فصل: تفسير الآيات (39- 45):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (12- 20):

{مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16) إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20)}
قال كثير من المفسرين: الخبر هنا المال، فوصفه بالشح، وقال آخرون: بل هو على عمومه في المال والأفعال الصالحة، ومن يمنع إيمانه وطاعته لله تعالى فقد منع الخير، والمعتدي: المتجاوز لحدود الأشياء. والأثيم: فعيل من الإثم، بمعنى: آثم، وذلك من حيث أعماله قبيحة تكسب الإثم، والعتل: القوي البنية الغليظ الأعضاء المصحح القاسي القلب، البعيد الفهم، الأكول الشروب، الذي هو بالليل جيفة وبالنهار حمار، فكل ما عبر به المفسرون عنه من خلال النقص فعن هذه التي ذكرت بصدر، وقد ذكر النقاش، أن النبي صلى الله عليه وسلم: فسر العتل بنحو هذا، وهذه الصفات كثيرة التلازم، والعتل: الدفع بشدة، ومنه العتلة، وقوله: {بعد ذلك} معناه، بعدما وصفناه به، فهذا الترتيب إنما هو في قول الواصف، لا في حصول تلك الصفات في الموصوف وإلا فكونه عتلاً، هو قبل كونه صاحب خير يمنعه، والزنيم: في كلام العرب، الملصق في القوم وليس منهم، وقد فسر به ابن عباس هذه الآية، وقال مرة الهمداني: إنما ادعاه أبوه بعد ثمان عشرة سنة، يعني الذي نزلت فيه هذه الآية، ومن ذلك قول حسان بن ثابت: [الطويل]
وأنت زنيم نيط في آل هاشم ** كما نيط خلف الراكب القدح الفرد

ومنه قول حسان بن ثابت أيضاً: [الطويل]
زنيم تداعاه الرجال زيادة ** كما زيد في عرض الأديم الأكارع

فقال كثير من المفسرين: هذا هو المراد في الآية. وذلك أن الأخنس بن شريق كان من ثقيف، حليفاً لقريش. وقال ابن عباس: أراد ب الزنيم أن له زنمة في عنقه كزنمة الشاة، وهي الهنة التي تعلق في عنقها، وما كنا نعرف المشار إليه، حتى نزلت فعرفناه بزنمته. قال أبو عبيدة: يقال للتيس زنيم إذ له زنمتان، ومنه قول الأعرابي في صفة شاته: كأن زنمتيها نتوا قليسية. وروي أن الأخنس بن شريق كان بهذه الصفة كان له زنمة. وروى ابن عباس أنه قال: لما نزلت هذه الصفة، لم يعرف صاحبها حتى نزلت {زنيم} فعرف بزنمته. وقال بعض المفسرين: الزنيم: المريب، القبيح الأفعال. واختلفت القراءة في قوله: {أن كان ذا مال}. فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو والكسائي وحفص عن عاصم وأهل المدينة: {أن كان} على الخبر، وقرأ حمزة: {أأن كان} بهمزتين محققتين على الاستفهام، وقرأ ابن عامر والحسن وابن أبي إسحاق وعاصم وأبو جعفر: {آن كان} على الاستفهام بتسهيل الهمزة الثانية، والعامل في {أن كان} فعل مضمر تقديره: كفر أو جحد أو عند، وتفسير هذا الفعل، قوله: {إذا تتلى عليه} الآية، وجاز أن يعمل المعنى وهو متأخر من حيث كان قوله: {أن كان} في منزلة الظرف، إذ يقدر باللام، أي لأن كان، وقد قال فيه بعض النحاة: إنه في موضع خفض باللام، كما لو ظهرت، فكما يعمل المعنى في الظرف المتقدم فكذلك يعمل في هذا، ومنه قوله تعالى: {ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد} [سبأ: 7]. فالعامل في: {إذا} [سبأ: 7]، معنى قوله: {إنكم لفي خلق جديد} [سبأ: 7]، أي تبعثون، ونحوه من التقدير، ولا يجوز أن يعمل: {تتلى} في {إذا} لأنه مضاف إليه وقد أضيف {إذا} إلى الجملة ولا يجوز أن يعمل في {أن}، قال لأنها جواب {إذا} ولا تعمل فيما قبلها. وأجاز أبو علي أن يعمل فيه {عتل} وإن كان قد وصف، ويصح على هذا النظر أن يعمل فيه {زنيم} لاسيما على قول من يفسره بالقبيح الأفعال، ويصح أن يعمل في {أن كان}، تطيعه التي يقتضيها قوله: {ولا تطع} [القلم: 10]. وهذا على قراءة الاستفهام يبعد وإنما يتجه لا تطعه لأجل كونه كذا، و{أن كان}، على كل وجه، مفعول من أجله وتأمل. وقد تقدم القول في الأساطير في غير ما موضع. وقوله تعالى: {سنسمه على الخرطوم} معناه على الأنف قاله المبرد، وذلك أن {الخرطوم} يستعار في أنف الإنسان. وحقيقته في مخاطم السباع، ولم يقع التوعد في هذه الآية، بأن يوسم هذا الإنسان على أنفه بسمة حقيقة، بل هذه عبارة عن فعل يشبه الوسم على الأنف. واختلف الناس في ذلك الفعل، فقال ابن عباس: هو الضرب بالسيف أي يضرب في وجهه، وعلى أنفه فيجيء ذلك الوسم على الأنف، وحل ذلك به يوم بدر. وقال محمد بن يزيد المبرد: ذلك في عذاب الآخرة في جهنم، وهو تعذيب بنار على أنوفهم. وقال آخرون ذلك في يوم القيامة، أي يوسم على أنفه بسمة يعرف بها كفره وانحطاط قدره. وقال قتادة وغيره معناه: سنفعل به في الدنيا من الذم له والمقت والإشهار بالشر ما يبقى فيه ولا يخفى به فيكون ذلك كالوسم على الأنف ثابتاً بيناً، وهذا المعنى كما تقول: سأطوقك طوق الحمامة، أي أثبت لك الأمر بيناً فيك، ونحو هذا أراد جرير بقوله: [الكامل]
لما وضعت على الفرزدق ميسمي

وفي الوسم على الأنف تشويه، فجاءت استعارته في المذمات بليغة جداً. وإذا تأملت حال أبي جهل ونظرائه وما ثبت لهم في الدنيا من سوء الأحدوثة رأيت أنهم قد وسموا على الخراطيم. وقوله تعالى: {إنا بلوناهم} يريد قريشاً، أي امتحناهم، و{أصحاب الجنة} فيما ذكر قوم إخوة كان لأبيهم جنة وحرث مغل فكان يمسك منه قوته، ويتصدق على المساكين بباقيه، وقيل بل كان يحمل المساكين معه في وقت حصاده وجذه، فيجذيهم منه فمات الشيخ، فقال ولده: نحن جماعة وفعل أبينا كان خطأ، فلنذهب إلى جنتنا ولا يدخلها علينا مسكين، ولا نعطي منها شيئاً، قال: فبيتوا أمرهم وعزمهم على هذا، فبعث الله عليها بالليل طائفاً من نار أو غير ذلك، فاحترقت، فقيل: أصبحت سوداء، وقيل: بيضاء كالزرع اليابس المحصود، فلما أصبحوا إلى جنتهم لم يروها فحسبوا أنهم قد أخطؤوا الطريق، ثم تبينوها فعلموا أن الله تعالى أصابهم فيها، فتابوا حينئذ وأنابوا وكانوا مؤمنين من أهل الكتاب، فشبه الله تعالى قريشاً بهم، في أنهم امتحنهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وهداه كما امتحن أولئك بفعل أبيهم وبأوامر شرعهم، فكما حل بأولئك العقاب في جنتهم كذلك يحل بهؤلاء في جميع دنياهم وفي حياتهم، ثم التوبة معرضة لمن بقي منهم كما تاب أولئك.
وقال كثير من المفسرين: السنون السبع التي أصابت قريشاً هي بمثابة ما أصاب أولئك في جنتهم. وقوله تعالى: {ليصرمنها} أي ليجدنها، وصرام النخل: جد ثمره وكذلك في كل شجرة، و{مصبحين} معناه: إذا دخلوا في الصباح، وقوله تعالى: {ولا يستثنون} ولا يتوقفون في ذلك، أو ولا يثنون عن رأي منع المساكين، وقال مجاهد معناه: لا يقولون إن شاء الله، بل عزموا على ذلك عزم من يملك أمره، والطائف: الأمر الذي يأتي بالليل، ذكر هذا التخصيص الفراء، ويرده قوله تعالى: {إذا مسهم طائف من الشيطان} [الأعراف: 201]، والصريم: قال الفراء ومنذر وجماعة: أراد به الليل من حيث اسودت جنتهم. وقال آخرون: أراد به الصبح من حيث ابيضت كالحصيد، قاله سفيان الثوري: والصريم، يقال لليل والنهار من حيث كل واحد منهما ينصرم من صاحبه، وقال ابن عباس: الصريم، الرماد الأسود بلغة جذيمة، وقال ابن عباس أيضاً وغيره: الصريم، رملة باليمن معروفة لا تنبت فشبه جنتهم بها.

.تفسير الآيات (21- 29):

{فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29)}
{تنادوا} معناه: دعا بعضهم بعضاً إلى المضي لميعادهم، وقرأ بعض السبعة: {أنُ اغدوا} بضم النون وبعضهم بكسرها، وقد تقدم هذا مراراً. وقولهم {إن كنتم صارمين}، يحتمل أن يكون من صرام النخل، ويحتمل أن يريد إن كنتم من أهل عزم وإقدام على آرائكم من قولك سيف صارم، و{يتخافتون} معناه: يتكلمون كلاماً خفياً، ومنه قوله تعالى: {ولا تخافت بها} [الإسراء: 110]، وكان هذا التخافت خوفاً من أن يشعر بهم المساكين، وكان لفظهم الذي {يتخافتون} به أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين. وقرأ ابن مسعود وابن أبي عبلة: {لا يدخلنها} بسقوط أن، وقوله تعالى: {على حرد} يحتمل أن يريد على منع من قولهم: حاردت الإبل، إذا قلت ألبانها فمنعتها، وحاردت السنة، إذا كانت شهباء لا غلة لها، ومنه قول الشاعر [الكميت]: [الطويل]
وحاردت النكد الجلاد فلم يكن ** لعقبة قدر المستعيرين معقب

ويحتمل أن يريد بالحرد القصد، وبذلك فسر بعض اللغويين، وأنشد عليه [القرطبي]: [الرجز]
أقبل سيل جاء من أمر الله ** يحرد حرد الحبّة المغله

أي يقصد قصدها، ويحتمل أن يريد بالحرد، الغضب، يقال: حرد الرجل حرداً إذا غضب، ومنه قول الأشهب بن رميلة: [الطويل]
أسود شرى لاقت أسوداً خفية ** تساقوا على حرد دماء الأساود

وقوله تعالى: {قادرين} يحتمل أن يكون من القدرة، أي هم قادرون في زعمهم، ويحتمل أن يكون من التقدير كأنهم قد قدروا على المساكين، أي ضيقوا عليهم، ومنه قوله تعالى: {ومن قدر عليه رزقه} [الطلاق: 7]، وقوله: {فلما رأوها} أي محترقة حسبوا أنهم قد ضلوا الطريق، وأنها ليست تلك، فلما تحققوها علموا أنها أصيبت، فقالوا: {بل نحن محرومون}، أي قد حرمنا غلتها وبركتها، فقال لهم أعدلهم قولاً وخلقاً وعقلاً وهو الأوسط، ومنه قوله تعالى: {أمة وسطاً} [البقرة: 143] أي عدولاً خياراً، و{تسبحون}، قيل هي عبارة عن طاعة الله وتعظيمه، والعمل بطاعته. وقال مجاهد وأبو صالح: هي كانت لفظة، الاستثناء عندهم.
قال القاضي أبو محمد: وهذا يرد عليه قولهم: {سبحان ربنا} فبادر القوم عند ذلك وتابوا وسبحوا واعترفوا بظلمهم في اعتقادهم منع الفقراء.

.تفسير الآيات (30- 38):

{فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38)}
{يتلاومون} معناه: يجعل كل واحد اللوم في حيز صاحبه، ويبرئ نفسه، ثم أجمعوا على أنهم طغوا، أي تعدوا ما يلزم من مواساة المساكين، ثم انصرفوا إلى رجاء الله تعالى، وانتظار الفرج من لدنه في أن يبدلهم بسبب توبتهم خيراً من تلك الجنة. وقرأ: {يبْدلنا} بسكون الباء وتخفيف الدال، جمهور القراء والحسن وابن محيصن والأعمش، وقرأ نافع وأبو عمرو: بالتثقيل وفتح الباء، وقوله تعالى: {كذلك العذاب} ابتداء مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم في أمر قريش، والإشارة بذلك إلى العذاب الذي نزل بالجنة، أي ذلك العذاب، هو العذاب الذي ينزل بقريش بغتة، ثم عذاب الآخرة بعد ذلك أشد عليهم من عذاب الدنيا، وقال كثير من المفسرين: العذاب النازل بقريش المماثل لأمر الجنة هو الجدب الذي أصابهم سبع سنين، حتى رأوا الدخان وأكلوا الجلود، ثم أخبر تعالى: {إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم}، فروي أنه لما نزلت هذه قالت قريش: إن كانت ثم جنات نعيم، فلنا فيها أكبر الحظ، فنزلت: {أفنجعل المسلمين كالمجرمين}، وهذا على جهة التوقيف والتوبيخ. وقوله تعالى: {ما لكم} توبيخ آخر ابتداء وخبر جملة منحازة، وقوله تعالى: {كيف تحكمون} جملة منحازة كذلك، و{كيف} في موضع نصب ب {تحكمون}، وقوله تعالى: {أم} هي المقدرة ببل وألف الاستفهام، و: {كتاب} معناه: منزل من عند الله، وقوله تعالى: {إن لكم فيه لما تخيرون}. قال بعض المتأولين: هذا استئناف قول على معنى: إن كان لكم كتاب، فلكم فيه متخير، وقال آخرون: {إن} معمولة ل {تدرسون}، أي تدرسون في الكتاب إن لكم ما تختارون من النعيم، وكسرت الألف من {إن} لدخول اللام في الخبر، وهي في معنى: أن بفتح الألف. وقرأ طلحة والضحاك: {أن لكم} بفتح الألف. وقرأ الأعرج {أأن لكم فيه} على الاستفهام.

.تفسير الآيات (39- 45):

{أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43) فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45)}
قوله تعالى: {أم لكم أيمان علينا بالغة إلى يوم القيامة} مخاطبة للكفار، كأنه يقول: هل أقسمنا لكم قسماً فهو عهد لكم بأنا ننعمكم في يوم القيامة وما بعده؟ وقرأ جمهور الناس بالرفع على الصفة لأيمان، وقرأ الحسن بن أبي الحسن {بالغةً} بالنصب على الحال وهي حال من النكرة، لأنها نكرة مخصصة بقوله: {علينا}، وقرأ الأعرج: {أإن لكم لما تحكمون} وكذلك في التي تقدمت في قوله: {أإن لكم فيه لما تخيرون}، ثم أمر تعالى نبيه محمداً على وجه إقامة الحجة، أن يسألهم عن الزعيم لهم بذلك من هو؟ والزعيم: الضامن للأمر والقائم به، ثم وقفهم على أمر الشركاء، عسى أن يظنوا أنهم ينفعونهم في شيء من هذا. وقرأ ابن أبي عبلة وابن مسعود: {أم لهم شركاء فليأتوا بشِركهم} بكسر الشين دون ألف، والمراد بذلك على القراءتين الأصنام، وقوله تعالى: {فليأتوا بشركائهم} قيل هو استدعاء وتوقيف في الدنيا، أي ليحضروهم حتى يرى هل هم بحال من يضر وينفع أم لا، وقيل هو استدعاء وتوقيف على أن يأتوا بهم يوم القيامة، {يوم يكشف عن ساق}. وقوله تعالى: {يوم يكشف عن ساق}، قال مجاهد: هي أول ساعة من يوم القيامة، وهي أفظعها، وتظاهر حديث من النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه ينادي مناد يوم القيامة ليتبع كل أحد ما كان يعبد»، قال: «فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس، ويتبع من كان يعبد القمر القمر، وكذلك كل عابد لكل معبود ثم تبقى هذه الأمة وغبرات أهل الكتاب، معهم منافقوهم وكثير من الكفرة، فيقال لهم: ما شأنكم لم تقفون، وقد ذهب الناس فيقولون ننتظر ربنا فيجيئهم الله تعالى في غير الصورة التي عرفوه بها، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، قال فيقول: أتعرفونه بعلامة ترونها فيقولون: نعم، فيكشف لهم عن ساق، فيقولون: نعم أنت ربنا، ويخرون للسجود فيسجد كل مؤمن وتصير أصلاب المنافقين والكفار كصياصي البقر عظماً واحداً، فلا يستطيعون سجوداً».
قال القاضي أبو محمد: هكذا هو الحديث وإن اختلفت منه ألفاظ بزيادة ونقصان، وعلى كل وجه فما ذكر فيه من كشف الساق وما في الآية من ذلك، فإنما هو عبارة عن شدة الهول وعظم القدرة التي يرى الله تعالى ذلك اليوم حتى يقع العلم أن تلك القدرة إنما هي لله تعالى وحده، ومن هذا المعنى قول الشاعر في صفة الحرب [جد طرفة]: [مجزوء الكامل]
كشفت لهم عن ساقها ** وبدا عن الشر البواح

ومنه قول الراجز: [الرجز]
وشمرت عن ساقها فشدوا...
وقول الآخر: [الرجز]
في سنة قد كشفت عن ساقها ** حمراء تبري اللحم عن عراقها

وأصل ذلك أنه من أراد الجد في أمر يحاوله فإنه يكشف عن ساقه تشميراً وجداً، وقد مدح الشعراء بهذا المعنى فمنه قول دريد: [الطويل]
كميش الإزار خارج نصف ساقه ** صبور على الضراء طلاع أنجدِ

وعلى هذا من إرادة الجد والتشمير في طاعة الله تعالى، قال صلى الله عليه وسلم: «أزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه». وقرأ جمهور الناس: {يُكشَف عن ساق} بضم الياء على بناء الفعل للمفعول، وقرأ ابن مسعود: {يَكشِف} بفتح الياء وكسر الشين على معنى يكشف الله، وقرأ ابن عباس: {تُكشف} بضم التاء على معنى تكشف القيامة والشدة والحال الحاضرة، وقرأ ابن عباس أيضاً: {تَكشف} بفتح التاء على أن القيامة هي الكاشفة، وحكى الأخفش عنه أنه قرأ: {نَكشِف} بالنون مفتوحة وكسر الشين، ورويت عن ابن مسعود. وقوله تعالى: {ويدعون} ظاهره أن ثم دعاء إلى السجود، وهذا يرده ما قد تقرر في الشرع من أن الآخرة ليست بدار عمل وأنها لا تكليف فيها، فإذا كان هذا فإنما الداعي ما يرونه من سجود المؤمنين فيريدون هم أن يسجدوا عند ذلك فلا يستطيعونه. وقد ذهب بعض العلماء إلى أنهم يدعون إلى السجود على جهة التوبيخ، وخرج بعض الناس من قوله: {فلا يستطيعون} أنهم كانوا يستطيعونه قبل ذلك، وذلك غير لازم. وعقيدة الأشعري: أن الاستطاعة إنما تكون مع التلبس بالفعل لما قبله، وهذا القدر كاف من هذه المسألة هاهنا. و: {خاشعة} نصب على الحال وجوارحهم كلها خاشعة، أي ذليلة ولكنه خص الأبصار بالذكر لأن الخشوع فيها أبين منه في كل جارحة. وقوله تعالى: {ترهقهم ذلة} أي تزعج نفوسهم وتظهر عليهم ظهوراً يخزيهم، وقوله تعالى: {وقد كانوا يدعون إلى السجود} يريد في دار الدنيا وهم سالمون مما نال عظام ظهورهم من الاتصال والعتو، وقال بعض المتأولين: {السجود} هنا عبارة عن جميع الطاعات، وخص {السجود} بالذكر من حيث هو عظم الطاعات، ومن حيث به وقع امتحانهم في الآخرة، وقال إبراهيم التيمي والشعبي: أراد ب {السجود} الصلوات المكتوبة، وقال ابن جبير: المعنى كانوا يسمعون النداء للصلاة: وحي على الفلاح فلا يجيبون، وفلج الربيع بن خيثم: فكان يهادي بين رجلين إلى المسجد، فقيل له: إنك لمعذور، فقال: من سمع حي على الفلاح، فليجب ولو حبواً، وقيل لابن المسيب: إن طارقاً يريد قتلك فاجلس في بيتك، فقال: أسمع حي على الفلاح فلا أجيب؟ والله لا فعلت. وهذا كله قريب بعضه من بعض، وقوله تعالى: {فذرني ومن يكذب بهذا الحديث} وعيد ولم يكن ثم مانع، ولكنه كما تقول: دعني مع فلان، أي سأعاقبه، {ومن} في موضع نصب عطفاً على الضمير في: {ذرني} أو نصباً على المفعول معه، و{الحديث} المشار إليه هو القرآن المخبر بهذه الغيوب، والاستدراج هو: الحمل من رتبة إلى رتبة، حتى يصير المحمول إلى شر وإنما يستعمل الاستدراج في الشر، وهو مأخوذ من الدرج، قال سفيان الثوري: نسبغ عليهم النعم، ويمنعون الشكر، وقال غيره: كلما زادوا ذنباً زادوا نعمة، وفي معنى الاستدراج قول النبي صلى الله عليه وسلم:
«إن الله تعالى يمهل الظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» وقال الحسن: كم من مستدرج بالإحسان إليه ومغرور بالستر عليه. {وأملي لهم} معناه: أؤخرهم ملاوة من الزمن، وهي البرهة والقطعة، يقال: مُلاوة: بضم الميم وبفتحها وبكسرها، والكيد: عبارة عن العقوبة التي تحل بالكفار من حيث هي: على كيد منهم، فسمى العقوبة باسم الذنب، والمتين: القوي الذي له متانة، ومنه المتن الظهر.