فصل: فصل: (في: إذا أدى القول بالدليل إلى إسقاط الخطاب)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: اللمع في أصول الفقه ***


فصل‏:‏ ‏[‏في ‏]‏

وأما أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيجوز التخصيص بها، وذلك مثل ان يحرم أشياء بلفظ عام ثم يفعل بعضها فيخص بذلك العام‏.‏ ومن الناس من قال لايجوز التخصيص بها، وهو قول بعض أصحابنا لأنه يجوز ان يكون مخصوصا به‏.‏ والأول أصح لأته و إن جاز ان يكون مخصوصا الا أن الأصل مشاركة الأمة فى الأحكام، ولهذا قال الله تعالى ‏"‏ لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة ‏"‏‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في الإقرار‏]‏

وأما الإقرار فيجوز التخصيص به كما رأى قيسا يصلى ركعتى الفجر بعد الصبح فأقره عليه فيخص به نهيه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة بعد الصبح لانه لايجوز ان يرى منكرا فيقر عليه، فلما أقره دل على جوازه‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في الإجماع‏]‏

وأما الإجماع فيجوز التخصيص به لأنه أقوى من الظواهر فاذا جاز التخصيص بالظواهر فبالإجماع أولى‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في قول الواحد‏]‏

وأما قول الواحد من الصحابة اذا انتشر ولم يعرف له مخالف فهو حجة يجوز التخصيص به، وإن لم ينشر فإن كان له مخالف لم يجز التخصيص به وإن لم يكن له مخالف فهل يجوز التخصيص به‏؟‏ يبنى على القولين فى أنه حجة أم لا؛ فإذا قلنا ليس بحجة لم يجز التخصيص به، واذا قلنا إنه حجة فهل يجوز التخضيض به‏؟‏ فيه وجهان أحدهما يجوز والثانى لايجوز‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في القياس‏]‏

وأما القياس فيجوز التخصيص به ومن أصحابنا من قال لايجوز التخصيص به، وهو قول أبى على الجبائى واختيار القاضى أبى بكر الأشعرى، وقال عيسى بن أبان اذا ثبت تخصيصه بدليل يوجب العلم جاز التخصيص به وان لم يثبت تخصيصه بدليل يوجب العلم لم يجز‏.‏ وقال بعض أهل العراق ان دخله التخصيص بدليل غير القياس جاز التخصيص به وان لم يدخله التخصيص بغيره لم يجز‏.‏ والدليل على جواز ذلك ان القياس يتناول الحكم فيما يخصه بلفظ غير محتمل فخص به العموم كاللفظ الخاص‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في قول الراوى‏]‏

وأما قول الراوى فلا يجوز تخصيص العموم به وقال أصحاب ابى حنيفة رحمه الله يجوز‏.‏ والدليل على انه لا يجوز هو ان تخصيصه يجوز ان يكون بدليل ويجوز ان يكون بشبهة فلا يترك الظاهر بالشك وكذلك لايجوز ترك شيء من الظواهر بقوله مثل ان يحتمل الخبر أمرين وهو فى أحدهما أظهر فيصرفه الراوى الى الآخر فلا يقبل ذلك منه لما بيناه فى تخصيص العموم‏.‏ وأما اذا احتمل اللفظ أمرين احتمالا واحدا فصرفه الى أحدهما مثل ما روى عن عمر كرم الله وجهه انه حمل قوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء ‏"‏ على القبض فى المجلس فقد قيل انه يقبل ذلك لأنه أعرف بمعنى الخطاب، وقال الشيخ الإمام رحمه الله وفيه نظر عندى‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في العرف‏]‏

وأما العرف والعادة فلا يجوز تخصيص العموم به لأن الشرع لم يوضع على العادة، وانما وضع فى قول بعض الناس على حسب المصلحة، وفى قول الباقين على ما أراد الله تعالى وذلك لايقف على العادة‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في تخصيص أول الآية بآخرها وبالعكس‏]‏

وأما تخصيص أول الآية بآخرها وآخرها بأولها فلايجوز ذلك مثل قوله تعالى ‏"‏والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ‏"‏ وهذا عام فى الرجعية وغيرها ثم قال فى آخر الآية ‏"‏ وبعولتهن أحق بردهن ‏"‏ وهذا خاص بالرجعيات فيحمل أول الآية على العموم وآخرها على الخصوص ولايخص أولها بآخرها لجواز ان يكون قصد بآخر الآية بيان بعض ما اشتمل عليه أول الآية فلايحوز ترك العموم بأولها‏.‏

باب القول فى اللفظ الوارد على سبب

وجملته ان اللفظ الوارد على سبب لم يجز ان يخرج السبب منه لأنه يؤدى الى تأخير البيان عن وقت الحاجة وذلك لايجوز، وهل يدخل فيه غيره‏؟‏ نظرت فإن كان اللفظ لايستقل بنفسه كان ذلك مقصورا على ما ورد فيه من السبب ويصير الحكم مع السبب كالجملة الواحدة فإن كان لفظ السائل عاما مثل ان قال أفطرت فقال أعتق حمل الجواب على العموم فى كل مفطر كأنه قال من أفطر فعليه العتق من جهة المعنى لا من جهة اللفظ، وذلك انه لما لم يستفصل دل على انه لايختلف أو لما نقل نقل السبب وهو الفطر فحكم فيه بالعتق صار كأنه علل بذلك لأن ذكر السبب فى الحكم تعليل، وإن كان خاصا مثل ان قال جامعت فقال اعتق حمل الجواب على الخصوص فى المجامع لايتعدى الى غيره من المفطرين فكأنه قال من جامع فى رمضان فعليه العتق، وأما اذا كان اللفظ يستقل بنفسه أعتبر حكم اللفظ؛ فإن كان خاصا حمل على خصوصه، وان كان عاما حمل على عمومه ولايخص بالسبب الذى ورد فيه وذلك مثل ماسئل النبى صلى الله عليه وسلم عن بئر بضاعة فقيل إنك تتوضأ من بئر بضاعة وإنه يطرح فيها المحائض ولحوم الكلاب وماينحى الناس فقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ الماء طهور لاينجسه شيء ‏"‏ فهذا يحمل على عمومه ولايخص بما ورد فيه من السبب، وقال المزنى و أبو ثور وأبو بكر الدقاق من أصحابنا يقصر على ما ورد فيه من السبب‏.‏ والدليل على ماقلناه هو ان الحجة فى قول الرسول صلى الله عليه وسلم دون السبب فوجب ان يعتبر عمومه‏.‏

باب القول فى الإستثناء

والإستثناء يجوز تخصيص اللفظ به‏.‏ وهو مأخوذ من قولهم ثنيت فلانا عن رأيه اذا صرفته عنه‏.‏ وقيل انه مأخوذ من تثنية الخبر بعد الخبر‏.‏ ومن شرطه ان يكون متصلا بالمستثنى منه، وحكى عن ابن عباس رضى الله عنهما جواز تأخيره، وحكى عن قوم جواز تأخيره اذا أورد معه كلام يدل على ان ذلك إستثناء مما تقدم وهو ان يقول جاءنى الناس ثم يقول بعد زمان الا زيدا وهو استثناء مما كنت قلت، فأما المحكى عن ابن عباس رضى الله عنهما فالظاهر انه لايصح عنه وهو بعيد لأنهم لا يستعملون الإستثناء الا متصلا بالكلام، ألا ترى أنه اذا قال جاءنى الناس ثم قال بعد شهر الا زيدا لم يعد ذلك كلاما فدل على بطلانه، وما حكى عن غيره خطأ لأنه لو جاز ذلك على الوجه الذى قاله لجاز ان يؤخر خبر المبتدأ ثم يخبر به مع كلام يدل عليه بأن يقول زيد ثم يقول بعد حين قائم ويقرنه بما يدل على انه خبر عنه وهذا مما لا يقوله احد ولايعد كلاما فى اللغة فبطل‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في يتقدم الاستثناء على المستثنى‏]‏

ويجوز ان يتقدم الإستثناء على المستثنى منه كما يجوز ان يتأخر كقول الكميت‏:‏ فمالى الا آل احمد شيعة‏.‏ وقال الشاعر‏:‏‏.‏

وقفت فيها أصلا لا أسائلها *** والنؤى كالحوض بالمظلومة الجلد‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في استثناء الأكثر من الجملة‏]‏

ويجوز ان يستثنى الأكثر من الجملة‏.‏ وقال أحمد لا يجوز، وهو قول القاضى أبى بكر الأشعرى وابن درستويه‏.‏ والدليل على جوازه ان القرآن ورد به قال الله تعالى ‏"‏ان عبادى ليس لك عليهم سلطان الا من اتبعك من الغاوين ‏"‏ ثم قال ‏"‏ فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين ‏"‏ فاستثنى الغاوين من العباد واستثنى العباد من الغاوين وأيهما كان أكثر فقد استثناه من الآخر ولأن الإستثناء معنى يوجب تخصيص اللفظ العام فجاز فى القليل والكثير كالتخصيص بالدليل المنفصل‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في تعقب الاستثناء‏]‏

اذا تعقب الإستثناء جملا عطف بعضها على بعض جمع ذلك الى الجميع،وذلك مثل قوله عز وجل ‏"‏والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولاتقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون الا الذين تابوا ‏"‏، وقال أصحاب أبى حنيفة رحمه الله يرجع الى ما يليه، وقال القاضى أبو بكر يتوقف فيه ولايرد الى شيء منهما الا بدليل‏.‏ والدليل على ماقلناه هو ان الإستثناء كالشرط فى التخصيص ثم الشرط يرجع الى الجميع وهو اذا قال إمرأتى طالق وعبدى حر ومالى صدقة إن شاء الله تعالى فكذلك الإستثناء‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في رجوع الاستثناء إلى جملة‏]‏

وإن دل الدليل على أنه لا يجوز رجوعه الى جملة من الجمل المذكورة كما فى آية القذف؛ فإن الدليل دل على أنه لايجوز ان يرجع الإستثناء فيها الى الحد رجع الى مابقى من الجمل، وكذا ان تعقب الإستثناء جملة واحدة ودل الدليل على انه لايجوز رجوعه الى بعضها كقوله عز وجل ‏"‏ وان طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة ‏"‏ الى قوله تعالى ‏"‏ الا ان يعفون ‏"‏ فإنه قد دل الدليل على ان الإستثناء لايجوز رجوعه الى الصغار والمجانين رجع الى مابقى من الجملة لأن ترك الظاهر فيما قام عليه الدليل لايوجب تركه فيما لم يقم عليه الدليل‏.‏

باب التخصيص فى الشرط

واعلم ان الشرط مالايصح المشروط الا به‏.‏وقد ثبت ذلك بدليل منفصل، كاشتراط القدرة فى العبادات واشتراط الطهارة فى الصلاة، وقد دخل ذلك فيما ذكرناه من تخصيص العموم‏.‏ وقد يكون متصلا بالكلام، وذلك قد يكون بلفظ الشرط كقوله تعالى ‏"‏فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا ‏"‏، وقد يكون بلفظ الغاية كقوله تعالى ‏"‏حتى يعطوا الجزية عن يد ‏"‏‏.‏ ويجوز تخصيص الحكم بالجميع، فيكون الصيام لمن لم يجد الرقبة والقتل فيمن لم يؤد الجزية‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في تقدم الشرط‏]‏

يجوز ان يتقدم الشرط فى اللفظ ويجوز ان يتأخر كما يجوز فى الاستثناء‏.‏ ولهذا لم يفرق بين قوله أنت طالق إن دخلت الدار وبين قوله إن دخلت الدار فأنت طالق‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في تعقب الشرط جملا‏]‏

واذا تعقب الشرط جملا رجع الى جميعها كما قلنا فى الإستثناء‏.‏ ولهذا اذا قال إمرأتى طالق وعبدى حر إن شاء الله لم تطلق المرأة ولم يعتق العبد‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في دخل الشرط فى بعض الجمل دون بعض‏]‏

فأما اذا دخل الشرط فى بعض الجمل المذكورة دون بعض لم يرجع الشرط الا الى المذكورة، وذلك مثل قوله تعالى ‏"‏ أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ‏"‏ الى قوله تعالى ‏"‏وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن ‏"‏، فشرط الحمل فى الإنفاق دون السكن، فيرجع الشرط الى الإنفاق ولايرجع الى السكن، وهكذا لو ثبت الشرط بدليل منفصل فى بعض الجمل لم يجب إثباته فيما عداه كقوله عز وجل ‏"‏ والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ‏"‏ الى قوله ‏"‏ وبعولتهن أحق بردهن ‏"‏‏.‏ فإن الدليل قد دل على ان الرد فى الرجعيات، فيرجع ذلك الى الرجعيات ولايوجب ذلك تخصيص أول الآية، وهكذا اذا ذكر جملا وعطف بعضها على بعض لم يقتض الوجوب فى الجميع أو يقتضى العموم فى الجميع ثم دل الدليل على ان فى بعضها لم يرد الوجوب أو فى بعضها ليس على العموم لم يجب حمله فى الباقى على غير الوجوب ولا على غير العموم، وذلك مثل قوله تعالى ‏"‏ كلوا من ثمره اذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ‏"‏ فأمر بالأكل وإيتاء الحق والأكل لايجب والإيتاء واجب والأكل عام فى القليل والكثير والإيتاء خاص فى خمسة أوسق فما قام الدليل عليه خرج من اللفظ وبقى الباقى على ظاهره‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في ثبوت اللفظ لأحد شيئين‏]‏

وهكذا كل شيئين قرن بينهما فى اللفظ ثم ثبت لأحدهما حكم بالإجماع لم يجب أن يثبت ذلك الحكم للآخر من غير لفظ يوجب التسوية بينهما أو علة توجب الجمع بينهما‏.‏ ومن أصحابنا من قال اذا ثبت لأحدهما حكم ثبت لقرينه مثله، وهذا غير صحيح لأن الحكم الذى ثبت لأحدهما ثبت بدليل يخصه من لفظ أو إجماع وذلك غير موجود فى الآخر، فلا تجب التسوية بينهما الا بعلة تجمع بينهما‏.‏‏.‏

باب القول فى المطلق والمقيد

واعلم ان تقييد العام بالصفة يوجب التخصيص كما يوجب الشرط والإستثناء وذلك كقوله تعالى ‏"‏ فتحرير رقبة مؤمنة ‏"‏ فإنه لو أطلق الرقبة لعم المؤمنة والكافرة، فلما قيده بالمؤمنة وجب التخصيص‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في ورد الخطاب مطلقا فى موضع لامقيد له‏]‏

فإن ورد الخطاب مطلقا فى موضع لامقيد له حمل على إطلاقه، وإن ورد مقيدا لامطلق له حمل على تقييده، وإن ورد مطلقا فى موضع ومقيدا فى موضع آخر نظرت؛ فإن كان ذلك فى حكمين مختلفين مثل ان يقيد الصيام بالتتابع ويطلق الإطعام لم يحمل أحدهما على الآخر بل يعتبر كل واحد منهما بنفسه لأنهما لايشتركان فى لفظ ولا معنى، وإن كان ذلك فى حكم واحد وسبب واحد مثل ان يذكر الرقبة فى كفارة القتل مقيدة بالإيمان ثم يعيدها فى القتل مطلقة كان الحكم للمقيد لأن ذلك حكم واحد استوفى بيانه فى أحد الموضعين ولم يستوف فى الموضع الآخر، وان كان فى حكم واحد وسببين مختلفين نظرت فى المقيد؛ فإن عارضه مقيد آخر لم يحمل المطلق على واحد من المقيدين وذلك مثل الصوم فى الظهار قيده بالتتابع وفى التمتع قيده بالتفريق وأطلق فى كفارة اليمين فلا يحمل المطلق فى اليمين على الظهار ولا على التمتع، بل يعتبر بنفسه اذ ليس حمله على أحدهما بأولى من الحمل على الآخر، وإن لم يعارض المقيد مقيد آخر كالرقبة فى كفارة القتل والرقبة فى الظهار قيدت بالإيمان فى القتل وأطلقت فى الظهار حمل المطلق على المقيد فمن أصحابنا من قال يحمل من جهة اللغة لأن القرآن من فاتحته إلى خاتمته كالكلمة الواحدة، ومنهم من قال يحمل من جهة القياس وهو الأصح‏.‏ وقال أصحاب أبى حنيفة رحمه الله لا يجوز حمل المطلق على المقيد لأن ذلك زيادة فى النص وذلك نسخ بالقياس، وربما قالوا لأنه حمل منصوص‏.‏ والدليل على انه لايحمل من جهة اللغة ان اللفظ الذى ورد فيه التقييد وهو القتل لايتناول المطلق وهو الظهار فلايجوز أن يحكم فيه بحكمه من غير علة فكذلك ههنا‏.‏ والدليل على انه يحمل عليه بالقياس هو ان حمل المطلق على المقيد تخصيص عموم بالقياس فصار كتخصيص سائر العمومات‏.‏

باب القول فى مفهوم الخطاب

اعلم ان مفهوم الخطاب على أوجه‏:‏ أحدها فحوى الخطاب، وهو مادل عليه اللفظ من جهة التنبيه كقوله عز وجل ‏"‏ فلاتقل لهما أف ‏"‏ وقوله تعالى ‏"‏ ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ‏"‏ وما أشبه ذلك مما ينص فيه على الأدنى لينبه به على الأعلى وعلى الأعلى لينبه به على الأدنى، وهل يعلم مادل عليه التنبيه من جهة اللفظ أو من جهة القياس‏؟‏ فيه وجهان‏:‏ أحدهما أنه من جهة اللغة، وهو قول أكثر المتكلمين وأهل الظاهر‏.‏ ومنهم من قال هو من جهة القياس الجلى، ويحكى ذلك عن الشافعى، وهو الأصح لأن لفظ التأفيف لايتناول الضرب وانما يدل عليه بمعناه وهو الأدنى فدل على أنه قياس‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في ‏]‏

والثانى لحن الخطاب وهو مادل عليه اللفظ من الضمير الذى لايتم الكلام إلا به، وذلك مثل قوله عز وجل ‏"‏ فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت ‏"‏ ومعناه فضرب فانفجرت‏.‏ ومن ذلك أيضا حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه كقوله عز وجل ‏"‏ واسأل القرية ‏"‏ ومعناه أهل القرية، ولاخلاف ان هذا كالمنطوق به فى الإفادة والبيان، ولايجوز ان يضمر فى مثل هذا إلا ماتدعو الحاجة إليه، فإن استقل الكلام بإضمار واحد لم يجز ان يضاف اليه غيره الا بدليل، فإن تعارض فيه إضماران أضمر مادل عليه الدليل منهما‏.‏ وقد حكينا فى مثل هذا الخلاف عمن يقول إنه أضمر فيه ما هو أعم فائدة أو موضع الخلاف وبينا فساد ذلك‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في دليل الخطاب‏]‏

والثالث دليل الخطاب وهو أن يعلق الخكم على إحدى صفتي الشيء فيدل على أن ماعداها بخلافه، كقوله تعالى ‏"‏ إن جاءكم فاسق بنباء فتبينوا ‏"‏ فيدل على أنه إن جاء عدل لم يتبين، وكقوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ فى سائمة الغنم زكاة ‏"‏ فيدل على أن المعلوفة لا زكاة فيها‏.‏ وقال عامة أصحاب أبى حنيفة رحمه الله و أكثر المتكلمين لايدل على أن ماعداه بحلافه بل حكم ما عداه موقوف على الدليل‏.‏ وقال أبو العباس بن سريج إن كان بلفظ الشرط كقوله تعالى ‏"‏ إن جاءكم فاسق بنباء فتبينوا ‏"‏ دل على أن ما عداه بخلافه وإن لم يكن بلفظ الشرط لم يدل، وهو قول بعض أصحاب أبى حنيفة رحمه الله‏.‏ والدليل على ماقلناه ان الصحابة اختلفت فى إيجاب الغسل من الجماع من غير إنزال؛ فقال بعضهم لايجب واحتجوا بدليل الخطاب فى قول النبى صلى الله عليه وسلم ‏"‏ الماء من الماء ‏"‏ وأنه لما أوجب من الماء دل على أنه لا يجب من غير ماء ومن أوجب ذكر أن ‏"‏ الماء من الماء ‏"‏ منسوخ فدل على ما ذكرناه ولأن تقييد الحكم بالصفة يوجب تخصيص الخطاب فاقتضى بإطلاقه النفى والإثبات كالإستثناء‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في تعلق الحكم بغاية‏]‏

وأما اذا علق الحكم بغاية فإنه يدل على أن ماعداها بخلافها، وبه قال أكثر من أنكر القول بدليل الخطاب‏.‏ ومنهم من قال لايدل والدليل على ماقلناه هو أنه لوجاز أن يكون حكم ما بعد الغاية موافقا لما قبلها خرج عن أن يكون غاية وهذا لايجوز‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في تعلق الحكم على صفة بلفظ إنما‏]‏

وأما اذا علق الحكم على صفة بلفظ إنما كقوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إنما الأعمال بالنيات ‏"‏ وقوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إنما الولاء لمن أعتق ‏"‏ دل أيضا على أن ما عداها بخلافها، وبه قال كثير ممن لم يقل بدليل الخطاب‏.‏ وقال بعضهم لايدل على أن ماعداها بخلافها‏.‏ وهذا خطأ لأن هذه اللفظة لاتستعمل إلا لإثبات المنطوق به ونفى ماعداه، ألا ترى أنه لا فرق بين أن يقول إنما فى الدار زيد وبين أن يقول ليس فى الدار إلا زيد وبين أن يقول إنما الله واحد وبين أن يقول لا إله إلا واحد، فدل على أنه يتضمن النفى والإثبات‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في تعلق الحكم على صفة فى جنس‏]‏

فأما اذا علق الحكم على صفة فى جنس كقوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ فى سائمة الغنم زكاة ‏"‏ دل ذلك على نفى الزكاة عن معلوفة الغنم دون ماعداها‏.‏ ومن أصحابنا من قال يدل على نفيها عما عداها فى جميع الأجناس‏.‏ وهذا خطأ لأن الدليل يقتضى النطق فإذا اقتضى النطق الإيجاب فى سائمة الغنم وجب ان يقتضى الدليل نفيها عن معلوفة الغنم‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في تعلق الحكم على مجرد الاسم‏]‏

فإذا علق الحكم على مجرد الإسم مثل أن يقول فى الغنم زكاة فإن ذلك لايدل على نفى الزكاة عما عدا الغنم‏.‏ ومن أصحابنا من قال يدل كالصفة‏.‏ والمذهب الأول لأنه يخص الإسم بالذكر وهو وغيره سواء، ألا ترى أنهم يقولون ‏"‏ إشتر غنما و إبلا وبقرا ‏"‏ فينص على كل واحد منها مع إرادة جميعها ولايضم الصفة إلى الإسم وهى وغيرها سواء، ألا ترى أنهم لايقولون ‏"‏ إشتر غنما سائمة ‏"‏ وهى والمعلوفة سواء فافترقا‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في‏:‏ إذا أدى القول بالدليل إلى إسقاط الخطاب‏]‏

اذا أدى القول بالدليل إلى إسقاط الخطاب سقط الدليل وذلك مثل قوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لاتبع ماليس عندك ‏"‏ فإن دليله يقتضى جواز بيع ما هو عنده وان كان غائبا عن العين، واذا أجزنا ذلك لزمنا ان نجيز بيع ماليس عنده لأن أحدا لم يفرق بينهما، واذا أجزنا ذلك سقط الخطاب وهو قوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لاتبع ماليس عندك ‏"‏ فيسقط الدليل ويبقى الخطاب لأن الدليل فرع الخطاب ولايجوز أن يعترض الفرع على الأصل بالإسقاط‏.‏

الكلام فى المجمل والمبين

باب ذكر وجوه المبين

فأما المبين فهو ما استقل بنفسه فى الكشف عن المراد ولايفتقر فى معرفة المراد إلى غيره‏.‏ وذلك على ضربين‏:‏ ضرب يفيد بنطقه وضرب يفيد بمفهومه‏.‏ فالذى يفيد بنطقه هو النص والظاهر والعموم‏.‏ فالنص كل لفظ دل على الحكم بصريحه على وجه لا احتمال فيه، وذلك مثل قوله عز وجل ‏"‏ محمد رسول الله ‏"‏ وكقوله تعالى ‏"‏ ولاتقربوا الزنا ‏"‏ ولا تقتلوا النفس التى حرم الله إلا بالحق ‏"‏ وكقوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ فى كل خمس شاة فى أربع وعشرين من الإبل فما دونها الغنم‏"‏ وغيرذلك من الألفاظ الصريحة فى بيان الأحكام‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في الظاهر‏]‏

وأما الظاهر فهو كل لفظ احتمل أمرين وفى أحدهما أظهر كالأمر والنهى وغيرذلك من أنواع الخطاب الموضوعة للمعانى المخصوصة المحتملة لغيرها‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في العموم‏]‏

والعموم كل لفظ عم شيئين فصاعدا كقوله تعالى ‏"‏ اقتلوا المشركين ‏"‏ وقوله تعالى ‏"‏والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما‏"‏ وغير ذلك، فهذه كلها من المبين الذى لايفتقر فى معرفة المراد إلىغيره وإنما يفتقر إلى غيره فى معرفة ماليس بمراد به فيصح الإحتجاج بهذه الأنواع‏.‏ وقال أبو ثور وعيسى بن أبان العموم اذا دخله التخصيص صار مجملا لا يحتج بظاهره وقال أبو الحسن الكرخى إن خص بدليل متصل لم يصر مجملا وإن خص بدليل منفصل صار مجملا‏.‏ وقال أبو عبد الله البصرى إن كان حكمه يفتقر إلى شروط كآية السرقة فهى مجملة لايحتج بها إلا بدليل، وإن لم يفتقر إلى شروط لم يصر مجملا‏.‏ والدليل على ما قلناه هو أن المجمل مالايعقل معناه من لفظه ويفتقر فى معرفة المراد إلى غيره وهذه الآيات يعقل معناها من لفظها ولايفتقر فى معرفة المراد بها إلى غيرها فهى كغيرها من الآيات‏.‏

‏[‏ قوله والعموم كل الخ‏]‏ أى لغة وأما اصطلاحا فهو شمول الخ كما مر‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في فحوى الخطاب‏]‏

وأما مايفيد بمفهومه فهو فحوى الخطاب ولحن الخطاب ودليل الخطاب، وقد بينتها قبل هذا الباب فأغنى عن الإعادة‏.‏

باب ذكر وجوه المجمل

وأما المجمل فهو ما لايعقل معناه من لفظه ويفتقر فى معرفة المراد إلى غيره وذلك على وجوه‏:‏ منها أن يكون اللفظ لم يوضع للدلالة على شيء بعينه كقوله تعالى ‏"‏ وآتوا حقه يوم حصاده ‏"‏ وكقوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولو لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها ‏"‏ فإن الحق مجهول الجنس والقدر فيفتقر إلى البيان‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في اللفظ فى الوضع يشترك بين شيئين‏]‏

ومنها أن يكون اللفظ فى الوضع مشتركا بين شيئين كالقرء يقع على الحيض ويقع على الطهر فيفتقر الى البيان‏.‏

فصل ثان‏:‏ ‏[‏في اللفظ فى الوضع يشترك بين شيئين‏]‏

ومنها أن يكون اللفظ موضوعا لجملة معلومة إلا أنه دخلها إستثناء مجهول كقوله عز وجل ‏"‏ أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلى الصيد ‏"‏ فإنه قد صار مجملا بما دخله من الإستثناء، ومن هذا المعنى العموم إذا علم أنه مخصوص ولم يعلم ماخص منه، فهذا أيضا مجمل لأنه لايمكن العمل به قبل معرفة ما خص منه‏.‏

فصل ثالث‏:‏ ‏[‏في اللفظ فى الوضع يشترك بين شيئين‏]‏

ومن ذلك أيضا أن يفعل رسول الله صلى اله عليه وسلم فعلا يحتمل وجهين إحتمالا واحدا مثل ما روى أنه جمع فى السفر فإنه مجمل لأنه يجوز ان يكون فى سفر طويل أو فى سفر قصير فلا يجوز حمله على أحدهما دون الآخر الا بدليل، وكذلك اذا قضى فى عين تحتمل حالين إحتمالا واحدا مثل ان يروى ان الرجل أفطر فأمره صلى اله عليه وسلم بالكفارة فهو مجمل فإنه يجوز أن يكون أفطر بجماع ويجوز أن يكون أفطر بأكل فلا يجوز حمله على أحدهما دون الآخر إلا بدليل، فهذه الوجوه لا يختلف المذهب فى إجمالها وافتقارها إلى البيان‏.‏

فصل رابع‏:‏ ‏[‏في اللفظ فى الوضع يشترك بين شيئين‏]‏

واختلف المذهب فى ألفاظ‏:‏ فمنها قوله تعالى ‏"‏ وأحل الله البيع وحرم الربا ‏"‏ وفيه قولان؛ قال فى أحدهما هو مجمل لأن الله تعالى أحل البيع وحرم الربا والربا هو الزيادة وما من بيع إلا وفيه زيادة وقد أحل الله البيع وحرم الربا فافتقر الى بيان مايحل ومايحرم‏.‏ وقال فى القول الثانى ليس بمجمل، وهو الأصح لان البيع معقول فى اللغة فحمل على العموم الا فيما خصه الدليل‏.‏

فصل خامس‏:‏ ‏[‏في اللفظ فى الوضع يشترك بين شيئين‏]‏

ومنها الآيات التى ذكر فيها الأسماء الشرعية وهو قوله عز وجل ‏"‏ وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ‏"‏ وقوله ‏"‏ فمن شهد منكم الشهر فليصمه ‏"‏ وقوله تعالى ‏"‏ ولله على الناس حج البيت ‏"‏ فمن أصحابنا من قال هى عامة غير مجملة فتحمل الصلاة على كل دعاء والصوم على كل إمساك والحج على كل قصد إلا ما قام الدليل عليه، وهذه طريقة من قال ليس فى الأسماء شيء منقول‏.‏ ومنهم من قال هى مجملة لأن المراد بها معان لا يدل اللفظ عليها فى اللغة وإنما تعرف من جهة الشرع فافتقر الى البيان كقوله عز وجل ‏"‏ وآتوا حقه يوم حصاده ‏"‏ وهذه طريقة من قال إن هذه الأسماء منقولة وهو الأصح‏.‏‏.‏

فصل سادس‏:‏ ‏[‏في اللفظ فى الوضع يشترك بين شيئين‏]‏

ومنها الألفاظ التى علق التحليل والتحريم فيها على أعيان كقوله تعالى ‏"‏ حرمت عليكم الميتة ‏"‏، فقال بعض أصحابنا إنها مجملة لأن العين لا توصف بالتحليل والتحريم وإنما الذى يوصف بذلك أفعالنا وافعالنا غير مذكورة، فافتقر إلى بيان مايحرم من الأفعال مما لايحرم‏.‏ ومنهم من قال إنها ليست بمجملة، وهو الأصح لأن التحليل والتحريم فى مثل هذا إذا أطلق عقل منها التصرفات المقصودة فى اللغة ألا ترى أنه اذا قال لغيره حرمت عليك هذا الطعام عقل منه تحريم الأكل، وما عقل المراد من لفظه لم يكن مجملا‏.‏

فصل سابع‏:‏ ‏[‏في اللفظ فى الوضع يشترك بين شيئين‏]‏

وكذلك اختلفوا فى الألفاظ التى تتضمن نفيا وإثباتا كقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ‏"‏ إنما الأعمال بالنيات ‏"‏ وقوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لانكاح إلا بولى ‏"‏ وما أشبهه؛ فمنهم من قال إن ذلك مجمل لأن الذى نفاه هو العمل والنكاح وذلك موجود فيجب أن يكون المراد به نفى صفة غير مذكورة فافتقر الى بيان تلك الصفة‏.‏ ومنهم من قال ليس بمجمل، وهو الأصح لأن صاحب الشرع لاينفى ولايثبت المشاهدات وإنما ينفى ويثبت الشرعيات، فكأنه قال لا عمل فى الشرع إلا بنية ولانكاح فى الشرع إلا بولى، وذلك معقول من اللفظ فلايجوز ان يكون مجملا‏.‏

فصل ثامن‏:‏ ‏[‏في اللفظ فى الوضع يشترك بين شيئين‏]‏

وكذلك اختلفوا فى قوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ رفع عن أمتى الخطأ والنسيان ‏"‏فمنهم من قال هو مجمل لأن الذى رفعه هو الخطأ وذلك موجود فيجب أن يكون المراد بها معنى غير مذكور فافتقر الى البيان‏.‏ ومنهم من قال غير مجمل وهو الأصح لأنه معقول المعنى فى اللغة، ألا ترى أنه اذا قال لعبده رفعت عنك جنايتك عقل منه رفع المؤاخذة بكل مايتعلق بالجناية من التبعات فدل على أنه غير مجمل‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في المتشابه‏]‏

وأما المتشابه فاختلف أصحابنا فيه؛ فمنهم من قال هو والمجمل واحد، ومنهم من قال المتشابه ما استأثر الله تعالى بعلمه ومالم يطلع عليه أحدا من خلقه ومن الناس من قال المتشابه هو القصص والأمثال والحكم والحلال والحرام ومنهم من قال المتشابه الحروف المجموعة فى أوائل السور كألمص وألمر وغير ذلك‏.‏ والصحيح هو الأول لأن حقيقة المتشابه ما اشتبه معناه، وأما ماذكروه فلا يوصف بذلك‏.‏

باب الكلام فى البيان ووجوهه

اعلم أن البيان هو الدليل الذى يتوصل بصحيح النظر إلى ماهو دليل عليه‏.‏ وقال بعض أصحابنا هو إخراج الشيء من حيز الإشكال إلى حيز التجلى‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في وقوع البيان بالقول‏]‏

ويقع البيان بالقول ومفهوم القول والفعل والإقرار والإشارة والكتابة فأما البيان بالقول فكقوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ فى الرقة ربع العشر ‏"‏ وقوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ فى خمس من الإبل شاة ‏"‏‏.‏ وأما المفهوم فقد يكون تنبيها كقوله تعالى ‏"‏ فلاتقل لهما أف ‏"‏ فيدل على أن الضرب أولى بالمنع، وقد يكون دليلا كقوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ فى سائمة الغنم زكاة ‏"‏ فيدل على أنه لازكاة فى المعلوفة‏.‏ وأما بالفعل فمثل بيان مواقيت الصلاة وأفعالها والحج ومناسكه بفعله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وأما الإقرار فهو كما روى أنه رأى قيسا يصلى بعد الصبح ركعتين فسأله فقال ركعتا الفجر ولم ينكر، فدل على جواز التنفل بعد الصبح‏.‏ وأما الإشارة فكما قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ الشهر هكذا وهكذا ‏"‏ وحبس إبهامه فى الثالثة‏.‏ وأما الكتابة فكما بين فرائض الزكاة وغيرها من الأحكام فى كتب كتبها‏.‏ وأما القياس فكما نص على أربعة أعيان فى الربا ودل القياس على أن غيرها من المطعومات مثلها‏.‏

باب تأخير البيان

ولايجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة لأنه لايمكن الإحتفال من غير بيان‏.‏ وأما تأخيره عن وقت الخطاب ففيه ثلاثة أوجه‏:‏ أحدها يجوز، وهو قول أبى العباس وأبى سعيد الإصطخرى وأبى بكر القفال‏.‏ والثانى أنه لايجوز، وهو قول أبى بكر الصيرفى وأبى إسحق المروزى، وهو قول المعتزلة‏.‏ والثالث أنه يجوز تأخير بيان المجمل ولايجوز تأخير بيان العموم، وهو قول أبى الحسن الكرخى‏.‏ ومن الناس من قال يجوز ذلك فى الأخبار دون الأمر والنهى‏.‏ ومنهم من قال يجوز فى الأمر والنهى دون الأخبار‏.‏ والصحيح أنه يجوز فى جميع ما ذكرناه لأن تأخيرها لا يخل بالإمتثال فجاز كتأخير بيان النسخ‏.‏

‏.‏

الكلام فى النسخ

باب بيان النسخ والبداء

والنسخ فى اللغة يستعمل فى الرفع والإزالة يقال نسخت الشمس الظل ونسخت الرياح الآثار إذا أزالتها، ويستعمل فى النقل يقال نسخت الكتاب اذا نقلت مافيه وإن لم تزل شيئا عن مواضعه‏.‏ وأما فى الشرع على الوجه الأول فى اللغة وهو الإزالة فحده الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم على وجه لولاه لكان ثابتا به مع تراخيه عنه‏.‏ ولايلزم ماسقط عن الإنسان بالموت، فإن ذلك ليس بنسخ لأنه ليس بخطاب‏.‏ ولا يلزم رفع ماكانوا عليه كشرب الخمر وغيره، فإنه ليس بنسخ لأنه لم يثبت بخطاب‏.‏ ولايلزم ما أسقطه بكلام متصل كالإستثناء والغاية كقوله تعالى ‏"‏ ثم اتموا الصيام الى الليل ‏"‏ فإنه ليس بنسخ لأنه غير متراخ عنه‏.‏ وقالت المعتزلة هو الخطاب الدال على أن مثل الحكم الثابت المنسوخ غير ثابت على وجه لولاه لكان ثابتا بالنص الأول‏.‏ وهذا فاسد لأنه اذا حد بهذا لم يكن الناسخ مزيلا لما ثبت بالخطاب الأول لأن مثل الحكم ما ثبت بالمنسوخ حتى يزيله بالناسخ، وقد بينا أن النسخ فى اللغة هو الإزالة والرفع‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في جواز النسخ‏]‏

والنسخ جائز فى الشرع‏.‏ وقالت طائفة من اليهود لايجوز، وبه قال شرذمة من المسلمين‏.‏ وهذا خطأ لأن التكليف فى قول بعض الناس إلى الله تعالى يفعل ما يشاء، وعلى قول بعضهم التكليف على سبيل المصلحة؛ فإن كان الى مشيئته فيجوز أن يشاء فى وقت تكليف فرض وفى وقت إسقاطه، وإن كان على وجه المصلحة فيجوز أن تكون المصلحة فى وقت فى أمر وفى وقت آخر فى غيره، فلا وجه للمنع منه‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في البداء‏]‏

وأما البداء فهو أن يظهر له ما كان خفيا عليه من قولهم بدا لى الفجر اذا ظهر له‏.‏ وذلك لايجوز فى الشرع، وقال بعض الرافضة يجوز البداء على الله تعالى وقال منهم زرارة بن أعين فى شعره‏:‏

فتلك أمارات تجيء بوقتها *** ومالك عما قـدرالله مذهـب

ولولا البـدا سميته غير هائب *** وذكر البدا نعت لمن يتقلـب

ولولا البدا ما كان فيه تصرف *** وكان كنار دهـرها تتلهـب

وكان كضوء مشرق بطبيعة *** وبالله عن ذكر الطبائع يرغب

وزعم بعضهم أنه يجوز على الله تعالى البداء فيما لم يطلع عليه عباده، وهذا خطأ لأنهم إن أرادوا بالبداء مابيناه من أنه يظهر له ما كان خفيا عنه فهذا كفر وتعالى الله عز وجل عن ذلك علوا كبيرا، وإن كانوا أرادوا به تبديل العبادات والفروض فهذا لاننكره إلا أنه لايسمى بداء لأن حقيقة البداء مابينا ولم يكن لهذا القول وجه‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في نسخ الفعل قبل دخول وقته‏]‏

فأما نسخ الفعل قبل دخول وقته فيجوز، وليس ذلك ببداء‏.‏ ومن أصحابنا من قال لايجوز ذلك، وهو قول المعتزلة وزعموا أن ذلك بداء‏.‏ والدليل على جواز ذلك ان الله تعالى أمر إبراهيم عليه السلام بذبح ابنه ثم نسخه قبل وقت الفعل فدل على جوازه‏.‏ والدليل على أنه ليس ببداء ما بيناه من أن البداء ظهور ما كان خفيا عنه وليس فى النسخ قبل الوقت هذا المعنى‏.‏

باب بيان ما يجوز نسخه من الأحكام ومالايجوز

اعلم أن النسخ لايجوز إلا فيما يصح وقوعه على وجهين كالصوم والصلاة والعبادات الشرعية‏.‏ فأما ما لا يجوز أن يكون إلا على وجه واحد مثل التوحيد وصفات الذات كالعلم والقدرة وغيرذلك فلا يجوز فيه النسخ‏.‏ وكذلك ما أخبر الله عز وجل عنه من أخبار القرون الماضية والأمم السالفة، فلايجوز فيها النسخ وكذلك ما أخبر عن وقوعه فى المستقبل كخروج الدخال وغير ذلك، لم يجز فيه النسخ‏.‏ وحكى إن أبى بكر الدقاق أنه قال ما ورد من الأمر بصيغة الخبر كقوله عز وجل ‏"‏ والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ‏"‏ لايجوز نسخه‏.‏ومن الناس من قال لايجوز مطلقا‏.‏ والدليل على القائل الأول أن قوله تعالى ‏"‏ والمطلقات يتربصن ‏"‏ وإن كان لفظه لفظ الخبر إلا أنه أمر، ألا ترى أنه يجوز أن يقع فيه المخالفة، ولو كان خبرا لم يصح أن يقع فيه المخالفة، واذا ثبت أنه أمر جاز نسخه كسائر الأوامر‏.‏ والدليل على القائل الآخر أنا إذا جوزنا النسخ فى الخبر صار أحد الخبرين كذبا وهذا لايجوز‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في نسخ الإجماع‏]‏

وكذلك لايجوز نسخ الإجماع لأن الإجماع لايكون إلا بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم والنسخ لايجوز بعد موته‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في نسخ القياس‏]‏

وكذلك لايجوز نسخ القياس لأن القياس تابع الأصول والأصول ثابتة فلا يجوز نسخ تابعها‏.‏ فأما اذا ثبت الحكم فى عين بعلة وقيس عليها غيرها ثم نسخ الحكم فى تلك العين بطل الحكم فى الفرع المقيس عليه‏.‏ومن أصحابنا من قال لايبطل وهو قول أصحاب أبى حنيفة رحمه الله، وهذا غير صحيح لأن الفرع تابع للأصل فإذا بطل الحكم فى الأصل بطل فى الفرع‏.‏

باب بيان وجوه النسخ

فصل‏:‏ ‏[‏في النسخ فى الرسم دون الحكم‏]‏

اعلم أن النسخ يجوز فى الرسم دون الحكم كآية ‏"‏ الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموها البتة ‏"‏ فهذا نسخ رسمه، وحكمه باق‏.‏ ويجوز فى الحكم دون الرسم كالعدة كانت حولا ثم نسخت بأربعة أشهر وعشرا، ورسمها باق وهو قوله ‏"‏ متاعا إلى الحول غير إخراج ‏"‏‏.‏ ويجوز فى الرسم والحكم كتحريم الرضاع، كان بعشر رضعات وكان مما يتلى فنسخ الرسم والحكم جميعا‏.‏ وذهب طائفة إلى أنه لايجوز نسخ الحكم وبقاء التلاوة لأنه يبقى الدليل ولامدلول معه‏.‏ وقالت طائفة لايجوز نسخ التلاوة مع بقاء الحكم لأن الحكم تابع للتلاوة فلايجوز ان يرتفع الأصل ويبقى التابع‏.‏ وهذا خطأ لأن التلاوة والحكم فى الحقيقة حكمان فجاز رفع أحدهما وتبقية الآخر كما تقول فى عبادتين يجوز أن تنسخ احداهما وتبقى الأخرى‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في النسخ إلى غير بدل‏]‏

ويجوز النسخ إلى غير بدل كالعدة نسخ مازاد على أربعة أشهر وعشرا إلى غير بدل‏.‏ ويجوز النسخ إلى بدل كنسخ القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة‏.‏ ويجوز النسخ إلى أخف من المنسوخ كنسخ مصابرة الواحد للعشرة نسخ إلى اثنين‏.‏ ويجوز إإلى ما هو أغلظ منه كالصوم كان مخيرا بينه وبين الفطر ثم نسخ إلى الإنحتام بقوله عز وجل ‏"‏ فمن شهد منكم الشهر فليصمه ‏"‏‏.‏ ويجوز النسخ فى الحظر إلى الإباحة كقوله تعالى ‏"‏ علم الله انكم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن ‏"‏ حرم عليهم المباشرة ثم أبيح لهم ذلك‏.‏ وقال بعض أصحابنا لايجوز النسخ الى ما هو أغلظ من المنسوخ، وهو قول أهل الظاهر‏.‏ وهذا خطأ لأنا وجدنا ذلك فى الشرع وهو التخيير بين الصوم والفطر الى انحتام الصوم ولأنه اذا جاز أن يوجب تغليظا لم يكن فلأن يجوز أن ينسخ واجبا بما هو أغلظ أولى‏.‏

باب بيان ما يجوز به النسخ ومالايجوز

ويجوز نسخ الكتاب بالكتاب لقوله تعالى ‏"‏ ماننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ‏"‏‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في نسخ السنة بالسنة‏]‏

وكذلك يجوز نسخ السنة بالسنة كما يجوز نسخ الكتاب بالكتاب؛ الآحاد بالآحاد، والتواتر بالتواتر، والآحاد بالتواتر‏.‏فأما التواتر بالآحاد فلا يجوز لأن التواتر يوجب العلم فلا يجوز نسخه بما يوجب الظن‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في نسخ الفعل بالفعل‏]‏

ويجوز نسخ الفعل بالفعل لأنهما كالقول مع القول، وكذلك نسخ القول بالفعل، والفعل بالقول‏.‏ ومن الناس من قال لايجوز نسخ القول بالفعل‏.‏ والدليل على جوازه ان الفعل كالقول فى البيان فكما يجوز بالقول جاز بالفعل‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في نسخ السنة بالقرآن‏]‏

وأما نسخ السنة بالقرآن ففيه قولان‏:‏ أحدهما لايجوز لأن الله تعالى جعل السنة بيانا للقرآن فقال تعالى ‏"‏ لتبين للناس مانزل اليهم ‏"‏ فلو جوزنا نسخ السنة بالقرآن لجعلنا القرآن بيانا للسنة‏.‏ والثانى أنه يجوز‏.‏ وهو الصحيح لأن القرآن أقوى من السنة، فإذا جاز نسخ السنة بالسنة فلأن يجوز بالقرآن أولى‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في نسخ القرآن بالسنة‏]‏

وأما نسخ القرآن بالسنة فلايجوز من جهة السمع‏.‏ ومن أصحابنا من قال لايجوز من جهة السمع ولا من جهة العقل‏.‏ والأول أصح وقال أصحاب أبى حنيفة يجوز بالخبر المتواتر، وهو قول أكثر المتكلمين، وحكى ذلك عن أبى العباس بن سريج‏.‏ والدليل على ذلك من جهة العقل أنه ليس فى العقل ما يمنع جوازه، والدليل على أنه لايجوز من جهة السمع قولع تعالى ‏"‏ ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ‏"‏ والسنة ليست مثل القرآن ألا ترى أنه لايثاب على تلاوة السنة كما يثاب على تلاوة القرآن ولا إعجاز فى لفظه كما فى لفظ القرآن، فدل على أنه ليس مثله‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في النسخ بالإجماع‏]‏

وأما النسخ بالإجماع فلا يجوز لأن الإجماع حادث بعد موت النبى صلى الله عليه وسلم فلا يجوز أن ينسخ ما يتقرر فى شرعه، ولكن يستدل بالإجماع على النسخ، فإن الأمة لا تجتمع على الخطأ، فإذا رأيناهم قد أجمعوا على خلاف ما ورد به الشرع دلنا ذلك على أنه منسوخ‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في النسخ بدليل الخطاب‏]‏

ويجوز النسخ بدليل الخطاب لأنه معنى النطق على المذهب الصحيح‏.‏ ومن أصحابنا من جعله كالقياس، فعلى هذا لايجوز النسخ به، والأول أظهر‏.‏ وأما النسخ بفحوى الخطاب وهو التنبيه فلا يجوز لأنه قياس‏.‏ ومن أصحابنا من قال يجوز النسخ به لأنه كالنطق‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في النسخ بالقياس‏]‏

ولايجوز النسخ بالقياس‏.‏ وقال بعص أصحابنا يجوز بالجلى منه دون الخفى ومن الناس من قال يجوز بكل دليل يقع به البيان والتخصيص‏.‏ وهذا خطأ لأن القياس إنما يصح اذا لم يعارضه نص، فإذا كان هناك نص يخالف القياس لم يكن للقياس حكم فلايجوز النسخ به‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في النسخ بأدلة العقل‏]‏

ولايجوز النسخ بأدلة العقل لأن دليل العقل ضربان‏:‏ ضرب لايجوز أن يرد الشرع بخلافه، فلايتصور نسخ الشرع به‏.‏ وضرب يجوز أن يرد الشرع بخلافه، وهو البقاء على حكم الأصل، وذلك إنما يوجب العمل به عند عدم الشرع، فإذا وجد الشرع بطلت دلالته فلايجوز النسخ به‏.‏

باب مايعرف به الناسخ من المنسوخ

واعلم أن النسخ قد يعلم بتصريح النطق كقوله عز وجل ‏"‏ الآن خفف الله عنكم ‏"‏، وقد يعلم بإجماع وهو أن تجمع الأمة على خلاف ما ورد من الخبر فيستدل بذلك على أنه منسوخ لأن الأمة لا تجتمع على الخطأ، وقد يعلم بتأخير أحد اللفظين عن الآخر مع التعارض وذلك مثل ما روى أنه قال ‏"‏ الثيب بالثيب جلد مائة والرجم ‏"‏ ثم روى أنه رجم ماعزا ولم يجلده فدل على ان الجلد منسوخ‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في التأخير فى الأخبار‏]‏

ويعلم التأخير فى الأخبار بالنطق كقوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ‏"‏، ويعلم بإخبار الصحابة أن هذا نزل بعد هذا و ورد هذا بعد هذا كما روى ‏"‏ أنه كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار ‏"‏‏.‏ فأما اذا كان راوى أحد الخبرين أقدم صحبة والآخر أحدث صحبة كابن مسعود وابن عباس لم يجز نسخ خبر الأقدم بخبر الأحدث لأنهما عاشا الى ان مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيجوز أن يكون الأقدم سمع ما رواه بعد سماع الأحدث، ولأنه يجوز ان يكون الأحدث أرسله عمن قدمت صحبته ولاتكون روايته متأخرة عن رواية الأقدم فلايجوز النسخ مع الإحتمال‏.‏ وأما اذا كان راوى أحد الخبرين أسلم بعد موت الآخر أو بعد قصته مثل ماروى طلق بن على ان النبى صلى الله عليه وسلم سئل عن مس الذكر وهو يبنى مسجد المدينة فلم يوجب منه الوضوء وروى أبو هريرة إيحاب الوضوء وهو أسلم عام حنين بعد بناء المسجد، فيحتمل ان ينسخ حديث طلق بحديثه لأن الظاهر أنه لم يسمع مارواه إلا بعد هذه القصة فنسخه ويحتمل أن لاينسخ لجواز ان يكون قد سمعه قبل أن يسلم و أرسله عمن قدم اسلامه‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في قول الصحابى بنسخ الآية‏]‏

فأما اذا قال الصحابى هذه الآية منسوخة أو هذا الخبر منسوخ لم يقبل منه حتى يبين الناسخ فينظر فيه‏.‏ ومن الناس من قال ينسخ بخبره ويقلد فيه‏.‏ ومنهم من قال إن ذكر الناسخ لم يقلد بل ينظر فيه، وإن لم يذكر الناسخ نسخ وقلد فيه‏.‏ والدليل على انه لايقبل هو انه يجوز ان يكون قد اعتقد النسخ بطريق لا يوجب النسخ ولا يجوز ان يترك الحكم الثابت من غير نظر وبالله التوفيق‏.‏

باب الكلام فى نسخ بعض العبادة والزيادة فيها

اذا نسخ شيئا يتعلق بالعبادة لم يكن ذلك نسخا للعبادة‏.‏ ومن الناس من قال إن ذلك نسخ للعبادة‏.‏ ومن الناس من قال إن كان ذلك بعضا من العبادة كالركوع والسجود من الصلاة كان ذلك نسخا لها، وإن كان شيئا منفصلا منها كالطهارة لم يكن نسخا لها‏.‏ وقال بعض المتكلمين إن كان ذلك مما لايجزئ العبادة قبل النسخ به إلا به كان نسخا لها سواء كان جزءا منها أو منفصلا عنها، وإن كان مما تجزئ العبادة قبل النسخ مع عدمه كالوقوف على يمين الإمام ودعاء التوجه وما أشبهه لم يكن ذلك نسخا لها‏.‏ والدليل على أن ذلك ليس بنسخ أن الباقى من الجملة على ما كان عليه لم يزل فلم يجز أن يجعل منسوخا كما لو أمر بصوم وصلاة ثم نسخ أحدهما‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في زيادة العبادة‏]‏

فأما اذا زاد فى العبادة شيئا لم يكن ذلك نسخا‏.‏ وقال أهل العراق إن كانت الزيادة توجب تغيير الحكم المزيد عليه كإيجاب النية فى الوضوء والتغريب فى الحد كان نسخا، وإن كان ذلك فى نص القرآن لم يجز بخبر الواحد والقياس‏.‏ وقال بعض المتكلمين إن كانت الزيادة شرطا فى المزيد كزيادة ركعة فى الصلاة كانت نسخا، وإن لم تكن شرطا فى المزيد لم تكن نسخا‏.‏ والدليل على ماقلناه هو ان النسخ هو الرفع والإزالة، وهذا لم يرفع شيئا ولم يزله فلم يكن ذلك نسخا‏.‏

باب القول فى شرع من قبلنا وماثبت فى الشرع ولم يتصل بالأمة

اختلف أصحابنا فى شرع من قبلنا على ثلاثة أوجه‏:‏ فمنهم من قال ليس بشرع لنا‏.‏ ومنهم من قال هو شرع لنا إلا ماثبت نسخه‏.‏ ومنهم من قال شرع إبراهيم صلوات الله عليه وحده شرع لنا دون غيره‏.‏ ومنهم من قال شرع موسى شرع لنا إلا ما نسخ بشريعة عيسى صلوات الله عليه‏.‏ ومنهم من قال شريعة عيسى صلى الله عليه وسلم شرع لنا دون غيره‏.‏ وقال الشيخ الإمام رحمه الله ونور ضريحه‏:‏ والذى نصرت فى التبصرة أن الجميع شرع لنا إلا ماثبت نسخه، والذى يصح الآن عندى أن شيئا من ذلك ليس بشرع لنا‏.‏ والدليل عليه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرجع فى شيء من الأحكام ولا أحد من الصحابة الى شيء من كتبهم و لا الى خبر من أسلم منهم، ولو كان ذلك شرعا لنا لبحثوا عنه ورجعوا إليه، ولما لم يفعلوا ذلك دل ذلك على ماقلناه‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في ورود الشرع بما لم يتصل بالأمة‏]‏

ما ورد به الشرع أو نزل به الوحى على الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يتصل بالامة من حكم مبتدأ أو نسخ أمر كانوا عليه فهل يثبت ذلك فى حق الأمة‏؟‏ فيه وجهان‏:‏ من أصحابنا من قال انه يثبت فى حق الأمة، فإن كانت فى عبادة وجب القضاء‏.‏ ومنهم من قال لايجب القضاء‏.‏ وهو الصحيح لأن القبلة قد حولت الى الكعبة وأهل قباء يصلون الى بيت المقدس فأخبروا بذلك وهم فى الصلاة فاستداروا ولم يؤمروا بالإعادة، فلو كان قد ثبت فى حقهم ذلك لأمروا بالقضاء‏.‏

باب القول فى حروف المعانى

واعلم ان الكلام فى هذا الباب كلام فى باب من أبواب النحو غير أنه لما كثر احتياج الفقهاء اليه ذكرها الأصوليون، وأنا أشير الى ما يكثر من ذلك ان شاء الله تعالى، فمن ذلك من ويدخل ذلك فى الإستفهام والشرط والجزاء والخبر تقول فى الإستفهام‏:‏ من عندك ومن جاءك، وتقول فى الشرط والجزاء‏:‏ من جاءنى أكرمته ومن عصانى عاقبته، وتقول فى الخبر‏:‏ جاءنى من أحبه‏.‏ ويختص بذلك من يعقل دون ما لايعقل‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في لفظ أي‏]‏

و أى تدخل فى الإستفهام والشرط والجزاء والخبر تقول فى الإستفهام أى شيء تحبه و أى شيء عندك، وفى الشرط والجزاء تقول‏:‏ أى رجل جاءنى أكرمته، وفى الخبر‏:‏ أيهم قام ضربته‏.‏ ويستعمل ذلك فيمن يعقل ومالايعقل‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في لفظ ما‏]‏

وما تدخل للنفى والتعجب والإستفهام، تقول فى النفى‏:‏ ما رأيت زيدا، وفى التعجب تقول‏:‏ ما أحسن زيدا، وفى الإستفهام‏:‏ ما عندك، ويدخل فى الإستفهام عما لايعقل‏.‏ وقد قيل إنه يدخل أيضا لما يعقل كقوله تعالى ‏"‏ والسماء وما بناها ‏"‏‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في من‏]‏

ومن تدخل لابتداء الغاية والتبعيض والصلة، تقول فى ابتداء الغاية‏:‏ سرت من البصرة وورد الكتاب من فلان، وفى التبعيض تقول‏:‏ خذ من هذه الدراهم و أخذت من علم فلان، وفى الصلة تقول‏:‏ ماجاءنى من أحد وما بالربع من أحد‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في إلى‏]‏

والى تدخل لانتهاء الغاية كقولك‏:‏ ركبت الى زيد‏.‏ وقد تستعمل بمعنى مع إلا انه لايحمل على ذلك الا بدليل كقوله عز وجل ‏"‏ وأيديكم الى المرافق ‏"‏ والمراد به مع المرافق‏.‏ وزعم قوم من أصحاب أبى حنيفة انه يستعمل فى معنى مع على سبيل الحقيقة‏.‏ وهذا خطأ لأنه لاخلاف انه لو قال‏:‏ لفلان على من درهم الى عشرة لم يلزمه الدرهم العاشر، وكذلك اذا قال لامرأته أنت طالق من من واحد الى ثلاث لم تقع الطلقة الثالثة، فدل على انه للغاية‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في الواو‏]‏

والواو للجمع والتشريك فى العطف‏.‏ وقال بعض أصحابنا هى للترتيب، وهذا خطأ لأنه لو كان للترتيب لما جاز أن يستعمل فيه لفظ المقارنة وهو ان تقول‏:‏ جاءنى زيد وعمرو معا كما لايجوز ان يقال‏:‏ جاءنى زيد ثم عمرو معا‏.‏ وتدخل بمعنى رب فى ابتداء الكلام كقوله‏:‏ ومهمه مغبرة أرجاؤه أى ورب مهمه، وفى القسم تقوم مقام الباء تقول والله بمعنى بالله‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في الفاء‏]‏

والفاء للتعقيب والترتيب تقول‏:‏جاءنى زيد فعمرو ومعناه‏:‏جاءنى عمر عقيب زيد، واذا دخلت السوق فاشتر كذا يقتضى ذلك عقيب الدخول‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في ثم‏]‏

وثم للترتيب مع المهلة والتراخى تقول‏:‏ جاءنى زيد ثم عمر ويقتضى ان يكون بعده بفصل‏.‏‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في أم‏]‏

وأم للإستفهام تقول‏:‏ أكلت أم لا‏.‏ وتدخل بمعنى أو تقول‏:‏ سواء أحسنت أم لم تحسن‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في أو‏]‏

وأو تدخل فى الشك للخبر تقول‏:‏ كلمنى زيد أو عمرو‏.‏ وتدخل فى التخيير فى الأمر كقوله تعالى ‏"‏ اطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم ‏"‏ وقال بعضهم فى النهى تدخل للجمع‏.‏ والأول هو الأصح لأن النهى أمر بالترك كالأمر أمر بالفعل، فإذا لم يقتض الجمع فى الأمر لم يقتض فى النهى‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في ‏]‏

والباء تدخل للإلصاق كقولك‏:‏ مررت بزيد وكتبت بالقلم‏.‏ وتدخل للتبعيض كقوله‏:‏ مسحت بالرأس‏.‏ وقال أصحاب أبى حنيفة رحمه الله لاتدخل للتبعيض‏.‏ وهذا غير صحيح لأنهم أجمعوا على الفرق بين قوله‏:‏ أخذت قميصه وبين قوله‏:‏ أخذت بقميصه، فعقلوا من الأول أخذ جميعه ومن الثانى الأخذ ببعضه، فدل على ماقلناه‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في اللام‏]‏

واللام تقتضى التمليك‏.‏ وقال بعض أصحاب أبى حنيفة رحمه الله تقتضى الإختصاص دون الملك‏.‏ وهذا غير صحيح لأنه لاخلاف أنه لو قال‏:‏ هذه الدار لزيد اقتضى انها ملكه، فدل على أن ذلك مقتضاه‏.‏ وتدخل أيضا للتعليل كقوله عز وجل ‏"‏ لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ‏"‏‏.‏ وتدخل للغاية فيه والصيرورة كقوله عز وجل ‏"‏ فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا ‏"‏‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في على‏]‏

وعلى للايجاب كقوله‏:‏ لفلان على كذا، ومعناه واجب‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في في‏]‏

وفى للظرف تقول‏:‏ على تمر فى جراب، معناه ان ذلك فيه‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في متى‏]‏

ومتى ظرف زمان تقول‏:‏ متى رأيته‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في أين‏]‏

وأين ظرف مكان تقول‏:‏ أين جلست‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في إذ‏]‏

واذ واذا ظرف للزمان إلا ان اذ لما مضى تقول‏:‏ أنت طالق إذ دخلت الدار معناه فى الماض، واذا للمستقبل تقول‏:‏ أنت طالق اذا دخلت الدار ومعناه فى المستقبل‏.‏

‏[‏ قوله للمستقبل‏]‏ أى غالبا وقد تجيىء للماضى نحو قوله تعالى ‏"‏ واذا رأوا تجارة أو لهوا ‏"‏ الآية فإنها نزلت بعد الرؤية والإنفضاض، وللحال نحو ‏"‏ والليل اذا يغشى ‏"‏ فإن الغشيان مقارن لليل‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في حتى‏]‏

و حتى للغاية كقوله تعالى ‏"‏ حتى مطلع الفجر ‏"‏‏.‏ وتدخل للعطف كالواو إلا انه لايعطف به إلا على وجه التعظيم والتحقير تقول فى التعظيم‏:‏ جاءنى الناس حتى السلطان، وتقول فى التحقير‏:‏ كلمنى كل أحد حتى العبيد‏.‏ وتدخل ليبتدأ الكلام بعده كقولك‏:‏ قام الناس حتى زيد قائم‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في إنما‏]‏

وإنما للحصر، وهو جمع الشيء فيما أشير اليه ونفيه عما سواه تقول‏:‏ إنما فى الدار زيد أى ليس فيها غيره وإنما الله واحد أي لا إله الا واحد‏.‏

باب الكلام فى أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم

وجملته ان الأفعال لا تخلو إما ان تكون قربة أو ليست بقربة‏.‏ فإن لم تكن قربة كالأكل والشرب واللبس والقيام والقعود فهو يدل على الإباحة لأنه لا يقر على الحرام‏.‏ فإن كان قربة لم يخل من ثلاثة أوجه‏:‏ أحدها ان يفعل بيانا لغيره فحكمه مأخوذ من المبين؛ فإن كان المبين واجبا كان البيان واجبا، وإن كان ندبا كان البيان ندبا‏.‏ ويعرف بأنه بيان لذلك بأن يصرح بأن ذلك بيان لذلك أو يعلم فى القرآن آية مجملة تفتقر الى البيان ولم يظهر بيانها بالقول فيعلم ان هذا الفعل بيان لها‏.‏ والثانى ان يفعل امتثالا لأمر فيعتبر أيضا بالأمر؛ فإن كان على الوجوب علمنا انه فعل واجبا، وان كان على الندب علمنا انه فعل ندبا‏.‏ والثالث ان يفعل ابتداء من غير سبب، فاختلف أصحابنا فيه على ثلاثة أوجه‏:‏ أحدها انه على الوجوب إلا ان يدل الدليل على غيره، وهو قول أبى العباس وأبى سعيد، وهو مذهب مالك واكثر أهل العراق‏.‏ والثانى انه على الندب إلا ان يدل الدليل على الوجوب‏.‏ والثالث انه على الوقف، فلا يحمل على الوجوب ولا على الندب الا بدليل، وهو قول أبى بكر الصيرفى، وهو الأصح‏.‏والدليل عليه أن احتمال الفعل للوجوب كاحتماله للندب فوجب التوقف فيه حتى يدل الدليل‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم‏]‏

اذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا وعرف انه فعله على وجه الوجوب أو على وجه الندب كان ذلك شرعا لنا إلا ان يدل الدليل على تخصيصه بذلك‏.‏ وقال أبو بكر الدقاق لايكون ذلك شرعا لنا الا بدليل‏.‏ والدليل على فساد ذلك قوله عز وجل‏:‏ ‏"‏ لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة ‏"‏ ولأن الصحابة كانوا يرجعون فيما أشكل عليهم الى أفعاله فيقتدون به فيها، فدل على انه شرع فى حق الجميع‏.‏

فصل ثان‏:‏ ‏[‏في فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم‏]‏

ويقع بالفعل جميع أنواع البيان من بيان المجمل وتخصيص العموم وتأويل الظاهر والنسخ‏.‏ فأما بيان المجمل فهو كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة والحج، فكان فى فعله بيان المجمل الذى فى القرآن‏.‏ وأما تخصيص العموم فكما روى انه صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس ثم روى انه صلى الله عليه وسلم صلى بعد العصر صلاة لها سبب فكان فى ذلك تخصيص عموم النهى‏.‏ وأما تأويل الظاهر فكما روى عنه صلى الله عليه وسلم انه نهى عن القود فى الطرف قبل الإندمال، فيعلم ان المراد بالنهى الكراهية دون التحريم‏.‏ وأما النسخ فكما روى عنه صلى الله عليه وسلم انه قال ‏"‏ البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلدة مائة والرجم ‏"‏ ثم روى انه صلى الله عليه وسلم رجم ماعزا ولم يجلده، فدل على ان ذلك منسوخ‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في تعارض قول وفعل‏]‏

وإن تعارض قول وفعل فى البيان ففيه أوجه‏:‏ من أصحابنا من قال القول أولى‏.‏ ومنهم من قال الفعل أولى‏.‏ ومنهم من قال هما سواء‏.‏ والأول أصح لأن الأصل فى البيان هو القول، ألا تراه يتعدى بصيغته والفعل لايتعدى إلا بدليل فكان القول أولى‏.‏

باب القول فى الإقرار والسكت عن الحكم

والإقرار أن يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا فلاينكره أو يرى فعلا فلاينكره مع عدم الموانع، فيدل ذلك على جوازه مثل ماروى انه سمع رجلا يقول الرجل يجد مع امرأته رجلا إن قتل قتلتموه وإن تكلم جلدتموه وإن سكت سكت على غيظ أم كيف يصنع‏؟‏ ولم ينكر عليه فدل ذلك على انه اذا قتل قتل واذا قذف جلد، وكما روى انه صلى الله عليه وسلم رأى قيسا يصلى ركعتى الفجر بعد الصبح فلم ينكر عليه فدل على جواز ما لها سبب بعد الصبح لأنه لا يجوز ان يرى منكرا فلاينكره مع القدرة عليه لأن فى ترك الإنكار إيهام ان ذلك جائز‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في ما فعل فى زمانه صلى الله عليه وسلم فلم ينكره‏]‏

وأما ما فعل فى زمانه صلى الله عليه وسلم فلم ينكره فإنه ينظر فيه؛ فإن كان ذلك مما لايجوز ان يخفى عليه من طريق العادة كان بمنزلة ما لو رآه فلم ينكره، وذلك مثل ماروى ان معاذا كان يصلى العشاء مع النبى صلى الله عليه وسلم ثم يأتى قومه فى بنى سلمة فصلى بهم هى له تطوع ولهم فريضة العشاء، فيدل ذلك على جواز الإفتراض خلف المتنفل، فإن مثل ذلك لايجوز ان يخفى عليه، فإن كان لايجوز لأنكر‏.‏وأما ما يجوز خفاؤه عليه وذلك مثل ماروى عن بعض الأنصار انه قال كنا نجامع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونكسل ولانغتسل فهذا لايدل على الحكم لأن ذلك يفعل سرا ويجوز ان لايعلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم لايغتسلون لأن الأصل ان لايجب الغسل فلا يحتج به فى إسقاط الغسل، ولهذا قال عمر كرم الله وجهه حين روى له ذلك أو علم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقركم عليه فقالوا لا فقال فمه‏.‏