فصل: تفسير الآيات (15- 22):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (15- 22):

{فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20) كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)}
ذكر الله تعالى في هذه الآية: ما كانت قريش تقوله تستدل به على إكرام الله تعالى وإهانته لعبده، وذلك أنهم كانوا يرون أن من عنده الغنى والثروة والأولاد فهو المكرم، وبضده المهان، ومن حيث كان هذا المقطع غالباً على كثيرين من الكفار، جاء التوبيخ في هذه الآية لاسم الجنس، إذ يقع بعض المؤمنين في شيء من هذا المنزع، ومن ذلك حديث الأعراب الذين كانوا يقدمون المدينة على النبي صلى الله عليه وسلم، فمن نال خيراً قال هذا دين حسن، ومن ناله شر قال هذا دين سوء، و{ابتلاه} معناه: اختبره، و{نعمه} معناه: جعله ذا نعمة، وقرأ ابن كثير {أكرمني} بالياء في وصل ووقف وحذفها عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي في الوجهين: وقرأ نافع بالياء في الوصل وحذفها في الوقف، وكذلك {أهانني}، وخير في الوجهين أبو عمرو، وقرأ جمهور الناس: {فقدَر} بتخفيف الدال، بمعنى ضيق، وقرأ الحسن بخلاف وأبو جعفر وعيسى {قدّر} بمعنى: جعله على قدر، وهما بمعنى واحد في معنى التضييق لأنه ضعف قدر مبالغة جعفر وعيسى {قدّر} بمعنى: جعله على قدر، وهم بمعنى واحد في معنى التضييق لأنه ضعف قدر مبالغة لا تعدية، ويقتضي ذلك قول الإنسان {أهانني}، لأن قدر معدي إنما معناه أعطاه ما يكفيه ولا إهانة مع ذلك، ثم قال تعالى: {كلا} ردّاً على قولهم ومعتقدهم، أي ليس إكرام الله تعالى وإهانته، في ذلك، وإنما ذلك ابتلاء فحق من ابتلي بالغنى أن يشكر ويطيع، ومن ابتلي بالفقر أن يشكر ويصبر، وأما إكرام الله تعالى فهو بالتقوى، وإهانته فبالمعصية، ثم أخبرهم بأعمالهم من أنهم لا يكرمون اليتيم وهو من بني آدم الذي فقد أباه وكان غير بالغ. ومن البهائم ما فقد أمه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أحَبُّ البيوت إلى الله، بيت فيه يتيم مكرم»، وقرأ ابن كثير وابن عامر {يحضون} بمعنى: يحض بعضهم بعضاً أو تحضون أنفسكم، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي {تحاضون} بفتح التاء بعنى تتحاضون، أي يحض قوم قوماً، وقرأ أبو عمرو و{يحضون} بياء من تحت مفتوحة وبغير ألف، وقرأ عبد الله بن المبار: {تُحاضون} بضم التاء على وزن تقاتلون، أي أنفسكم أي بعضكم بعضاً ورواها الشيرزي عن الكسائي، وقد يجيء فاعلت بمعنى فعلت وهذا منه، وإلى هذا ذهب أبو علي وأنشد:
تحاسنت به الوشى ** قرات الرياح وخوزها

أي حسنت وأنشد أيضاً: [الرجز]
إذا تخازرت وما بي من خزر

ويحتمل أن تكون مفاعلة، ويتحه ذلك على زحف ما فتأمله، وقرأ الأعمش {تتحاضون} بتاءين، و{طعام} في هذه الآية بمعنى إطعام، وقال قوم أراد نفس طعامه الذي يأكل، ففي الكلام حذف تقديره على بدل {طعام المسكين}، وقد تقدم القول في سورة براءة في المسكين والفقير بمعنى يغني عن إعادته، وعدد عليهم جدهم في أكل التراث لأنهم لا يورثون النساء ولا صغار الأولاد إنما كان يأخذ المال من يقاتل ويحمي الحوزة، واللّم: الجمع واللف.

.تفسير الآيات (23- 30):

{وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)}
روي في قوله تعالى: {وجيء يومئذ بجهنم} أنها تساق إلى الحشر بسبعين ألف زمام، يمسك كل زمام سبعون ألف ملك فيخرج منها عنق فينتقي الجبابرة من الكفار في حديث طويل مختلف الألفاظ، وجهنم هنا، هي النار بجملتها، وروي أنه لما نزلت {وجيء يومئذ بجهنم} تغير لون النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله تعالى: {يتذكر الإنسان} معناه: يتذكر عصيانه وطغيانه، وينظر ما فاته من العمل الصالح، ثم قال تعالى: {وأنى له الذكرى} ثم ذكر عنه أنه يقول: {يا ليتني قدمت لحياتي}، واختلف في معنى قوله: {لحياتي} فقال جمهور المتأولين معناه: {لحياتي} الباقية يريد في الآخرة، وقال قوم من المتأولين: المعنى {لحياتي} في قبري عند بعثي الذي كنت أكذب به وأعتقد أني لن أعود حياً، وقال آخرون: {لحياتي} هنا مجاز، أي {ليتني قدمت} عملاً صالحاً لأنعم به اليوم وأحيا حياة طيبة، فهذا كما يقول الإنسان أحييني في هذا الأمر، وقال بعض المتأولين لوقت أو لمدة حياتي الماضية في الدنيا، وهذا كما تقول جئت لطلوع الشمس ولتاريخ كذا ونحوه، وقرأ جمهور القراء وعلي بن أبي طالب وابن عباس وأبو عبد الرحمن {يعذِّب} و{يوثِق} بكسر الذال الثاء، وعلى هذه القراءة، فالضمير عائد في عذابه ووثاقه لله تعالى، والمصدر مضاف إلى الفاعل ولذلك معنيان: أحدهما أن الله تعالى لا يكل عذاب الكفار يومئذ إلى أحد، والآخر أن عذابه من الشدة في حيز لم يعذب قط أحد بمثله، ويحتمل أن يكون الضمير للكافر والمصدر مضاف إلى المفعول، وقرأ الكسائي وابن سيرين وابن أبي إسحاق وسوار القاضي {يعذَّب} و{يوثَق} بفتح الذال والثاء، ورويت كثيراً عن النبي صلى الله عليه وسلم، فالضميران على هذا للكافر الذي هو بمنزلة جنسه كله والمصدر مضاف إلى المفعول ووضع عذاب موضع تعذيب كما قال: [القرطبي]: [الوافر]
وبعض عطائك المائة الرتاعا

ويحتمل أن يكون الضميران في هذه القراءة لله تعالى، كأنه قال: لا يعذب أحد قط في الدنيا عذاب الله للكفار، فالمصدر مضاف إلى الفاعل، وفي هذا التأويل تحامل، وقرأ الخليل بن أحمد {وِثاقه} بكسر الواو، ولما فرغ ذكر هؤلاء المعذبين عقب تعالى بذكر نفوس المؤمنين وحالهم فقال: {يا أيتها النفس المطمئنة} الآية، و{المطمئنة} معناه: الموقنة غاية اليقين، ألا ترى أن إبراهيم عليه السلام قال: {ولكن ليطمئن قلبي} [البقرة: 260]، فهي درجة زائدة على الإيمان، وهي أن لا يبقى على النفس في يقينها مطلب يحركها إلى تحصيله، واختلف الناس في هذا النداء متى يقع فقال ابن زيد وغيره: هو عند خروج نفس المؤمن من جسده في الدنيا، وروي أن أبا بكر الصديق سأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له:

.سورة البلد:

.تفسير الآيات (1- 10):

{لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)}
قرأ الحسن بن أبي الحسن {لأقسم} دون ألف، وقرأ الجمهور: {لا أقسم}، واختلفوا فقال الزجاج ويغره: {لا} صلة زائدة مؤكدة، واستأنف قوله: {أقسم}، وقال مجاهد {لا} رد للكلام متقدم للكفار، ثم استأنف قوله: {أقسم}، وقال بعض المتأولين {لا} نفي للقسم بالبلد، أخبر الله تعالى أنه لا يقسم به، ولا خلاف بين المفسرين أن {البلد} المذكور هو مكة، واختلف في معنى قوله: {وأنت حل بهذا البلد} فقال ابن عباس وجماعة: معناه وأنت حلال بهذا البلد يحل لك فيه قتل من شئت، وكان هذا يوم فتح مكة، وعلى هذا يتركب قول من قال السورة مدنية نزلت عام الفتح، ويتركب على التأويل قول من قال: {لا} نافية أي إن هذا البلد لا يقسم الله به، وقد جاء أهله بأعمال توجب إحلال حرمته، ويتجه أيضاً أن تكون {لا} غير نافية. وقال بعض المتأولين: {وأنت حل بهذا البلد} معناه: حال ساكن بهذا البلد، وعلى هذا يجيء قول من قال هي مكية، والمعنى على إيجاب القسم بين وعلى نفيه أيضاً يتجه على معنى القسم ببلد أنت ساكنه على أذى هؤلاء القوم وكفرهم، وذكر الثعلبي عن شرحبيل بن سعد أن معنى {وأنت حل} أي قد جعلوك حلالاً مستحل الأذى والإخراج والقتل لك لو قدروا، وإعراب {البلد} عطف بيان، وقوله تعالى: {ووالد وما ولد} قسم مستأنف على قول من قال: {لا} نافية، ومعطوف على قول من رأى {لا} غير نافية، واختلف الناس في معنى قوله: {ووالد وما ولد}، فقال مجاهد: هو آدم وجميع ولده، وقال بعض رواة التفسير: هو نوح وجميع ولده، وقال أبو عمران الجوني: هو إبراهيم وجميع ولده، وقال ابن عباس ما معناه: أن الوالد والولد هنا على العموم فهي أسماء جنس يدخل فيها جميع الحيوان، وقال ابن عباس وابن جبير وعكرمة: {ووالد} معناه: كل من ولد وأنسل، وقوله: {وما ولد} لم يبق تحته إلا العاقر الذي ليس بوالد البتة، والقسم واقع على قوله: {لقد خلقنا الإنسان في كبد}، واختلف الناس في الكَبد فقال جمهور الناس: {الإنسان} اسم الجنس كله، والكبد المشقة والمكابدة، أي يكابد أمر الدنيا والآخرة، ومن ذلك قول لبيد: [المنسرح]
يا عين هلا بكيت أربد إذ ** قمنا وقام الخصوم في كبد

وقول ذي الإصبع: [البسيط]
لي ابن عم لو أن الناس في كبد ** لظل محتجراً بالنبل يرميني

وبالمشقة في أنواع أحوال الإنسان فسره الجمهور، وقال الحسن: لم يخلق الله خلقاً يكابد ما يكابد ابن آدم، وقال ابن عباس وعبد الله بن شداد وأبو صالح ومجاهد {في كبد} معناه: منتصف القامة واقفاً، وقال ابن زيد: {الإنسان}: آدم عليه السلام، و{في كبد} معناه: في السماء سماها كبداً، وهذان قولان قد ضعفا والقول الأول هو الصحيح، وروي أن سبب الآية وما بعدها هو أبو الأشدين رجل من قريش شديد القوة، اسمه أسيد بن كلدة الجمحي، كان يحسب أن أحداً لا يقدر عليه، ويقال بل نزلت في عمرو بن ود، ذكره النقاش، وهو الذي اقتحم الخندق بالمدينة وقتله علي بن أبي طالب خلف الخندق، وقال مقاتل: نزلت في الحارث بن عامر بن نوفل، أذنب فاستفتى النبي صلى الله عليه وسلم فأمره بالكفارة فقال: لقد {أهلكت مالاً} في الكفارات والنفقات مذ تبعت محمداً، وكان كل واحد منهم قد ادعى أنه أنفق مالاً كثيراً على إفساد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أو في الكفارات على ما تقدم، فوقف القرآن على جهة التوبيخ للمذكور، وعلى جهة التوبيخ لاسم الجنس كله.

.تفسير الآيات (11- 20):

{فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)}
في هذه الآية على عرف كلام العرب، استعارة لهذا العمل الشاق على النفس من حيث هو بذل مال تشبيه بعقبة الجبل، وهي ما صعب منه وكان صعوداً، و{اقتحم} معناه: دخلها وجاوزها بسرعة وضغط وشدة، وأما المفسرون فرأوا أن {العقبة} يراد بها جبل في جهنم، لا ينجي منه إلا هذه الأعمال ونحوها، قاله ابن عباس وقتادة، وقال الحسن: {العقبة} جهنم، قال هو وقتادة فاقتحموها بطاعة الله، وفي الحديث: «إن اقتحامها للمؤمن كما بين صلاة العصر إلى العشاء» واختلف الناس في قوله: {فلا} فقال جمهور المتأولين: هو تحضيض بمعنى فألا، وقال آخرون وهو دعاء بمعنى أنه ممن يستحق أن يدعى عليه بأن لا يفعل خيراً، وقيل هي نفي، أي فما اقتحم، وقال أبو عبيدة والزجاج وهذا نحو قوله تعالى: {فلا صدق ولا صلى} [القيامة: 31] فهو نفي محض كأنه قال: وهبنا له الجوارح ودللناه على السبيل فما فعل خيراً، ثم عظم الله تعالى أمر العقبة في النفوس بقوله: {وما أدراك ما العقبة}؟ ثم فسر اقتحام العقبة بقوله: {فك رقبة} وذلك أن التقدير وما أدراك ما اقتحام العقبة؟ هذا على قراءة من قرأ «فكُّ رقبة» بالرفع على المصدر، وأما من قرأ {فكّ} على الفعل الماضي ونصب الرقبة، فليس يحتاج أن يقدر {وما أدراك} ما اقتحام، بل يكون التعظيم للعقبة نفسها، ويجيء {فكّ} بدلاً من {اقتحم} ومبيناً. وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة {فك رقبة أو إطعام} وقرأ أبو عمرو {فك رقبةً} بالنصب {أو أطعم}، وقرأ بعض التابعين {فكِّ رقبة} بالخفض، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو أيضاً والكسائي {فكِّ رقبة} بالنصب {أو إطعام}. وترتيب هذه القراءات ووجوهها بينة، وفك الرقبة معناه: بالعتق من ربقة الأسر أو الرق، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من أعتق نسمة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منها عضواً منه من النار». وقال أعرابي للنبي صلى الله عليه وسلم: دلني على عمل أنجو به، فقال: «لئن قصرت القول لقد عرضت المسألة فك رقبة، وأعتق النسمة»، فقال الأعرابي: أليس هما واحداً؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا عتق النسمة أن تنفرد بعتقها، وفك الرقبة أن تعين في ثمنها».
قال القاضي أبو محمد: وكذلك فك الأسير إن شاء الله، وفداؤه أن ينفرد الفادي به، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي: «وأبق على ذي الرحم الظالم، فإن لم تطق هذا كله، فكف لسانك إلا من خير».

.سورة الشمس:

.تفسير الآيات (1- 15):

{وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)}
أقسم الله تعالى ب {الشمس} إما على التنبيه منها وإما على تقدير ورب الشمس، و{الضُّحى} بضم الضاد والقصر: ارتفاع الضوء وكماله، وبهذا فسر مجاهد. وقال قتادة: هو النهار كله، وقال مقاتل: {ضحاها} حرها كقوله تعالى في سورة {طه} {ولا تضحى} [طه: 119]، والضَّحاء بفتح الضاد والمد ما فوق ذلك إلى الزوال، {والقمر} يتلو الشمس من أول الشهر إلى نصفه في الغروب تغرب هي ثم يغرب هو ويتلوها في النصف الآخر بنحو وآخر وهي أن تغرب هي فيطلع هو، وقال الحسن بن أبي الحسن: {تلاها} معناه: تبعها دأباً في كل وقت لأنه يستضيء منه فهو يتلوها لذلك.
قال القاضي أبو محمد: فهذا اتباع لا يختص بنسف أول من الشهر ولا بآخره، وقاله الفراء أيضاً، وقال الزجاج وغيره: {تلاها}: معناه امتلأ واستدار، فكان لها تابعاً في المنزلة والضياء والقدر، لأنه ليس في الكواكب شيء يتلو الشمس في هذا المعنى غير القمر، قال قتادة: وإنما ذلك ليلة البدر تغيب هي فيطلع هو.
{والنهار} ظاهر هذه السورة والتي بعدها أنه من طلوع الشمس، وكذلك قال الزجاج في كتاب الأنواء وغيره: واليوم من طلوع الفجر، ولا يختلف أن نهايتهما مغيب الشمس، والضمير في {جلاها} يحتمل أن يعود على {الشمس} ويحتمل أن يعود على الأرض أو على الظلمة وإن كان لم يجر له ذكر فالمعنى يقتضيه، قاله الزجاج. و{جلى} معناه كشف وضوى، والفاعل بجلَّى على هذا التأويلات {النهار}، ويحتمل أن يكون الفاعل الله تعالى كأنه قال: والنهار إذا جلى الله الشمس، فأقسم بالنهار في أكمل حالاته، ويغشى معناه: يغطي: والضمير للشمس على تجوز في المعنى أو للأرض، وقوله تعالى: {وما بناها} وكل ما بعده من نظائره في السورة، يحتمل أن يكون ما فيه بمعنى الذي قال أبو عبيدة: أي تعالى، ويحتمل أن تكون {ما} في جميع ذلك مصدرية، قال قتادة والمبرد والزجاج كأنه قال والسماء وبنيانها، و{طحا} بمعنى دحا وطحا أيضاً في اللغة بمعنى ذهب كل مذهب، ومنه قول علقمة بن عبدة: [الطويل]
طحا بك قلب في الحسان وطروب ** بعيد الشباب عمر حان مشيب

والنفس التي أقسم بها، اسم الجنس، وتسويتها إكمال عقلها ونظرها، ولذلك ربط الكلام بقوله تعالى: {فألهمها} الآية، فالفاء تعطي أن التسوية هي هذا الإلهام، ومعنى قوله تعالى: {فجورها وتقواها} أي عرفها طرق ذلك وجعل لها قوة يصح معها اكتساب الفجور أو اكتساب التقوى، وجواب القسم في قوله: {قد أفلح}، التقدير: لقد أفلح، والفاعل ب زكى يحتمل أن يكون الله تعالى، وقاله ابن عباس وغيره كأنه قال: قد أفلحت الفرقة أو الطائفة التي زكاها الله تعالى، و{من}: تقع على جمع وإفراد، ويحتمل أن يكون الفاعل ب زكى الإنسان، وعليه تقع {من} وقاله الحسن وغيره، كأنه قال: {قد أفلح} من زكى نفسه أي اكتسب الزكاء الذي قد خلقه الله، و{زكاها} معناه: طهرها ونماها بالخيرات، و{دساها} معناه: أخفاها وحقرها أي وصغر قدرها بالمعاصي والبخل بما يجب، يقال دسا يدسو ودسّى بشد السين يدسي وأصله دسس، ومنه قول الشاعر: [الطويل]
ودسست عمراً في التراب فأصبحت ** حلائله يبكين للفقد ضعفا

ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ هذه الآية قال: «اللهم آت نفسي تقواها وزكّها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها» هذا الحديث يقوي أن المزكي هو الله تعالى، وقال ثعلب معنى الآية {وقد خاب من دساها} في أهل الخير بالرياء وليس منهم في حقيقته، ولما ذكر تعالى خيبة من دسى نفسه، ذكر فرقة فعلت ذلك يعتبر بهم وينتهى عن مثل فعلهم، والطغوى مصدر، وقرأ الحسن وحماد بن سليمان {بطُغواها} بضم الطاء مصدر كالعقبى والرجعى، وقال ابن عباس: الطغوى هنا العذاب كذبوا به حتى نزل بهم، ويؤيد هذا التأويل قوله تعالى: {فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية} [الحاقة: 5]، وقال جمهور المتأولين الباء سببية، والمعنى كذبت ثمود بنبيها بسبب طغيانها وكفرها، و{انبعث} عبارة عن خروجه إلى عقر الناقة بنشاط وحرص و{أشقاها} هو قد أربى سالف وهو أحد التسعة الرهط المفسدين، ويحتمل أن يقع {أشقاها} على جماعة حاولت العقر، ويروى أنه لم يفعل فعله بالناقة حتى مالأه عليه جميع الحي، فلذلك قال تعالى: {فعقروها} لكونهم متفقين على ذلك ورسول الله صالح عليه السلام، وقوله تعالى: {ناقة الله وسقياها} نصب بفعل مضمر تقديره احفظوا أو ذروا أو احذروا على معنى: احذروا الإخلال بحق ذلك، وقد تقدم أمر الناقة والسقيا في غير هذه السورة بما أغنى عن إعادتها، وقدم تعالى التكذيب على العقر لأنه كان سبب العقر، ويروى أنهم كانوا قد أسلموا قبل ذلك وتابعوا صالحاً مدة ثم كذبوا وعثروا، والجمهور من المفسرين على أنهم كانوا على كفرهم، {دمدم} معناه: أنزل العقاب مقلقاً لهم مكرراً ذلك وهي الدمدمة، وفي بعض المصاحف {فدهدم} وهي قراءة ابن الزبير بالهاء بين الدالين، وفي بعضهم {فدمر}، وفي مصحف ابن مسعود {فدماها عليهم} وقوله تعالى: {بذنبهم} أي بسبب ذنبهم، وقوله تعالى: {فسواها}، معناه: فسوى القبيلة في الهلاك لم ينج منهم أحد، وقرأ نافع وابن عامر والأعرج وأهل الحجاز وأبي بن كعب: {فلا يخاف} بالفاء وكذلك في مصاحف أهل المدينة والشام، وقرأ الباقون {ولا} بالواو وكذلك في مصاحفهم، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه {ولم يخف عقباها}، والفاعل ب {يخاف} على قراءة من قرأ بالفاء يحتمل أن يكون الله تعالى، والمعنى فلا درك على الله في فعله بهم لا يسأل عما يفعل، وهذا قول ابن عباس والحسن، وفي هذا المعنى احتقار للقوم وتعفية لأثرهم، ويحتمل أن يكون صالحاً عليه السلام، أي لا يخاف عقبى هذه الفعلة بهم إذا كان قد أنذرهم وحذرهم، ومن قرأ {ولا يخاف} بالواو فيحتمل الوجهين اللذين ذكرنا، ويحتمل أن يكون الفاعل ب {يخاف} {أشقاها} المنبعث، قاله الزجاج وأبو علي، وهو قول السدي والضحاك ومقاتل، وتكون الواو واو الحال كأنه قال انبعث لعقرها وهو لا يخاف عقبى فعله لكفره وطغيانه، والعقبى: جزاء المسيء وخاتمته وما يجيء من الأمور بعقبه، واختلف القراء في ألفات هذه السورة والتي بعدها ففتحها ابن كثير وعاصم وابن عامر، وقرأ الحسائي ذلك كله بالإضجاع، وقرأ نافع ذلك كله بين الفتح والإمالة، وقرأ حمزة {ضحاها} مكسورة و{تليها وضحاها} مفتوحتين وكسر سائر ذلك، واختلف عن أبي عمرو فمرة كسر الجميع ومرة كقراءة نافع، قال الزجاج سمى الناس الإمالة كسراً وليس بكسر صحيح، والخليل وأبو عمرو يقولان إمالة.