فصل: تفسير الآيات (1- 11):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (16- 20):

{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) أَمْ مَنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20)}
قرأ عاصم وحمزة والكسائي وابن عامر: {أأمنتم} بهمزتين مخففتين دون مد، وقرأ أبو عمرو ونافع: {النشور آمنتم} بمد وهمزة، وقرأ ابن كثير: {النشور وأمنتم} ببدل الهمزة واواً لكونها بعد ضمة وهو بعد الواو. وقوله تعالى: {من في السماء} جار على عرف تلقي البشر أوامر الله تعالى، ونزول القدر بحوادثه وخسف الأرض: أن تذهب سفلاً، و{تمور} معناه: تذهب وتتموج كما يذهب التراب الموار وكما يذهب الدم الموار. ومنه قول الأعرابي: وغادرت التراب موراً، والحاصب: البرد وما جرى مجراه لأنه في اللغة الريح ترمي بالحصباء، ومنه قول الفرزدق: [البسيط]
مستقبلين شمال الريح ترجمهم ** بحاصب كنديف القطن منشور

وقرأ جمهور السبعة: {فستعلمون} بالتاء، وقرأ الكسائي وحده: {فسيعلمون} بالياء، وقرأ السبعة وغيرهم: {نذير}بغير ياء على طريقهم في الفواصل المشبهة بالقوافي، وقرأ نافع في رواية ورش وحده: {نذيري}بالياء على الأصل، وكذلك في نكيري والنكير: مصدر بمعنى الإنكار، والنذير كذلك. ومنه قول حسان بن ثابت: [الوافر]
فأنذر مثلها نصحاً قريشاً ** من الرحمن ان قلبت نذيري

ثم أحال على لاعبرة في أمر {الطير}، وما أحكم من خلقتها وذلك بين عجز الأصنام والأوثان عنه، و: {صافات} جمع صاقة، وهي التي تبسط جناحيها وتصفهما حتى كأنها ساكنة، وقبض الجناح ضمه إلى الجنة ومنه قول أبي خراش: [الطويل]
يحث الجناح بالتبسط والقبض

وهاتان حالان للطائر يستريح من إحداهما للأخرى. وقوله تعالى: {ويقبضن} عطف المضارع على اسم الفاعل وذلك جائز كما عطف اسم الفاعل على المضارع في قول الشاعر: [الرجز]
بات يغشِّيها بعضب باتر ** يقصد في أسوقها وجائر

وقرأ طلحة بن مصرف: {أمَن}بتخفيف الميم في هذه، وقرأ التي بعدها مثقلة كالجماعة والجند أعوان الرجل على مذاهبه، وقوله تعالى: {إن الكافرون إلا في غرور} خطاب لمحمد بعد تقرير، قل لم يا محمد {أمن هذا}.

.تفسير الآيات (21- 25):

{أَمْ مَنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمْ مَنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25)}
هذا أيضاً توقيف على أمر لا مدخل للأصنام فيه، والإشارة بالرزق إلى المطر، لأنه عظم الأرزاق، ثم أخبر تعالى عنهم أنهم: {لجوا} وتمادوا في التمنع عن طاعة الله، وهو العتو في نفور، أي بعد عن الحق بسرعة ومبادرة، يقال: نفر عن الأمر نفوراً، وإلى الأمر نفيراً، ونفرت الدابة نفاراً.
واختلف أهل التأويل في سبب قوله: {أفمن يمشي مكباً} الآية، فقال جماعة من رواة الأسباب: نزلت مثلاً لأبي جهل بن هشام وحمزة بن عبد المطلب، وقال ابن عباس وابن الكلبي وغيره: نزلت مثلا لأبي جهل بن هشام ومحمد صلى الله عليه وسلم، وقال ابن عباس أيضاً ومجاهد والضحاك: نزلت مثالاً للمؤمنين والكافرين على العموم، وقال قتادة: نزلت مخبرة عن حال القيامة، وإن الكفار يمشون فيها على وجوههم، والمؤمنون يمشون على استقامة، وقيل للنبي: كيف يمشي الكافر على وجهه؟ قال: «إن الذي أمشاه في الدنيا على رجله قادر على أن يمشيه في الآخرة على وجهه».
قال القاضي أبو محمد: فوقف الكفار على هاتين الحالتين حينئذ، ففي الأقوال الثلاثة الأول المشي مجاز يتخيل، وفي القول الرابع هو حقيقة يقع يوم القيامة ويقال: أكب الرجل، إذا رد وجهه إلى الأرض، وكبه: غبره، قال عليه السلام: «وهل يكب الناس في النار إلا حصائد ألسنتهم»، فهذا الفعل خلاف للباب: أفعل لا يتعدى وفعل يتعدى، ونظيره قشعت الريح فأقشع، و{أهدى} في هذه الآية أفعل من الهدى، وقرأ طلحة: {أمَن يمشي} بتخفيف الميم، وإفراد {السمع} لأنه اسم جنس يقع للكثير و{قليلاً} نصب بفعل مضمر، و{ما}: مصدرية، وهي في موضع رفع، وقوله: {قليلاً ما تشكرون} يقتضي ظاهره أنهم يشكرون قليلاً، فهذا إما أن يريد به ما عسى أن يكون للكافر من شكر وهو قليل غير نافع، وإما أن يريد جملة فعبر بالقلة كما تقول العرب: هذه أرض قل ما تنبت كذا، وهي لا تنبته بتة، ومن شكر رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه النعمة أنه كان يقول في سجوده: «سجد وجهي للذي خلقه وشق سمعه وبصره»، و{ذرأكم} معناه: بثكم والحشر المشار إليه، هو بعث القيامة، وإليه أشار بقوله: {هذا الوعد} فأخبر تعالى أنهم يستعجلون أمر القيامة، ويوقفون على الصدق، في الإخبار بذلك.

.تفسير الآيات (26- 30):

{قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آَمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)}
أمر الله تعالى نبيه أن يخبرهم بأن علم القيامة والوعد الصدق هو مما تفرد الله به، وأن محمداً إنما هو نذير يعلم ما علم ويخبر بما أمر أن يخبر به، وقوله: {فلما رأوه} الضمير للعذاب الذي تضمنه الوعد، وهذه حكاية حال تأتي المعنى: {فإذا رأوه} و: {زلفة} معناه قريباً. قال الحسن: عياناً. وقال ابن زيد: حاضراً، و: {سيئت} معناه: ظهر فيها السوء، وقرأ جمهور الناس: {سِيئت} بكسر السين، وقرأ أبو جعفر الحسن ونافع أيضاً وابن كثير وأبو رجاء وشيبة وابن وثاب وطلحة: بالإشمام بين الضم والكسر. وقرأ جمهور الناس ونافع بخلاف عنه: {تدّعون} بفتح الدال وشدها، على وزن: تفتعلون، أي تتداعون أمره بينكم، وقال الحسن: يدّعون أنه لا جنة ولا نار، وقرأ أبو رجاء والحسن والضحاك وقتادة وابن يسار وسلام: {يدْعون} بسكون الدال على معنى: يستعجلون، كقولهم: عجل لنا قطنا، وأمطر علينا حجارة وغير ذلك، وروي في تأويل قوله: {قل أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي أو رحمنا} الآية، أنهم كانوا يدعون على محمد وأصحابه بالهلاك، وقيل بل كانوا يترامون بينهم بأن يهلكوه بالقتل ونحوه فقال الله تعالى: قل لهم أرأيتم إن كان هذا الذي تريدون بنا وتم ذلك فينا، أو أرأيتم إن رحمنا الله فنصرنا ولم يهلكنا من يجيركم من العذاب الذي يوجبه كفركم على كل حال؟ وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص، وعن عاصم: {إن أهلكنيَ الله ومن معيَ} بنصب الياءين، وأسكن الكسائي وعاصم في رواية أبي بكر الياء في: {معي} وقرأ حمزة: بإسكان الياءين، وروى المسيب عن نافع أنه أسكن ياء: {اهلكني}، قال أبو علي التحريك في الياءين حسن وهو الأصل، والإسكان كراهية الحركة في حرف اللين، يتجانس ذلك، وقرأ الكسائي وحده: {فسيعلمون} بالياء، وقرأ الباقون بالتاء على المخاطبة، ثم وقفهم تعالى على مياههم التي يعيشون منها إن غادرت أي ذهبت في الأرض، ومن يجيئهم بماء كثير واف، والغور: مصدر يوصف به على معنى المبالغة، ومنه قول الأعرابي: وغادرت التراب مورا والماء غورا.
والمعين: فعيل من معنى الماء إذا كثر أو مفعول من العين، أي جار كالعين، أصله معيون، وقيل هو من العين، لكن من حيث يرى بعين الإنسان، لا من حيث يشبه بالعين الجارية، وقال ابن عباس: {معين} عذب وعنه في كتاب الثعلبي: {معين} جار، وفي كتاب النقاش: {معين} ظاهر، وقال بعض المفسرين وابن الكلبي: أشير في هذا الماء إلى بئر زمزم، وبئر ميمون، ويشبه أن تكون هاتان عظم ماء مكة، وإلا فكانت فيها بئار كثيرة كخم والجفر وغيرهما. والله المستعان.

.سورة القلم:

.تفسير الآيات (1- 11):

{ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11)}
{ن} حرف مقطع في قول الجمهور من المفسرين، فيدخله من الخلاف ما يدخل أوائل السور، ويختص هذا الموضع من الأقوال بأن قال مجاهد وابن عباس: نون، اسم الحوت الأعظم الذي عليه الأرضون السبع فيما يروى. وقال ابن عباس والحسن وقتادة والضحاك: النون اسم للدواة، فهذا إما أن يكون لغة لبعض العرب، أو تكون لفظة أعجمية عربت، قال الشاعر: [الوافر]
إذا ما الشوق برح بي إليهم ** ألقت النون بالدمع السجوم

فمن قال إنه اسم الحوت جعل {القلم} الذي خلقه الله تعالى وأمره فكتب الكائنات وجعل الضمير في {يسطرون} للملائكة، ومن قال بأن نون اسم للدواة، جعل {القلم} هذا المتعارف بأيدي الناس. نص ذلك ابن عباس وجعل الضمير في {يسطرون} للناس، فجاء القسم على هذا بمجموع أم الكتاب الذي هو قوام للعلوم والمعارف وأمور الدنيا والآخرة، فإن القلم أخ اللسان، ومطية الفطنة، ونعمة من الله عامة. وروى معاوية بن قرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ن} لوح من نور، وقال ابن عباس وغيره: هو حرف من حروف الرحمن، وقالوا إنه تقطع في القرآن: {الر} [يونس: 1، هود: 1، يوسف: 1، إبراهيم: 1، الحجر: 1] و{حم} [غافر: 1، فصلت: 1، الشورى: 1، الزخرف: 1، الدخان: 1، الجاثية: 1، الأحقاف: 1]، و{ن}، وقرأ عيسى بن عمر بخلاف {نونَ} بالنصب، والمعنى: اذكر نونَ، وهذا يقوى مع أن يكون اسماً للسورة، فهو مؤنث سمي به مؤنث، ففيه تأنيث وتعريف، ولذلك لم ينصرف، وانصرف نوح، لأن الخفة بكونه على ثلاثة أحرف غلبت على العجمة، وقرأ ابن عباس وابن أبي إسحاق والحسن: {نونِ} بكسر النون، وهذا كما تقول في القسم بالله، وكما تقول: جبر وقيل كسرت لاجتماع الساكنين، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وحمزة وحفص عن عاصم: {نونْ} بسكون النون، وهذا على أنه حرف منفصل فحقه الوقوف عليه، وقرأ قوم، منهم الكسائي: {ن والقلم} بالإدغام دون غنة، وقرأ آخرون بالإدغام وبغنة، وقرأ الكسائي ويعقوب عن نافع وأبو بكر عن عاصم بالإخفاء بين الإدغام والإظهار. و{يسطرون} معناه: يكتبون سطوراً، فإن أراد الملائكة فهو كتب الأعمال وما يؤمرون به، وإن أراد بني آدم، فهي الكتب المنزلة والعلوم وما جرى مجراها، وقوله: {ما أنت بنعمة ربك بمجنون} هو جواب القسم و{ما} هنا عاملة لها اسم وخبر، وكذلك هي حيث دخلت الباء في الخبر، وقوله: {بنعمة ربك} اعتراض، كما يقول الإنسان: أنت بحمد الله فاضل.
وسبب هذه الآية، أن قريشاً رمت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنون، وهو ستر العقول، بمعنى أن كلامه خطأ ككلام المجنون، فنفى الله تعالى ذلك عنه وأخبره بأن له الأجر، وأنه على الخلق العظيم، تشريفاً له ومدحاً.
واختلف الناس في معنى: {ممنون} فقال أكثر المفسرين هو الواهن المنقطع، يقال: حبل منين، أي ضعيف. وقال آخرون: معناه {غير ممنون} عليك أي لا يكدره من به. وقال مجاهد: معناه غير مصرد ولا محسوب محصل أي بغير حساب، وسئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: خلقه القرآن أدبه وأوامره، وقال علي رضي الله عنه: الخلق العظيم أدب القرآن، وعبر ابن عباس عن الخلق بالدين والشرع وذلك لا محالة رأس الخلق ووكيده، أما أن الظاهر من الآية أن الخلق هي التي تضاد مقصد الكفار في قولهم مجنون، أي غير محصل لما يقول، وإنما مدحه تعالى بكرم السجية وبراعة القريحة والملكة الجميلة وجودة الضرائب، ومنه قوله عليه السلام: «بعثت لأتمم مكارم الأخلاق». وقال جنيد: سمي خلقه عظيماً، إذ لم تكن له همة سوى الله تعالى، عاشر الخلق بخلقه وزايلهم بقلبه، فكان ظاهره مع الخلق وباطنه مع الحق، وفي وصية بعض الحكماء عليك بالخلق مع الخلق وبالصدق مع الحق، وحسن الخلق خير كله. وقال صلى الله عليه وسلم: «إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة، قائم الليل وصائم النهار». وقال: «ما شيء أثقل في الميزان من خلق حسن»، وقال: «أحبكم إلى الله أحسنكم أخلاقاً» والعدل والإحسان والعفو والصلة من الخلق. وقوله تعالى: {فستبصر} أي أنت وأمتك، و{يبصرون} أي هم. واختلف الناس في معنى قوله: {بأيكم المفتون}. فقال أبو عثمان المازني: الكلام تام في قوله: {يبصرون}، ثم استأنف قوله: {بأيكم المفتون}، وقال الأخفش بل الإبصار عامل في الجملة المستفهم عنها في معناها، وأما الباء فقال أبو عبيدة معمر وقتادة: هي زائدة، والمعنى: أيكم المفتون. وقال الحسن والضحاك: {المفتون} بمعنى الفتنة، كما قالوا: ما له معقول، أي عقل، وكما قالوا: اقبل ميسوره ودع معسوره، فالمعنى: {بأيكم} هي الفتنة والفساد الذي سموه جنوناً، وقال آخرون: {بأيكم} فتن {المفتون} وقال الأخفش، المعنى: {بأيكم} فتنة {المفتون}، ثم حذف المضاف وأقيم ما أضيف إليه مقامه، وقال مجاهد والفراء: الياء بمعنى: في أي، في أي فريق منكم النوع المفتون.
قال القاضي أبو محمد: وهذا قول حسن قليل التكلف، ولا نقول إن حرفاً بمعنى حرف بل نقول إن هذا المعنى يتوصل إليه ب في وبالباء أيضاً، وقرأ ابن عبلة {في أيكم المفتون}. وقوله تعالى: {إن ربك هو أعلم بمن ضل} الآية، وعيد، والعامل في قوله: {بمن ضل}، {أعلم} وقد قواه حرف الجر فلا يحتاج إلى إضمار فعل.
وقوله تعالى: {فلا تطع المكذبين} يريد قريشاً، وذلك أنهم قالوا في بعض الأوقات لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لو عبدت آلهتنا وعظمتها لعبدنا إلهك وعظمناه، وودوا أن يداهنهم النبي صلى الله عليه وسلم ويميل إلى ما قالوا فيميلوا هم أيضاً إلى قوله ودينه، والادهان: الملاينة فيما لا يحل، والمداراة الملاينة فيما يحل وقوله تعالى: {فيذهبون} معطوف وليس بجواب، لأنه كان ينصب. والحلاف: المردد لحلفه الذي قد كثر منه، والمهين: الضعيف الرأي والعقل، قاله مجاهد، وهو من مهن إذا ضعف. الميم فاء الفعل، وقال ابن عباس المهين: الكذاب، والهماز: الذي يقع في الناس، وأصل الهمز في اللغة: الضرب طعناً باليد أو بالعصا أو نحوه، ثم استعير للذي ينال بلسانه، قال المنذر بن سعيد: وبعينه وإشارته، وسميت الهمزة، لأن في النطق بها حدة، وعجلة، فأشبهت الهمز باليد. وقيل لبعض العرب: أتهمز الفأرة؟ قال: الهرة تهمزها، وقيل لآخر أتهمز إسرائيل: فقال: إني إذاً لرجل سوء. والنميم: مصدر كالنميمة. وهو نقل ما يسمع مما يسوء ويحرش النفوس. وروى حذيفة أن النبي قال: «لا يدخل الجنة قتات»، وهو النمام، وذهب كثير من المفسرين إلى أن هذه الأوصاف هي أجناس لم يرد بها رجل بعينه، وقالت طائفة: بل نزلت في معين، واختلف فيه، فقال بعضها: هو الوليد بن المغيرة، ويؤيد ذلك غناه، وأنه أشهرهم بالمال والبنين، وقال الشعبي وغيره: هو الأخنس بن شريق، ويؤيد ذلك أنه كانت له هنة في حلقه كزنمة الشاة، وأيضاً فكان من ثقيف ملصقاً في قريش، وقال ابن عباس في كتاب الثعلبي: هو أبو جهل، وذكر النقاش: عتبة بن ربيعة، وقال مجاهد: هو الأسود بن عبد يغوث، وظاهر اللفظ عموم من هذه صفته، والمخاطبة بهذا المعنى مستمرة باقي الزمن، لاسيما لولاة الأمور.