فصل: تفسير الآيات (1- 5):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.سورة غافر:

.تفسير الآيات (1- 5):

{حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) مَا يُجَادِلُ فِي آَيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5)}
تقدم القول في الحروف المقطعة في أوائل السور، وتلك الأقوال كلها تترتب في قوله: {حم} ويختص هذا الموضع بقول آخر، قاله الضحاك. والكسائي: إن {حم} هجاء حُمَّ بضم الحاء وشد الميم المفتوحة، كأنه يقول: حُمَّ الأمر ووقع تنزيل الكتاب من الله. وقال ابن عباس: {الر} [يونس: 1، هود: 1، إبراهيم: 1، يوسف: 1، الحجر: 1] و: {حم} [غافر: 1، فصلت: 1، الشورى: 1، الزخرف: 1، الدخان: 1، الجاثية: 1، الأحقاف: 1] و: {ن} [القلم: 1] هي حروف الرحمن مقطعة في سور، وقال القرظي أقسم الله بحلمه وملكه. وسأل أعرابي النبي صلى الله عليه وسلم عن: {حم} ما هو؟ فقال بدء أسماء وفواتح سور.
وقرأ ابن كثير: فتح الحاء، وروي عن أبي عمرو: كسر الحاء على الإمالة، وروي عن نافع: الفتح، وروي عنه: الوسط بينهما، وكذلك اختلف عن عاصم، وروي عن عيسى كسر الحاء على الإمالة، وقرأ جمهور الناس: {حَمْ} بفتح الحاء وسكون الميم، وقرأ عيسى بن عمر أيضاً {حم} بفتح الحاء وفتح الميم الأخيرة في النطق، ولذلك وجهان: أحدهما التحريك للالتقاء مع الياء الساكنة، والآخر: حركة إعراب، وذلك نصب بفعل مقدر تقديره: اقرأ حم، وهذا على أن تجري مجرى الأسماء، الحجة منه قول شريح بن أوفى العبسي: [الطويل]
يذكرني حم والرمح شاجر ** فهلا تلا حم قبل التقدم

وقول الكميت: [الطويل]
وجدنا لكم في آل حم آية ** تأولها منا تقيّ ومعرب

وقرأ أبو السمال: {حم} بفتح الحاء وكسر الميم الآخرة، وذلك لالتقاء الساكنين.
و: {حم} آية: و: {تنزيل} رفع بالابتداء، والخبر في قوله: {من الله} وعلى القول بأن {حم} إشارة إلى حروف المعجم يكون قوله: {حم} خبر ابتداء: و: {الكتاب} القرآن.
وقوله: {غافر} بدل من المكتوبة، وإن أردت ب {غافر} المضي، أي غفرانه في الدنيا وقضاؤه بالغفران وستره على المذنبين، فيجوز أن يكون {غافر} صفة، لأن إضافته إلى المعرفة تكون محضة، وهذا مترجح جداً، وإذا أردت ب {غافر} الاستقبال أو غفرانه يوم القيامة فالإضافة غير محضة، و: {غافر} نكرة فلا يكون نعتاً، لأن المعرفة لا تنعت بالنكرة، وفي هذا نظر. وقال الزجاج: {غافر} {وقابل} صفتان. و: {شديد العقاب} بدل، و: {الذنب} اسم الجنس. وأما {التوب} فيحتمل أن يكون مصدراً كالعوم والنوم فيكون اسم جنس، ويحتمل أن يكون جمع توبة كتمرة وتمر، وساعة وساع. وقبول التوبة من الكافر مقطوع لإخبار الله تعالى، وقبول التوبة من العاصي في وجوبها قولان لأهل السنة، وحكى الطبري عن أبي بكر بن عياش أن رجلاً جاء إلى عمر بن الخطاب فقال: إني قتلت، فهل لي من توبة؟ فقال نعم، اعمل ولا تيأس، ثم قرأ هذه الآيات إلى {قابل التوب}.
و{شديد العقاب}: صفة، وقيل بدل. ثم عقب هذا الوعيد بوعد ثان في قوله: {ذي الطول} أي ذي التطول والمن بكل نعمة فلا خير إلا منه، فترتب في الآية بين وعدين، وهكذا رحمة الله تغلب غضبه.
قال القاضي أبو محمد: سمعت هذه النزعة من أبي رضي الله عنه، وهي نحو من قول عمر رضي الله عنه: لن يغلب عسر يسريين يريد في قوله تعالى {فإن مع العسر يسراً، إن مع العسر يسراً} [الشرح: 5- 6].
و: {الطول} الإنعام، ومنه: حليت بطائل. وحكى الثعلبي عن أهل الإشارة أنه تعالى: {غافر الذنب} فضلاً، {وقابل التوب} وعداً، و{شديد العقاب} عدلاً. وقال ابن عباس: {الطول}: السعة والغنى، ثم صدع بالتوحيد في قوله: {لا إله إلا هو}. وبالبعث والحشر في قوله: {إليه المصير}.
وقوله: {ما يجادل في آيات الله} يريد جدالاً باطلاً، لأن الجدال فيها يقع من المؤمنين لكن في إثباتها وشرحها.
وقوله: {فلا يغررك} أنزله منزلة: فلا يحزنك ولا يهمنك، لتدل الآية على أنهم ينبغي أن لا يغتروا بإملاء الله تعالى لهم، فالخطاب له والإشارة إلى من يقع منه الاغترار، ويحتمل أن يكون {يغررك} بمعنى تظن أن وراء تقلبهم وإمهالهم خيراً لهم فتقول عسى أن لا يعذبوا وحل الفعل من الإدغام لسكون الحرف الثاني، وحيث هما متحركان لا يجوز الحل، لا تقول زيد يغررك. و: {تقلبهم في البلاد} عبارة عن تمتعهم بالمساكين والمزارع والأسفار وغير ذلك. ثم مثل لهم بمن تقدمهم من الأمم، أي كما حل بأولئك كذلك ينزل بهؤلاء. {الأحزاب}: يريد بهم عاداً وثمود أو أهل مدين وغيرهم، وفي مصحف عبد الله بن مسعود: {برسولها}، رداً على الأمة، وضمير الجماعة هو على معنى الأمة لا على لفظها.
وقوله: {ليأخذوه} معناه ليهلكوه كما قال تعالى: {فأخذتهم} والعرب تقول للقتيل: أخيذ، وللأسير كذلك، ومنه قولهم: أكذب من الأخيذ الصبحان. وقال قتادة: {ليأخذوه} معناه: ليقتلوه. و{ليدحضوا} معناه: ليزلقوا وليذهبوا، والمدحضة المزلة والمزلقة.
وقوله: {فكيف كان عقاب} تعجيب وتعظيم، وليس باستفهام عن كيفية وقوع الأمر.

.تفسير الآيات (6- 9):

{وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6) الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)}
وفي مصحف عبد الله بن مسعود: {كذلك سبقت كلمة}. والمعنى: كما أخذت أولئك المذكورين فأهلكتهم فكذلك حقت كلماتي على جميع الكفار من تقدم منهم ومن تأخر أنهم أهل النار وسكانها.
وقرأ نافع وابن عامر: {كلمات} على الجمع، وهي قراءة الأعرج وأبي جعفر وابن نصاح وقرأ الباقون: {كلمة} على الإفراد وهي للجنس، وهي قراءة أبي رجاء وقتادة، وهذه كلها عبارة عن ختم القضاء عليهم.
وقوله: {أنهم} بدل من {كلمة}.
ثم أخبر تعالى بخبر يتضمن تشريف المؤمنين ويعظم الرجاء لهم، وهو أن الملائكة الحاملين للعرش والذين حول العرش، وهؤلاء أفضل الملائكة يستغفرون للمؤمنين ويسألون الله لهم الرحمة والجنة، وهذا معنى قوله تعالى في غير هذه الآية: {كان على ربك وعداً مسوؤلاً} [الفرقان: 16] أي سألته الملائكة، وفسر في هذه الآية المجمل الذي في قوله تعالى في غير هذه الآية {ويستغفرون لمن في الأرض} [الشورى: 5] لأنه معلوم أن الملائكة لاتستغفر لكافر، وقد يجو أن يقال معنى ذلك أنهم يستغفرون للكفار، بمعنى طلب هدايتهم والمغفرة لهم بعد ذلك، وعلى هذا النحو هو استغفار إبراهيم لأبيه واستغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم للمنافقين. وبلغني أن رجلاً قال لبعض الصالحين ادع لي واستغفر لي، فقال له: تب واتبع سبيل الله يستغفر لك من هوخير مني، وتلا هذه الآية. وقال مطرف بن الشخير: وجدنا أنصح العباد للعباد الملائكة، وأغش العباد للعباد الشياطين، وتلا هذه الآية. وروى جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أذن لي أن أحدث عن ملك من حملة العرش بين شحمة أذنه وعاتقه مسيرة سبعمائة سنة» وقرأت فرقة: {العُرش} بضم العين، والجمهور على فتحها.
وقوله تعالى: {ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً} نصب الرحمة على التمييز وفيه حذف تقديره: يقولون، ومعناه: وسعت رحمتك وعلمك كل شيء، وهذا نحو قولهم: تفقأت شحماً وتصببت عرقاً وطبت نفساً. وسبيل الله المتبعة: هي الشرائع.
وقرأ جمهور الناس: {جنات عدن} على جمع الجنات. وقرأ الأعمش في رواية المفضل: {جنة عدن} على الإفراد، وكذلك هو في مصحف ابن مسعود. والعدن: الإقامة.
وقوله: {ومن يصلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم} روي عن سعيد بن جبير في تفسير ذلك: أن الرجل يدخل الجنة قبل قرابته فيقول: أي أبي؟ أين أمي؟ أين زوجتي؟ فيلحقون به لصلاحهم ولتنبيهه عليهم وطلبه إياهم، وهذه دعوة الملائكة: وقرأ عيسى بن عمر: {وذريتهم} بالإفراد.
وقوله: {وقهم} أصله أوقهم، حذفت الواو اتباعاً لحذفها في المستقبل، واستغني عن ألف الوصل لتحرك القاف، ومعناه: اجعل لهم وقاية تقيهم {السيئات}، واللفظ يحتمل أن يكون الدعاء في دفع العذاب اللاحق من {السيئات}، فيكون في اللفظ على هذا حذف مضاف، كأنه قال: وقهم جزاء السيئات.

.تفسير الآيات (10- 12):

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12)}
ثم أخبر تعالى بحال الكفار وجعل ذلك عقب حال المؤمنين ليبين الفرق، وروي أن هذه الحال تكون للكفار عند دخولهم النار، فإنهم إذا أدخلوا فيها مقتوا أنفسهم، أي مقت بعضهم بعضاً. ويحتمل أن يمقت كل واحد نفسه، فإن العبارة تحتمل المعنيين، والمقت هو احتقار وبغض عن ذنب وريبة. هذا حده، وإذا مقت الكفار أنفسم نادتهم ملائكة العذاب على جهة التوبيخ، فيقولون لهم: مقت الله إياكم في الدنيا إذ كنتم تدعون إلى الإيمان فتكفرون {أكبر من مقتكم أنفسكم} اليوم، هذا هو معنى الآية، وبه فسر مجاهد وقتادة وابن زيد. وأضاف المصدر إلى الفاعل في قوله: {لمقت الله} والمفعول محذوف لأن القول يقتضيه. واللام في قوله: {لمقت} يحتمل أن تكون لام ابتداء، ويحتمل أن تكون لام القسم، وهذا أصوب. و: {أكبر} خبر الابتداء، والعامل في: {إذ} فعل مضمر تقديره: مقتكم إذ، وقدره قوم اذكروا، وذلك ضعيف يحل ربط الكلام، اللهم إلا أن يقدر أن مقت الله لهم هو في الآخرة، وأنه أكبر من مقتهم أنفسهم، فيصح أن يقدر المضمر اذكروا، ولا يجوز أن يعمل فيه قوله: {لمقت} لأن خبر الابتداء قد حال بين المقت و{إذ}، وهي في صلته، ولا يجوز ذلك.
واختلف المفسرون في معنى قولهم: {قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحيينا اثنتين} فقال ابن عباس وقتادة والضحاك وأبو مالك: أرادوا موته كونهم ماء في الأصلاب ثم أحياهم في الدنيا ثم أماتهم الموت ثم أحياهم يوم القيامة، قالوا وهي كالتي في سورة البقرة: {كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم} [البقرة: 28]. وقال ابن زيد: أرادوا أنه أحياهم نسماً عند أخذ العهد عليهم قت أخذهم من صلب آدم ثم أماتهم بعد ذلك ثم أحياهم في الدنيا ثم أماتهم ثم أحياهم، وهذا قول ضعيف، لأن الإحياء فيه ثلاث مرات. وقال السدي: أرادوا أنه أحياهم في الدنيا ثم أماتهم تم أحياهم في القبر وقت سؤال منكر ونكير، ثم أماتهم فيه ثم أحياهم في الحشر، وهذا أيضاً يدخله الاعتراض الذي في القول قبله، والأول أثبت الأقوال. وقال محمد بن كعب القرظي: أرادوا أن الكافر في الدنيا هو حي الجسد ميت القلب فكأن حالهم في الدنيا جمعت إحياء وإماتة، ثم أماتهم حقيقة ثم أحياهم بالبعث.
والخلاف في هذه الآية مقول كله في آية سورة البقرة، وهذه الآية يظهر منها أن معناها منقطع من معنى قوله تعالى: {إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون} وليس الأمر كذلك، بل الآيتان متصلتا المعنى، وذلك أن كفرهم في الدنيا كان أيضاً بإنكارهم البعث واعتقادهم أنه لا حشر ولا عذاب، ومقتهم أنفسهم إنما عظمه، لأن هذا المعتقد كذبهم، فلما تقرر مقتهم لأنفسهم ورأوا خزياً طويلاً عريضاً رجعوا إلى المعنى الذي كان كفرهم به وهو البعث وخرج الوجود مقترناً بعذابهم فأقروا به على أتم وجوهه، أي قد كنا كفرنا بإنكارنا البعث ونحن اليوم نقر أنك أحييتنا اثنتين وأمتنا اثنتين، كأنهم قصدوا تعظيم قدرته تعالى واسترضاءه بذلك، ثم قالوا عقب هذا الإقرار طمعاً منهم، فها نحن معترفون بذنوبنا {فهل إلى خروج من سبيل}؟ وهذا كما تكلف إنساناً أن يقر لك بحق وهو ينكرك، فإذا رأى الغلبة وضرع أقر بذلك الأمر متمماً أوفى مما كنت تطلب به أولاً، وفيما بعد قولهم: {فهل إلى خروج من سبيل} محذوف من الكلام يدل عليه الظاهر، تقديره: لا إسعاف لطلبتكم أو نحو هذا من الرد والزجر.
وقوله تعالى: {ذلكم} يحتمل أن يكون إشارة إلى العذاب الذي هم فيه، ويحتمل أن يكون إشارة إلى مقت الله إياهم، ويحتمل أن يكون إشارة إلى مقتهم أنفسهم، ويحتمل أن تكون إشارة إلى المنع والزجر والإهانة التي قلنا إنها مقدرة محذوفة الذكر لدلالة ظاهر القول عليها، ويحتمل أن تكون المخاطبة ب {ذلكم} لمعاصري محمد صلى الله عليه وسلم في الدنيا، ويحتمل أن تكون في الآخرة للكفار عامة. وقوله: {إذا دعي الله وحده} معناه: بحالة توحيد ونفي لما سواه من الآلهة والأنداد.
وقوله: {وإن يشرك به} أي إذا ذكرت اللات والعزى وغيرهما صدقتم واستقرت نفوسكم، فالحكم اليوم بعذابكم وتخليدكم في النار، لا لتلك التي كنتم تشركونها معه في الألوهية. و: {العلي الكبير} صفتا مدح لا في المكان ومضادة السفل والصغر.

.تفسير الآيات (13- 17):

{هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آَيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17)}
هذه ابتداء مخاطبة في معنى توحيد الله تعالى وتبيين علامات ذلك، وآيات الله: تعم آيات قدرته وآيات قرآنه والمعجزات الظاهرة على أيدي رسله. وتنزيل الرزق: هو في تنزيل المطر وفي تنزيل القضاء والحكم، قيل ما يناله المرء في تجارة وغير ذلك وقرأ جمهور الناس: {ويُنْزِل} بالتخفيف. وقرأ الحسن والأعرج وعيسى وجماعة: وينَزِّل بفتح النون وشد الزاي.
وقوله تعالى: {وما يتذكر إلا من ينيب} معناه: وما يتذكر تذكراً يعتد به وينفع صاحبه، لأنا نجد من لا ينيب يتذكر، لكن لما كان ذلك غير نافع عد كأنه لم يكن.
وقوله: {فادعوا الله} مخاطبة للمؤمنين أصحاب محمد عليه السلام. وادعوا: معناه: اعبدوا.
وقوله تعالى: {رفيع الدرجات} صفاته العلى، وعبر بما يقرب لأفهام السامعين، ويحتمل أن يريد ب {رفيع الدرجات} التي يعطيها للمؤمنين ويتفضل بها على عباده المخلصين في جنة. و: {العرش} هو الجسم المخلوق الأعظم الذي السماوات السبع والأرضون فيه كالدنانير في الفلاة من الأرض.
وقوله تعالى: {يلقي الروح} قال الضحاك: {الروح} هنا هو الوحي القرآن وغيره مما لم يتل. وقال قتادة والسدي: {الروح} النبوءة ومكانتها كما قال تعالى: {روحاً من أمرنا} [الشورى: 52] ويسمى هذا روحاً لأنه يحيي به الأمم والأزمان كما يحيي الجسد بروحه، ويحتمل أن يكون إلقاء الروح عاماً لكل ما ينعم الله به على عباده المعتدين في تفهيمه الإيمان والمعتقدات الشريفة. والمنذر على هذا التأويل: هو الله تعالى. قال الزجاج: {الروح}: كل ما به حياة الناس، وكل مهتد حي، وكل ضال كالميت.
وقوله: {من أمره} إن جعلته جنساً للأمور ف {من} للتبعيض أو لابتداء الغاية، وإن جعلنا الأمر من معنى الكلام: ف {من} إما لابتداء الغاية، وإما بمعنى الباء، ولا تكون للتبعيض بتة وقرأ أبي بن كعب: وجماعة: لينذِر بالياء وكسر الذال، وفي الفعل ضمير يحتمل أن يعود على الله تعالى، ويحتمل أن يعود على {الروح}، ويحتمل أن يعود على {من} في قوله: {من يشاء}. وقرأ محمد بن السميفع اليماني: لينذَر بالياء وفتح الذال، وضم الميم من يومُ وجعل اليوم منذراً على الاتساع. وقرا جمهور الناس: {لتنذر} بالتاء على مخاطبة محمد عليه السلام، ويومَ بالنصب.
وقرأ أبو عمرو ونافع وجماعة: {التلاق} دون ياء. وقرأ أبو عمرو أيضاً وعيسى ويعقوب: {التلاقي} بالياء، والخلاف فيها كالخلاف الذي مر في {التنادي} [غافر: 32]، ومعناه: تلاقي جميع العالم بعضهم ببعض، وذلك أمر لم يتفق قبل ذلك اليوم، وقال السدي: معناه: تلاقي أهل السماء وأهل الأرض، وقيل معناه تلاقي الناس مع بارئهم، وهذا المعنى الأخير هو أشدها تخويفاً، وقيل يلتقي المرء وعمله.
وقوله تعالى: {يوم هم بارزون} معناه في براز من الأرض ينفذهم البصر ويسمعهم الداعي، ونصب {يوم} على البدل من الأول فهو نصب المفعول، ويحتمل أن ينصب على الظرف ويكون العامل فيه قوله: {لا يخفى} وهي حركة إعراب لا حركة بناء، لأن الظرف لا يبنى إلا إذا أضيف إلى غير متمكن كيومئذ، وكقول الشاعر [النابغة الذبياني]: [الطويل]
على حين عاتبت المشيب على الصبا ** وقلت ألمّا أصحُ والشيب وارع

وكقوله تعالى: {هذا يوم ينفع الصادقين} [المائدة: 119] وأما في هذه الآية فالجملة أمر متمكن كما تقول: جئت يوم زيد فلا يجوز البناء، وتأمل.
وقوله تعالى: {لا يخفى على الله منهم} أي من بواطنهم وسرائرهم ودعوات صدورهم، وفي مصحف أبي بن كعب: {لا يخفى عليه منهم شيء} بضمير بدل المكتوبة.
وقوله تعالى: {لمن الملك اليوم} روي أن الله تعالى يقرر هذا التقدير ويسكت العالم هيبة وجزعاً، فيجيب هو نفسه قوله: {لله الواحد القهار} قال الحسن بن أبي الحسن هو تعالى السائل وهو المجيب. وقال ابن مسعود: أنه تعالى يقرر فيجيب العالم بذلك، وقيل ينادي بالتقرير ملك فيجيب الناس.
قال القاضي أبو محمد: وإذا تأمل المؤمن أنه لا حول لمخلوق ولا قوة إلا بالله، فالزمان كله وأيام الدهر أجمع إنما الملك فيها {لله الواحد القهار}، لكن ظهور ذلك للكفرة والجهلة يتضح يوم القيامة، وإذا تأمل تسخير أهل السماوات وعبادتهم ونفوذ القضاء في الأرض فأي ملك لغير الله عز وجل.
ثم يعلم تعالى أهل الموقف بأنه يوم المجازاة بالأعمال صالحها وسيئها، وهذه الآية نص في أن الثواب والعقاب معلق باكتساب العبيد، وأنه يوم لا يوضع فيه أمر غير موضعه، وذلك قوله: {لا ظلم اليوم}. ثم أخبرهم عن نفسه بسرعة الحساب، وتلك عبارة عن إحاطته بالأشياء علماً، فهو يحاسب الخلائق في ساعة واحدة كما يرزقهم، لأنه لا يحتاج إلى عد وفكرة، لا رب غيره، وروي أن يوم القيامة لا ينتصف حتى يقيل المؤمنون في الجنة والكافرون في النار.