الحال فاعتبر بحاله كالزكاة فإن كان في أثناء الحول أخذ في آخر الحول بقدر ما أدرك منه لئلا تختلف أحوالهم فيشق ضبطها ومن كان يجن ويفيق إفاقة مضبوطة كيوم ويوم أو نصف الحول ونصفه ففيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ يعتبر بالأغلب منهما لأن الاعتبار في الأصول بالأغلب‏.‏

والثاني‏:‏ تلفق إفاقته فإذا بلغ حولا أخذت الجزية فإن كان سواء ففيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ يؤخذ في كل حول نصف جزية لأن الجزية تؤخذ في كل حول فيؤخذ منه بقدر ما عليه‏.‏

والثاني‏:‏ تلفق إفاقته فإذا بلغت حولا أخذت منه لأن حوله لا يكمل إلا حينئذ‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏الحكم إذا كان في الحصن نساء أو من لا جزية عليه فطلبوا عقد الذمة بغير جزية‏]‏

وإذا كان في الحصن نساء أو من لا جزية عليه فطلبوا عقد الذمة بغير جزية أجيبوا إليها لأنهم محقونون بدونها وإن بذلوا جزية أخبروا أنه لا جزية عليهم فإن تبرعوا بها كانت هبة متى امتنعوا منهم لم يحوجوا إليها‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏متى تجب الجزية‏؟‏‏]‏

وتجب الجزية في آخر كل حول لأنه مال يتكرر بتكرار كل الحول فوجب في آخره كالزكاة والدية فإن جن قبل انقضائه جنونا مطبقا أو مات أو أسلم فلا جزية عليه لأنه خرج عن أهلية الوجوب قبل الوجوب فلم يجب عليه كما لو مات بعض العاقلة قبل الحول وإن جن أو مات بعد الحول لم تسقط عنه لأنه دين وجب عليه في حياته فأشبه العاقل ودين الآدمي وإن أسلم بعد الحول سقطت عنه لما روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏[‏ليس على المسلم جزية‏]‏ رواه الخلال وقال أحمد‏:‏ قد روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال‏:‏ إن أخذها في كفه ثم أسلم ردها وروى أبو عبيد‏:‏ أن يهوديا أسلم فطولب بالجزية وقيل إنما أسلمت تعوذا قال‏:‏ إن في الإسلام معاذا فرفع إلى عمر فقال‏:‏ إن في الإسلام معاذا فكتب أن لا تؤخذ منه الجزية ولأن الجزية عقوبة تجب بسبب الكفر فيسقطها الإسلام كالقتل وإن اجتمعت على الذمي جزية سنين أخذت منه ولم تتداخل لأن الحق مالي يجب في آخر كل حول فلم تتداخل كالدية والزكاة‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏حكم أن يشرط عليهم مع الجزية شيئا آخر‏]‏

ويجوز أن يشرط عليهم مع الجزية ضيافة من يمر بهم من المسلمين لما روى الأحنف بن قيس‏:‏ أن عمر رضي الله عنه شرط على أهل الذمة ضيافة يوم وليلة وأن يصلحو القناطر وإن قتل رجل من المسلمين بأرضهم فعليهم ديته رواه الإمام أحمد ولأن فيه مصلحة فإنه ربما تعذر الشراء على المسلمين ولا يلزمنهم ذلك إلا برضاهم لأنه أداء مال فلم يلزمهم بغير رضاهم كالجزية وإن امتنعوا من قبول الشرط لم تعقد لهم الذمة لأنه شرط سائغ فإذا امتنعوا منه لم تعقد لهم كالجزية فإن لم تشترط عليهم الضيافة لم تجب لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ‏:‏ ‏[‏خذ من كل حالم دينارا‏]‏ ولم يذكر الضيافة ومن أصحابنا من قال‏:‏ تجب بغير شرط كما تجب على المسلمين وتقسم الضيافة عليهم على قدر جزيتهم والأولى أن يبين عدد أيام الضيافة من السنة وعدد من يضاف من الرجال والفرسان وقدر الطعام والإدام والعلوفة لأنه أبعد من اللبس فإن أطلق ذلك جاز ولا يجب عليهم في الضيافة أكثر من يوم وليلة لأن ذلك الواجب على المسلم ولا يكلفون إلا من طعامهم وإدامهم لما روى أسلم أن أهل الجزية من أهل الشام أتوا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقالوا‏:‏ إن المسلمين إذا مروا بنا كلفونا ذبح الغنم والدجاج في ضيافتهم فقال‏:‏ أطعموهم مما تأكلون ولا تزيدوهم على ذلك ولا تزاد الضيافة على ثلاثة أيام لقول النبي صلى الله عليه وسلم ‏[‏الضيافة ثلاثة أيام‏]‏ وذكر القاضي‏:‏ أن تقدير أيام الضيافة وعدد من يضاف والطعام والإدام والعلوفة شرط لأنه من الجزية فاعتبر العلم به كالنقود والأول أولى لأن عمر لم يقدره ولما شكوا إليه اعتداء الأضياف قال‏:‏ أطعموهم مما تأكلون وللمسلمين النزول في الكنائس والبيع لأن عمر صالح أهل الشام على أن يوسعوا أبواب كنائسهم وبيعهم لمن يجتاز بهم من المسلمين ليدخلها المسلمون ركبانا فإن لم يجدوا مكانا فلهم النزول في الأفنية وفضول المنازل من غير أن يحولوا ذا منزل عن منزله فإن لم يسعهم فالسابق أحق فإن تساووا وتشاحوا أقرع بينهم فإن امتنع أهل الذمة مما شرط عليهم أجبروا عليه فإن لم يمكن إلا بالمقاتلة قوتلوا فإن قاتلوا انتفض عهدهم‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏إثبات الإمام عدد أهل الذمة وأسماءهم وأنسابهم ودينهم ونحو ذلك‏]‏

ويثبت الإمام عدد أهل الذمة وأسماءهم وأنسابهم ودينهم وحلاهم التي لا تتغير بالأيام كالطول والقصر والبياض والسواد والسمرة فيكتب أدعج العينين أقنى الأنف مقرون الحاجبين ويثبت ما يأخذ منهم ويجعل لكل طائفة عريفا يجمعهم عند أداء الجزية ويعرف من يبلغ من غلمانهم ويفيق من مجانينهم ويقدم من غائبهم ومن يموت أو يسلم لأنه أمكن لاستيفاء الجزية وأحوط وتؤخذ الجزية مما تيسر من أموالهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ‏:‏ ‏[‏خذ من كل حالم دينارا أو عدله معافر‏]‏‏.‏

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ من أهل نجران ألفي حلة وكان علي يأخذ من كل ذي صناعة من صناعته التي عنده ومن قبضت جزيته كتب له براءة لتكون له حجة إذا احتاج إليها ويمتهنون عند أخذ الجزية منهم ويطال قيامهم وتجر أيديهم عند أخذها ومن بعثها منهم لم تقبل حتى يحضر فيؤديها لقول الله تعالى ‏{‏حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون‏}‏‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏الحكم إذا مات الإمام أو عزل وولي غيره‏]‏

إذا مات الإمام أو عزل وولي غيره لم يحتج إلى تجديد عقد لأن الخلفاء لم يجددوا لمن كان في زمنهم عقدا ولأنه عقد لازم فأشبه الإجارة فإن عرف الثاني مبلغ المشروط عليهم أقرهم عليه وإن لم يعرف رجع إلى قولهم فيما يسوغ جعله جزية لأنه لا يمكن معرفته إلا من جهتهم فإن ثبت بعد ذلك أنهم نقصوا من الشروط التي عليهم شيئا رجع عليهم فيما نقص وإن قال بعضهم‏:‏ كنا نؤدي دينارا وقال بعضهم‏:‏ كنا نؤدي دينارين أخذ كل واحد منهم بإقراره ولم يقبل قول بعضهم على بعض لأن أقوالهم غير مقبولة‏.‏

باب‏:‏ المأخوذ من أحكام أهل الذمة

لا يجوز عقد الذمة إلا بشرطين بذل الجزية والتزام أحكام الملة من حقوق الآدميين في العقود والمعاملات وأروش الجنايات وقيم المتلفات فإن عقد على غير هذين الشرطين لم يصح لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون‏}‏ قيل‏:‏ الصغار‏:‏ جريان أحكام المسلمين عليهم ومن ادعى منهم كتابا من عمر أو علي رضي الله عنهما بالبراءة من الجزية لم يصدق لأنه لا أصل له ولم يذكره علماء الإسلام وأخبار أهل الذمة لا تقبل‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏إلزام غير المسلمين بأن يميَّزوا عن المسلمين‏]‏

ويلزمهم التميز عن المسلمين في أربعة أشياء لباسهم وشعورهم وركوبهم وكناهم لما روى إسماعيل بن عياش عن غير واحد من أهل العلم قالوا‏:‏ كتب أهل الجزيرة إلى عبد الرحمن بن غنم‏:‏ إنا شرطنا على أنفسنا أن لا نتشبه بالمسلمين في لبس قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين ولا فرق شعر ولا في مراكبهم ولا نتكلم بكلامهم وأن لا نتكنى بكناهم وأن نجز مقادم رءوسنا ولا نفرق نواصينا ونشد الزنانير في أوساطنا ولا ننقش خواتيمنا بالعربية ولا نركب السروج ولا نتخذ شيئا من السلاح ولا نحمله ولا نتقلد السيوف وذكر سائره رواه الخلال بإسناده وذكر في آخره‏:‏ فكتب بذلك عبد الرحمن بن غنم إلى عمر بن الخطاب فكتب إليه عمر أن أمض لهم ما سألوا فيجعلون فيما يظهر من ثيابهم ثوبا يخالف لونه لون سائر ثيابهم كالعسلي والأدكن والأزرق والأصفر ويشدون الزنانير في أوساطهم فوق ثيابهم وإن لبسوا العمائم أو القلانس جعلوا فيها خرقة تخالف لونها ويختم في رقاب رجالهم ونسائهم خواتيم من رصاص أو حديد ليتميزوا في الحمام عن المسلمين وتأخذ نساؤهم بالغيار والزنار تحت ثيابهن لئلا تنكشف رءوسهن إن شددنه فوق ثيابهن لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه كتب إلى أهل الآفاق‏:‏ مروا نساء أهل الأديان أن يعقدن زنانيرهن وإن لبسنا الخفاف جعلنا الخفين من لونين ليتميزن عن نساء المسلمين فإن شرط عليهم الجمع بين الزنار والغيار أخذوا به وإن شرط أحدهما اكتفي به ولا يمنعون من لبس فاخر الثياب والطيلسان لأن التميز حصل بما ذكرناه وأما التميز في الشعور فبأن يحذفوا مقاديم رءوسهم ولا يفرقون شعورهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم فرق شعره‏.‏

وأما التميز في الركوب فلا يركبون الخيل لأن ركوبها عز ولهم ركوب ما سواها على غير السروج وروي عن ابن عمر‏:‏ أن عمر أمر أن يركبوا عرضا على الأكف بالعرض ولا يتكنون بكنى المسلمين كأبي القاسم وأبي بكر وأبي عبد الله ونحوها ولا يمنعون من الكنى بالكلية لأن النبي صلى الله وسلم قال لأسقف نجران‏:‏ ‏[‏أسلم أبا الحارث‏]‏ وقال عمر لنصراني‏:‏ يا أبا حسان أسلم تسلم ذكرهما أحمد‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏عدم تصدرهم في المجالس عند المسلمين‏]‏

ولا يتصدرون في المجالس عند المسلمين لأن في كتابهم لعبد الرحمن بن غنم وأن نوقر المسلمين في مجالسهم ونرشد الطريق ونقوم لهم عن المجالس إذا أرادوا المجالس ولا نطلع عليهم في منازلهم ولا يبدءون بالسلام لما روى أبو هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏إذا لقيتم اليهود في الطريق فاضطروهم إلى أضيقها ولا تبدءوهم بالسلام‏]‏‏.‏

وإن سلموا عليه قال‏:‏ ‏[‏و عليكم‏]‏ لما روى أبو بصرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏إنا غادون فلا تبدءوهم بالسلام وإن سلموا عليكم فقولوا‏:‏ وعليكم‏]‏ وقيل لأحمد‏:‏ فإنا نأتيهم في منازلهم وعندهم قوم مسلمون أفنسلم عليهم‏؟‏ قال‏:‏ نعم ننوي السلام على المسلمين‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏منعهم من إحداث بناء يعلو بناء جيرانهم المسلمين‏]‏

ويمنعون من إحداث بناء يعلو بناء جيرانهم المسلمين لقولهم في شروطهم‏:‏ ولا تطلع عليهم في منازلهم ولقول النبي صلى الله عليه وسلم ‏[‏الإسلام يعلو ولا يعلى‏]‏ وفي مساواتهم وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ يجوز لأنه لا يفضي إلى علو الكفر‏.‏

والثاني‏:‏ لا يجوز لأن القصد علو الإسلام ولا يحصل مع المساواة فإن لم يكن لهم جار مسلم لم يمنعوا من تعلية بنيانهم لأنه لا يضر المسلمين وإن ملكوا دارا عالية من مسلم لم يؤمروا بنقضها لأنهم ملكوها على هذه الصفة‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏منعهم من إظهار المنكر كالخمر والخنزير وغير ذلك‏]‏

ويمنعون من إظهار المنكر كالخمر والخنزير وضرب الناقوس ورفع أصواتهم بكتابهم ولا ظهر أعيادهم وصلبهم لما روي في شروطهم لعبد الرحمن بن غنم‏:‏ إن شرطنا على أنفسنا أن لا نضرب نواقيسنا إلا ضربا خفيفا في جوف كنائسنا ولا نظهر عليها صليبا ولا نرفع أصواتنا في الصلاة ولا القراءة في صلاتنا فيما يحضره المسلمون وأن لا نخرج صليبا ولا كتابا في سوق المسلمين وأن لا نخرج باعوثا ولا شعانين ولا نرفع أصواتنا مع موتانا ولا نظهر النيران معهم في أسواق المسلمين ولا نجاورهم بالخنازير ولا نظهر شركا ولا نرغب في ديننا ولا ندعو إليه أحدا‏.‏

والباعوث‏:‏ عيد يجتمعون له كما يخرج المسلمون يوم الفطر والأضحى‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏منعهم من إحداث البيع والكنائس والصوامع في بلاد المسلمين‏]‏

ويمنعون من إحداث البيع والكنائس والصوامع في بلاد المسلمين لما روي في شروطهم لعبد الرحمن بن غنم‏:‏ إن شرطنا لك على أنفسنا أن لا نحدث في مدينتنا كنيسة ولا في ما حولها ديرا ولا قلاية ولا صومعة راهب ولا نجدد ما خرب من كنائسنا ولا ما كان منها في خطط المسلمين وما كان فيها قبل الفتح في بلد فتح صلحا أقر لأن الصحابة رضي الله عنهم أقروهم على كنائسهم وبيعهم وما فتح عنوة فكذلك لأن الكنائس والبيع موجودة في جميع بلاد المسلمين من غير نكير ولم تهدمها الصحابة في بلد فتحوه وفيه وجه آخر أنها تهدم لأنها بلاد مملوكة للمسلمين فلم يجز أن يكون فيها بيعة كالتي مصرها المسلمون ويجوز رم ما تشعث من بيعهم وكنائسهم رواية واحدة لأنه أبقى لها فأشبه تطيين سطوحها وأما تجديد ما خرب منها فلا يجوز لقولهم‏:‏ ولا نجدد ما خرب من كنائسنا ولأنه بناء كنيسة في دار الإسلام فمنع منه كابتداء بنائها وعنه‏:‏ يجوز لأنه أبقى لها أشبه لم ما تشعث وإن عقدت لهم الذمة في بلد ينفردون به لم يمنعوا من شيء مما ذكرناه ولم يأخذوا بغيار ولا زنار لأنهم في بلدانهم فلم يمنعوا من إظهار دينهم‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏منعهم من سكنى الحجاز‏]‏

ويمنعون من سكنى الحجاز لما روى أبو عبيدة بن الجراح‏:‏ أن آخر ما تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏[‏أخرجوا اليهود من الحجاز‏]‏ رواه أحمد وأبو داود وعن عمر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏[‏لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب‏]‏ رواه مسلم والمراد الحجاز بدليل أن أحدا من الخلفاء لم يخرج أحدا من اليمن ولا أهل تيماء فدل على أن المراد به الحجاز وهو مكة والمدينة واليمامة وخيبر وفدك وما والاها- سمي حجازا لأنه حدز بين تهامة ونجد- وليس نجران من الحجاز وإنما أجلاهم عمر منه لأن النبي صلى الله عليه وسلم صالحهم على أن لا يكلوا الربا فأكلوه ونقضوا العهد فأمر بإجلائهم فأجلاهم عمر ويجوز تمكينهم من دخول الحجاز لغير إقامة لأنهم كانوا يدخلونه في زمن عمر وعثمان والخلفاء بعدهم ولا يجوز لهم الدخول إلا بإذن الإمام لأن دخولهم إنما أجيز لحاجة المسلمين فوقف على رأي الإمام كدخول الحربي دار الإسلام فمن استأذن منهم في الدخول فيما للمسلمين فيه نفع كتجارة ورسالة ونحوها أذن له لما فيه من المصلحة فإذا دخل لم يقم في موضع أكثر من ثلاثة أيام لأن عمر رضي الله عنه أذن لمن دخل منهم تاجرا في إقامة ثلاثة أيام فإذا انتقل إلى موضع آخر فله أن يقيم فيه ثلاثة أخر لأنه لا يصير مقيما في موضع فأشبه المسافر وإن مرض فعجز عن الخروج أقام حتى يبرأ لأنه موضع ضرورة وإن مات دفن فيه لأنه موضع حاجة‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏منعهم من دخول الحرم‏]‏

ويمنعون من دخول الحرم لقول الله تعالى ‏{‏إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا‏}‏ والمسجد الحرام‏:‏ الحرم بدليل قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام‏}‏ وأراد مكة لأنه أسري به من بيت أم هانىء فإن جاء رسولا خرج إليه من يسمع منه فإن لم يكن له بد من لقاء الإمام خرج إليه ولم يأذن له فإن دخله عالما بالمنع عزر وإن كان جاهلا أخرج ونهي وهدد وإن كان مريضا أو ميتا أخرج ولم يدفن فيه فإن دفن نبش وأخرج إلا أن يكون قد بلي لأنه إذا لم يجز دخوله في حياته فدفن جيفته فيه أولى‏.‏

وحد الحرم‏:‏ من طريق المدينة على ثلاثة أميال ومن طريق العراق على سبعة أميال ومن طريق الجعرانة تسعة أميال ومن طريق عرفة سبعة أميال ومن طريق جدة عشرة أميال فإن صالحهم على دخوله لم يجز وإن كان بعوض لم يجز فإن دخلوا إلى الموضوع الذي صالحهم عليه أخذ منهم العوض لأنهم استوفوا المعوض فلزمهم العوض فإن دخلوا إلى بعضه أخذ منهم بقدره‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏منعهم من دخول مساجد الحِل‏]‏

وليس لهم دخول مساجد الحل بغير إذن مسلم فإن دخل عزر لما روت أم غراب قالت‏:‏ رأيت عليا رضي الله عنه على المنبر وبصر بمجوسي فنزل فضربه وأخرجه من أبواب كندة‏.‏

فإن أذن له مسلم في الدخول جاز في الصحيح من المذهب لأن النبي صلى الله عليه وسلم قدم عليه وفد الطائف فأنزلهم المسجد قبل إسلامهم‏.‏

وعنه‏:‏ لا يجوز لما روى عياض الأشعري‏:‏ أن أبا موسى قدم على عمر ومعه نصراني فأعجب عمر خطه وقال‏:‏ قل لكاتبك هذا يقرأ علينا كتابه قال‏:‏ إنه لا يدخل المسجد قال‏:‏ لم‏؟‏ أجنب هو‏؟‏ قال هو نصراني فانتهره عمر ولأن الجنب يمنع المسجد فالمشرك أولى‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏حفظ أهل الذمة‏]‏

وعلى الإمام حفظ أهل الذمة ومنع من يقصدهم بأذى من المسلمين والكفار واستنقاذ من أسر منهم بعد استنقاد أسارى المسلمين واسترجاع ما أخذ منهم لأنهم بذلوا الجزية لحفظهم وحفظ أموالهم وإن أخذ منهم خمر أو خنزير لم يجب استرجاعه لأنه محرم لا يحل اقتناؤه وإن أخذ منهم أهل الحرب مالا ثم قدر عليه المسلمون رد إليهم إذا علم به قبل القسمة كمال المسلم وحكم أموالهم في الضمان حكم أموال المسلمين‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏الحكم إذا تحاكم مسلم وذمي إلى الحاكم‏]‏

وإذا تحاكم مسلم وذمي إلى الحاكم لزمه الحكم بينهما لأن إنصاف المسلم والإنصاف منه واجب وإن تحاكم ذميان إليه ففيه روايتان‏:‏

إحداهما‏:‏ يلزمه الحكم بينهما لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وأن احكم بينهم بما أنزل الله‏}‏ ولأن دفع الظلم عنهم واجب والحكم طريق له فوجب كالحكم بين المسلمين‏.‏

والثانية‏:‏ لا يجب بل يخير بين الحكم بينهم وبين تركهم لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم‏}‏ ولأنهما كافران يجب الحكم بينهما كالمستأمنين ولا يحكم بينهما إلا بحكم الإسلام لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط‏}‏ وإن دعي أحدكما إلى الحكم لزمته الإجابة وإن تحاكم إليه مستأمنان خير بين الحكم بينهما وبين تركهما للآية وإن دعاهما إلى الحكم أو أحدهما لم يلزمهما الحضور لأن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم‏}‏ نزلت في المعاهدين قبل الولاية‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏الحكم من أتى محرما من أهل الذمة مما يعتقد تحريمه في دينه‏]‏

ومن أتى محرما من أهل الذمة مما يعتقد تحريمه في دينه كالقتل والزنا والسرقة والقذف وجب على المسلم لما روى أنس‏:‏ أن يهوديا قتل جارية على أوضاح لها فقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم بين حجرين متفق عليه‏.‏

وروى ابن عمر‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بيهوديين قد فجرا بعد إحصانهما فرجمهما ولأنه محرم في دينه وقد التزم حكم الإسلام قثبت في حقه حكمه كالمسلم‏.‏

فأما ما لا يعتقد تحريمه كشرب الخمر ونحوه فلا حد عليه فيه لأنه يعتقد حله فلم يجب عليه عقوبة كالكفر ولا يمكن من التظاهر به لأنه منكر فلا يمكن من إظهاره فإن أظهره عزر‏.‏

باب‏:‏ العشور

من اتجر من أهل الذمة إلى غير بلده ثم عاد أخذ منه نصف عشر ما معه من المال لما روى أنس بن سيرين قال‏:‏ بعثني أنس بن مالك إلى العشور فقلت‏:‏ تبعثني إلى العشور من بين عمالك‏؟‏ فقال‏:‏ ألا ترضى أن أجعلك على ما جعلني عمر بن الخطاب رضي الله عنه‏؟‏ أمرني أن آخذ من المسلمين ربع العشر من أهل الذمة نصف العشر رواه الإمام أحمد‏.‏

والذكر والأنثى سواء في هذا للخبر ولأنه حق مال التجارة فوجب على الأنثى كالزكاة وقال القاضي‏:‏ لا يجب على النساء لأنه جزية عليهن فعلى قوله لا تؤخذ إلا ممن تجب عليه الجزية من أهل الذمة والأول أصح‏؟‏ وسواء كان تغلبيا أو غيره لعموم هذا الخبر ولأن الواجب على التغلبي ضعف ما على المسلم وذلك نصف العشر وعن أحمد‏:‏ أن الواجب عليه العشر لما روى زياد بن حدير قال‏:‏ بعثني عمر رضي الله عنه مصدقا فأمرني آخذ من نصارى بني تغلب العشر ومن نصارى أهل الكتاب نصف العشر رواه أحمد‏:‏ أيضا‏.‏

وإن دخل إلينا تاجر حربي أخذ منه العشر لما لاحق بن حميد قال‏:‏ قالوا لعمر‏:‏ كيف نأخذ من أهل الحرب إذا قدموا علينا‏؟‏ قال‏:‏ كيف يأخذون منكم‏؟‏ قالوا العشر قال‏:‏ فكذلك خذوا منهم‏.‏

وإن رأى الإمام التخفيف عليهم أو الترك لمصلحة فعل ذلك لأنه فيء فملك تخفيفه كالخراج وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه كان يأخذ من النبط من القطنية العشر ومن الحنطة والزبيب نصف العشر ليكثر الحمل إلى المدينة وذكر القاضي‏:‏ أنهم إذا دخلوا بميرة لم يؤخذ منهم شيء لأنهم لنفع المسلمين وظاهر كلام أحمد رحمه الله أنه يؤخذ من الكل وحديث عمر دليل عليه لأنه أخذ من الحنطة والزبيب فإن كانت تجارته في الخمر وخنزير ففيه روايتان‏:‏

إحداهما‏:‏ من ثمنها حقها قال أحمد في حديث سويد بن غفلة في قول عمر‏:‏ ولهم بيع الخمر والخنزير لعشرها وهذا إسناد جيد ولا يكون ذلك إلا على الآخذ منها‏.‏

والثانية‏:‏ لا يؤخذ منها شيء لما روى أبو عبيد بإسناده‏:‏ أن عتبة بن فرقد بعث إلى عمر بأربعين ألف درهم صدقة الخمر فكتب إليه عمر‏:‏ بعثت إلي بصدقة الخمر وأنت أحق بها من المهاجرين فأخبر بذلك الناس وقال‏:‏ والله لا استعملتك على شيء بعدها فنزعه وقال عمر‏:‏ ولوهم بيعها وخذوا من ثمنها في الخراج لأن بلالا قال‏:‏ لعمر‏:‏ إن عمالك يأخذون الخمر والخنازير في الخراج فقال‏:‏ لا تأخذوها منهم وخذوا أنتم من الثمن‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏كم مرة يؤخذ العشر‏؟‏‏]‏

ولا يؤخذ في السنة إلا مرة نص عليه أحمد وقال ابن حامد‏:‏ يؤخذ من الحربي كما دخل إلينا لأننا لو لم نأخذ منه كل مرة لم نأمن أن لا يدخل إذا جاء وقت السنة فيتعذر الأخذ والأول أصح لما روي أن نصراينا جاء إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال‏:‏ إن عاملك عشرني مرتين قال عمر‏:‏ ومن أنت‏؟‏ قال‏:‏ أنا الشيخ النصراني قال عمر‏:‏ وأنا الشيخ الحنيف ثم كتب إلى عامله أن لا تعشر في السنة إلا مرة رواه الإمام أحمد‏.‏

ولأنه حق مال التجارة فلا يؤخذ في السنة إلا مرة كالزكاة وما ذكره ابن حامد ولا يلزم لأنه يوجد منه أول مرة ثم لا يؤخذ منه شيء حتى يحول عليه الحول وينبغي أن يكتب له كتابا بما أخذ منه ووقت الأخذ وقدر المال ليكون حجة له حتى لا يؤخذ منه عشر ما أدى عشره قبل انقضاء الحول‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏ما يجب فيه العشر‏]‏

ولا يجب في أقل من عشرة دنانير نص عليه وهل يجب العشر في العشرة أو في العشرين‏؟‏ على روايتين‏:‏

إحداهما‏:‏ تجب في العشرة لأنها مال يبلغ واجبه نصف مثقال فوجب فيه كالعشرين للمسلم‏.‏

والثانية‏:‏ لا يجب إلا في عشرين لأنه لا يجب في أقل منها زكاة على مسلم ولا تغلبي فلم يجب فيه على ذمي شيء كاليسير قال ابن حامد‏:‏ يجب في القليل والكثير لأن عمر رضي الله عنه قال‏:‏ خذ من كل عشرين درهما درهما‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏الحكم إن مر على العاشر منتقل بماله‏]‏

وإن مر على العاشر منتقل بماله لم يؤخذ منه لأنه لغير التجارة وإن كانت معه تجارة وعليه دين فظهر كلام أحمد أنه يمنع الأخذ منه لأنه حق مال يتعلق بالتجارة فمنع الدين وجوبه كالزكاة ولا تقبل دعوى الدين إلا ببينة لأن الأصل براءة ذمته منه وإن كانت معه جارية فادعى أنها ابنته ففيه روايتان‏:‏

إحداهما‏:‏ يقبل لأن الأصل عم الملك فيها‏.‏

والثانية‏:‏ لا يقبل لأنه يمكنه إقامة البينة عليها‏.‏

باب‏:‏ ما ينتقض به العهد

ينتقض عهد الذمي بأحد ثلاثة أشياء الامتناع من بذل الجزية والامتناع من التزام أحكام الإسلام وقتال المسلمين سواء شرط عليهم أو لم يشرط لأن الله أمر بقتالهم حتى يعطوا الجزية ويلتزموا أحكام الملة فإذا امتنعوا من ذلك وجب قتالهم فإذا قاتلوا فقد نقضوا العهد لأن العقد يقتضي الأمان من الجانبين والقتال ينافيه فانتقض العهد به فأما ما سوى ذلك فقسمان‏:‏

أحدهما‏:‏ ما فيه ضرر بالمسلمين وهو ثمانية أشياء قتل مسلم أو فتنه عن دينه أو قطع الطريق عليه أو الزنا بمسلمة أو إصابتها باسم نكاح أو إيواء جاسوس أو دلالة على المسلمين أو ذكر الله تعالى أو رسوله أو كتابه بسوء ففيه روايتان‏:‏

إحداهما‏:‏ ينتقض العهد به سواء شرط أو لم يشرط لما روي عن عمر رضي الله عنه‏:‏ أنه رفع إليه رجل أراد استكراه مسلمة على الزنا فقال‏:‏ ما على هذا صالحناكم وأمر به فصلب في بيت المقدس وقيل لابن عمر‏:‏ إن راهبا يشتم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ لو سمعته لقتلته إنا لم نعط الأمان على هذا وروى عن عمر رضي الله عنه‏:‏ أنه أمر عبد الرحمن بن غنم‏:‏ أن يلحق في كتاب صلح الجزيرة ومن ضرب مسلما فقد خلع عهده ولأنه لم يف بمقتضى الذمة وهو الأمن من جانبه فانتقض عهده كما لو قاتل المسلمين‏.‏

والثانية‏:‏ لا ينتقض العهد به ويقام عليه حد ذلك لأن ما يقتضيه العهد من التزام أداء الجزية وأحكام المسلمين والكف عن قتالهم باق فوجب بقاء العهد فأما سائر الخصال كالتميز عن المسلمين وترك إظهار المنكر ونحوه فإن لم يشترط عليهم لم ينتقض عهدهم به لأن العقد لا يقتضيها ولا ضرر على المسلمين فيها وإن شرطت عليهم فظاهر كلام الخرقي أن عهدهم ينتقض بمخالفتها لقوله‏:‏ ومن ينقض العهد بمخالفة شيء مما صولحوا عليه حل دمه وماله ووجهه أن في كتاب صلح الجزيرة لعبد الرحمن بن غنم بعد استيفاء الشروط‏:‏ وإن نحن غيرنا أو خالفنا عما شرطنا على أنفسنا وقبلنا الأمان عليه فلا ذمة لنا وقد حل لك منا ما يحل من أهل المعاندة والشقاق ولأنه عقد بشرط فزال بزوال شرطه كما لو امتنع من بذل الجزية وقال غيره من أصحابنا لا ينتقض العهد به لأنه لا ضرر على المسلمين فيه ولا ينافي عقد الذمة ولكنه يعزر ويلزم ما تركه‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏حكم من نقض العهد‏]‏

ومن نقض العهد خير الإمام فيه بين أربعة أشياء كالأسير الحربي لأن عمر رضي الله عنه صلب الذي أراد استكراه المرأة ولأنه كافر لا أمان له فأشبه الحربي ولا ينتقض عهد نسائه وأولاده بنقضه لأن النقض وجد منه دونهم فاختص حكمه به ولو هرب بأهله وذريته إلى دار الحرب لم ينتقض عهد ذريته ولم يجز سبيهم لذلك فأما المرأة فإن هربت طائعة انتقض عهدها لأن النقض وجد منها وإن لم تكن طائعة لم ينتقض عهدها لأنه لم يوجد منها ومن ولد له بعد دخوله دار الحرب فلا عهد له‏.‏