فصل: تفسير الآيات (65- 67):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (65- 67):

{هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (66) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67)}
لما سددت الآيات صفات الله تعالى التي تبين فساد حال الأصنام كان من أبينها أن الأصنام موات جماد، وأنه عز وجل الحي القيوم، وصدور الأمور من لدنه، وإيجاد الأشياء وتدبير الأمر دليل قاطع على أنه حي لا إله إلا هو.
وقوله: {فادعوه مخلصين له الدين، الحمد لله رب العالمين} كلام متصل مقتضاه: ادعوه مخلصين بالجهد، وبهذه الألفاظ قال ابن عباس: من قال لا إله إلا الله، فليقل على أثرها: {الحمد لله رب العالمين}. وقال نحو هذا سعيد بن جبير ثم قرأ هذه الآية.
ثم أمر الله تعالى نبيه عليه السلام أن يصدع بأنه نهي عن عبادة الأصنام التي عبدها الكفار من دون الله، ووقع النهي لما جاءه الوحي والهدي من ربه تعالى، وأمر بالإسلام الذي هو الإيمان والأعمال. وقوله: {لرب العالمين} أي إن استسلم لرب العالمين واخضع له بالطاعة.
ثم بين تعالى أمر الوحدانية والألوهية بالعبرة في ابن آدم وتدريج خلقه، فأوله خلق آدم عليه السلام من تراب من طين لازب، فجعل البشر من التراب كما كان منسلاً من الخلوق من التراب. وقوله تعالى: {من نطفة} إشارة إلى التناسل من آدم فمن بعده. والنطفة: الماء الذي خلق المرء منه. والعلقة: الدم الذي يصير من النطفة. والطفل هنا: اسم جنس. وبلوغ الأشد: اختلف فيه: فقيل ثلاثون، وقيل ستة وثلاثون، وقيل أربعون: وقيل ستة وأربعون، وقيل عشرون، وقيل ثمانية عشر، وقيل خمسة عشر، وهذه الأقوال الأخيرة ضعيفة في الأشد.
وقوله تعالى: {ومنكم من يتوفى من قبل} عبارة تتردد في الأدراج المذكورة كلها، فمن الناس من يموت قبل أن يخرج طفلاً، وآخرون قبل الأشد، وآخرون قبل الشيخوخة.
وقوله: {ولتبلغوا أجلاً مسمى} أي هذه الأصناف كلها مخلوقة ميسرة ليبلغ كل واحد منها أجلاً مسمى لا يتعداه ولا يتخطاه ولتكون معتبراً. {ولعلكم} أيها البشر {تعقلون} الحقائق إذا نظرتم في هذا وتدبرتم حكمة الله تعالى.

.تفسير الآيات (68- 74):

{هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74)}
قوله تعالى: {فإذا قضى أمراً} عبارة عن إنقاذ الإيجاد، وإخراج المخلوق من العدم وإيجاد الموجودات هو بالقدرة، واقتران الأمر بذلك: هو عظمة في الملك وتخضيع للمخلوقات وإظهار للقدرة بإيجاده، والأمر للموجد إنما يكون في حين تلبس القدرة بإيجاده لا قبل ذلك، لأنه حينئذ لا يخاطب في معنى الوجود والكون ولا بعد ذلك، لأن ما هو كائن لا يقال له {كن}.
وقوله تعالى: {ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنى يصرفون} ظاهر الآية أنها في الكفار المجادلين في رسالة محمد والكتاب الذي جاء به بدليل قوله: {الذين كذبوا بالكتاب}. وهذا قول ابن زيد والجمهور من المفسرين. وقال محمد بن سيرين وغيره، قوله تعالى: {ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنى يصرفون} هي إشارة إلى أهل الأهواء من الأمة، وروت هذه الفرقة في نحو هذا حديثاً وقالوا هي في أهل القدر ومن جرى مجراهم، ويلزم قائلي هذه المقالة أن يجعلوا قوله تعالى: {الذين كذبوا} كلاماً مقطوعاً مستأنفاً في الكفار. {الذين} ابتداء وخبره: {فسوف يعلمون}، ويحتمل أن يكون خبر الابتداء محذوفاً والفاء متعلقة به.
وقوله تعالى: {إذ الأغلال} يعني يوم القيامة، والعامل في الظرف {يعلمون} وعبر عن ظرف الاستقبال بظرف لا يقال إلا في الماضي، وذلك لما تيقن وقوع الأمر حسن تأكيده بالإخراج في صيغة المضي، وهذا كثير في القرآن كما قال تعالى: {وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم} [المائدة: 116] قال الحسن بن أبي الحسن: لم تجعل السلاسل في أعناق أهل النار، لأنهم أعجزوا الرب، لكن لترسبهم إذا أطفاهم اللهب.
وقرأ جمهور الناس: {والسلاسلُ} عطفاً على {الأغلال}. وقرأ ابن عباس وابن مسعود: {والسلاسلَ} بالنصب {يسحَبون} بفتح الحاء وإسناد الفعل إليهم وإيقاع الفعل على {السلاسل}. وقرأت فرقة {والسلاسلِ} بالخفض على تقدير إذ أعناقهم في الأغلال والسلاسل. فعطف على المراد من الكلام لا على ترتيب اللفظ، إذ ترتيبه فيه قلب، وهو على حد قول العرب: أدخلت القلنسوة في رأسي. وفي مصحف أبي بن كعب: {وفي السلاسل يسحبون}. و: {يسحبون} معناه يجرون، والسحب الجر. و{الحميم}: الذائب الشديد الحر من النار، ومنه يقال للماء السخن: حميم. و: {يسجرون} قال مجاهد معناه: توقد النار بهم، والعرب تقول: سجرت التنور إذا ملأتها. وقال السدي: {يسجرون} يحرقون.
ثم أخبر تعالى أنهم يوقفون يوم القيامة على جهة التوبيخ والتقريع، فيقال لهم أين الأصنام التي كنتم تعبدون من دون الله؟ فيقولون: {ضلوا عنا} أي تلفوا لنا وغابوا واضمحلوا، ثم تضطرب أقوالهم ويفزعون إلى الكذب فيقولون: {بل لم نكن ندعو من قبل شيئاً} وهذا من أشد الاختلاط وأبين الفساد في الدهر والنظر فقال الله تعالى لنبيه: {كذلك يضل الله الكافرين} أي كهذه الصفة المذكورة وبهذا الترتيب.

.تفسير الآيات (75- 78):

{ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآَيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78)}
المعنى يقال للكفار المعذبين {ذلكم} العذاب الذي أنتم فيه {بما كنتم تفرحون} في الدنيا بالمعاصي والكفر. و: {يمرحون} قال مجاهد معناه: الأشر والبطر. وقال ابن عباس: الفخر والخيلاء.
وقوله تعالى: {ادخلوا} معناه: يقال لهم قبل هذه المحاورة في أول الأمر {ادخلوا}، لأن هذه المخاطبة إنام هي بعد دخولهم وفي الوقت الذي فيه الأغلال في أعناقهم. و: {أبواب جنهم} هي السبعة المؤدية إلى طبقاتها وأدراكها السبعة. والمثوى: موضع الإقامة.
ثم أنس تعالى نبيه ووعده بقوله: {فاصبر إن وعد الله حق} أي في نصرك وإظهار أمرك، فإن ذلك أمر إما أن ترى بعضه في حياتك فتقر عينك به، وإما أن تموت قبل ذلك فإلى أمرنا وتعذيبنا يصيرون ويرجعون.
وقرأ الجمهور: {يُرجعون} بضم الياء. وقرأ أبو عبد الرحمن ويعقوب {يَرجعون} بفتح الياء. وقرأ طلحة بن مصرف ويعقوب في رواية الوليد بن حسان: بفتح التاء منقوطة من فوق.
وقوله تعالى: {ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك} الآية رد على العرب الذين قالوا: إن الله لا يبعث بشراً رسولاً واستبعدوا ذلك.
وقوله تعالى: {منهم من قصصنا} قال النقاش: هم أربعة وعشرون.
وقوله تعالى: {ومنهم من لم نقصص عليك} روي من طريق أنس بن مالك عن النبي عليه السلام أن الله تعالى بعث ثمانية آلاف رسول. وروي عن سلمان عن النبي عليه السلام قال: «بعث الله أربعة آلاف نبي» وروي عن ابن عباس وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما أنه قال: بعث الله رسولاً من الحبشة أسود، وهو الذي يقص على محمد.
قال القاضي أبو محمد: وهذا إنما ساقه على أن هذا الحبشي مثال لمن لم يقص، لا أنه هو المقصود وحده، فإن هذا بعيد.
وقوله تعالى {وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله} رد على قريش في إنكارهم أمر محمد صلى الله عليه وسلم وقولهم إنه كاذب على الله تعالى. والإذن يتضمن علماً وتمكيناً. فإذا اقترن به أمر قوي كما هو في إرسال النبي، ثم قال تعالى: {فإذا جاء أمر الله} أي إذا أراد الله إرسال رسول وبعثة نبي، قضى ذلك وأنفذه بالحق، وخسر كل مبطل وحصل على فساد آخرته، وتحتمل الآية معنى آخر، وهو أن يريد ب {أمر الله} القيامة، فتكون الآية توعداً لهم بالآخرة.

.تفسير الآيات (79- 82):

{اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَأَيَّ آَيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82)}
هذه آيات عبر وتعديد نعم. و: {الأنعام} الأزواج الثمانية. ع و: {منها} الأولى للتبعيض، لأن المركوب ليس كل الأنعام، بل الإبل خاصة. {ومنها} الثانية لبيان الجنس، لأن الجميع منها يؤكل. وقال الطبري في هذه الآية: إن {الأنعام} تعم الإبل والبقر والغنم والخيل والبغال والحمير وغير ذلك ما ينتفع به في البهائم، ف {منها} في الموضعين للتبعيض على هذا، لكنه قول ضعيف، وإنما الأنعام، الأزواج الثمانية التي ذكر الله فقط. ثم ذكر تعالى المنافع ذكراً مجملاً، لأنها أكثر من أن تحصى.
وقوله تعالى: {ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم} يريد قطع المهامه الطويلة والمشاق البعيدة. و: {الفلك} السفن، وهو هنا جمع. و: {تحملون} يريد: براً وبحراً. وكرر الحمل عليها، وقد تقدم ذكر ركوبها لأن المعنى مختلف وفي الأمرين تغاير، وذلك أن الركوب هو المتعارف فيما قرب واستعمل في القرى والمواطن نظير الأكل منها وسائر المنافع بها، ثم خصص بعد ذلك السفر الأطوال وحوائج الصدور مع البعد والنوى، وهذا هو الحمل الذي قرنه بشبيهه من أمر السفن. ثم ذكر تعالى آياته عامة جامعة لكل عبرة وموضع نظر، وهذا غير منحصر لاتساعه، ولأن في كل شيء له آية تدل على وحدانيته، ثم قررهم على جهة التوبيخ بقوله: {فأي آيات الله تنكرون}. ثم احتج تعالى على قريش بما يظهر في الأمم السالفة من نقمات الله في الكفرة الذين {كانوا أكثر} عدداً {وأشد قوة} أبدان وممالك، وأعظم آثاراً في المباني والأفعال من قريش والعرب، فلم يغن عنهم كسبهم ولا حالهم شيئاً حين جاءهم عذاب الله وأخذه و{ما} في قوله: {فما أغنى عنهم} نافية. قال الطبري: وقيل هي تقرير وتوقيف.

.تفسير الآيات (83- 85):

{فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)}
الضمير في: {جاءتهم} عائد على الأمم المذكورين الذين جعلوا مثلاً وعبرة. واختلف المفسرون في الضمير في: {فرحوا} على من يعود، فقال مجاهد وغيره: هو عائد على الأمم المذكورين، أي بما عندهم من العلم في ظنهم ومعتقدهم من أنهم لا يبعثون ولا يحاسبون. قال ابن زيد: واغتروا بعلمهم في الدنيا والمعايش، وظنوا أنه لا آخرة ففرحوا، وهذا كقوله تعالى: {يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا} [الروم: 7] وقالت فرقة: الضمير في {فرحوا} عائد على الرسل، وفي هذا الرسل حذف، وتقديره: {فلما جاءتهم رسلهم بالبينات} كذبوهم، ففرح الرسل بما عندهم من العلم بالله والثقة به، وبأنه سينصرهم. {وحاق} معناه: نزل وثبت، وهي مستعملة في الشر. و{ما} في قوله: {ما كانوا} هو العذاب الذي كانوا يكذبون به ويستهزئون بأمره، والضمير في {بهم} عائد على الكفار بلا خلاف. ثم حكى حالة بعضهم ممن آمن بعد تلبس العذاب بهم فلم ينفعهم ذلك، وفي ذكر هذا حض للعرب على المبادرة وتخويف من التأني لئلا يدركهم عذاب لا تنفعهم توبة بعد تلبسه بهم. وأما قصة قوم يونس فرأوا العذاب ولم يكن تلبس بهم، وقد مر تفسيرها مستقصى في سورة يونس عليه السلام. و: {سنة الله} نصب على المصدر. و: {خلت} معناه: مضت واستمرت وصارت عادة.
وقوله: {هنالك} إشارة إلى أوقات العذاب، أي ظهر خسرانهم وحضر جزاء كفرهم.

.سورة فصلت:

.تفسير الآيات (1- 7):

{حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آَذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7)}
تقدم القول في أوائل السور مما يختص به الحواميم، وأمال الأعمش {حم} [فصلت: 1، الشورى: 1، الدخان: 1، الزخرف: 1، الجاثية: 1، الأحقاف: 1] في كلها. و: {تنزيل} خبر الابتداء، إما على أن يقدر الابتداء، إما على أن يقدر الابتداء في: {حم} على ما تقتضيه بعض الأقوال إذا جعلت اسماً للسورة أو للقرآن أو إشارة إلى حروف المعجم، وإما على أن يكون التقدير: هذا تنزيل، ويجوز أن يكون {تنزيل} ابتداء وخبره في قوله: {كتاب فصلت} على معنى ذو تنزيل. و: {الرحمن الرحيم} صفتا رجاء ورحمة لله تعالى. و: {فصلت} معناه بينت آياته، أي فسرت معانيه ففصل بين حلاله وحرامه وزجره وأمره ووعده ووعيده، وقيل {فصلت} في التنزيل، أي نزل نجوماً، لم ينزل مرة واحدة، وقيل {فصلت} بالمواقف وأنواع أواخر الآي، ولم يكن يرجع إلى قافية ونحوها كالشعر والسجع. و: {قرآناً} نصب على الحال عند قوم، وهي مؤكدة، لأن هذه الحال ليست مما تنتقل. وقالت فرقة: هو نصب على المصدر، وقالت فرقة: {قرآناً} توطئة للحال. و: {عربياً} حال. وقالت فرقة: {قرآناً} نصب على المدح وهو قول ضعيف.
وقوله تعالى: {لقوم يعلمون} قالت فرقة: معناه يعلمون الأشياء ويعقلون الدلائل وينظرون على طريق نظر، فكأن القرآن فصلت آياته لهؤلاء، إذ هم أهل الانتفاع بها، فخصوا بالذكر تشريفاً، ومن لم ينتفع بالتفصيل فكأنه لم يفصل له. وقالت فرقة: {يعلمون} متعلق في المعنى بقوله: {عربياً} أي جعلناه بكلام العرب لقوم يعلمون ألفاظه ويتحققون أنها لم يخرج شيء منها عن كلام العرب، وكأن الآية رادة على من زعم أن في كتاب الله ما ليس في كلام العرب، فالعلم على هذا التأويل أخص من العلم على التأويل الأول، والأول أشرف معنى، وبين أنه ليس في القرآن إلا ما هو من كلام العرب إما من أصل لغتها وإما عربته من لغة غيرها ثم ذكر في القرآن وهو معرب مستعمل.
وقوله: {بشيراً ونذيراً} نعت للقرآن، أي يبشر من آمن بالجنة، وينذر من كفر بالنار. والضمير في: {أكثرهم} عائد على القوم المذكورين.
وقوله: {فهم لا يسمعون} نفي لسمعهم النافع الذي يعتد به سمعاً، ثم حكى عنهم مقالتهم التي باعدوا فيها كل المباعدة وأرادوا أن يؤيسوهم من قبولهم دينهم وهي {قلوبنا في أكنة} جمع كنان وهو باب فعال وأفعلة. والكنان: ما يجمع الشيء ويضمه ويحول بينه وبين غيره، ومنه: الكن ومنه: كنانة النبل، وبها فسر مجاهد هذه الآية. ومن في قوله: {مما} لابتداء الغاية وكذلك هي في قوله: {ومن بيننا} مؤكدة ولابتداء الغاية. والوقر: الثقل في الأذن الذي يمنع السمع.
وقرأ ابن مصرف: {وِقر} بكسر الواو.
والحجاب: الذي أشاروا إليه: هو مخالفته إياهم ودعوته إلى الله دون أصنامهم، أي هذا أمر يحجبنا عنك، وهذه مقالة تحتمل أن تكون معها قرينة الجد في المحاورة وتتضمن المباعدة، ويحتمل أن تكون معها قرينة الهزل والاستخفاف، وكذلك قوله: {فاعمل إننا عاملون} يحتمل أن يكون القول تهديداً، ويحتمل أن يكون متاركة محضة.
وقرأ الجمهور: {قل إنما} على الأمر لمحمد صلى الله عليه وسلم. وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش: {قل إنما} على المضي والخبر عنه، وهذا هو الصدع بالتوحيد والرسالة.
وقوله: {قل إنما أنا بشر} قال الحسن: علمه الله تعالى التواضع، وإن في قوله: {إنما} رفع على المفعول الذي لم يسم فاعله.
وقوله: {فاستقيموا} أي على محجة الهدى وطريق الشرع والتوحيد، وهذا المعنى مضمن قوله: {إليه}. والويل: الحزن والثبور، وفسره الطبري وغيره في هذه الآية بقبح أهل النار وما يسيل منهم.
وقوله تعالى: {الذين لا يؤتون الزكاة} قال الحسن وقتادة وغيره: هي زكاة المال. وروي: الزكاة قنطرة الإسلام، من قطعها نجا، ومن جانبها هلك. واحتج لهذا التأويل بقول أبي بكر في الزكاة وقت الردة. وقال ابن عباس والجمهور: {الزكاة} في هذه الآية: لا إله إلا الله التوحيد كما قال موسى لفرعون: {هل لك إلى أن تزكى} [النازعات: 18] ويرجح هذا التأويل أن الآية من أول المكي، وزكاة المال إنما نزلت بالمدينة، وإنما هذه زكاة القلب والبدن، أي تطهيره من الشرك والمعاصي، وقاله مجاهد والربيع. وقال الضحاك ومقاتل: معنى {الزكاة} هنا: النفقة في الطاعة، وأعاد الضمير في قوله: {هم كافرون} توكيداً.