فصل: تفسير الآيات رقم (111- 112)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏90- 91‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ ‏(‏90‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ‏(‏91‏)‏‏}‏

اختلف المتأولون في كيف يترتب كفر بعد إيمان، ثم زيادة كفر، فقال الحسن وقتادة وغيرهما‏:‏ الآية في اليهود كفروا بعيسى بعد الإيمان بموسى ثم ‏{‏ازدادوا كفراً‏}‏ بمحمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال الإمام أبو محمد‏:‏ وفي هذا القول اضطراب، لأن الذي كفر بعيسى بعد الإيمان بموسى ليس بالذي كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، فالآية على هذا التأويل تخلط الأسلاف بالمخاطبين، وقال أبو العالية رفيع‏:‏ الآية في اليهود، كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد إيمانهم بصفاته وإقرارهم أنها في التوراة‏.‏ ثم ازدادوا كفراً بالذنوب التي أصابوها في خلاف النبي صلى الله عليه وسلم، من الافتراء والبهت والسعي على الإسلام وغير ذلك‏.‏

قال الإمام أبو محمد‏:‏ وعلى هذا الترتيب يدخل في الآية المرتدون اللاحقون بقريش وغيرهم، وقال مجاهد‏:‏ معنى قوله ‏{‏ثم ازدادوا كفراً‏}‏ أي تموا على كفرهم وبلغوا الموت به، فيدخل في هذا القول اليهود والمرتدون، وقال السدي نحوه، ثم أخبر تعالى أن توبة هؤلاء لن تقبل، وقد قررت الشريعة أن توبة كل كافر تقبل، سواء كفر بعد إيمان وازداد كفراً، أو كان كافراً من أول أمره، فلا بد في هذه الآية من تخصيص تحمل عليه ويصح به نفي قبول التوب فقال الحسن وقتادة ومجاهد والسدي‏:‏ نفي قبول توبتهم مختص بوقت الحشرجة الغرغرة والمعاينة، فالمعنى ‏{‏لن تقبل توبتهم‏}‏ عند المعاينة، وقال أبو العالية‏:‏ معنى الآية‏:‏ لن تقبل توبتهم من تلك الذنوب التي أصابوها مع إقامتهم على الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، فإنهم كانوا يقولون في بعض الأحيان‏:‏ نحن نتوب من هذه الأفعال، وهم مقيمون على كفرهم، فأخبر الله تعالى، أنه لا يقبل تلك التوبة‏.‏

قال الفقيه الإمام‏:‏ وتحتمل الآية عندي أن تكون إشارة إلى قوم بأعيانهم من المرتدين ختم الله عليهم بالكفر، وجعل ذلك جزاء لجريمتهم ونكايتهم في الدين، وهم الذي أشار إليهم بقوله ‏{‏كيف يهدي الله قوماً‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 86‏]‏ فأخبر عنهم أنهم لا تكون لهم توبة فيتصور قبولها، فتجيء الآية بمنزلة قول الشاعر‏:‏

‏(‏على لا حب لا يهتدى بمناره‏)‏ *** أي قد جعلهم الله من سخطه في حيز من لا تقبل له توبة إذ ليست لهم، فهم لا محالة يموتون على الكفر، ولذلك بيّن حكم الذين يموتون كفاراً بعقب الآية، فبانت منزلة هؤلاء، فكأنه أخبر عن هؤلاء المعينين، أنهم يموتون كفاراً، ثم أخبر الناس عن حكم من يموت كافراً و‏{‏الضالون‏}‏ المخطئون الطريق القويم في الأقوال والأفعال، وقرأ عكرمة‏:‏ «لن نقبل» بنون العظمة «توبتَهم» بنصب التاء‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار‏}‏ الآية، جزم للحكم على كل مواف على الكفر إلى يوم القيامة، وقرأ عكرمة‏:‏ «فلن نقبل» بنون العظمة «ملء الأرض» بالنصب، و«الملء» ما شحن به الوعاء، فهو بكسر الميم الاسم وبفتحها المصدر، تقول ملأت الشيء أملؤه مَلأً والملء اسم ما ملأت به، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وأبو السمال‏:‏ «مل» دون همزة، ورويت عن نافع و‏{‏ذهباً‏}‏ نصب على التمييز، وقرأ ابن أبي عبلة‏:‏ «ذهباً لو افتدى به»، دون واو، واختلف الناس في هذه الآية في قوله ‏{‏ولو افتدى‏}‏ فقال الطبري‏:‏ هي متعلقة بمحذوف في آخر الكلام دل عليه دخول الواو، كما دخلت في قوله

‏{‏وليكون من الموقنين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 75‏]‏ لمتروك من الكلام، تقديره، وليكون من الموقنين أريناه ملكوت السماوات والأرض‏.‏

قال الفقيه الإمام‏:‏ وفي هذا التمثيل نظر فتأمله، وقال الزّجاج‏:‏ المعنى‏:‏ لن يقبل من أحدهم إنفاقه وتقرباته في الدنيا «ولو أنفق ملء الأرض ذهباً ولو افتدى» أيضاً به في الآخرة لم يقبل منه، قال‏:‏ فأعلم الله أنه لا يثيبهم على أعمالهم من الخير، ولا يقبل منهم الافتداء من العذاب‏.‏

قال الفقيه الإمام أبو محمد‏:‏ وهذا قول حسن‏:‏ وقال قوم‏:‏ الواو زائدة وهذا قول مردود، ويحتمل أن يكون المعنى نفي القبول جملة على كل الوجوه، ثم خص من تلك الوجوه أليقها وأحراها بالقبول، كما تقول‏:‏ أنا لا أفعل لك كذا بوجه، ولو رغبت إليَّ، وباقي الآية وعيد بيّن‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏92- 93‏]‏

‏{‏لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ‏(‏92‏)‏ كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏93‏)‏‏}‏

ذهب بعض الناس إلى أن يصل معاني هذه الآيات بعضها ببعض، من حيث أخبر تعالى‏:‏ أنه لا يقبل من الموافي على الكفر ‏{‏ملء الأرض ذهباً‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 91‏]‏ وقد بان أنه يقبل من المؤمن القليل والكثير، فحض على الإنفاق من المحبوب المرغوب فيه، ثم ذكر تقرب إسرائيل عليه السلام، بتحريم ما كان يحب على نفسه، ليدل تعالى على أن جميع التقربات تدخل بالمعنى في جملة الإنفاق من المحبوب، وفسر جمهور المفسرين هذه الآيات، على أنها معان منحازة، نظمتها الفصاحة المعجزة أجمل نظم، وقوله تعالى ‏{‏لن تناولوا‏}‏ الآية، خطاب لجميع المؤمنين، وقال السدي وعمر بن ميمون‏:‏ ‏{‏البر‏}‏ الجنة‏.‏

قال الفقيه الإمام‏:‏ وهذا تفسير بالمعنى، وإنما الخاص باللفظة أنه ما يفعله البر من افاعيل الخير، فتحتمل الآية أن يريد‏:‏ لن تنالو بر الله تعالى بكم، أي رحمته ولطفه، ويحتمل أن يريد‏:‏ لن تنالوا درجة الكمال من فعل البر حتى تكونوا أبراراً، إلا بالإنفاق المنضاف إلى سائر أعمالكم، وبسبب نزول هذه الآية، تصدق أبو طلحة بحائطه، المسمى بيرحاء، وتصدق زيد بن حارثة بفرس كان يحبها، فأعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة ابنه، فكأن زيداً شق عليه فقال له النبي‏:‏ أما إن الله قد قبل صدقتك، وكتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري أن يشتري له جارية من سبي جلولاء وقت فتح مدائن كسرى علي يدي سعيد بن أبي وقاص فسيقت إليه وأحبها فدعا بها يوماً وقال‏:‏ إن الله يقول ‏{‏لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون‏}‏، فأعتقها‏.‏

قال الفقيه الإمام أبو محمد‏:‏ فهذا كله حمل للآية على أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مما تحبون‏}‏ أي من رغائب الأموال التي يضن بها، ويتفسر بقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ خير الصدقة أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى- الحديث- وذهب قوم من العلماء إلى أن ما يحب من المطعومات على جهة الاشتهاء يدخل في الآية، فكان عبد الله بن عمر، يشتهي أكل السكر بالوز فكان يشتري ذلك ويتصدق به ويتلو الآية‏.‏

قال الفقيه الإمام أبو محمد‏:‏ وإذا تأملت جميع الطاعات، وجدتها إنفاقاً مما يحب الإنسان، إما من ماله، وإما من صحته، وإما من دعته وترفهه، وهذه كلها محبوبات، وسأل رجل أبا ذر الغفاري رضي الله عنه، أي الأعمال أفضل‏؟‏ فقال‏:‏ الصلاة عماد الإسلام، والجهاد سنام العمل، والصدقة شيء عجيب، فقال له الرجل‏:‏ أراك تركت شيئاً وهو أوثقها في نفسي الصيام، فقال أبو ذر‏:‏ قربة وليس هناك، ثم تلا ‏{‏لن تنالوا البر‏}‏ الآية، وقوله تعالى ‏{‏وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم‏}‏ شرط وجواب فيه وعد، أي عليم مجاز به وإن قل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كل الطعام‏}‏ الآية، إخبار بمغيب عن محمد صلى الله عليه وسلم وجميع الأميين لا يعلمه إلا الله وعلماء أهل الكتاب، وذهب كثير من المفسرين إلى أن معنى الآية‏:‏ الرد على اليهود في قولهم في كل ما حرموه على أنفسهم من الأشياء‏:‏ إنها محرمة عليهم بأمر الله في التوراة، فأكذبهم الله بهذه الآية، وأخبر أن جميع الطعام كان حلاً لهم، إلا ما حرم إسرائيل على نفسه خاصة، ولم يرد به ولده، فلما استنوا هم به جاءت التوراة بتحريم ذلك عليهم، وليس من التوراة شيء من الزوائد التي يدعون أن الله حرمها، وإلى هذا تنحو ألفاظ السدي، وقال‏:‏ إن الله تعالى حرم ذلك عليهم في التوراة عقوبة لاستنانهم في تحريم شيء إنما فعله يعقوب خاصة لنفسه، قال‏:‏ فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 160‏]‏‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه‏:‏ والظاهر في لفظة ظلم أنها مختصة بتحريم ونحوه، يدل على ذلك أن العقوبة وقعت بذلك النوع، وذهب قوم من العلماء إلى أن معنى الآية‏:‏ الرد على قوم من اليهود قالوا‏:‏ إن ما نحرمه الآن على أنفسنا من الأشياء التي لم تذكر في التوراة كان علينا حراماً في ملة أبينا إبراهيم، فأكذبهم الله وأخبر أن الطعام كله كان حلالاً لهم قبل التوراة ‏{‏إلا ما حرم إسرائيل‏}‏ في خاصته، ثم جاءت التوراة بتحريم ما نصت عليه، وبقيت هذه الزوائد في حيز افترائهم وكذبهم، وإلى هذا تنحو ألفاظ بن عباس رضي الله عنهما وترجم الطبري في تفسير هذه الآية بتراجم، وأدخل تحتها أقوالاً توافق تراجمه، وحمل ألفاظ الضحاك أن الاستثناء منقطع وكأن المعنى‏:‏ كل الطعام كان حلاً لهم قبل نزول التوراة وبعد نزولها‏.‏

قال الفقيه الإمام أبو محمد‏:‏ فيرجع المعنى إلى القول الأول الذي حكيناه، وحمل الطبري قول الضحاك إن معناه‏:‏ لكن إسرائيل حرم على نفسه خاصة ولم يحرم الله على بني إسرائيل في توراة ولا غيرها‏.‏

قال الفقيه الإمام‏:‏ وهذا تحميل يرد عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حرمنا عليهم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 146‏]‏ وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ حرمت عليهم الشحوم إلى غير ذلك من الشواهد، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حِلاًّ‏}‏ معناه‏:‏ حلالاً، و‏{‏إسرائيل‏}‏ هو يعقوب، وانتزع من هذه الآية أن للأنبياء أن يحرموا باجتهادهم على أنفسهم ما اقتضاه النظر لمصلحة أو قربة أو زهد، ومن هذا على جهة المصلحة تحريم النبي صلى الله عليه وسلم جاريته، فعاتبه الله تعالى في ذلك ولم يعاتب يعقوب، فقيل‏:‏ إن ذلك لحق آدمي ترتب في نازلة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وقيل‏:‏ إن هذه تحريم تقرب وزهد، وتحريم الجارية تحريم غضب ومصلحة نفوس، واخلتف الناس في الشيء الذي حرمه يعقوب على نفسه فقال يوسف بن ماهك‏:‏ جاء أعرابي إلى ابن عباس فقال له‏:‏ إنه جعل امرأته عليه حراماً، فقاله ابن عباس‏:‏ إنها ليس عليك بحرام، فقال الأعرابي‏:‏ ولم‏؟‏ والله تعالى يقول في كتابه ‏{‏إلا ما حرم إسرائيل على نفسه‏}‏ فضحك ابن عباس وقال‏:‏ وما يدريك ما حرم إسرائيل‏؟‏ ثم أقبل على القوم يحدثهم، فقال‏:‏ إن إسرائيل عرضت له الأنساء فأضنته فجعل لله ان شفاه من ذلك أن لا يطعم عرقاً، قال‏:‏ فلذلك اليهود تنزع العروق من اللحم، وقال بمثل هذا القول قتادة وأبو مجلز وغيرهم، وقال ابن عباس والحسن بن أبي الحسن وعبد الله بن كثير ومجاهد أيضاً‏:‏ إن الذي حرم إسرائيل هو لحوم الإبل وألبانها، ولم يختلف فيما علمت أن سبب التحريم هو بمرض أصابه، فجعل تحريم ذلك شكراً لله تعالى إن شفي، وقيل‏:‏ هو وجع عرق النسا، وفي حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أن عصابة من بني إسرائيل قالوا له‏:‏ يا محمد ما الذي حرم إسرائيل على نفسه‏؟‏ فقال لهم‏:‏ أنشدكم بالله هل تعلمون أن يعقوب مرض مرضاً شديداً فطال سقمه منه فنذر لله نذراً إن عاقاه الله من سقمه ليحرمنَّ أحب الطعام والشراب إليه، وكان أحب الطعام إليه لحوم الإبل وألبانها‏؟‏ قالوا‏:‏ اللهم نعم، وظاهر الأحاديث والتفاسير في هذه الأمر أن يعقوب عليه السلام حرم الإبل وألبانها، وهو يحبها، تقرباً إلى الله بذلك، إذ ترك الترفه والتنعم من القرب، وهذا هو الزهد في الدنيا، وإليه نحا عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقوله‏:‏ إياكم وهذه المجازر فإن لها ضراوة كضراوة الخمر ومن ذلك قول أبي حازم الزاهد، وقد مر بسوق الفاكهة فرأى محاسنها فقال‏:‏ موعدك الجنة إن شاء الله، وحرم يعقوب عليه السلام أيضاً العروق، لكن بغضه لها لما كان امتحن بها، وهذا شيء يعتري نفوس البشر في غير ما شيء وليس في تحريم العروق قربة فيما يظهر، والله أعلم، وقد روي عن ابن عباس‏:‏ أن يعقوب حرم العروق ولحوم الإبل، وأمر الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يأمرهم بالإتيان بالتوراة، حتى يبين منها كيف الأمر، المعنى‏:‏ فإنه أيها اليهود، كما أنزل الله عليَّ لا كما تدعون أنتم، قال الزجّاج‏:‏ وفي هذا تعجيز لهم وإقامة الحجة عليهم، وهي كقصة المباهلة مع نصارى نجران‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏94- 96‏]‏

‏{‏فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏94‏)‏ قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏95‏)‏ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ ‏(‏96‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك‏}‏ تحتمل الإشارة-بذلك- أن تكون إلى ثلاثة أشياء‏:‏ أحدها‏:‏ أن تكون إلى التلاوة إذ مضمنها بيان المذهب وقيام الحجة، أي فمن كذب منا على الله تعالى أو نسب إلى كتب الله ما ليس فيها فهو ظالم واضع الشيء غير موضعه، والآخر‏:‏ أن تكون الإشارة إلىستقرار التحريم في التوراة، لأن معنى الآية‏:‏ ‏{‏كل الطعام كان حلاً لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 93‏]‏، ثم حرمته التوراة عليهم عقوبة لهم، ‏{‏فمن افترى على الله الكذب‏}‏، وزاد في المحرمات فهو الظالم، والثالث‏:‏ أن تكون الإشارة إلى الحال بعد تحريم إسرائيل على نفسه، وقبل نزول التوراة، أي من تسنن بيعقوب وشرع ذلك دون إذن من الله، ومن حرم شيئاً ونسبه إلى ملة إبراهيم فهو الظالم، ويؤيد هذا الاحتمال الأخير، قوله تعالى ‏{‏فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 160‏]‏ فنص على أنه كان لهم ظلم في معنى التحليل والتحريم، وكانوا يشددون فشدد الله عليهم، كما فعلوا في أمر البقرة، وبخلاف هذه السيرة جاء الإسلام في قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ يسروا ولا تعسروا، وقوله‏:‏ دين الله يسر وقوله‏:‏ بعثت بالحنيفية، ثم أمر الله تعالى نبيه أن يصدع بالخلاف والجدال مع الأحبار بقوله ‏{‏قل صدق الله‏}‏ أي الأمر كما وصف لا كما تكذبون أنتم، فإن كنتم تعتزون بإبراهيم فاتبعوا ملته على ما ذكر الله، وقرأ أبان بن تغلب‏:‏ «قل صدق»، بإدغام اللام في الصاد، وكذلك‏:‏ قل سيروا، قرأها بإدغام اللام في السين، قال أبو الفتح‏:‏ علة جواز ذلك فشو هذين الحرفين في الفم وانتشار الصدى المنبث عنهما فقاربا بذلك مخرج اللام، فجاز إدغامهما فيهما، وقرأ جمهور الناس‏:‏ «وُضع» على بناء الفعل للمفعول على معنى وضعه الله، فالآية على هذا ابتداء معنى منقطع من الكلام الأول، وقرأ عكرمة، «وَضع» بفتح الواو والضاد، فيحتمل أن يريد‏:‏ وضع الله، فيكون المعنى منقطعاً كما هو في قراءة الجمهور، ويحتمل أن يريد وضع إبراهيم عليه السلام، فيكون المعنى متصلاً بالذي قبله، وتكون هذه الآية استدعاء لهم إلى ملته، في الحج وغيره على ما روى عكرمة‏:‏ أنه لما نزلت ‏{‏ومن يبتغ غير الإسلام ديناً‏}‏ الآية‏:‏ قال اليهود‏:‏ نحن على الإسلام فقرئت، ‏{‏ولله على الناس حج البيت‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 97‏]‏ قيل له‏:‏ أحجهم يا محمد، إن كانوا على ملة إبراهيم التي هي الإسلام‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ويؤيد هذا التأويل ما قال أبو ذر رضي الله عنه قال‏:‏ قلت يا رسول الله أي مسجد وضع أول‏؟‏ قال‏:‏ المسجد الحرام، قلت ثم أي‏؟‏ قال‏:‏ المسجد الأقصى، قلت‏:‏ كم بينهما‏؟‏ قال أربعون سنة، فيظهر من هذا أنهما من وضع إبراهيم جميعاً، ويضعف ما قال الزجّاج‏:‏ من أن بيت المقدس من بناء سليمان بن داود، اللهم إلا أن يكون جدده، وأين مدة سليمان، من مدة إبراهيم‏؟‏ ولا مرية في أن إبراهيم وضع بيت مكة، وإنما الخلاف هل وضع بدأة أو وضع تجديد‏؟‏ واختلف المفسرون في معنى هذه الأولية التي في قوله‏:‏ ‏{‏إن أول‏}‏ فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه‏:‏ معنى الآية أن أول بيت وضع مباركاً وهدى هذا البيت الذي ببكة وقد كانت قبله بيوت لم توضع وضعه من البركة والهدى، وقال قوم‏:‏ بل هو أول بيت خلق الله تعالى ومن تحته دحيت الأرض‏.‏

قال الفقيه القاضي أبو محمد‏:‏ ورويت في هذا أقاصيص من نزول آدم به من الجنة ومن تحديد ما بين خلقه ودحو الأرض، ونحو ما قال الزجّاج‏:‏ من أنه البيت المعمور أسانيدها ضعاف فلذلك تركتها، وعلى هذا القول يجيء رفع إبراهيم القواعد تجديداً، قال قتادة‏:‏ ذكر لنا أن البيت أهبط مع آدم ورفع وقت الطوفان، واختلف الناس في ‏{‏بكة‏}‏، فقال الضحاك وجماعة من العلماء‏:‏ «بكة» هي مكة، فكأن هذا من إبدال الباء بالميم، على لغة مازن وغيرهم، وقال ابن جبير وابن شهاب وجماعة كثيرة من العلماء مكة الحرم كله، و«بكة» مزدحم الناس حيث يتباكون، وهو المسجد وما حول البيت، وقال مالك في سماع ابن القاسم من العتبية‏:‏ «بكة» موضع البيت، ومكة غيره من المواضع، قال ابن القاسم‏:‏ يريد القرية، قال الطبري‏:‏ ما خرج عن موضع الطواف فهو مكة لا بكة، وقال قوم‏:‏ «بكة»، ما بين الجبلين ومكة، الحرم كله، و‏{‏مباركاً‏}‏ نصب على الحال، والعامل فيه على قول علي بن أبي طالب إنه أول بيت وضع بهذه الحال، قوله‏:‏ ‏{‏وضع‏}‏ والعامل فيه على القول الآخر الفعل الذي تتعلق به باء الجر في قوله ‏{‏ببكة‏}‏ تقديره‏:‏ استقر ببكة مباركاً، وفي وصف البيت ب ‏{‏هدى‏}‏ مجازية بليغة، لأنه مقوم مصلح، فهو مرشد، وفيه إرشاد، فجاء قوله، ‏{‏وهدى‏}‏ بمعنى وذا هدى، ويحتمل أن يكون ‏{‏هدى‏}‏ في هذه الآية، بمعنى الدعاء، أي من حيث دعي العالمون إليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏97‏]‏

‏{‏فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ‏(‏97‏)‏‏}‏

الضمير في قوله‏:‏ ‏{‏فيه‏}‏ عائد على البيت، وساغ ذلك مع كون «الآيات» خارجة عنه لأن البيت إنما وضع بحرمه وجميع فضائله، فهي فيه وإن لم تكن داخل جدرانه، وقرأ جمهور الناس‏:‏ «آيات بينات» بالجمع، وقرأ أبي بن كعب وعمر وابن عباس‏:‏ «آية بينة» على الإفراد، قال الطبري‏:‏ يريد علامة واحدة المقام وحده، وحكي ذلك عن مجاهد‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ويحتمل أن يراد بالآية اسم الجنس فيقرب من معنى القراءة الأولى، واختلف عبارة المفسرين عن «الآيات البينات» فقال ابن عباس‏:‏ من الآيات المقام، يريد الحجر المعروف والمشعر وغير ذلك‏.‏

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه‏:‏ وهذا يدل على أن قراءته «آية» بالإفراد إنما يراد بها اسم الجنس، وقال الحسن بن أبي الحسن‏:‏ «الآيات البينات» مقام إبراهيم، وإن من دخله كان آمناً، وقال مجاهد‏:‏ المقام الآية، وقوله‏:‏ ‏{‏ومن دخله كان آمناً‏}‏ كلام آخر‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فرفع ‏{‏مقام‏}‏ على قول الحسن ومجاهد على البدل من ‏{‏آيات‏}‏، أو على خبر ابتداء تقديره هن مقام إبراهيم، وعلى قول ابن عباس ومن نحا نحوه‏:‏ هو مرتفع بالابتداء وخبره محذوف مقدم تقديره‏:‏ منهن ‏{‏مقام إبراهيم‏}‏‏.‏

قال القاضي‏:‏ والمترجح عندي أن المقام وأمن الداخل جعلا مثالاً مما في حرم الله من الآيات، وخصا بالذكر لعظمهما، وأنهما تقوم بهما الحجة على الكفار، إذ هم مدركون لهاتين الآيتين بحواسهم، ومن آيات الحرم والبيت التي تقوم بها الحجة على الكفار أمر الفيل، ورمي طير الله عنه بحجارة السجيل، وذلك أمر لم تختلف كافة العرب في نقله وصحته إلى أن أنزله الله في كتابه، ومن آياته كف الجبابرة عنه على وجه الدهر، ومن آياته الحجر الأسود، وما روي فيه أنه من الجنة وما أشربت قلوب العالم نم تعظيمه قبل الإسلام، ومن آياته حجر المقام، وذلك أنه قام عليه إبراهيم عليه السلام، وقت رفعه القواعد من البيت، لما طال له البناء فكلما علا الجدار، ارتفع الحجر به في الهواء، فما زال يبني وهو قائم عليه وإسماعيل يناوله الحجارة والطين حتى أكمل الجدار، ثم إن الله تعالى، لما أراد إبقاء ذلك آية للعالمين لين الحجر، فغرقت فيه قدما إبراهيم عليه السلام كأنها في طين، فذلك الأثر العظيم باقي في الحجر إلى اليوم، وقد نقلت كافة العرب ذلك في الجاهلية على مرور الأعصار، وقال أبو طالب‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

ومَوْطِئ إبراهيمَ في الصَّخرِ رطْبَةٌ *** على قَدَمِيهِ حافياً غيرَ ناعِلِ

فما حفظ أن أحداً من الناس نازع في هذا القول، ومن آياته البينات زمزم في نبعها لهاجر بهمز جبريل عليه السلام الأرض بعقبه، وفي حفر عبد المطلب لها آخراً بعد دثورها بتلك الرؤيا المشهورة، وبما نبع من الماء تحت خف ناقته في سفره، إلى منافرة قريش ومخاصمتها في أمر زمزم، ذكر ذلك ابن إسحاق مستوعباً، ومن آيات البيت نفع ماء زمزم لما شرب له، وأنه يعظم ماؤها في الموسم، ويكثر كثرة خارقة للعادة في الآبار، ومن آياته، الأمنة الثابتة فيه على قديم الدهر، وأن العرب كانت تغير بعضها على بعض ويتخطف الناس بالقتل، وأخذ الأموال وأنواع الظلم إلا في الحرم، وتركب على هذا أمن الحيوان فيه، وسلامة الشجر، وذلك كله للبركة التي خصه الله بها، والدعوة من الخليل عليه السلام في قوله، اجعل هذا بلداً آمناً، وإذعان نفوس العرب وغيرهم قاطبة لتوقير هذه البقعة دون ناه، ولا زاجر، آية عظمى تقوم بها الحجة، وهي التي فسرت بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن دخله كان آمناً‏}‏ ومن آياته كونه بواد غير ذي زرع، والأرزاق من كل قطر تجيء إليه عن قرب وعن بعد، ومن آياته، ما ذكر ابن القاسم العتقي رحمه الله، قال في النوادر، وغيرها‏:‏ سمعت أن الحرم يعرف بأن لا يجيء سيل من الحل فيدخل الحرم‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ هذا والله أعلم، لأن الله تعالى جعله ربوة أو في حكمها ليكون أصون له، والحرم فيما حكى ابن أبي زيد في الحج الثاني من النوادر‏.‏ مما يلي المدينة نحو من أربعة أميال إلى منتهى التنعيم، ومما يلي العرق نحو من ثمانية أميال إلى مكان يقال له المقطع، ومما يلي عرفة تسعة أميال، ومما يلي طريق اليمن سبعة أميال، إلى موضع يقال له أضاة، ومما يلي جدة عشرة أميال إلى منتى الحديبية، قال مالك في العتبية‏:‏ والحديبية في الحرم، ومن آياته فيما ذكر مكي وغيره، أن الطير لا تعلوه، وإن علاه طائر فإنما ذلك لمرض به، فهو يستشفي بالبيت، وهذا كله عندي ضعيف، والطير تعاين تعلوه، وقد علته العقاب التي أخذت الحية المشرفة على جداره، وتلك كانت من آياته ومن آياته فيما ذكر الناس قديماً وحديثاً، أنه إذا عمه المطر من جوانبه الأربعة في العام الواحد، أخصبت آفاق الأرض، وإن لم يصب جانباً منه لم يخصب ذلك الأفق الذي يليه ذلك العام، واختلف الناس في ‏{‏مقام إبراهيم‏}‏، فقال الجمهور‏:‏ هو الحجر المعروف، وقال قوم‏:‏ البيت كله مقام إبراهيم لأنه بناه وقام في جميع أقطاره، وقال قوم من العلماء مكة كلها مقام إبراهيم، وقال قوم‏:‏ الحرم كله مقام إبراهيم، والضمير في قوله‏:‏ ‏{‏ومن دخله‏}‏ عائد على الحرم في قول من قال‏:‏ مقام إبراهيم هو الحرم، وعائد على البيت في قول الجمهور، إذ لم يتقدم ذكر الغيره، إلا أن المعنى يفهم منه أن من دخل الحرم فهو في الأمن، إذا الحرم جزء من البيت، إذ هو بسببه ولحرمته‏.‏

واختلف الناس في معنى قوله ‏{‏كان آمناً‏}‏ فقال الحسن وقتادة وعطاء ومجاهد وغيرهم‏:‏ هذه وصف حال كانت في الجاهلية أن الذي يجر جريرة ثم يدخل الحرم، فإنه كان لا يتناول ولا يطلب فأما في الإسلام وأمن جميع الأقطار، فإن الحرم لا يمنع من حد من حدود الله، من سرق فيه قطع، ومن زنى رجم، ومن قتل قتل، واستحسن كثير ممن قال هذا القول أن يخرج من وجب عليه القتل إلى الحل فيقتل هنالك، وقال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ من أحدث حدثاً ثم استجار بالبيت فهو آمن، وإن الأمن في الإسلام كما كان في الجاهلية، والإسلام زاد البيت شرفاً وتوقيراً، فلا يعرض أحد بمكة لقاتل وليه، إلا أنه يجب على المسلمين ألا يبايعوا ذلك الجاني ولا يكلموه ولا يؤوه حتى يتبرم فيخرج من الحرم فيقام عليه الحد، وقال بمثل هذا عبيد بن عمير والشعبي وعطاء بن أبي رباح والسدي وغيرهم، إلا أن أكثرهم قالوا هذا فيمن يقتل خارج الحرم ثم يعوذ بالحرم، فأما من يقتل في الحرم، فإنه يقام عليه الحد في الحرم‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه‏:‏ وإذا تؤمل أمر هذا الذي لا يكلم ولا يبايع، فليس بآمن، وقال يحيى بن جعدة‏:‏ معنى الآية ومن دخل البيت كان آمناً من النار، وحكى النقاش عن بعض العباد قال‏:‏ كنت أطوف حول الكعبة ليلاً فقلت‏:‏ يا رب إنك قلت‏:‏ ‏{‏ومن دخله كان آمناً‏}‏، فمن ماذا هو آمن يا رب‏؟‏ فسمعت مكلماً يكلمني وهو يقول‏:‏ من النار، فنظرت وتأملت فما كان في المكان أحد‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولله على الناس حج البيت‏}‏ الآية، هو فرض الحج في كتاب الله بإجماع، وقال مالك رحمه الله‏:‏ الحج كله في كتاب الله، فأما الصلاة والزكاة فهي من جملة الذي فسره النبي عليه السلام، والحج من دعائم الإسلام التي بني عليها حسب الحديث، وشروط وجوبه خمسة، البلوغ، والعقل، والحرية، والإسلام، واستطاعة السبيل، والحج في اللغة، القصد لكنه في بيت الله مخصص بأعمال وأقوال، وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عصام‏:‏ «حِج البيت» بكسر الحاء، وقرأ الباقون‏:‏ «حَج البيت» قالوا غزاة فأرادوا عمل وجه واحد، كما قيل حجة‏.‏

قال القاضي‏:‏ بكسر الحاء يريدون عمل سنة واحدة، ولم يجيئوا به على الأصل لكنه اسم له، قال أبو علي‏:‏ قوله لم يجيئوا به على الأصل يريد على الفتح الذي هو الدفعة من الفعل، ولكن كسروه فجعلوه اسماً لهذا المعنى، كما أن غزاة كذلك، ولم تجئ فيه الغزوة وكان القياس‏.‏

قال القاضي‏:‏ وأكثر ما التزم كسر الحاء في قولهم ذو الحِجة، وأما قولهم حجة الوداع ونحوه فإنها على الأصل، وقال الزجّاج وغيره، «الحَج»‏:‏ بفتح الحاء المصدر، وبكسرها اسم العمل، وقال الطبري‏:‏ هما لغتان الكسر لغة نجد، والفتح لغة أهل العالية‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏من استطاع إليه سبيلاً‏}‏، ‏{‏من‏}‏ في موضع خفض بدل من ‏{‏الناس‏}‏، وهو بدل البعض من الكل وقال الكسائي وغيره‏:‏ هي شرط في موضع رفع بالابتداء، والجواب محذوف تقديره‏:‏ من استطاع فعليه الحج، ويدل عليه عطف الشرط الآخر بعده في قوله‏:‏ ‏{‏ومن كفر‏}‏، وقال بعض البصريين‏:‏ ‏{‏من‏}‏ رفع على أنه فاعل بالمصدر الذي هو ‏{‏حج البيت‏}‏ ويكون المصدر مضافاً إلى المفعول، واختلف الناس في حال مستطيع السبيل كيف هي‏؟‏ فقال عمر بن الخطاب وابن عباس وعطاء وسعيد بن جبير‏:‏ هي حال الذي يجد زاداً وراحلة، وروى الطبري عن الحسن من طريق إبراهيم بن يزيد الخوزي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية فقال له رجل‏:‏ يا رسول الله ما السبيل‏؟‏ قال‏:‏ الزاد والراحلة، وأسند الطبري إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من ملك زاداً وراحلة فلم يحج فلا عليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً»، وروى عبد الرزاق وسفيان عن إبراهيم بن يزيد الخوزي عن محمد بن عباد بن جعفر عن ابن عمر قال‏:‏ قام رجل إلى النبي عليه السلام، فقال‏:‏ ما السبيل‏؟‏ قال‏:‏ الزاد والراحلة‏.‏

قال القاضي‏:‏ وضعّف قوم هذا الحديث، لأن إبراهيم بن يزيد الخوزي تكلم فيه ابن معين وغيره، والحديث مستغن عن طريق إبراهيم، وقال بعض البغداديين، هذا الحديث مشير إلى أن الحج لا يجب مشياً‏.‏

قال القاضي‏:‏ والذي أقول‏:‏ إن هذه الحديث إنما خرج على الغالب من أحوال الناس وهو البعد عن مكة واستصعاب المشي على القدم كثيراً، فأما القريب الدار فلا يدخل في الحديث، لأن القرب أغناه عن زاد وراحلة، وأما الذي يستطيع المشي من الأقطار البعيدة، فالراحلة عنده بالمعنى والقوة التي وهب، وقد ذكره الله تعالى في قوله‏:‏ ‏{‏يأتوك رجالاً‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 27‏]‏ وكذلك أيضاً معنى الحديث‏:‏ الزاد والراحلة لمن لم يكن له عذر في بدنه، من مرض أو خوف على أقسامه أو استحقاق بأجرة أو دين وهو يحاول الأداء ويطمع فيه بتصرفه في مال بين يديه، وأما العديم فله أن يحج إذا تكلف واستطاع، فمقصد الحديث‏:‏ أن يتحدد موضع الوجوب على البعيد الدار، وأما المشاة وأصحاب الأعذار فكثير منهم من يتكلف السفر، وإن كان الحج غير واجب عليه، ثم يؤديه ذلك التكلف إلى موضع يجب فيه الحج عليه، وهذه مبالغة في طلب الأجر ونيله إن شاء الله تعالى، وذهبت فرقة من العلماء إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من استطاع إليه سبيلاً‏}‏ كلام عام لا يتفسر بزاد وراحلة ولا غير ذلك، بل إذا كان مستطعياً غير شاق على نفسه فقد وجب عليه الحج، قال ذلك ابن الزبير والضحاك، وقال الحسن‏:‏ من وجد شيئاً يبلغه فقد استطاع إليه سبيلاً، وقال عكرمة‏:‏ استطاعة السبيل الصحة، وقال ابن عباس‏:‏ من ملك ثلاثمائة درهم فهو السبيل إليه، وقال مالك بن أنس رضي الله عنه، في سماع أشهب من العتبية، وفي كتاب محمد، وقد قيل له‏:‏ أتقول إن السبيل الزاد والراحلة‏؟‏ فقال‏:‏ لا والله، قد يجد زاداً وراحلة ولا يقدر على مسير، وآخر يقدر أن يمشي راجلاً، وربَّ صغير أجلد من كبير فلا صفة في هذا أبين مما قال الله تعالى‏.‏

قال القاضي‏:‏ وهذا أنبل كلام، وجميع ما حكي عن العلماء لا يخالف بعضه بعضاً، الزاد والراحلة على الأغلب من أمر الناس في البعد، وأنهم أصحاء غير مستطيعين للمشي على الأقدام، والاستطاعة- متى تحصلت- عامة في ذلك وغيره، فإذا فرضنا رجلاً مستطيعاً للسفر ماشياً معتاداً لذلك، وهو ممن يسأل الناس في إقامته ويعيش من خدمتهم وسؤالهم ووجد صحابة، فالحج عليه واجب دون زاد ولا رحلة، وهذه من الأمور التي يتصرف فيها فقه الحال، وكان الشافعي يقول‏:‏ الاستطاعة على وجهين‏:‏ بنفسه أولاً، فمن منعه مرض أو عذر وله مال فعليه أن يجعل من يحج عنه وهو مستطيع لذلك‏.‏

واختلف الناس هل وجوب الحج علىلفور أو على التراخي‏؟‏ على قولين، ولمالك رحمه الله مسائل تقتضي القولين، قال في المجموعة فيمن أراد الحج ومنعه أبواه‏:‏ لا يعجل عليهما في حجة الفريضة وليستأذنهما العام والعامين، فهذا على التراخي، وقال في كتاب ابن المواز‏:‏ لا يحج أحد إلا بإذن أبويه إلا الفريضة، فليخرج وليدعهما، فهذا علىلفور، وقال مالك في المرأة يموت عنها زوجها فتريد الخروج إلى الحج‏:‏ لا تخرج في أيام عدتها، قال الشيخ أبو الحسن اللخمي‏:‏ فجعله على التراخي‏.‏

قال القاضي‏:‏ وهذا استقراء فيه نظر، واختلف قول مالك رحمه الله فيمن يخرج إلى الحج على أن يسأل الناس جائياً وذاهباً ممن ليست تلك عادته في إقامته، فروى عنه ابن وهب أنه قال‏:‏ لا بأس بذلك، قيل له فإن مات في الطريق قال‏:‏ حسابه على الله، وروى عنه ابن القاسم أنه قال‏:‏ لا أرى اللذين لا يجدون ما ينفقون أن يخرجوا إلى الحج والغزو، ويسألوا وإني لأكره ذلك، لقول الله سبحانه، ‏{‏ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 91‏]‏ قال ابن القاسم‏:‏ وكره مالك أن يحج النساء في البحر لأنها كشفة، وكره أن يحج أحد في البحر إلا مثل أهل الأندلس الذين لا يجدون منه بداً، وقال في كتاب محمد وغيره‏:‏ قال الله تعالى‏:‏

‏{‏وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 27‏]‏ وما أسمع للبحر ذكراً‏.‏

قال الفقيه القاضي‏:‏ وهذا تأنيس من مالك رحمه الله لسقوط لفظة البحر، وليس تقتضي الآية سقوط البحر، وسيأتي تفسير ذلك في موضعه إن شاء الله، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ناس من أمتي عرضوا عليَّ ملوكاً على الأسرة أو مثل الملوك على الأسرة، يركبون ثبج هذا البحر الأخضر غزاة في سبيل الله»‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ولا فرق بين الغزو والحج، واختلف في حج النساء ماشيات مع القدرة على ذلك، فقال في المدونة في المرأة تنذر مشياً فتمشي وتعجز في بعض الطريق‏:‏ إنها تعود ثانية، قال‏:‏ والرجال والنساء في ذلك سواء، فعلى هذا، يجب الحج إذا كانت قادرة على المشي لان حجة الفريضة أكد من النذر، وقال في كتاب محمد‏:‏ لا أرى على المرأة الحج ماشية وإن قويت عليه، لأن مشيهن عورة، إلا أن يكون المكان القريب من مكة‏.‏

قال القاضي‏:‏ وهذا ينظر بفقه الحال من رائعة ومتجالة، ولا حج على المرأة إلا إذا كان معها ذو محرم، واختلف إذا عدمته، هل يجب الحج بما هو في معناه من نساء ثقات يصطحبن في القافلة أو رجال ثقات‏؟‏ فقال الحسن البصري وإبراهيم النخعي وابن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو حنيفة وأصحابه‏:‏ المحرم من السبيل، ولا حج عليها إلا مع ذي محرم‏.‏

قال القاضي‏:‏ وهذا وقوف مع لفظ الحديث، وقال مالك‏:‏ تخرج مع جماعة نساء، وقال الشافعي‏:‏ تخرج مع حرة ثقة مسلمة، وقال ابن سيرين‏:‏ تخرج مع رجل ثقة من المسلمين، وقال الأوزاعي‏:‏ تخرج مع قوم عدول وتتخذ سلماً تصعد عليه وتنزل ولا يقربها رجل‏.‏

قال القاضي‏:‏ وهذه الأقوال راعت معنى الحديث‏:‏ وجمهور الأمة على أن للمرأة أن تحج الفريضة وإن كره زوجها وليس له منعها، واضطرب قول الشافعي في ذلك، واختلف الناس في وجوب الحج مع وجود المكوس والغرامة، فقال سفيان الثوري‏:‏ إذا كان المكس ولو درهماً سقط فرض الحج عن الناس، وقال عبد الوهاب، إذا كانت الغرامة كثيرة مجحفة سقط الفرض، فظاهر هذا أنها إذا كانت كثيرة غير مجحفة لسعة الحال أن الفرض لا يسقط، وعلى هذا لمنزع جماعة أهل العلم وعليه مضت الأعصار، وهذه نبذة من فقه الاستطاعة، وليس هذا الجمع بموضع لتقصي ذلك والله المستعان‏.‏

والسبيل- تذكر وتؤنث، والأغلب والأفصح التأنيث، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏تبغونها عوجاً‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 99‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏قل هذه سبيلي‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 108‏]‏ ومن التذكير قول كعب بن مالك‏.‏

قضى يوم بدر أن تلاقي معشراً *** بغوا وسبيل البغي بالناس جائز

والضمير في ‏{‏إليه‏}‏، عائد على البيت، ويحتمل أن يعود على الحج، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن كفر فإن الله غني عن العالمين‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ المعنى، من زعم أن الحج ليس بفرض عليه، وقال مثله الضحاك وعطاء وعمران القطان والحسن ومجاهد، وروي عن النبي عليه السلام أنه قرأ الآية، فقال له رجل من هذيل‏:‏ يا رسول الله من تركه كفر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم من تركه لا يخاف عقوبته، ومن حجه لا يرجو ثوابه فهو ذلك وقال بمعنى هذه الحديث ابن عباس ومجاهد أيضاً، وهذا والذي قبله يرجع إلى كفر الجحد والخروج عن الملة، وقال ابن عمر وجماعة من العلماء معنى الآية، من كفر بالله واليوم الآخر وهذا قريب من الأول، وقال ابن زيد‏:‏ معنى الآية من كفر بهذه الآيات التي في البيت، وقال السدي وجماعة من أهل العلم‏:‏ معنى الآية‏:‏ ومن كفر أبن وجد ما يحج به ثم لم يحج، قال السدي‏:‏ من كان بهذه الحال فهو كافر‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فهذا كفر معصية، كقوله عليه السلام، من ترك الصلاة فقد كفر وقوله‏:‏ لا ترجعوا بعدي كفاراً، يضرب بعضكم رقاب بعض، على أظهر محتملات هذا الحديث‏.‏ وبيّن أن من أنعم الله عليه بمال وصحة ولم يحج فقد كفر النعمة، ومعنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏غني عن العالمين‏}‏ الوعيد لمن كفر، والقصد بالكلام، فإن الله غني عنهم، ولكن عمم اللفظ ليبرع المعنى، وينتبه الفكر على قدرة الله وسلطانه واستغنائه من جميع الوجوه حتى ليس به افتقار إلى شيء، لا رَبَّ سواه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏98- 99‏]‏

‏{‏قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ ‏(‏98‏)‏ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏99‏)‏‏}‏

هذه الايات توبيخ لليهود المعاصرين لمحمد صلى الله عليه وسلم و‏{‏الكتاب‏}‏ التوراة، وجعلهم أهله بحسب زعمهم ونسبهم، وإلا فأهله على الحقيقة هم المؤمنون، و«آيات الله» يحتمل أن يريد بها القرآن، ويحتمل أن يراد بالآيات العلامات الظاهرة على يدي محمد صلى الله عليه وسلم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الله شهيد على ما تعملون‏}‏ وعيد محض‏:‏ أي يجازيكم به ويعاقبكم، قال الطبري‏:‏ هاتان الآيتان قوله، ‏{‏قل يا أهل الكتاب لم تكفرون‏}‏ وما بعدهما، إلى قوله ‏{‏أولئك لهم عذاب عظيم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 105‏]‏، نزلت بسبب رجل من يهود، حاول الإغواء بين الأوس والخزرج، قال ابن إسحاق‏:‏ حدثني الثقة عن زيد بن أسلم، قال شاش ابن قيس اليهودي، وكان شيخاً قد عسى في الجاهلية، عظيم الكفر شديد الضغن على المسلمين، والحسد لهم، على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج، وهم مجلس يتحدثون، فغاظه ما رأى من جماعتهم، وصلاح ذات بينهم، بعد ما كان بينهم من العداوة فقال‏:‏ قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد، والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار، فأمر فتى شاباً من يهود، فقال أمد إليهم، واجلس معهم، وذكرهم يوم بعاث، وما كان قبله من أيام حربهم، وأنشدهم ما قالوه من الشعر في ذلك، ففعل الفتى، فتكلم القوم عند ذلك فتفاخروا وتنازعوا، حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب، أوس ين قيظي، أحد بني حارثة بن الحارث من الأوس، وجبار بن صخر من الخزرج، فتقاولا، ثم قال أحدهما‏:‏ لصاحبه‏:‏ إن شئتم والله رددناها الآن جذعة، فغضب الفريقان‏:‏ وقالوا‏:‏ قد فعلنا السلاح السلاح، موعدكم الظاهرة، يريدون الحرة، فخرجوا إليها، وتحاوز الناس على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية، وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين، فقال‏:‏ يا معشر المسلمين، الله الله، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم، ووعظهم فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان، فألقوا السلاح وبكوا وعانق الناس بعضهم بعضاً من الأوس والخزرج، وانصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، سامعين مطيعين فأنزل الله في شاس بن قيس وما صنع هذه الآيات، وقال الحسن وقتادة والسدي‏:‏ إن هذه الآيات نزلت في أحبار اليهود الذين كانوا يصدون المسلمين عن الإسلام، بأن يقولوا لهم، إن محمداً ليس بالموصوف في كتابنا‏.‏

قال الفقيه الأمام‏:‏ ولا شك في وقوع هذين السببين وما شاكلهما من أفعال اليهود وأقوالهم، فنزلت الآيات في جميع ذلك و«صد» معناه‏:‏ أعرض عن الشيء وانصرف عنه، وهو فعل يقف ويتعدى بلفظ واحد، تقول‏:‏ صددت عن كذا، وصددت غيري عنه، فالذي في هذه الآية هو الفعل المتعدي، وقرأ الحسن بن أبي الحسن‏:‏ «تُصِدون» بضم التاء وكسر الصاد، وهذا هو الفعل الواقف، نقل بالهمزة فعدي، و‏{‏سبيل الله‏}‏ في هذه الآية، هو الإسلام الذي هو طريق إلى رضى الله وجنته، و‏{‏من‏}‏ مفعولة ب ‏{‏تصدون‏}‏ والضمير في ‏{‏تبغونها‏}‏ عائد على السبيل، ومعنى «تبغون» على ما فسر الزجّاج والطبري وغيرهما‏:‏ تطلبون فالمعنى تطلبون لها العوج، أي الاعوجاج والانفساد، تقول العرب‏:‏ أبغني كذا بألف موصولة، بمعنى اطلبه لي، فإذا أرادوا أعني على طلبه واطلبه معي، قطعوا الألف مفتوحة وقيل‏:‏ إن تبغون هنا، من البغي الذي هو التعدي، أي تبغون عليها، ويكون، ‏{‏عوجاً‏}‏ على هذا التأويل نصبه على الحال من الضمير في «تبغون» أي «عوجاً» منكم وعدم استقامة، والعوج بكسر العين‏:‏ ما كان في الأمور والحجج غير الأجرام، والعَوج بفتح العين، ما كان في الأجرام، كالجدار والعصا ونحو ذلك، قال ابن قتيبة‏:‏ والأرض خاصة من الأجرام يقال فيها‏:‏ عِوج بكسر العين، ومنه قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 107‏]‏ قال بعض اللغويين هما لغتان بمعنى واحد، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأنتم شهداء‏}‏، يريد جمع شاهد، على ما في التوراة من صفة محمد وصدقه، وباقي الآية وعيد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏100- 101‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ ‏(‏100‏)‏ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آَيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏101‏)‏‏}‏

الخطاب بقوله‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏ عام في المؤمنين، والإشارة بذلك- وقت نزوله- إلى الأوس والخزرج بسبب نائرة شاس بن قيس، و«الفريق»-الجماعة من الناس والمراد بها هنا الأحبار والؤوس، و‏{‏يردوكم‏}‏ معناه‏:‏ بالإضلال والتشكيك والمخادعة وإظهار الغش في معرض النصح، ثم وقف تعالى المؤمنين على هذا الأمر المستبعد المستشنع الذي يريده بهم اليهود، فقال ‏{‏وكيف تكفرون وأنتم‏}‏ بهذه الأحوال الموصوفة‏؟‏ و‏{‏كيف‏}‏ في موضع نصب على الحال، كما هي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 28‏]‏ والمعنى أجاحدين تكفرون‏؟‏ أجاهلين أمستخفين أمرتدين‏؟‏ ونحو هذا من التقدير والواو في قوله‏:‏ ‏{‏وكيف تكفرون‏}‏ عاطفة جملة كلام على جملة كلام، ولا يجوز أن تكون ‏{‏كيف‏}‏ في هذه الآية كما هي في قولك، كيف تفعل كذا، وأنت تسأل عن شيء ثابت الوقوع متحصلة، لأنه كان يلزم أن يكون كفر المؤمنين مقرراً مثبت الوقوع، وتأمل معنى ‏{‏كيف‏}‏ إذا وليها فعل، ومعناها إذا وليها اسم، وقرأ جمهور الناس «تتلى» بالتاء من فوق، وقرأ الحسن‏:‏ «يتلى» بالياء إذ الآيات هي القرآن، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وفيكم‏}‏ هي ظرفية الحضور والمشاهدة لشخصه عليه السلام، وهو في أمته إلى يوم القيامة، بأقواله وآثاره، و‏{‏يعتصم‏}‏ معناه‏:‏ يتمسك ويستذري، وعصم الشيء إذا منع وحمي، ومنه قوله ‏{‏يعصمني من الماء‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 43‏]‏ والعصم الأسباب التي يمتّ بها، ويعتصم من الخيبة في الغرض المطلوب، وقال الأعشى‏:‏ ‏[‏المتقارب‏]‏

إلى الْمَرْءِ قَيْس أُطِيلُ السُّرى *** وآخُذُ مِنْ كُلِّ حَيٍّ عِصَمْ

وتصرف اللفظة كثير جداً، وباقي الآية بيّن، والله المستعان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏102- 103‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ‏(‏102‏)‏ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ‏(‏103‏)‏‏}‏

‏{‏يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ وَاعتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ‏}‏

الخطاب بهذه الآية يعم جميع المؤمنين، والمقصود به وقت نزولها الأوس والخزرج الذين شجر بينهم بسعاية شاس بن قيس ما شجر، و«تقاة» مصدر وزنة فعلة، أصله تقية، وقد تقدم قوله‏:‏ إلا أن تتقوا منهم تقاة، ويصح أن تكون التقاة في هذه الآية جمع فاعل وإن كان لم يتصرف منه فيكون كرماة ورام، أو يكون جمع تقي إذ فعيل وفاعل بمنزلة، والمعنى على هذا‏:‏ اتقوا الله كما يحق أن يكون متقوه المختصون به، ولذلك أضيفوا إلى ضمير الله تعالى، واختلف العلماء في قوله‏:‏ ‏{‏حق تقاته‏}‏ فقالت فرقة‏:‏ نزلت الآية على عموم لفظها، وألزمت الأمة أن تتقي الله غاية التقوى حتى لا يقع إخلال في شيء من الأشياء، ثم إن الله نسخ ذلك عن الأمة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاتقوا الله ما استطعتم‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 16‏]‏ وبقوله‏:‏ ‏{‏لا يكلف الله نفساً إلا وسعها‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 286‏]‏ قال ذلك قتادة والسدي والربيع بن أنس وابن زيد وغيرهم، وقالت جماعة من أهل العلم‏:‏ لا نسخ في شيء من هذا، وهذه الآيات متفقات، فمعنى هذه‏:‏ اتقوا الله حقَّ تقاته فيما استطعتم، وذلك أن ‏{‏حق تقاته‏}‏ هو بحسب أوامره ونواهيه، وقد جعل تعالى الدين يسراً، وهذا هو القول الصحيح، وألا يعصي ابن آدم جملة لا في صغيرة ولا في كبيرة، وألا يفتر في العبادة أمر متعذر في جبلة البشر، ولو كلف الله هذا لكان تكليف ما لا يطاق، ولم يلتزم ذلك أحد في تأويل هذه الآية، وإنما عبروا في تفسير هذه الآية بأن قال ابن مسعود رضي الله عنه‏:‏ ‏{‏حق تقاته‏}‏‏:‏ هو أن يطاع فلا يعصى، ويشكر فلا يكفر، ويذكر فلا ينسى، وكذلك عبر الربيع بن خيثم وقتادة والحسن، وقال ابن عباس رضي عنهما‏:‏ معنى قوله، ‏{‏واتقوا الله حق تقاته‏}‏‏:‏ جاهدوا في الله حق جهاده ولا نسخ في الآية، وقال طاوس في معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اتقوا الله حق تقاته‏}‏‏:‏ يقول تعالى، إن لم تتقوه ولم تستطيعوا ذلك فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون‏}‏ معناه‏:‏ دوموا على الإسلام حتى يوافيكم الموت وأنتم عليه‏.‏ هكذا هو وجه الأمر في المعنى، وجاءت العبارة على هذا النظم الرائق الوجيز، ونظيره ما حكى سيبويه من قولهم‏:‏ لا أرينك هاهنا، وإنما المراد‏:‏ لا تكن هاهنا فتكون رؤيتي لك، و‏{‏مسلمون‏}‏ في هذه الآية، هو المعنى الجامع التصديق والأعمال، وهو الدين عند الله وهو الذي بني على خمس‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واعتصموا بحبل الله جميعاً‏}‏ معناه تمنعوا وتحصنوا به، فقد يكون الاعتصام بالتمسك باليد، وبارتقاء القنن، وبغير ذلك ما هو منعة، ومنه الأعصم في الجبل، ومنه عصمة النكاح، و«الحبل» في هذه الآية مستعار لما كان السبب الذي يعصم به، وصلة ممتدة بين العاصم والمعصوم، ونسبة بينهما، شبه ذلك بالحبل الذي شأنه أن يصل شيئاً بشيء، وتسمى العهود والمواثيق حبالاً، ومنه قول الأعشى‏:‏

وإذَا تَجَوَّزَها حِبالُ قَبِيلَةٍ *** أَخَذَتْ مِنَ الأَدْنَى إِلَيْكَ حِبَالهَا

ومنه قول الآخر‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏

‏(‏إني بحبلِكِ واصلٌ حبلي‏)‏ *** ومنه قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا بحبل من الله وحبل من الناس‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 112‏]‏ واختلفت عبارة المفسرين في المراد في هذه الآية ‏{‏بحبل الله‏}‏، فقال ابن مسعود‏:‏ «حبل الله» الجماعة، وروى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «إن بني إسرائيل افترقوا على إحدى وسبيعن فرقة، وإن أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة قال فقيل يا رسول الله‏:‏ وما هذه الواحدة‏؟‏ قال فقبض يده وقال‏:‏ الجماعة وقرأ، ‏{‏واعتصموا بحبل الله جميعاً‏}‏»، وقال ابن مسعود في خطبة‏:‏ عليكم جميعاً بالطاعة والجماعة فإنها حبل الله الذي أمر به، وقال قتادة رحمه الله‏:‏ «حبل الله» الذي أمر بالاعتصام به هوا لقرآن، وقال السدي‏:‏ «حبل الله» كتاب الله، وقاله أيضاً ابن مسعود والضحاك، وروى أبو سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض»، وقال أبو العالية‏:‏ «حبل الله» في هذه الآية هو الإخلاص في التوحيد وقال ابن زيد‏:‏ «حبل الله» هو الإسلام‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وقيل غير هذا مما هو كله قريب بعضه من بعض، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏جميعاً‏}‏ حال من الضمير في قوله، ‏{‏اعتصموا‏}‏، فالمعنى‏:‏ كونوا في اعتصامكم مجتمعين‏:‏ ‏{‏ولا تفرقوا‏}‏ يريد التفرق الذي لا يتأتى معه الائتلاف على الجهاد وحماية الدين وكلمة الله تعالى، وهذا هو الافتراق بالفتن والافتراق في العقائد، وأما الافتراق في مسائل الفروع والفقه فليس يدخل في هذه الآية، بل ذلك، هو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «خلاف أمتي رحمة»، وقد اختلف الصحابة في الفروع أشد اختلاف، وهم يد واحدة على كل كافر، وأما الفتنة على علي بن أبي طالب رضي الله عنه فمن التفرق المنهي عنه، أما أن التأويل هو الذي أدخل في ذلك أكثر من دخله من الصحابة رضي الله عن جميعهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏

‏{‏وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَآءَ فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءَايَتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ‏}‏

هذه الآية تدل على أن الخطاب بهذه الآية إنما هو للأوس والخزرج، وذلك أن العرب وإن كان هذا اللفظ يصلح في جميعها فإنها لم تكن في وقت نزول هذه الآية اجتمعت على الإسلام ولا تألفت قلوبها، وإنما كانت في قصة شاس بن قيس في صدر الهجرة، وحينئذ نزلت هذه الآية، فهي في الأوس والخزرج، كانت بينهم عداوة وحروب، منها يوم بعاث وغيره، وكانت تلك الحروب والعداوة قد دامت بين الحيين مائة وعشرين سنة، حتى رفعها الله بالإسلام، فجاء النفر الستة من الأنصار إلى مكة حجاجاً، فعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه عليهم، وتلا عليهم القرآن، كما كان يصنع مع قبائل العرب، فآمنوا به وأراد الخروج معهم، فقالوا يا رسول الله‏:‏ إن قدمت بلادنا على ما بيننا من العداوة والحرب، خفنا أن لا يتم ما نريده منك، ولكن نمضي نحن ونشيع أمرك، ونداخل الناس، وموعدنا وإياك العام القابل، فمضوا وفعلوا، وجاءت الأنصار في العام القابل، فكانت العقبة الثانية وكانوا اثني عشر رجلاً، فيهم خسمة من الستة الأولين، ثم جاؤوا من العام الثالث، فكانت بيعة العقبة، الكبرى، حضرها سبعون وفيهم اثنا عشر نقيباً، ووصف هذه القصة مستوعب في سيرة ابن هشام، ويسر الله تعالى الأنصار للإسلام بوجيهن، أحدهما أن بني إسرائيل كانوا مجاورين لهم وكانوا يقولون لمن يتوعدونه من العرب، يبعث لنا نبي الآن نقتلكم معه قتل عاد وإرم، فلما رأى النفر من الأنصار محمداً صلى الله عليه وسلم، قال بعضهم لبعض‏:‏ هذا والله النبي الذي تذكره بنو إسرائيل فلا تسبقن إليه، والوجه الآخر، الحرب التي كانت ضربتهم وأفنت سراتهم، فرجوا أن يجمع الله به كلمتهم كالذي كان، فعدد الله تعالى عليهم نعمته في تأليفهم بعد العداوة، وذكرهم بها، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأصبحتم‏}‏ عبارة عن الاستمرار وإن كانت اللفظة مخصوصة بوقت ما، وإنما خصت هذه اللفظة بهذا المعنى من حيث هي مبدأ النهار، وفيها مبدأ الأعمال، فالحال التي يحسها المرء من نفسه فيها هي حاله التي يستمر عليها يومه في الأغلب، ومنه قول الربيع بن ضبع‏:‏ ‏[‏المنسرح‏]‏

أصبحت لا أحمل السلاح ولا *** أَمْلِكُ رَأْسَ البعيرِ إنْ نَفَرا

و «الإخوان» جمع أخ، ويجمع إخوة، وهذان أشهر الجمع فيه، على ان سيبويه رحمه الله يرى أن إخوة اسم جمع، وليس ببناء جمع لأن فعلاً لا يجمع على فعلة، قال بعض الناس‏:‏ الأخ في الدين يجمع إخواناً، والأخ في النسب يجمع إخوة‏:‏ هكذا كثر استعمالهم‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وفي كتاب الله تعالى‏:‏ ‏{‏إنما المؤمنون إخوة‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 10‏]‏ وفيه، ‏{‏أو بني إخوانهن‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 31‏]‏، فالصحيح أنهما يقالان في النسب، ويقالان في الدين، و«الشفا» حرف كل جرم له مهوى، كالحفرة والبئر والجرف والسقف والجدار ونحوه، ويضاف في الاستعمال إلى الأعلى، كقوله

‏{‏شفا جرف‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 109‏]‏ وإلى الأسفل كقوله ‏{‏شفا حفرة‏}‏، ويثنى شفوان، فشبه تعالى كفرهم الذي كانوا عليه وحربهم المدنية من الموت بالشفا، لأنهم كانوا يسقطون في جهنم دأباً، فأنقذهم الله بالإسلام، والضمير في ‏{‏منها‏}‏ عائد على النار، أو على «الحفرة»، العود على الأقرب أحسن، وقال بعض الناس حكاه الطبري‏:‏ إن الضمير عائد على «الشفا»، وأنث الضمير من حيث كان الشفا مضافاً إلى مؤنث، فالآية كقول جرير‏:‏

رَأَتْ مَرَّ السنينِ أَخَذْنَ مِنّي *** كَمَا أَخذَ السّرارُ مِنَ الهِلاَلِ

إلى غير ذلك من الأمثلة‏.‏

قال القاضي‏:‏ وليس الأمر كما ذكر، والآية لا يحتاج فيها إلى هذه الصناعة، إلا لو لم تجد معاداً للضمير إلا «الشفا»، وأما ومعنا لفظ مؤنث يعود الضمير عليه، ويعضده المعنى المتكلم فيه، فلا يحتاج إلى تلك الصناعة وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كذلك يبين لكم آياته‏}‏ إشارة إلى ما بين في هذه الآيات، أي فكذلك يبين لكم غيرها، وقوله، ‏{‏لعلكم‏}‏ ترجٍّ في حق البشر، أي من تأمل منكم الحال رجا الاهتداء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏104- 105‏]‏

‏{‏وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏104‏)‏ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏105‏)‏‏}‏

قرأ الحسن والزهري وأبو عبد الرحمن وعيسى بن عمر وأبو حيوة‏:‏ «ولِتكن» بكسر اللام على الأصل، إذ أصلها الكسر، وكذلك قرؤوا لام الأمر في جميع القرآن، قال الضحاك والطبري وغيرهما‏:‏ أمر المؤمنون أن تكون منهم جماعة بهذه الصفة، فهم خاصة أصحاب الرسول، وهم خاصة الرواة‏.‏

قال القاضي‏:‏ فعلى هذا القول «من» للتبعيض، وأمر الله الأمة بأن يكون منها علماء يفعلون هذه الأفاعيل على وجوهها ويحفظون قوانينها على الكمال، ويكون سائر الأمة متبعين لأولئك، إذ هذه الأفعال لا تكون إلا بعلم واسع، وقد علم تعالى أن الكل لا يكون عالماً، وذهب الزجّاج وغير واحد من المفسرين، إلى أن المعنى‏:‏ ولتكونوا كلكم أمة يدعون، «ومن» لبيان الجنس قال‏:‏ ومثله من كتاب الله، ‏{‏فاجتنبوا الرجس من الأوثان‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 30‏]‏ ومثله من الشعر قول القائل‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

أَخُوا رَغَائِبَ يُعْطِيها وَيسْأَلُها *** يأبى الظُّلامةَ مِنْهُ النُّوفَل الزّفرُ

قال القاضي‏:‏ وهذه الآية على هذا التأويل إنما هي عندي بمنزلة قولك‏:‏ ليكن منك رجل صالح، ففيها المعنى الذي يسميه النحويون، التجريد، وانظر أن المعنى الذي هو ابتداء الغاية يدخلها، وكذلك يدخل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من الأوثان‏}‏ ذاتها ولا تجده يدخل قول الشاعر‏:‏ منه النوفل الزفر، ولا تجده يدخل في «من» التي هي صريح بيان الجنس، كقولك ثوب من خز، وخاتم من فضة، بل هذه يعارضها معنى التبعيض، ومعنى الآية على هذا التأويل‏:‏ أمر الأمة بأن يكونوا يدعون جميع العالم إلى الخير، الكفار إلى الإسلام، والعصاة إلى الطاعة، ويكون كل واحد من هذه الأمور على منزلته من العلم والقدرة، قال أهل العلم‏:‏ وفرض الله بهذه الآية، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو من فروض الكفاية إذا قام به قائم سقط عن الغير، وللزوم الأمر بالمعروف شروط، منها أن يكون بمعروف لا بتخرق، فقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ من كان آمراً بمعروف، فليكن أمره ذلك بمعروف، ومنها أن لا يخاف الآمر أذى يصيبه، فإن فعل مع ذلك فهو أعظم لأجره، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان»‏.‏

قال القاضي‏:‏ والناس في تغيير المنكر والأمر بالمعروف على مراتب، ففرض العلماء فيه تنبيه الحكام والولاة، وحملهم على جادة العلم، وفرض الولاة تغييره بقوتهم وسلطانهم، ولهم هي اليد، وفرض سائر الناس رفعه إلى الحكام والولاة بعد النهي عنه قولاً، وهذا في المنكر الذي له دوام، وأما إن رأى أحد نازلة بديهة من المنكر، كالسلب والزنى ونحوه، فيغيرها بنفسه بحسب الحال والقدرة، ويحسن لكل مؤمن أن يحتمل في تغيير المنكر، وإن ناله بعض الأذى، ويؤيد هذا المنزع أن في قراءة عثمان بن عفان وابن مسعود وابن الزبير «يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويستعينون بالله على ما أصابهم»، فهذا وإن كان لم يثبت في المصحف، ففيه إشارة إلى التعرض لما يصيب عقب الأمر والنهي، كما هي في قوله تعالى‏:‏

‏{‏وأمر بالمعروف وانه عن المنكر، واصبر على ما أصابك‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 17‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم، لا يضركم من ضل إذا اهتديتم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 105‏]‏ معناه إذا لم يقبل منكم ولم تقدروا على تغيير منكره، وقال بعض العلماء‏:‏ «المعروف» التوحيد، و‏{‏المنكر‏}‏ الكفر، والآية نزلت في الجهاد‏.‏

قال الفقيه القاضي‏:‏ ولا محالة أن التوحيد والكفر هما رأس الأمرين، ولكن ما نزل عن قدر التوحيد والكفر، يدخل في الآية ولا بد، ‏{‏المفلحون‏}‏ الظافرون ببغيتهم، وهذا وعد كريم‏.‏

ثم نهى لله تعالى هذه الأمة عن أن يكونوا كالمتفرقين من الأمم، واختلفت عبارة المفسرين في المشار إليهم، فقال ابن عباس‏:‏ هي إشارة إلى كل من افترق في الأمم في الدين فأهلكهم الافتراق، وقال الحسن‏:‏ هي إشارة إلى اليهود والنصارى، وقال الزجاج‏:‏ يحتمل أن تكون الإشارة أيضاً إلى فرق اليهود وفرق النصارى، ومجيء ‏{‏البينات‏}‏ هو ببعث الرسل، وإنزال الكتب، وأسند الفعل دون علامة إلى ‏{‏البينات‏}‏، من حيث نزلت منزلة البيان، ومن حيث لا حقيقة لتأنيثها، وباقي الآية وعيد، وقوله‏:‏ ‏{‏عذاب عظيم‏}‏ يعني أنه أعظم من سواه، ويتفاضل هذان العرضان بأن أحدهما يتخلله فتور، وأما الجزء الفرد من هذا وذلك فسواء، هذا تحرير مذهب أصحابنا الأصوليين رحمهم الله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏106- 107‏]‏

‏{‏يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ‏(‏106‏)‏ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏107‏)‏‏}‏

والعامل في قوله ‏{‏يوم‏}‏ الفعل الذي تتعلق به اللام، وفي قوله ‏{‏ولهم عذاب عظيم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 105‏]‏ قال الزجاج‏:‏ تقديره ويثبت لهم عذاب عظيم‏.‏

قال القاضي‏:‏ وذلك ضعيف من جهة المعنى، لأنه يقتضي أن عظم العذاب في ذلك اليوم، ولا يجوز أن يكون العامل قوله عذاب، لأنه مصدر قد وصف، «وبياض الوجوه»‏:‏ عبارة عن إشراقها واستنارتها وبشرها برحمة الله، قال الزجّاج-وغيره-‏:‏ ويحتمل عندي أن يكون ذلك من آثار الوضوء كما قال النبي عليه السلام، أنتم الغر المحجلون من آثار الوضوء، وأما «سواد الوجوه»، فقال المفسرون هي عبارة عن اربدادها وإظلامها بغمم العذاب، ويحتمل أن يكون ذلك تسويداً ينزله الله بهم على جهة التشويه والتمثيل بهم، على نحو حشرهم زرقاً وهذه أقبح طلعة، ومن ذلك قول بشار‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

وَلِلْبَخِيلِ عَلى أَمْوالِهِ عِلَلٌ *** زُرْقٌ العُيونِ عَلَيْها أَوْجُةٌ سُودُ

وقرأ يحيى بن وثاب، «تِبيض وتِسود» بكسر التاء، وقرأ الزهري، «تبياض» وجوه، «وتسواد» وجوه بألف، وهي لغة، ولما كان صدر هذه الآية، إخباراً عن حال لا تخص أحداً معيناً، بدئ بذكر البياض لشرفه، وأنه الحالة المثلى، فلما فهم المعنى، وتعين له «الكفار والمؤمنون»، بدئ بذكر الذين اسودت وجوههم للاهتمام بالتحذير من حالهم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أكفرتم‏}‏ تقرير وتوبيخ، متعلق بمحذوف، تقديره‏:‏ فيقال لهم‏:‏ أكفرتم‏؟‏ وفي هذا المحذوف هو جواب «أما»، وهذا هو فحوى الخطاب، وهو أن كون في الكلام شيء مقدر لا يستغني المعنى عنه، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 184‏]‏ المعنى فأفطر فعدة وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بعد إيمانكم‏}‏ يقتضي أن لهؤلاء الموقنين إيماناً متقدماً، فاختلف أهل التأويل في تعيينهم، فقال أبي بن كعب‏:‏ الموقفون جميع الكفار، والإيمان الذي قيل لهم بسببه ‏{‏بعد إيمانكم‏}‏ هو الإيمان الذي أقروا به يوم قيل لهم- ألست بربكم‏؟‏ قالوا بلى- وقال أكثر المتأولين‏:‏ إنما عني بالتوقيف في هذه الآية أهل القبلة من هذه الأمة، ثم اختلفوا، فقال الحسن‏:‏ الآية في المنافقين، يؤمنون بألسنتهم ويكفرون بقلوبهم، فيقال لهم‏:‏ ‏{‏أكفرتم بعد إيمانكم‏}‏‏؟‏ أي ذلك الإيمان بألسنتهم، وقال السدي‏:‏ هي فيمن كفر من أهل القبلة حين اقتتلوا، وقال أبو أمامة‏:‏ الآية في الخوارج وقال قتادة‏:‏ الآية في أهل الردة، ومنه الحديث‏:‏ ليردن عليَّ الحوض رجال من أصحابي حتى إذا رفعوا إليّ اختلجوا فأقول‏:‏ أصحابي أصحابي، فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول‏:‏ فسحقاً فسحقاً، وفي بعض طرقه‏:‏ فأناديهم‏:‏ ألا هلم، ألا هلم، وذكر النحاس قولاً‏:‏ إن الآية في اليهود، وذلك أنهم آمنوا بصفة محمد واستفتحوا به، فلما جاءهم من غيرهم كفروا، فهذا كفر بعد إيمان، وروي عن مالك أنه قال‏:‏ الآية في أهل الأهواء‏.‏

قال القاضي‏:‏ إن كان هذا ففي المجلحين منهم القائلين ما هو كفر، وروي حديث‏:‏ أن الآية في القدرية وقال أبو أمامة‏:‏ سمعنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنها في الحرورية، وقد تقدم عنه أنها في الخوارج وهو قول واحد، وما في قوله ‏{‏بما كنتم‏}‏ مصدرية وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ففي رحمة الله‏}‏ أي في النعيم الذي هو موجب رحمة الله وقوله بعد ذلك ‏{‏هم فيها‏}‏ تأكيد بجملتين، إذ كان الكلام يقوم دونها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏108- 110‏]‏

‏{‏تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ ‏(‏108‏)‏ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ‏(‏109‏)‏ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ‏(‏110‏)‏‏}‏

الإشارة بتلك إلى هذه الآيات المتقدمة المتضمنة تعذيب الكفار وتنعيم المؤمنين، ولما كان فيها ذكر التعذيب، أخبر تعالى‏:‏ أنه لا يريد أن يقع منه ظلم لأحد من العباد، وإذا لم يرد ذلك فلا يوجد البتة، لأنه لا يقع من شيء إلا ما يريد تعالى، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بالحق‏}‏ معناه‏:‏ الإخبار الحق، ويحتمل أن يكون المعنى‏:‏ ‏{‏نتلوها عليك‏}‏ مضمنة الأفاعيل التي هي «حق» في أنفسها، من كرامة قوم، وتعذيب آخرين، وقرأ أبو نهيك‏:‏ «يتلوها» بالياء، وجاء الإعلام بأنه تعالى لا يريد ظلماً في حكمه، فإذا لا يوجد‏.‏

ولما كان للذهن أن يقف هنا في الوجه الذي به خص الله قواماً بعمل يرحمهم من أجله، وآخرين بعمل يعذبهم عليه، ذكر تعالى الحجة القاطعة في ملكه جميع المخلوقات، وأن «الحق» لا يعترض عليه، وذلك في قوله، ‏{‏ولله ما في السموات وما في الأرض‏}‏ الآية، وقال‏:‏ ‏{‏ما‏}‏ ولم يقل «من» من حيث هي جمل وأجناس، وذكر الطبري‏:‏ أن بعض البصريين نظر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإلى الله‏}‏ فأظهر الاسم، ولم يقل إليه بقول الشاعر‏:‏

لا أرى الموتَ يسبقُ الموتَ شيءٌ *** نَغَّصَ الموتُ ذا الغنى والْفَقيرا

وما جرى مجراه، وقاله الزجّاج، وحكي أن العرب تفعل ذلك إرادة تفخيم الكلام والتنبيه على عظم المعنى‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ والآية تشبه البيت في قصد فخامة النظم، وتفارقه من حيث الآية جملتان مفترقتان في المعنى، فلو تكررت جمل كثيرة على هذا الحد لحسن فيها كلها إظهار الاسم، وليس التعرض بالضمير في ذلك بعرف، وأما البيت وما أشبهه فالضمير فيه هو العرف، إذ الكلام في معنى واحد، ولا يجوز إظهار الاسم إلا في المعاني الفخمة في النفوس من التي يؤمن فيها اللبس على السامع، وقرأ بعض السبعة، «تَرجع الأمور» بفتح التاء على بناء الفعل للفاعل، وقد تقدم ذكر ذلك‏.‏

واختلف المتأولون في معنى قوله‏:‏ ‏{‏كنتم خير أمة أخرجت للناس‏}‏ فقال عمر بن الخطاب‏:‏ هذه لأولنا، ولا تكون لآخرنا وقال عكرمة‏:‏ نزلت في ابن مسعود وسالم ومولى أبي حذيفة وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ يريد من شاكلهم، وقال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ نزلت في الذين هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة‏.‏

قال القاضي‏:‏ فهذا كله قول واحد، مقتضاه أن الآية نزلت في الصحابة، قيل لهم ‏{‏كنتم خير أمة‏}‏، فالإشارة بقوله ‏{‏أمة‏}‏ إلى أمة محمد معينة، فإن هؤلاء هم خيرها، وقال الحسن بن أبي الحسن وجماعة من أهل العلم‏:‏ معنى الآية، خطاب الأمة بأنهم ‏{‏خير أمة أخرجت للناس‏}‏، فلفظ ‏{‏أمة‏}‏، على هذا التأويل اسم جنس كأنه قيل لهم كنتم خير الأمم، ويؤيد هذا التأويل كونهم شهداء على الناس، وقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏

«نحن الآخرون السابقون» الحديث‏.‏ وروى بهز بن حكيم عن أبيه عن جده‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوماً وهو مسند ظهره إلى الكعبة، «نحن نكمل يوم القيامة سبعين أمة نحن آخرها وخيرها» قال مجاهد‏:‏ معنى الآية «كنتم خير الناس»- وقال الحسن‏:‏ نحن آخرها وأكرمها على الله تعالى، وقال أبو هريرة رضي الله عنه‏:‏ معنى الآية كنتم للناس خير الناس‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ‏{‏فأمة‏}‏ على هذا التأويل، اسم جنس، قال أبو هريرة‏:‏ يجيئون بالكفار في السلاسل فيدخلونهم في الإسلام‏.‏

قال القاضي‏:‏ ولم يبعث نبي إلى الأمم كافة إلا محمد صلى الله عليه وسلم، فهو وأمته يدعون إلى الإيمان ويقاتلون العالم عليه، فهم خير الناس للناس، وليس يلزم على هذا التأويل أنها أفضل الأمم من نفس لفظ الآية، لكن يعلم هذا من لفظ آخر، وهي كقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أرأف أمتي بأمتي أبو بكر، فليس يقتضي هذا اللفظ أن أبا بكر أرأف الناس على الإطلاق، في مؤمن وكافر‏.‏

قال القاضي‏:‏ والرأفة على الإطلاق ليست بجارية مع الشرع كما يجب، وأما قوله، ‏{‏كنتم‏}‏ على صيغة المضي، فإنها التي بمعنى الدوام، كما قال‏:‏ ‏{‏وكان الله غفوراً رحيماً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 96- 99- 100- 152- الفرقان‏:‏ 70، الأحزاب‏:‏ 5- 50- 59- 73، الفتح‏:‏ 14‏]‏، إلى غير هذا من الأمثلة، وقال قوم‏:‏ المعنى كنتم في علم الله، وقيل‏:‏ في اللوح المحفوظ، وقيل فيما أخبر به الأمم قديماً عنكم و‏{‏خير‏}‏ على هذه الأقوال كلها خبر كان، ويحتمل أن تكون كان التامة، ويكون ‏{‏خير أمة‏}‏ نصباً على الحال، وهذا يتجه على بعض التأويلات التي ذكرناها دون بعض‏.‏

قال القاضي‏:‏ وهذه الخيرية التي فرضها الله لهذه الأمة إنما يأخذ بحظه منها من عمل هذه الشروط من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله، وقوله‏:‏ ‏{‏تأمرون بالمعروف‏}‏ وما بعده، أحوال في موضع نصب، ثم أخبر تعالى عن أهل الكتاب على جهة التوبيخ المقرون بالنصح، أنهم لو آمنوا لنحّوا أنفسهم من عذاب الله، وجاءت لفظة ‏{‏خير‏}‏ في هذه الآية وهي صيغة تفضيل، ولا مشاركة بين كفرهم وإيمانهم في الخير، وإنما جاز ذلك لما في لفظة ‏{‏خير‏}‏ من الشياع وتشعب الوجوه، وكذلك هي لفظة أفضل وأحب وما جرى مجراها، وقد بيّن هذا المعنى في غير هذا الموضع بأوعب من هذا، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏منهم المؤمنون‏}‏ تنبيه على حال عبد الله بن سلام وأخيه وثعلبه بن سعية وغيرهم ممن آمن، ثم حكم الله على أكثرهم بالفسق في كفره لأنهم حرفوا وبدلوا وعاندوا بعد معرفتهم بحقيقة أمر محمد صلى الله عليه وسلم، فهم كفار فسقة في الكفر قد جمعوا المذمتين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏111- 112‏]‏

‏{‏لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ ‏(‏111‏)‏ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ‏(‏112‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لن يضروكم إلا أذى‏}‏ معناه‏:‏ لن يصيبكم منهم ضرر في الأبدان ولا في الأموال، وإنما هو أذى بالألسنة، فالاستثناء متصل، وقال الحسن، وقتادة وغيرهما‏:‏ «الأذى» هو تحريفهم أمر محمد صلى الله عليه وسلم وتكذيبهم إياه‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وتنقصهم المؤمنين وطعنهم عليهم جملة وأفراداً، وهذا كله عظيم مقلق وبسببه استحقوا القتل والإجلاء، وضرب الجزية، لكن أراد الله تعالى بهذه الآية أن يلحظهم المؤمنون بعين الاحتقار حتى لا يصدوا أحداً عن دينه ولا يشغلوه عن عبادة ربه، وهكذا هي فصاحة العرب، ومن هذا المعنى في التحقير قول ثمامة بن أثال‏:‏ يا محمد إن تقتلني تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن شئت المال فاسأل منه ما شئت، فقوله‏:‏ ذا دم، روي بالذال منقوطة، وبالدال غير منقوطة، فذم بفتح الذال وبكسرها أراد بها الذمام، وأما الدال غير المنقوطة، فيحتمل أنه أرد التعظيم لأمر نفسه، وذلك بأحد وجهين‏:‏ إما أن يريد الوعيد، أي تقتل ذا دم مطلوب بثأره له حماة فاحذر عاقبة ذلك، وإما أن يريد تقتل ملكاً يستشفى بدمه، كما كانت العرب تعتقد في دماء الملوك، فهذا استعطاف لا وعيد، أي لا ينبغي ذلك أن تفسد مثلي، وهذا كما استعطف الأشعث بن قيس أبا بكر رضي الله عنه بهذا المعنى، ويحتمل كلام ثمامة، أنه أراد تحقير أمر نفسه وليذهب عن نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم المسرة بنيل مثل هذا الأمر العظيم، ويجري ذلك مجرى قول أبي جهل لعبد الله بن مسعود‏:‏ وهل أعمد من رجل قتلتموه‏؟‏ ومثله قول الأسير لعمر بن عبد العزيز، حين قال له‏:‏ لأقتلنك، قال إن ذلك لا ينقص من عدد الخزر شيئاً فكأن ثمامة أراد‏:‏ إن تقتلني تقتل حيواناً حقيراً شأنه، كما يقتل كل ذي دم فما بالك تفعل ذلك وتدع الإنعام عليّ‏؟‏ فالآية تنظر إلى هذا المعنى من جهة أنه حقر عند المؤمنين ما هو عيظم في نفسه تنبيهاً لهم، وأخبر الله تعالى في قوله‏:‏ ‏{‏وإن يقاتلوكم‏}‏ الآية، بخبر غيب صححه الوجود، فهي من آيات محمد صلى الله عليه وسلم، وفائدة الخبر هي في قوله‏:‏ ‏{‏ثم لا ينصرون‏}‏ أي لا تكون حربهم معكم سجالاً وخص ‏{‏الأدبار‏}‏ بالذكر دون الظهر تخسيساً للفارّ، وهكذا هو حيث تصرف‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏ضربت‏}‏ معناه‏:‏ أثبتت بشدة والتزام مؤكد، وهذا وصف حال تقررت على اليهود في أقطار الأرض قبل مجيء الإسلام، قال الحسن‏:‏ جاء الإسلام وإن المجوس لتجبيهم الجزية، وما كانت لهم عزة ومنعة إلا بيثرب وخيبر وتلك الأرض فأزالها الله بالإسلام، ولم تبق لهم راية أصلاً في الأرض، و‏{‏الذلة‏}‏ فعلة من الذل ‏{‏ثقفوا‏}‏ معناه أخذوا وهم بحال المذنب المستحق الإهلاك، ومنه قوله تعالى‏:‏

‏{‏فإما تثقفنهم في الحرب‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 57‏]‏ ‏{‏فاقتلوا المشركين حيث ثقفتموهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 5‏]‏ واللفظة مأخوذة من الثقاف، ومنه قول الشاعر‏:‏

تدعو ثقيفاً وَقَدْ عَضَّ الحديدُ بها *** عضَّ الثّقافِ على صُمّ الأنابيبِ

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا بحبل‏}‏ استثناء منقطع، وهو نظير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 92‏]‏ لأن بادي الرأي يعطي أن له أن يقتل خطئاً، وأن الحبل من الله ومن الناس يزيل ضرب الذلة، وليس الأمر كذلك، وإنما الكلام محذوف، يدركه فهم السامع الناظر في الأمر، وتقديره في آياتنا فلا نجاة من الموت ‏{‏إلا بحبل‏}‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا‏}‏ كأنه بالمعنى هلكوا واستؤصلوا، فلذلك حسن أن يجيء بعده ‏{‏إلا بحبل‏}‏، وقرب فهم ذلك للسامع، قال الزجّاج‏:‏ المعنى ضربت عليهم الذلة إلا أنهم يعتصمون بالعهد إذا أعطوه، و«الحبل» العهد، شبه به لأنه يصل قوماً بقوم كما يفعل الحبل في الأجرام، و‏{‏باؤوا‏}‏ معناه مضوا متحملين لهذا الحكم، و«غضب الله عليهم»، بما دلت عليه هذه الأمور التي أوقع بهم، وأفعال بني إسرائيل على وجه الدهر من التعنت والعصيان توجب الغضب، فلذلك خصوا به، والنصارى إنما ضلوا فقط، و‏{‏المسكنة‏}‏ التذلل والضعة، وهي حالة الطواف الملتمس للقمة واللقمتين المضارع المفارق لحالة التعفف والتعزز به، فليس أحد من اليهود وإن كان غنياً إلا وهو بهذه الحال، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ إشارة إلى الغضب وضرب الذلة والمسكنة، فعاقبهم الله على كفرهم وقتلهم الأنبياء بذلك، و‏{‏آيات الله‏}‏‏:‏ يحتمل أن يراد بها المتلوة، ويحتمل أن يريد العبر التي عرضت عليهم، وقوله‏:‏ ‏{‏بغير حق‏}‏ تأكيد ومبالغة وقطع لما عسى أن يكون في وهم إنسان ممكناً بوجه ما، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك بما عصوا‏}‏ حمله المفسرون على أن الإشارة بذلك إلى الشيء الذي أشير إليه بذلك الأول، قاله الطبري والزجّاج وغيرهما‏.‏ والذي أقول‏:‏ إن الإشارة ب ‏{‏ذلك‏}‏ الأخير إنما هي إلى كفرهم وقتلهم، وذلك أن الله تعالى، استدرجهم فعاقبهم على العصيان والاعتداء بالمصير إلى الكفر وقتل الأنبياء، وهو الذي يقول أهل العلم‏:‏ إن الله تعالى يعاقب على المعصية بالإيقاع في معصية، ويجازي على الطاعة بالتوفيق إلى الطاعة، وذلك موجود في الناس إذا تؤمل، وعصيان بني إسرائيل واعتداؤهم في السبت وغيره متقرر في غير ما موضع من كتاب الله، وقال قتادة رحمه الله عندما فسر هذه الآية‏:‏ اجتنبوا المعصية والعدوان فإن بها أهلك من كان قبلكم من الناس‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏113- 114‏]‏

‏{‏لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آَيَاتِ اللَّهِ آَنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ‏(‏113‏)‏ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏114‏)‏‏}‏

لما مضت الضمائر في الكفر والقتل والعصيان والاعتداء عامة في جميع أهل الكتاب، عقب ذلك بتخصيص الذين هم على خير وإيمان، وذلك أن أهل الكتاب لم يزل فيهم من هو على استقامة، فمنهم من مات قبل أن يدرك الشرائع فذلك من الصالحين، ومنهم من أدرك الإسلام فدخل فيه‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ويعترض هذا النظر أن جميع اليهود على عوج من وقت عيسى، وتجيء الآية إشارة إلى من أسلم فقط، أو يكون اليهود في معنى الأمة القائمة إلى وقت عيسى، ثم ينتقل الحكم في النصارى، ولفظ ‏{‏أهل الكتاب‏}‏ يعم الجميع، والضمير في ‏{‏ليسوا‏}‏ لمن تقدم ذكره في قوله ‏{‏منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 110‏]‏ وما قال أبو عبيدة من أن الآية نظيرة قول العرب أكلوني البراغيث خطأ مردود، وكذلك أيضاً ما حكي عن الفراء أن ‏{‏أمة‏}‏ مرتفعة ب ‏{‏سواء‏}‏ على أنها فاعلة كأنه قال‏:‏ لا تستوي أمة كذا وإن في الآخر الكلام محذوفاً معادلاً تقديره وأمة كافرة، فأغنى القسم الأول عن ذكرها ودل عليه كما قال أبو ذؤيب‏:‏

عَصَيْتُ إليْها الْقَلْبَ إنّي لأَمْرِها *** سَمِيعٌ فما أدري أَرُشْدٌ طِلابُها‏؟‏

المعنى أم غيّ، فاقتصر لدلالة ما ذكر عليه‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وإنما الوجه أن الضمير في ‏{‏ليسوا‏}‏ يراد به من تقدم ذكره، و‏{‏سواء‏}‏ خبر ليس، و‏{‏من أهل الكتاب‏}‏ مجرور فيه خبر مقدم، و‏{‏أمة‏}‏ رفع بالابتداء قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ لما أسلم عبد الله بن سلام وثعلبة بن سعية وأسيد بن سيعة وأسد بن عبيد ومن أسلم من اليهود، معهم، قال الكفار من أحبار اليهود ما آمن بمحمد إلا شرارنا ولو كانوا خياراً ما تركوا دين آبائهم، فأنزل الله تعالى في ذلك ‏{‏ليسوا سواء‏}‏ الآية، وقال مثله قتادة وابن جريج‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهو أصح التأويلات، وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه‏:‏ معنى الآية‏:‏ ليس اليهود وأمة محمد سواء، وقاله السدي‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فمن حيث تقدم ذكر هذه الآمة في قوله ‏{‏كنتم خير أمة‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 110‏]‏ وذكر أيضاً اليهود قال الله لنبيه ‏{‏ليسوا سواء‏}‏ و‏{‏الكتاب‏}‏ على هذا جنس كتب الله وليس بالمعهود من التوراة والإنجيل فقط، والمعنى‏:‏ ‏{‏من أهل الكتاب‏}‏ وهم أهل القرآن أمة قائمة‏:‏ واختلف عبارة المفسرين في قوله ‏{‏قائمة‏}‏ فقال مجاهد‏:‏ معناه عادلة، وقال قتادة والربيع وابن عباس‏:‏ معناه قائمة على كتاب الله وحدوده مهتدية، وقال السدي‏:‏ القائمة القانتة المطيعة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا كله يرجع إلى معنى واحد من الاعتدال على أمر الله، ومنه قيل للدنانير أو الدراهم الوازنة قائمة وهذه الآية تحتمل هذا المعنى وأن لا تنظر اللفظة إلى هيئة الأشخاص وقت تلاوة آيات الله، ويحتمل أن يراد ب ‏{‏قائمة‏}‏ وصف حال التالين في ‏{‏آناء الليل‏}‏، ومن كانت هذه حاله فلا محالة أنه معتدل على أمر الله، وهذه الآية في هذين الاحتمالين مثل ما تقدم في قوله‏:‏

‏{‏إلا ما دمت عليه قائماً‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 75‏]‏ و‏{‏يتلون‏}‏ معناه‏:‏ يسردون، و‏{‏آيات الله‏}‏ في هذه الآية هي كتبه، و«الآناء»‏:‏ الساعات واحدها «إني» بكسر الهمزة وسكون النون، ويقال فيه «أني» بفتح الهمزة، ويقال «إنَى» بكسر الهمزة وفتح النون والقصر، ويقال فيه «أنى» بفتح الهمزة ويقال «إِنْو» بكسر الهمزة وسكون النون وبواو مضمومة ومنه قول الهذيلي‏:‏ ‏[‏البسط‏]‏

حُلْوٌ وَمُرٌّ كَعَطْفِ الْقدْحِ مِرَّتهُ *** في كلُّ إنيٍ قضاه الليل ينتعل

وحكم هذه الآية لا يتفق في شخص بأن يكون كل واحد يصلي جميع ساعات الليل وإنما يقوم هذا الحكم من جماعة الأمة، إذا بعض الناس يقوم أول الليل، وبعضهم آخره، وبعضهم بعد هجعة ثم يعود إلى نومه، فيأتي من مجموع ذلك في المدن والجماعات عبارة ‏{‏آناء الليل‏}‏ بالقيام، وهكذا كان صدر هذه الأمة، وعرف الناس القيام في أول الثلث الآخر من الليل أو قبله بشيء، وحينئذ كان يقوم الأكثر، والقيام طول الليل قليل وقد كان في الصالحين من يلتزمه، وقد ذكر الله تعالى القصد من ذلك في سورة المزمل، وقيام الليل لقراءة العلم المبتغى به وجه الله داخل في هذه الآية، وهو أفضل من التنفل لمن يرجى انتفاع المسلمين بعلمه، وأما عبارة المفسرين في ‏{‏آناء الليل‏}‏، فقال الربيع وقتادة وغيرهما‏:‏ ‏{‏آناء الليل‏}‏ ساعات الليل، وقال عبد الله بن كثير‏:‏ سمعنا العرب تقول ‏{‏آناء الليل‏}‏ ساعات الليل، وقال السدي‏:‏ ‏{‏آناء الليل‏}‏ جوف الليل‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا قلق، أما ان جوف الليل جزء من الآناء، وقال ابن مسعود‏:‏ نزلت هذه الآية بسبب أن النبي صلى الله عليه وسلم احتبس عنا ليلة عن صلاة العشاء وكان عند بعض نسائه فلم يأت حتى مضى ليل، فجاء ومنا المصلي ومنا المضطجع، فقال‏:‏ أبشروا فإنه ليس أحد من أهل الكتاب يصلي هذه الصلاة، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏ليسوا سواء‏}‏ الآية، فالمراد بقوله‏:‏ ‏{‏يتلون آيات الله آناء الليل‏}‏ صلاة العشاء، وروى سفيان الثوري عن منصور أنه قال‏:‏ بلغني أن هذه الآية نزلت في المصلين بين العشاءين وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهم يسجدون‏}‏ ذهب بعض الناس إلى أن السجود هنا عبارة عن الصلاة، سماها بجزء شريف منها كما تسمى في كثير من المواضع ركوعاً، فهي على هذا جملة في موضع الحال، كأنه قال‏:‏ يتلون آيات الله آناء الليل مصلين، وذهب الطبري وغيره إلى أنها جملة مقطوعة من الكلام الأول، أخبر عنهم أنهم أيضاً أهل سجود‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ويحسن هذا من جهة أن التلاوة آناء الليل قد يعتقد السامع أن ذلك في غير الصلاة، وأيضاً فالقيام في قراءة العلم يخرج من الآية على التأويل الأول، وثبت فيها على هذا الثاني ف ‏{‏هم يسجدون‏}‏ على هذا نعت عدد بواو العطف، كما تقول‏:‏ جاءني زيد الكريم والعاقل‏.‏

و ‏{‏يؤمنون‏}‏ معناه‏:‏ يصدقون، وفي الإيمان باليوم الآخر إيمان بالأنبياء، لأنه من جائزات العقل التي أثبتها السمع من الأنبياء، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويسارعون في الخيرات‏}‏ وصف بأنهم متى دعوا إلى الخير من نصر مظلوم وإغاثة مكروب وجبر مهيض وعبادة لله أجابوا، ومنه فعل مالك رضي الله عنه في ركعتي المسجد، وقال‏:‏ دعوتني إلى خير فأجبت إليه، ومما يدخل في ضمن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويسارعون في الخيرات‏}‏ أن يكون المرء مغتنماً للخمس، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ اغتنم خمساً قبل خمس، شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل مماتك، وغناك قبل فقرك، فيكون متى أراد أن يصنع خيراً بادر إليه ولم يسوف نفسه بالأمل، فهذه أيضاً مسارعة في الخيرات، وذكر بعض الناس قال‏:‏ دخلت مع بعض الصالحين في مركب فقلت له‏:‏ ما تقول أصلحك الله في الصوم في السفر‏؟‏ فقال لي‏:‏ إنها المبادرة يا ابن أخي، قال المحدث‏:‏ فجاءني والله بجواب ليس من أجوبة الفقهاء، ثم وصف الله تعالى من تحصلت له هذه الصفات، بأنه من جملة الصالحين، و‏{‏من‏}‏ يحسن أن تكون للتبعيض، ويحسن أن تكون لبيان الجنس‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏115- 117‏]‏

‏{‏وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ‏(‏115‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏116‏)‏ مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ‏(‏117‏)‏‏}‏

قرأ ابن كثير ونافع وعاصم في رواية أبي بكر وابن عامر «تفعلوا وتكفروه» بالتاء على مخاطبة هذه الأمة، وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم بالياء فيهما، على مشابهة ما تقدم من «يتلون ويؤمنون» وما بعدهما، وكان أبو عمرو يقرأ بالوجهين، و‏{‏تكفروه‏}‏ معناه‏:‏ يعطى دونكم فلا تثابون عليه، ومن هذا القول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ من أزلت إليه نعمة فليذكرها فإن ذكرها فقد شكرها، فإن لم يفعل فقد كفرها، ومنه قول الشاعر‏:‏ ‏[‏عنترة‏]‏‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏‏.‏

‏(‏والْكُفْرُ مَخبَثَةٌ لِنَفْسِ الْمُنْعِمِ‏)‏ *** وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله عليم بالمتقين‏}‏ وعد ووعيد‏.‏

ثم عقب تعالى ذكر هذا الصنف الصالح بذكر حال الكفار، ليبين الفرق، وخص الله تعالى «الأموال والأولاد» بالذكر لوجوه‏.‏ منها أنها زينة الحياة الدنيا، وعظم ما تجري إليه الآمال، ومنها أنها ألصق النصرة بالإنسان وأيسرها، ومنها أن الكفار يفخرون بالآخرة لا همة لهم إلا فيها هي عندهم غاية المرء وبها كانوا يفخرون على المؤمنين، فذكر الله أن هذين اللذين هما بهذه الأوصاف لا غناء فيهما من عقاب الله في الآخرة، فإذا لم تغن هذه فغيرها من الأمور البعيدة أحرى أن لا يغني وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أصحابه‏}‏ إضافة تخصيص ما، تقتضي ثبوت ذلك لهم ودوامه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا‏}‏ الآية، معناه‏:‏ المثال القائم في النفوس من إنفاقهم الذي يعدونه قربة وحسبة وتحنثاً ومن حبطه يوم القيامة وكونه هباء منثوراً، وذهابه كالمثال القائم في النفوس من زرع قوم نبت واخضرّ وقوي الأمر فيه فهبت عليه ‏{‏ريح فيها صر‏}‏ محرق فأهلكته، فوقع التشبيه بين شيئين وشيئين، ذكر الله عز وجل أحد الشيئين المشبهين وترك ذكر الآخر ثم ذكر أحد الشيئين المشبه بهما وليس الذي يوازي المذكور الأول، وترك ذكر الآخر، ودل المذكور أن على المتروكين، وهذه غاية البلاغة والإيجاز، ومثل ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 171‏]‏، وقرأ عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، «تنفقون» بالتاء على معنى قل لهم يا محمد، و‏{‏مثل‏}‏ رفع بالابتداء وخبره في محذوف به تتعلق الكاف من قوله ‏{‏كمثل‏}‏، و‏{‏ما‏}‏ بمعنى الذي وجمهور المفسرين على أن ‏{‏ينفقون‏}‏ يراد به الأموال التي كانوا ينفقونها في التحنث وفي عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك عندهم قربة، وقال السدي‏:‏ ‏{‏ينفقون‏}‏ معناه من أقوالهم التي يبطنون ضدها‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا ضعيف، لأنه يقتضي أن الآية في منافقين والآية إنما هي في كفار يعلنون مثل ما يبطنون، وذهب بعض المفسرين إلى أن ‏{‏ينفقون‏}‏ يراد به أعمالهم من الكفر ونحوه، أي هي «كالريح التي فيها صر»، فتبطل كل ما لهم من صلة رحم وتحنث بعتق ونحوه، كما تبطل الريح الزرع، وهذا قول حسن لولا بعد الاستعارة في الإنفاق، و«الصر» البرد الشديد، المحرق لكل ما يهب عليه وهو معروف قال ابن عباس وجمهور المفسرين‏:‏ «الصر» البرد، وتسميه العرب الضريب، وذهب الزجّاج وغيره‏:‏ إلى أن اللفظة من التصويت، من قولهم صر الشيء، ومنه الريح الصرصر، قال الزجاج، فالصر صوت النار التي في الريح‏.‏

قال القاضي‏:‏ «الصر» هو نفس جهنم الذي في الزمهرير يحرق نحواً مما تحرق النار، و«الحرث» شامل للزرع والثمار، لأن الجميع مما يصدر عن إثارة الأرض، وهي حقيقة الحرث، ومنه الحديث لا زكاة إلا في عين أو حرث أو ماشية، وقال عز وجل‏:‏ ‏{‏ظلموا أنفسهم‏}‏ فما بال هذا التخصيص والمثل صحيح، وإن كان الحرث لمن لم يظلم نفسه‏؟‏ فالجواب أن ظلم النفس في هذه الآية تأوله جمهور المفسرين بأنه ظلم بمعاصي الله، فعلى هذا وقع التشبيه بحرث من هذه صفته، إذ عقوبته أوخى واخذ الله له أشد والنقمة إليه أسرع وفيه أقوى، كما روي في جوف العير وغيره، وأيضاً فمن أهل العلم من يرى أن كل مصائب الدنيا فإنما هي بمعاصي العبيد، وينتزع ذلك من غير ما آية في القرآن، فيستقيم على قوله‏:‏ إن كل حرث تحرقه ريح فإنما هو لمن قد ظلم نفسه، وذهب بعض الناس ونحا إليه المهدوي‏:‏ إلى أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حرث قوم ظلموا أنفسهم‏}‏ معناه زرعوا في غير أوان الزرعة‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وينبغي أن يقال في هذا‏:‏ ‏{‏ظلموا أنفسهم‏}‏ بأن وضعوا أفعال الفلاحة غير موضعها من وقت أو هيئة عمل، ويخص هؤلاء بالذكر لأن الحرق فيما جرى هذا المجرى أو عب وأشد تمكناً، وهذا المنزع يشبه من جهة ما قول امرئ القيس‏:‏ ‏[‏المتقارب‏]‏

وسالفة كَسحوقِ اللَّيا *** نِ أَضرِمَ فيها الغويُّ السعرُ

فخصص الغويّ لأنه يلقي النار في النخلة الخضراء الحسنة التي لا ينبغي أن تحرق، فتطفئ النار عن نفسها رطوبتها بعد أن تتشذب وتسود، فيجيء الشبه حسناً، والرشيد لا يضرم النار إلا فيما يبس واستحق فهو يذهب ولا يبقى منه ما يشبه به، والضمير في ‏{‏ظلمهم‏}‏ للكفار الذين تقدم ضميرهم في ‏{‏ينفقون‏}‏ وليس هو للقوم ذوي الحرث لأنهم لم يذكروا ليرد عليهم، ولا ليبين ظلمهم وأيضاً فقوله‏:‏ ‏{‏ولكن أنفسهم يظلمون‏}‏، يدل على فعل الحال في حاضرين‏.‏