فصل: تفسير الآيات رقم (122- 124)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏107- 109‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ‏(‏107‏)‏ أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ‏(‏108‏)‏ وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏109‏)‏‏}‏

الملك السلطان ونفوذ الأمر والإرادة، وجمع الضمير في ‏{‏لكم‏}‏ دال على أن المراد بخطاب النبي صلى الله عليه وسلم خطاب أمته، و«الولي» فعيل من ولي إذا جاور ولحق، فالناصر والمعين والقائم بالأمر والحافظ كلهم مجاور بوجه ما، و«النصير» فعيل من النصر، وهو أشد مبالغة من ناصر‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أم تريدون‏}‏‏:‏ قالت فرقة‏:‏ ‏{‏أم‏}‏ رد على الاستفهام الأول، فهي معادلته‏.‏

وقالت فرقة ‏{‏أم‏}‏ استفهام مقطوع من الأول، كأنه قال‏:‏ أتريدون، وهذا موجود في كلام العرب‏.‏

وقالت فرقة‏:‏ ‏{‏أم‏}‏ هنا بمعنى بل وألف الاستفهام، قال مكي وغيره‏:‏ وهذا يضعف لأن «أم» لا تقع بمعنى بل إلا اعترض المتكلم شك فيما يورده‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وليس كما قال مكي رحمه الله، لأن «بل» قد تكون للإضراب عن اللفظ الأول لا عن معناه، وإنا يلزم ما قال على أحد معنيي «بل» وهو الإضراب عن اللفظ والمعنى، ونعم ما قال سيبويه‏:‏ بل هي لترك كلام وأخذ في غيره‏.‏

وقال أبو العالية‏:‏ إن هذه الآية نزلت حين قال بعض الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ليت ذنوبنا جرت مجرى ذنوب بني إسرائيل بتعجيل العقوبة في الدنيا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ قد أعطاكم الله خيراً مما أعطى بني إسرائيل‏.‏ وتلا‏:‏ ‏{‏ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 110‏]‏‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فتجيء إضافة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الأمة على هذا حسب الأمر في نفسه وحسب إقرارهم‏.‏

وقال ابن عباس رضي الله عنه‏:‏ إن رافع بن حريملة اليهودي سأل النبي صلى الله عليه وسلم تفجير عيون وغير ذلك، وقيل‏:‏ إن كفار قريش سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بالله جهرة، وقيل‏:‏ سألوه أن يأتي بالله والملائكة قبيلاً، وقال مجاهد‏:‏ سألوه أن يرد الصفا ذهباً، فقال لهم‏:‏ خذوا ذلك كالمائدة لبني إسرائيل، فأبوا ونكصوا‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه‏:‏ فتجيء على هذه الأقوال إضافة الرسول إليهم حسب الأمر في نفسه، لا على إقرارهم، و‏{‏كما سئلَ موسى‏}‏ عليه السلام هو أن يرى الله جهرة‏.‏ وقرأ الحسن بن أبي الحسن وغيره «سِيل» بكسر السين وياء وهي لغة، يقال‏:‏ سلت أسال، ويحتمل أن يكون من همز أبدل الهمزة ياء على غير قياس ثم كسر السين من أجل الياء، وقرأ بعض القراء بتسهيل الهمزة بين الهمزة والياء مع ضم السين، وكني عن الإعراض عن الإيمان والإقبال على الكفر بالتبدل، وقال أبو العالية‏:‏ «الكفر هنا الشدة، والإيمان الرخاء»‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا ضعيف، إلا أن يريدهما مستعارتين، أي الشدة على نفسه والرخاء لها عبارة عن العذاب والتنعيم، وأما المتعارف من شدة أمور الدنيا ورخائها فلا تفسر الآية به، و‏{‏ضل‏}‏ أخطأ الطريق، و«السواء» من كل شيء الوسط والمعظم، ومنه قوله تعالى ‏{‏في سواء الجحيم‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 55‏]‏‏.‏

وقال عيسى بن عمر‏:‏ كتبت حتى انقطع سوائي، وقال حسان بن ثابت في رثاء النبي صلى الله عليه وسلم على ما ذكر ابن إسحاق وغيره ‏[‏الكامل‏]‏‏:‏

يا ويح أنصار النبيِّ ورهطِهِ *** بَعْدَ المغيَّبِ في سواءِ الملحدِ

وقال أبو عبيد‏:‏ هو في عثمان بن عفان رضي الله عنه وهو عندي وهم منه، و‏{‏السبيل‏}‏ عبارة عن الشريعة التي أنزلها الله لعباده، لما كانت كالسبب إلى نيل رحمته كانت كالسبيل إليها‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ود كثير من أهل الكتاب‏}‏، ‏{‏كثير‏}‏ مرتفع ب ‏{‏ود‏}‏، وهو نعت لنكرة، وحذف الموصوف النكرة قلق، ولكن جاز هنا لأنها صفة متمكنة ترفع الإشكال بمنزلة فريق، قال الزهري عنى ب ‏{‏كثير‏}‏ واحد، وهو كعب بن الأشرف، وهذا تحامل، وقوله تعالى ‏{‏يردونكم‏}‏ يرد عليه، وقال ابن عباس‏:‏ المراد ابنا أخطب، حيي وأبو ياسر‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه‏:‏ وفي الضمن الاتباع، فتجيء العبارة متمكنة، و‏{‏الكتاب‏}‏ هنا التوراة، و‏{‏لو‏}‏ هنا بمنزلة «إن» لا تحتاج إلى جواب، وقيل يتقدر جوابها في ‏{‏ود‏}‏، التقدير لو يردونكم لودوا ذلك‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ف «ود» دالة على الجواب، لأن من شرطه أن يكون متأخراً عن ‏{‏لو‏}‏، و‏{‏كفاراً‏}‏ مفعول ثان، ويحتمل أن يكون حالاً، و‏{‏حسداً‏}‏ مفعول له، وقيل‏:‏ هو مصدر في موضع الحال‏.‏

واختلف في تعلق قوله ‏{‏من عند أنفسهم‏}‏‏:‏ فقيل يتعلق ب ‏{‏ود‏}‏ لأنه بمعنى ودوا، وقيل‏:‏ يتعلق بقوله ‏{‏حسداً‏}‏ فالوقف على قوله ‏{‏كفاراً‏}‏، والمعنى على هذين القولين أنهم لم يجدوا ذلك في كتاب ولا أمروا به فهو من تلقائهم، ولفظة الحسد تعطي هذا، فجاء من عند أنفسهم تأكيداً وإلزاماً، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يقولون بأفواههم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 167‏]‏، و‏{‏يكتبون الكتاب بأيديهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 79‏]‏، ‏{‏ولا طائر يطير بجناحيه‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 38‏]‏، وقيل يتعلق بقوله ‏{‏يردونكم‏}‏، فالمعنى أنهم ودوا الرد بزيادة أن يكون من تلقائهم أي بإغوائهم وتزيينهم‏.‏

واختلف في سبب هذه الآية، فقيل‏:‏ إن حذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر أتيا بيت المدارس، فأراد اليهود صرفهم عن دينهم، فثبتا عليه ونزلت الآية، وقيل‏:‏ إنما هذه الآية تابعة في المعنى لما تقدم من نهي الله عن متابعة أقوال اليهود في ‏{‏راعنا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 104‏]‏ وغيره، وأنهم لا يودون أن ينزل خير، ويودون أن يردوا المؤمنين كفاراً‏.‏

و ‏{‏الحق‏}‏‏:‏ المراد به في هذه الآية نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وصحة ما المسلمون عليه، وهذه الآية من الظواهر في صحة الكفر عناداً، واختلف أهل السنة في جواز ذلك، والصحيح عندي جوازه غفلاً وبعده وقوعاً، ويترتب في كل آية تقتضيه أن المعرفة تسلب في ثاني حال من العناد، والعفو ترك العقوبة وهو من «عفت الآثار» والصفح الإعراض عن المذنب كأنه يولي صفحة العنق‏.‏

وقال ابن عباس هذه الآية منسوخة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قاتلوا الذين لا يؤمنون‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 29‏]‏ إلى قوله ‏{‏صاغرون‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 29‏]‏، وقيل‏:‏ بقوله ‏{‏اقتلوا المشركين‏}‏، وقال قوم‏:‏ ليس هذا حد المنسوخ، لأن هذا في نفس الأمر كان التوقيف على مدته‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه‏:‏ وهذا على من يجعل الأمر المنتظر أوامر الشرع أو قتل قريظة وإجلاء النضير، وأما من يجعله آجال بني آدم فيترتب النسخ في هذه بعينها، لأنه لا يختلف أن آيات الموادعة المطلقة قد نسخت كلها، والنسخ هو مجيء الأمر في هذه المقيدة، وقيل‏:‏ مجيء الأمر هو فرض القتال، وقيل‏:‏ قتل قريظة وإجلاء النضير، وقال أبو عبيدة في هذه الآية‏:‏ إنها منسوخة بالقتال، لأن كل آية فيها ترك القتال فهي مكية منسوخة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وحكمه بأن هذه الآية مكية ضعيف، لأن معاندات اليهود إنما كانت بالمدينة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الله على كل شيء قدير‏}‏ مقتضاه في هذا الموضوع وعد للمؤمنين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏110- 112‏]‏

‏{‏وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏110‏)‏ وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏111‏)‏ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏112‏)‏‏}‏

قالت فرقة من الفقهاء‏:‏ إن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأقيموا الصلاة‏}‏ عموم، وقالت فرقة‏:‏ هو من مجمل القرآن، والمرجح أن ذلك عموم من وجه ومجمل من وجه، فعموم من حيث الصلاة الدعاء، فحمله على مقتضاه ممكن، وخصصه الشرع بهيئات وأفعال وأقوال، ومجمل من حيث الأوقات، وعدد الركعات والسجدات لا يفهم من اللفظ، بل السامع فيه مفتقر إلى التفسير، وهذا كله في ‏{‏أقيموا الصلاة‏}‏، وأما الزكاة فمجملة لا غير‏.‏

قال الطبري‏:‏ إنما أمر الله هنا بالصلاة والزكاة لتحط ما تقدم من ميلهم إلى أقوال اليهود ‏{‏راعنا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 104‏]‏، لأن ذلك نهي عن نوعه، ثم أمر المؤمنين بما يحطه، والخير المقدم منقض لأنه فعل، فمعنى ‏{‏تجدوه‏}‏ تجدوا ثوابه وجزاءه، وذلك بمنزلة وجوده‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الله بما تعملون بصير‏}‏ خبر في اللفظ معناه الوعد والوعيد‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقالوا لن يدخل الجنة‏}‏ معناه قال اليهود‏:‏ لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً، وقال النصارى‏:‏ لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى، فجمع قولهم، ودل تفريق نوعيهم على تفرق قوليهم، وهذا هو الإيجاز واللف، وهود جمع هائد، مثل عائد وعود، ومعناه التائب الراجع، ومثله في الجمع بازل وبزل وحائل وحول وبائر وبور، وقيل هو مصدر يوصف به الواحد والجمع كفطر وعدل ورضا، وقال الفراء، أصله يهودي حذفت ياءاه على غير قياس‏.‏

وقرأ أبي بن كعب «إلا من كان يهودياً»، وكذبهم الله تعالى وجعل قولهم أمنية، وقد قطعوا قبل بقوله ‏{‏فتمنوا الموت‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 94، الجمعة‏:‏ 6‏]‏، وأمر محمد صلى الله عليه وسلم بدعائهم إلى إظهار البرهان، وقيل‏:‏ إن الهاء في ‏{‏هاتوا‏}‏ أصلية من هاتا يهاتي، وأميت تصريف هذه اللفظة كله إلا الأمر منه وقيل‏:‏ هي عوض من همزة آتى، وقيل‏:‏ ها تنبيه، وألزمت همزة آتى الحذف، والبرهان الدليل الذي يوقع اليقين، قال الطبري‏:‏ طلب الدليل هنا يقضي بإثبات النظر ويرد على من ينفيه، وقول اليهود ‏{‏لن‏}‏ نفي حسنت بعده ‏{‏بلى‏}‏، إذ هي رد بالإيجاب في جواب النفي، حرف مرتجل لذلك، وقيل‏:‏ هي «بل» زيدت عليها الياء لتنزيلها على حد النسق الذي في «بل»، و‏{‏أسلم‏}‏ معناه استسلم وخضع ودان، ومنه قول زيد ابن عمرو بن نفيل‏:‏ ‏[‏المتقارب‏]‏‏.‏

وأسلمت وجهي لمن أسلمت *** له المزن تحمل عذباً زلالا

وخص الوجه بالذكر لكونه أشرف ما يرى من الإنسان وموضع الحواس وفيه يظهر العز والذل، ولذلك يقال وجه الأمر أي معظمه وأشرفه، قال الأعشى‏:‏ ‏[‏السريع‏]‏‏:‏

وأول الحكم على وجهه *** ليس قضائي بالهوى الجائر

ويصح أن يكون الوجه في هذه الآية المقصد، ‏{‏وهو محسن‏}‏ جملة في موضع الحال، وعاد الضمير في ‏{‏له‏}‏ على لفظ ‏{‏من‏}‏، وكذلك في قوله ‏{‏أجره‏}‏، وعاد في ‏{‏عليهم‏}‏ على المعنى، وكذلك في ‏{‏يحزنون‏}‏، وقرأ ابن محيصن «فلا خوف» دون تنوين في الفاء المرفوعة، فقيل‏:‏ ذلك تخفيف، وقيل‏:‏ المراد فلا الخوف فحذفت الألف واللام، والخوف هو لما يتوقع، والحزن هو لما قد وقع‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقالت اليهود‏}‏ الآية، معناه ادعى كل فريق أنه أحق برحمة الله من الآخر‏.‏

وسبب الآية أن نصارى نجران اجتمعوا مع يهود المدينة عند النبي صلى الله عليه وسلم فتسابوا، وكفر اليهود بعيسى وبملته وبالإنجيل، وكفر النصارى بموسى وبالتوراة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وفي هذا من فعلهم كفر كل طائفة بكتابها، لأن الإنجيل يتضمن صدق موسى وتقرير التوراة، والتوراة تتضمن التبشير بعيسى وبصحة نبوته، وكلاهما تضمن صدق محمد صلى الله عليه وسلم، فعنفهم الله تعالى على كذبهم، وفي كتبهم خلاف ما قالوا‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏وهم يتلون الكتاب‏}‏ تنبيه لأمة محمد صلى الله عليه وسلم على ملازمة القرآن والوقوف عند حدوده، كما قال الحر بن قيس في عمر بن الخطاب، وكان وقافاً عند كتاب الله، و‏{‏الكتاب‏}‏ الذي يتلونه قيل‏:‏ التوراة والإنجيل، فالألف واللام للجنس، وقيل‏:‏ التوراة لأن النصارى تمتثلها، فالألف واللام للعهد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏113- 115‏]‏

‏{‏وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ‏(‏113‏)‏ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏114‏)‏ وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ‏(‏115‏)‏‏}‏

اختلف من المراد بقوله ‏{‏لا يعلمون‏}‏، فقال الجمهور‏:‏ عنى بذلك كفار العرب، لأنهم لا كتاب لهم، وقال عطاء‏:‏ المراد أمم كانت قبل اليهود والنصارى، وقال قوم‏:‏ المراد اليهود، وكأنه أعيد قولهم‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا ضعيف، وأخبر تعالى بأنه ‏{‏يحكم بينهم‏}‏، والمعنى بأن يثيب من كان على شيء، أي شيء حق، ويعاقب من كان على غير شيء، وقال الزجاج‏:‏ المعنى يريهم عياناً من يدخل الجنة ومن يدخل النار و‏{‏يوم القيامة‏}‏ سمي بقيام الناس من القبور، إذ ذلك مبد لجميع مبدأ في اليوم وفي الاستمرار بعده، وقوله ‏{‏كانوا‏}‏ بصيغة الماضي حسن على مراعاة الحكم، وليس هذا من وضع الماضي موضع المستقبل لأن اختلافهم ليس في ذلك اليوم، بل في الدنيا‏.‏

وقوله تعالى ‏{‏ومن أظلم‏}‏ الآية، ‏{‏من‏}‏ رفع بالابتداء، و‏{‏أظلم‏}‏ خبره، والمعنى لا أحد أظلم‏.‏

واختلف في المشار إليه من هذا الصنف الظالم، فقال ابن عباس وغيره‏:‏ المراد النصارى الذين كانوا يؤذون من يصلى ببيت المقدس ويطرحون فيه الأقذار، وقال قتادة والسدي‏:‏ المراد الروم الذين أعانوا بختنصر على تخريب بيت المقدس حين قتلت بنو إسرائيل يحيى بن زكرياء عليه السلام، وقيل‏:‏ المعنّي بختنصر، وقال ابن زيد‏:‏ المراد كفار قريش حين صدوا رسول الله صلى عليه وسلم عن المسجد الحرام، وهذه الآية تتناول كل من منع من مسجد إلى يوم القيامة أو خرب مدينة إسلام، لأنها مساجد، وإن لم تكن موقوفة، إذ الأرض كلها مسجد لهذه الأمة، والمشهور مسجد بكسر الجيم، ومن العرب من يقول مسجد بفتحها، و‏{‏أن يذكر‏}‏ في موضع نصب‏:‏ إما على تقدير حذف «من» وتسلط الفعل، وإما على البدل من المساجد، وهو بدل الاشتمال الذي شأن البدل في أن يتعلق بالمبدل منه ويختص به أو تقوم به صفة، ويجوز أن يكون مفعولاً من أجله، ويجوز أن تكون ‏{‏أن‏}‏ في موضع خفض على إسقاط حرف الجر، ذكره سيبويه، ومن قال من المفسرين إن الآية بسبب بيت المقدس جعل الخراب الحقيقي الموجود، ومن قال هي بسبب المسجد الحرام جعل منع عمارته خراباً، إذ هو داع إليه، ومن جعل الآية في النصارى روى أنه مر زمان بعد ذلك لا يدخل نصراني بيت المقدس إلا أوجع ضرباً، قاله قتادة والسدي، ومن جعلها في قريش قال كذلك نودي بأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يحج مشرك، و‏{‏خائفين‏}‏ نصب على الحال، وهذه الآية ليست بأمر بين منعهم من المساجد، لكنها تطرق إلى ذلك وبدأة فيها وعد للمؤمنين ووعيد للكافرين‏.‏

ومن جعل الآية في النصارى قال‏:‏ الخزي قتل الحربي وجزية الذمي، وقيل‏:‏ الفتوح الكائنة في الإسلام كعمورية وهرقلة وغير ذلك، ومن جعلها في قريش جعل الخزي غلبتهم في الفتح وقتلهم والعذاب في الآخرة لمن مات منهم كافراً، و‏{‏خزي‏}‏ رفع بالابتداء وخبره في المجرور‏.‏

و ‏{‏المشرق‏}‏ موضع الشروق، ‏{‏والمغرب‏}‏ موضع الغروب، أي هما له ملك وما بينهما من الجهات والمخلوقات، وخصهما بالذكر وإن كانت جملة المخلوقات كذلك لأن سبب الآية اقتضى ذلك، و«أينما» شرط، و‏{‏تولوا‏}‏ جزم به، والجواب في قوله ‏{‏فثم‏}‏، والمعنى فأينما تولوا نحوه وإليه، لأن ولّى وإن كان غالب استعمالها أدبر فإنها تقتضي أنه يقبل إلى ناحية، تقول وليت عن كذا وإلى كذا، وقرأ الحسن «تولوا» بفتح التاء واللام، وثمَّ مبنية على الفتح، وهي في موضع نصب على الظرف، و‏{‏وجه الله‏}‏ معناه الذي وجهنا إليه، كما تقول سافرت في وجه كذا أي في جهة كذا‏.‏

واختلف الناس في تأويل الوجه الذي جاء مضافاً إلى الله تعالى في مواضع من القرآن، فقال الحذاق‏:‏ ذلك راجع إلى الوجود، والعبارة عنه بالوجه من مجاز كلام العرب، إذ كان الوجه أظهر الأعضاء في الشاهد وأجلها قدراً، وقال بعض الأئمة‏:‏ تلك صفة ثابتة بالسمع زائدة على ما توجبه العقول من صفات القديم تعالى، وضعف أبو المعالي هذا القول، ويتجه في بعض المواضع كهذه الآية أن يراد بالوجه الجهة التي فيها رضاه وعليها ثوابه، كما تقول تصدقت لوجه الله تعالى، ويتجه في هذه الآية خاصة أن يراد بالوجه الجهة التي وجهنا إليها في القبلة حسبما يأتي في أحد الأقوال، وقال أبو منصور في المقنع‏:‏ يحتمل أن يراد بالوجه هنا الجاه، كما تقول فلان وجه القوم أي موضع شرفهم، فالتقدير فثم جلال الله وعظمته‏.‏

واختلف المفسرون في سبب هذه الآية، فقال قتادة‏:‏ أباح الله لنبيه صلى الله عليه وسلم بهذه الآية أن يصلي المسلمون حيث شاؤوا، فاختار النبي صلى الله عليه وسلم بيت المقدس حينئذ، ثم نسخ ذلك كله بالتحول إلى الكعبة، وقال مجاهد والضحاك‏:‏ معناه إشارة إلى الكعبة، أي جيث كنتم من المشرق والمغرب فأنتم قادرون على التوجه إلى الكعبة التي هي وجه الله الذي وجهكم إليه‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وعلى هذا فهي ناسخة لبيت المقدس، وقال ابن زيد‏:‏ كانت اليهود قد استحسنت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت القدس، وقالوا‏:‏ ما اهتدى إلا بنا، فلما حول إلى الكعبة قالت اليهود‏:‏ ما ولاهم عن قبلتهم‏؟‏ فنزلت ‏{‏ولله المشرق والمغرب‏}‏ الآية، وقال ابن عمر‏:‏ نزلت هذه الآية في صلاة النافلة في السفر حيث توجهت بالإنسان دابته، وقال النخعي‏:‏ الآية عامة أينما تولوا في متصرفاتكم ومساعيكم ‏{‏فثم وجه الله‏}‏، أي موضع رضاه وثوابه وجهة رحمته التي يوصل إليها بالطاعة، وقال عبد الله بن عامر بن ربيعة‏:‏ نزلت فيمن اجتهد في القبلة فأخطأ، وورد في ذلك حديث رواه عامر بن ربيعة قال‏:‏ «كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر في ليلة مظلمة، فتحرى قوم القبلة وأعلموا علامات، فلما أصبحوا رأو أنهم قد أخطؤوها، فعرفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فنزلت هذه الآية»، وذكر قوم هذا الحديث على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن مع القوم في السفر، وذلك خطأ، وقال قتادة أيضا‏:‏ نزلت هذه الآية في النجاشي، وذلك أنه لما مات دعا النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين إلى الصلاة عليه، فقال قوم كيف نصلي على من لم يصلِّ إلى القبلة قط‏؟‏ فنزلت هذه الآية، أي إن النجاشي كان يقصد وجه الله وإن لم يبلغة التوجه إلى القبلة، وقال ابن جبير‏:‏ نزلت الآية في الدعاء لما نزلت

‏{‏ادعوني استجب لكم‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 60‏]‏، قال المسلمون‏:‏ إلى أين ندعو، فنزلت ‏{‏فأينما تولوا فثم وجه الله‏}‏، وقال المهدوي‏:‏ وقيل هذه الآية منتظمة في معنى التي قبلها، أي لا يمنعكم تخريب مسجد من أداء العبادات، فإن المسجد المخصوص للصلاة إن خرب ‏{‏فثم وجه الله‏}‏ موجود حيث توليتم‏.‏

وقال أيضاً‏:‏ وقيل نزلت الآية حين صد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البيت، و‏{‏واسع‏}‏ معناه متسع الرحمة عليهم أين يضعها، وقيل ‏{‏واسع‏}‏ معناه هنا أنه يوسع على عباده في الحكم دينه يسر، ‏{‏عليم‏}‏ بالنيات التي هي ملاك العمل، وإن اختلفت ظواهره في قبلة وما أشبهها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏116- 118‏]‏

‏{‏وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ ‏(‏116‏)‏ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ‏(‏117‏)‏ وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آَيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ‏(‏118‏)‏‏}‏

قرأ هذه الآية عامة القراء «وقالوا» بواو تربط الجملة بالجملة، أو تعطف على ‏{‏سعى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 114‏]‏، وقرأ ابن عامر وغيره «قالوا» بغير واو، وقال أبو علي‏:‏ وكذلك هي في مصاحف أهل الشام، وحذف منه الواو يتجه من وجهين، أحدهما أن هذه الجملة مرتبطة في المعنى بالتي قبلها فذلك يغني عن الواو، والآخر أن تستأنف هذه الجملة ولا يراعى ارتباطها بما تقدم، واختلف على من يعود الضمير في ‏{‏قالوا‏}‏، فقيل‏:‏ على النصارى، لأنهم قالوا المسيح ابن الله‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وذكرهم أشبه بسياق الآية، وقيل‏:‏ على اليهود، لأنهم قالوا عزير ابن الله، وقيل‏:‏ على كفرة العرب لأنهم قالوا الملائكة بنات الله، و‏{‏سبحانه‏}‏ مصدر معناه تنزيهاً له وتبرئة مما قالوا، و‏{‏ما‏}‏ رفع بالابتداء، والخبر في المجرور، أو في الاستقرار المقدر، أي كل ذلك له ملك، والذي ‏{‏قالوا اتخذ الله ولداً‏}‏ داخل في جملة ‏{‏ما في السماوات والأرض‏}‏ ولا يكون الولد إلا من جنس الوالد لا من المخلوقات المملوكات‏.‏

والقنوت في اللغة الطاعة، والقنوت طول القيام في عبادة، ومنه القنوت في الصلاة، فمعنى الآية أن المخلوقات كلها تقنت لله أي تخضع وتطيع، والكفار والجمادات قنوتهم في ظهور الصنعة عليهم وفيهم، وقيل‏:‏ الكافر يسجد ظله وهو كاره‏.‏

و ‏{‏بديع‏}‏ مصروف من مبدع كبصير من مبصر، ومثله قول عمرو بن معديكرب‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏‏:‏

أَمِنْ ريحانة الداعي السميعِ *** يريد المسمع، والمبدع المخترع المنشيء، ومنه أصحاب البدع، ومنه قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في صلاة رمضان‏:‏ «نعمت البدعة هذه»‏.‏

وخص ‏{‏السماوات والأرض‏}‏ بالذكر لأنها أعظم ما نرى من مخلوقاته جل وعلا، و‏{‏قضى‏}‏، معناه قدر، وقد يجيء بمعنى أمضى، ويتجه في هذه الآية المعنيان، فعلى مذهب أهل السنة قدر في الأزل وأمضى فيه، وعلى مذهب المعتزلة أمضى عند الخلق والإيجاد‏.‏

والأمر واحد الأمور، وليس هنا بمصدر أمر يأمر، ويكون رفع على الاستئناف، قال سيبويه‏:‏ «معناه فهو يكون»، قال غيره‏:‏ «يكون» عطف على «يقول»، واختاره الطبري وقرره، وهو خطأ من جهة المعنى، لأنه يقتضي أن القول مع التكوين والوجود، وتكلم أبو علي الفارسي في هذه المسألة بما هو فاسد من جملة الاعتزال لا من جهة العربية‏.‏

وقرأ ابن عامر «فيكونَ» بالنصب، وضعفه أبو علي، ووجهه مع ضعفه على أن يشفع له شبه اللفظ، وقال أحمد بن موسى في قراءة ابن عامر‏:‏ «هذا لحن»‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه‏:‏ لأن الفاء لا تعمل في جواب الأمر إلا إذا كانا فعلين يطرد فيها معنى الشرط، تقول أكرم زيداً فيكرمك، والمعنى إن تكرم زيداً يكرمك، وفي هذه الآية لا يتجه هذا، لأنه يجيء تقديره‏:‏ إن تكن يكن، ولا معنى لهذا، والذي يطرد فيه معنى الشرط هو أن يختلف الفاعلان أو الفعلان فالأول أكرم زيداً فيكرمك والثاني أكرم زيداً فتسود‏.‏

وتلخيص المعتقد في هذه الآية، أن الله عز وجل لم يزل آمراً للمعدومات بشرط وجودها، قادراً مع تأخر المقدورات، عالماً مع تأخر وقوع المعلومات، فكل ما في الآية مما يقتضي الاستقبال، فهو بحسب المأمورات، إذ المحدثات تجيء بعد أن لم تكن، وكل ما يستند إلى الله تعالى من قدرة وعلم وأمر فهو قديم لم يزل، ومن جعل من المفسرين ‏{‏قضى‏}‏ بمعنى أمضى عند الخلق والإيجاد، فكأن إظهار المخترعات في أوقاتها المؤجلة قول لها ‏{‏كن‏}‏، إذ التأمل يقتضي ذلك، على نحو قول الشاعر ‏[‏أبو النجم العجلي‏]‏‏:‏ ‏[‏الرجز‏]‏

وقالتِ الأقرابُ للبطن الحق *** قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا كله يجري مع قول المعتزلة، والمعنى الذي تقتضيه عبارة ‏{‏كن‏}‏ هو قديم قائم بالذات، والوضوح التام في هذه المسألة يحتاج أكثر من هذا البسط‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقال الذين لا يعلمون‏}‏ الآية، قال الربيع والسدي‏:‏ هم كفار العرب‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وقد طلب عبد الله بن أبي أمية وغيره من النبي صلى الله عليه نحو هذا، فنفى عنهم العلم لأنهم لا كتاب عندهم ولا اتباع ولا اتباع نبوة، وقال مجاهد‏:‏ هم النصارى لأنهم المذكورون في الآية أولاً، ورجحه الطبري، وقال ابن عباس‏:‏ المراد من كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليهود، لأن رافع بن حريملة قال للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أسمعنا كلام الله، وقيل‏:‏ الإشارة بقوله ‏{‏لا يعلمون‏}‏ إلى جميع هذه الوظائف، لأن كلهم قال هذه المقالة أو نحوها، ويكون ‏{‏الذين من قبلهم‏}‏ قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم، و‏{‏لولا‏}‏ تحضيض بمعنى هلا، كما قال الأشهب بن رميلة‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

تَعُدُّونَ عَقْرَ النِّيبِ أفضلَ مجدِكُمْ *** بني ضَوْطَرى لولا الكميّ المقنعا

وليست هذه ‏{‏لولا‏}‏ التي تعطي منع الشيء لوجوب غيره، وفرق بينهما أنها في التحضيض لا يليها إلا الفعل مظهراً أو مقدراً، وعلى بابها في المنع للوجوب يليها الابتداء، وجرت العادة بحذف الخبر، والآية هنا العلامة الدالة، وقد تقدم القول في لفظها، و‏{‏الذين من قبلهم‏}‏ اليهود والنصارى في قول من جعل ‏{‏الذين لا يعلمون‏}‏ كفار العرب، وهم الأمم السالفة في قول من جعل ‏{‏الذين لا يعلمون‏}‏ كفار العرب والنصارى واليهود، وهم اليهود في قول من جعل ‏{‏الذين لا يعلمون‏}‏ النصارى، والكاف الأولى من ‏{‏كذلك‏}‏ نعت لمصدر مقدر، و‏{‏مثل‏}‏ نعت لمصدر محذوف، ويصح أن يعمل فيه، ‏{‏قال‏}‏‏:‏ وتشابه القلوب هنا في طلب ما لا يصح أو في الكفر وإن اختلفت ظواهرهم، وقرأ ابن أبي إسحاق وأبو حيوة «تَشَّابهت» بشد الشين، قال أبو عمرو الداني‏:‏ وذلك غير جائز لأنه فعل ماض‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قد بينا الآيات لقوم يوقنون‏}‏ لما تقدم ذكر الذين أضلهم الله حتى كفروا بالأنبياء وطلبوا ما لا يجوز لهم أتبع ذلك الذين بين لهم ما ينفع وتقوم به الحجة، لكن البيان وقع وتحصل للموقنين، فلذلك خصهم بالذكر، ويحتمل أن يكون المعنى قد بينا البيان الذي هو خلق الهدى، فكأن الكلام قد هدينا من هدينا، واليقين إذا اتصف به العلم خصصه وبلغ به نهاية الوثاقة، وقوله تعالى ‏{‏بينا‏}‏ قرينة تقتضي أن اليقين صفة لعلمهم، وقرينة أخرى، وهي أن الكلام مدح لهم، وأما اليقين في استعمال الفقهاء إذا لم يتصف به العلم فإنه أحط من العلم، لأن العلم عندهم معرفة المعلوم على ما هو به واليقين معتقد يقع للموقن في حقه والشيء على خلاف معتقده، ومثال ذلك تيقن المقادة ثبوت الصانع، ومنه قول مالك- رحمه الله- في «الموطأ» في مسألة الحالف على الشيء يتيقنه الشيء في نفسه على غير ذلك‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وأما حقيقة الأمر فاليقين هو الأخص وهو ما علم على الوجه الذي لا يمكن أن يكون إلا عليه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏119- 121‏]‏

‏{‏إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ ‏(‏119‏)‏ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ‏(‏120‏)‏ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏121‏)‏‏}‏

المعنى ‏{‏بشيراً‏}‏ لمن آمن، ‏{‏ونذيراً‏}‏ لمن كفر، وقرأ نافع وحده «ولا تسألْ» بالجزم على النهي، وفي ذلك معنيان‏:‏ أحدهما لا تسأل على جهة التعظيم لحالهم من العذاب، كما تقول‏:‏ فلان لا تسأل عنه، تعني أنه في نهاية تشهره من خير أو شر، والمعنى الثاني روي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «ليت شعري ما فعل أبواي» فنزلت ‏{‏ولا تسأل‏}‏‏.‏

وحكى المهدوي رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «ليت شعري أي أبوي أحدث موتاً»، فنزلت‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا خطأ ممن رواه أو ظنه لأن أباه مات وهو في بطن أمه، وقيل وهو ابن شهر، وقيل ابن شهرين، وماتت أمه بعد ذلك بخمس سنين منصرفة به من المدينة من زيارة أخواله، فهذا مما لا يتوهم أنه خفي عليه صلى الله عليه وسلم، وقرأ باقي السبعة «ولا تُسألُ» بضم التاء واللام، وقرأ قوم «ولا تَسألُ» بفتح التاء وضم اللام، ويتجه في هاتين القراءتين معنيان‏:‏ أحدهما الخبر أنه لا يسأل عنهم، أو لا يسأل هو عنهم، والآخر أن يراد معنى الحال كأنه قال‏:‏ وغير مسؤول أو غير سائل عنهم، عطفاً على قوله ‏{‏بشيراً ونذيراً‏}‏، وقرأ أبي كعب «وما تسأل» وقرأ ابن مسعود «ولن تسأل»، وهاتان القراءتان تؤيدان معنى القطع والاستئناف في غيرهما، و‏{‏الجحيم‏}‏ إحدى طبقات النار‏.‏

ويقال‏:‏ رضي يرضى رضىً ورضاً ورضواناً، وحكي رضاءً ممدوداً، وقال‏:‏ ‏{‏ملتهم‏}‏ وهما مختلفتان بمعنى لن ترضى اليهود حتى تتبع ملتهم ولن ترضى النصارى حتى تتبع ملتهم، فجمعهم إيجازاً، لأن ذلك مفهوم، والملة الطريقة، وقد اختصت اللفظة بالشرائع والدين، وطريق ممل أي قد أثر المشي فيه‏.‏

وروي أن سبب هذه الآية أن اليهود والنصارى طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم الهدنة، ووعدوه أن يتبعوه بعد مدة خداعاً منهم، فأعلمه الله تعالى أن إعطاء الهدنة لا ينفع عندهم، وأطلعه على سر خداعهم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل إن هدى الله هو الهدى‏}‏ أي ما أنت عليه يا محمد من هدى الله الذي يضعه في قلب من يشاء هو الهدى الحقيقي، لا ما يدعيه هؤلاء‏.‏

ثم قال تعالى لنبيه ‏{‏ولئن اتبعت أهواءهم‏}‏ الآية، فهذا شرط خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم وأمته معه داخلة فيه، و«أهواء» جمع هوى، ولما كانت مختلفة جمعت، ولو حمل على إفراد الملة لقيل هواهم، والولي الذي يتولى الإصلاح والحياطة والنصر والمعونة، و‏{‏نصير‏}‏ بناء مبالغة في اسم الفاعل من نصر‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين آيتناهم الكتاب‏}‏ الآية، ‏{‏الذين‏}‏ رفع بالابتداء، و‏{‏آيتناهم الكتاب‏}‏ صلة، وقال قتادة‏:‏ المراد ب ‏{‏الذين‏}‏ في هذا الموضع من أسلم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، و‏{‏الكتاب‏}‏ على هذا التأويل القرآن، وقال ابن زيد‏:‏ المراد من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم من بني إسرائيل، و‏{‏الكتاب‏}‏ على هذا التأويل التوراة، و‏{‏آتيناهم‏}‏ معناه أعطيناهم، وقال قوم‏:‏ هذا مخصوص في الأربعين الذين وردوا مع جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه في السفينة، فأثنى الله عليهم، ويحتمل أن يراد ب ‏{‏الذين‏}‏ العموم في مؤمني بني إسرائيل والمؤمنين من العرب، ويكون ‏{‏الكتاب‏}‏ اسم الجنس، و‏{‏يتلونه‏}‏ معناه يتبعونه حق اتباعه بامتثال الأمر والنهي، وقيل ‏{‏يتلونه‏}‏ يقرؤونه حق قراءته، وهذا أيضاً يتضمن الاتباع والامتثال، و‏{‏يتلونه‏}‏ إذا أريد ب ‏{‏الذين‏}‏ الخصوص فيمن اهتدى يصح أن يكون خبر الابتداء ويصح أن يكون ‏{‏يتلونه‏}‏ في موضع الحال والخبر ‏{‏أولئك‏}‏، وإذا أريد ب ‏{‏الذين‏}‏ العموم لم يكن الخبر إلا ‏{‏أولئك‏}‏، و‏{‏يتلونه‏}‏ حال لا يستغنى عنها وفيها الفائدة، لأنه لو كان الخبر في ‏{‏يتلونه‏}‏ لوجب أن يكون كل مؤمن يتلو الكتاب ‏{‏حق تلاوته‏}‏، و‏{‏حق‏}‏ مصدر، والعامل فيه فعل مضمر، وهو بمعنى أفعل، ولا يجوز إضافته إلى واحد معرف، وإنما جازت هنا لأن تعرف التلاوة بإضافتها إلى الضمير ليس بتعرف محض، وإنما هو بمنزلة قولهم رجل واحد أمة، ونسيج وحده، والضمير في ‏{‏به‏}‏ عائد على ‏{‏الكتاب‏}‏، وقيل‏:‏ يعود على محمد صلى الله عليه وسلم، لأن متبعي التوراة يجدونه فيها فيؤمنون به‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ويحتمل عندي أن يعود على ‏{‏الهدى‏}‏ الذي تقدم، وذلك أنه ذكر كفار اليهود والنصارى في أول لآية وحذر رسوله من اتباع أهوائهم، وأعلمه بأن ‏{‏هدى الله هو الهدى‏}‏ الذي أعطاه وبعثه به، ثم ذكر له أن المؤمنين التالين لكتاب الله هم المؤمنون بذاك الهدى المقتدون بأنواره، والضمير في ‏{‏يكفر به‏}‏ يحتمل من العود ما ذكر في الأول، و‏{‏فأولئك هم الخاسرون‏}‏ ابتداء وعماد وخبر، أو ابتداء وابتداء وخبر، والثاني خبره خبر الأول، والخسران نقصان الحظ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏122- 124‏]‏

‏{‏يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ‏(‏122‏)‏ وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ‏(‏123‏)‏ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ‏(‏124‏)‏‏}‏

قرأ الحسن وغيره «نعمتي» بتسكين الياء تخفيفاً، لأن أصلها التحريك كتحريك الضمائر لك وبك، ثم حذفها الحسن للالتقاء، وفي السبعة من يحرك الياء، ومنهم من يسكنها، وإن قدرنا فضيلة بني إسرائيل مخصوصة في كثرة الأنبياء وغير ذلك فالعالمون عموم مطلق، وإن قدرنا تفضيلهم على الإطلاق فالعالمون عالمو زمانهم، لأن أمة محمد صلى الله عليه وسلم أفضل منهم بالنص، وقد تقدم القول على مثل هذه الآية إلى قوله‏:‏ ‏{‏ينصرون‏}‏ ومعنى ‏{‏لا تنفعها شفاعة‏}‏ أي ليست ثم، وليس المعنى أنه يشفع فيهم أحد فيرد، وإنما نفى أن تكون ثم شفاعة على حد ما هي في الدنيا، وأما الشفاعة التي هي في تعجيل الحساب فليست بنافعة لهؤلاء الكفرة في خاصتهم، وأما الأخيرة التي هي بإذن من الله تعالى في أهل المعاصي من المؤمنين فهي عد أن أخذ العقاب حقه، وليس لهؤلاء المتوعدين من الكفار منها شيء‏.‏

والعامل في ‏{‏إذ‏}‏ فعل، تقديره‏:‏ واذكر إذ، ‏{‏ابتلى‏}‏ معناه اختبر، و‏{‏إبراهيم‏}‏ يقال إن تفسيره بالعربية أب رحيم، وقرأ ابن عامر في جميع سورة البقرة «أبراهام»، وقدم على الفاعل للاهتمام، إذ كون الرب مبتلياً معلوم، فإنما يهتم السامع بمن ‏{‏ابتلي‏}‏، وكون ضمير المفعول متصلاً بالفاعل موجب تقديم المفعول، فإنما بني الكلام على هذا الاهتمام‏.‏

واختلف أهل التأويل في الكلمات، فقال ابن عباس‏:‏ هي ثلاثون سهماً، هي الإسلام كله لم يتمه أحد كاملاً إلا إبراهيم صلوات الله عليه، عشرة منها في براءة ‏{‏التائبون العابدون‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 112‏]‏، عشرة في الأحزاب ‏{‏إن المسلمين والمسلمات‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 35‏]‏، وعشرة في ‏{‏سأل سائل‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 1‏]‏، وقال ابن عباس أيضاً وقتادة‏:‏ الكلمات عشر خصال خمس منها في الرأس المضمضة والاستنشاق وقص الشارب والسواك وفرق الرأس، وقيل بدل فرق الراس‏:‏ إعفاء اللحية، وخمس في الجسد تقليم الظفر، وحلق العانة، ونتف الإبط، والاستنجاء بالماء، والاختتان، وقال ابن عباس أيضاً‏:‏ هي عشرة خصال، ست في البدن وأربع في الحج‏:‏ الختان، وحلق العانة، ونتف الإبط، وتقليم الأظفار، وقص الشارب، والغسل يوم الجمعة، والطواف بالبيت، والسعي، ورمي الجمار، والإفاضة، وقال الحسن بن أبي الحسن‏:‏ هي الخلال الست التي امتحن بها، الكوكب، والقمر، والشمس، والنار، والهجرة، والختان، وقيل بدل الهجرة‏:‏ الذبح، وقالت طائفة‏:‏ هي مناسك الحج خاصة، وروي أن الله عز وجل أوحى إليه أن تطهر، فتمضمض، ثم أن تطهر فاستنشق، ثم أن تطهر فاستاك، ثم أن تطهر فأخذ من شاربه، ثم أن تطهر ففرق شعره، ثم أن تطهر فاستنجى، ثم أن تطهر فحلق عانته، ثم أن تطهر فنتف إبطه، ثم أن تطهر فقلم أظفاره، ثم أن تطهر فأقبل على جسده ينظر ما يصنع فاختتن بعد عشرين ومائة سنة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وفي البخاري أنه اختتن وهو ابن ثمانين سنة بالقدوم‏.‏

وقال الراوي‏:‏ فأوحى الله إليه ‏{‏إني جاعلك للناس إماماً‏}‏ يأتمون بك في هذه الخصال، ويقتدي بك الصالحون‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه‏:‏ وهذا أقوى الأقوال في تفسير هذه الآية، وعلى هذه الأقوال كلها فإبراهيم عليه السلام هو الذي أتم‏.‏

وقال مجاهد وغيره‏:‏ إن الكلمات هي أن الله عز وجل قال لإبراهيم‏:‏ إني مبتليك بأمر فما هو‏؟‏ قال إبراهيم‏:‏ تجعلني للناس إماماً، قال الله‏:‏ نعم، قال إبراهيم‏:‏ تجعل البيت مثابة، قال الله‏:‏ نعم، قال إبراهيم وأمناً، قال الله‏:‏ نعم، قال إبراهيم‏:‏ وترينا مناسكنا وتتوب علينا، قال الله‏:‏ نعم، قال إبراهيم‏:‏ تجعل هذا البلد آمناً، قال الله‏:‏ نعم، قال إبراهيم‏:‏ وترزق أهله من الثمرات، قال الله‏:‏ نعم‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فعلى هذا القول فالله تعالى هو الذي أتم، وقد طول المفسرون في هذا، وذكروا أشياء فيها بعد فاختصرتها، وإنما سميت هذه الخصال كلمات، لأنها اقترنت بها أوامر هي كلمات، وروي أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم لما أتم هذه الكلمات أو أتمها الله عليه كتب الله له البراءة من النار، فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإبراهيم الذي وفى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 37‏]‏‏.‏

والإمام القدوة، ومنه قيل لخيط البناء‏:‏ إمام، وهو هنا اسم مفرد، وقيل في غير هذا الموضع‏:‏ هو جمع آم وزنه فاعل أصله آمم، فيجيء مثل قائم وقيام وجائع وجياع ونائم ونيام‏.‏

وجعل الله تعالى إبراهيم إماماً لأهل طاعته، فلذلك أجمعت الأمم على الدعوى فيه، وأعلم الله، تعالى أنه كان حنيفاً، وقول إبراهيم عليه السلام‏:‏ ‏{‏ومن ذريتي‏}‏، هو على جهة الدعاء والرغبى إلى الله، أي ومن ذريتي يا رب فاجعل، وقيل‏:‏ هذا منه على جهة الاستفهام عنهم، أي ومن ذريتي يا رب ماذا يكون‏؟‏ والذرية مأخوذة من ذرا يذرو أو من ذرى يذري أو من ذر يذر أو من ذرأ يذرأ، وهي أفعال تتقارب معانيها، وقد طول في تعليلها أبو الفتح وشفى‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال لا ينال عهدي‏}‏، أي قال الله، والعهد فيما قال مجاهد‏:‏ الإمامة، وقال السدي‏:‏ النبوءة، وقال قتادة‏:‏ الأمان من عذاب الله، وقال الربيع والضحاك‏:‏ العهد الدين‏:‏ دين الله تعالى‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ معنى الآية لا عهد عليك لظالم أن تطيعه، ونصب ‏{‏الظالمين‏}‏ لأن العهد ينال كما ينال، وقرأ قتادة وأبو رجاء والأعمش «الظالمون» بالرفع، وإذا أولنا العهد الدين أو الأمان أو أن لا طاعة لظالم فالظلم في الآية ظلم الكفر، لأن العاصي المؤمن ينال الدين والأمان من عذاب الله وتلزم طاعته إذا كان ذا أمر، وإذا أولنا العهد النبوءة أو الإمامة في الدين فالظلم ظلم المعاصي فما زاد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏125- 126‏]‏

‏{‏وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ‏(‏125‏)‏ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏126‏)‏‏}‏

قوله ‏{‏وإذ‏}‏ عطف على ‏{‏إذ‏}‏ المتقدمة و‏{‏البيت‏}‏ الكعبة، و‏{‏مثابة‏}‏ يحتمل أن تكون من ثاب إذا رجع لأن الناس يثوبون إليها أي ينصرفون، ويحتمل أن تكون من الثواب أي يثابون هناك، قال الأخفش‏:‏ دخلت الهاء فيها للمبالغة لكثرة من يثوب أي يرجع، لأنه قل ما يفارق أحد البيت إلا وهو يرى أنه لم يقض منه وطراً، فهي كنسابة وعلامة، وقال غيره‏:‏ هي هاء تأنيث المصدر، فهي مفعلة أصلها مثوبة نقلت حركة الواو إلى الثاء فانقلبت الواو ألفاً لانفتاح ما قبلها، وقيل‏:‏ هو على تأنيث البقعة، كما يقال‏:‏ مقام ومقامة، وقرأ الأعمش «مثابات» على الجمع، وقال ورقة بن نوفل في الكعبة‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏‏:‏

مثاب لأفناءِ القبائلِ كلِّها *** تخبُّ إليها اليَعْمَلاتُ الطلائِحُ

و ‏{‏أمناً‏}‏ معناه أن الناس يغيرون ويقتتلون حول مكة وهي أمنة من ذلك، يلقى الرجل بها قاتل أبيه فلا يهيجه، لأن الله تعالى جعل في النفوس حرمة وجعلها أمناً للناس والطير والوحوش، وخصص الشرع من ذلك الخمس الفواسق، على لسان النبي صلى الله عليه وسلم، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي وجمهور الناس «واتخِذوا» بكسر الخاء على جهة الأمر، فقال أنس بن مالك وغيره‏:‏ معنى ذلك ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال‏:‏ وافقت ربي في ثلاث، في الحجاب، وفي ‏{‏عسى ربه إن طلقكن‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 5‏]‏، وقلت يا رسول الله، لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت ‏{‏واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى‏}‏‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فهذا أمر لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وقال المهدوي‏:‏ وقيل ذلك عطف على قوله ‏{‏اذكروا‏}‏ فهذا أمر لبني إسرائيل، وقال الربيع بن أنس‏:‏ ذلك أمر لإبراهيم ومتبعيه، فهي من الكلمات، كأنه قال‏:‏ ‏{‏إني جاعلك للناس إماماً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 124‏]‏ ‏{‏واتخذوا‏}‏، وذكر المهدوي رحمه الله أن ذلك عطف على الأمر يتضمنه قوله‏:‏ ‏{‏جعلنا البيت مثابة‏}‏، لأن المعنى‏:‏ توبوا، وقرأ نافع وابن عامر «واتخذوا» بفتح الخاء على جهة الخبر عمن اتخذه من متبعي إبراهيم، وذلك معطوف على قوله ‏{‏وإذا جعلنا‏}‏، كأنه قال‏:‏ وإذ اتخذوا، وقيل هو معطوف على جعلنا دون تقدير إذ، فهي جملة واحدة، وعلى تقدير إذ فهي جملتان‏.‏

واختلف في ‏{‏مقام إبراهيم‏}‏، فقال ابن عباس وقتادة وغيرهما، وخرجه البخاري‏:‏ إنه الحجر الذي ارتفع عليه إبراهيم حين ضعف عن رفع الحجارة التي كان إسماعيل يناوله إياها في بناء البيت وغرقت قدماه فيه‏.‏

وقال الربيع بن أنس‏:‏ هو حجر ناولته إياه امرأته فاغتسل عليه وهو راكب، جاءته به من شق ثم من شق فغرقت رجلاه فيه حين اعتمد عليه، وقال فريق من العلماء‏:‏ المقام المسجد الحرام، وقال عطاء بن أبي رباح‏:‏ المقام عرفة والمزدلفة والجمار، وقال ابن عباس‏:‏ مقامه مواقف الحج كلها، وقال مجاهد‏:‏ مقامه الحرم كله‏.‏

و ‏{‏مصلى‏}‏ موضع صلاة، هذا على قول من قال‏:‏ المقام الحجر، ومن قال بغيره قال ‏{‏مصلى‏}‏ مدعى، على أصل الصلاة‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وعهدنا‏}‏ العهد في اللغة على أقسام، هذا منها الوصية بمعنى الأمر، و‏{‏أن‏}‏ في موضع نصب على تقدير بأن وحذف الخافض، قال سيبويه‏:‏ إنها بمعنى أي مفسرة، فلا موضع لها من الإعراب، و‏{‏طهراً‏}‏ قيل معناه ابنياه وأسساه على طهارة ونية طهارة، فيجيء مثل قوله‏:‏ ‏{‏أسس على التقوى‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 108‏]‏ وقال مجاهد‏:‏ هو أمر بالتطهير من عبادة الأوثان، وقيل‏:‏ من الفرث والدم‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا ضعيف لا تعضده الأخبار، وقيل‏:‏ من الشرك، وأضاف الله البيت إلى نفسه تشريفاً للبيت، وهي إضافة مخلوق إلى خالق ومملوك إلى مالك، و‏{‏للطائفين‏}‏ ظاهره أهل الطواف، وقاله عطاء وغيره، وقال ابن جبير‏:‏ معناه للغرباء الطارئين على مكة، و‏{‏العاكفين‏}‏ قال ابن جبير‏:‏ هم أهل البلد المقيمون، وقال عطاء‏:‏ هم المجاورون بمكة، وقال ابن عباس‏:‏ المصلون، وقال غيره‏:‏ المعتكفون‏.‏

قال القاضي أبو محمد والعكوف في اللغة اللزوم للشيء والإقامة عليه، كما قال الشاعر ‏[‏العجاج‏]‏‏:‏ ‏[‏الرجز‏]‏

عكف النبيط يلعبون الفنزجا *** فمعناه لملازمي البيت إرادة وجه الله العظيم، و‏{‏الركع السجود‏}‏ المصلون، وخص الركوع والسجود بالذكر لأنهما أقرب أحوال المصلي إلى الله تعالى، وكل مقيم عند بيت الله إرادة ذات الله فلا يخلو من إحدى هذه الرتب الثلاث، إما أن يكون في صلاة أو في طواف فإن كان في شغل من دنياه فحال العكوف على مجاورة البيت لا يفارقه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا قال إبراهيم‏}‏ الآية، دعا إبراهيم عليه السلام لذريته وغيرهم بمكة بالأمن ورغد العيش، و‏{‏اجعل‏}‏ لفظه الأمر وهو في حق الله تعالى رغبة ودعاء، و‏{‏آمناً‏}‏ معناه من الجبابرة والمسلطين والعدو المستأصل والمثلات التي تحل بالبلاد‏.‏

وكانت مكة وما يليها حين ذلك قفراً لا ماء فيه ولا نبات، فبارك الله فيما حولها كالطائفة وغيره، ونبتت فيها أنواع الثمرات‏.‏

وروي أن الله تعالى لما دعاه إبراهيم أمر جبريل صلوات الله عليه فاقتلع فلسطين، وقيل قطعة من الأردن فطاف بها حول البيت سبعاً وأنزلها بوجّ، فسميت الطائف بسبب ذلك الطواف‏.‏

واختلف في تحريم مكة متى كان‏؟‏ فقالت فرقة‏:‏ جعلها الله حراماً يوم خلق السموات والأرض، وقالت فرقة‏:‏ حرمها إبراهيم‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه‏:‏ والأول قاله النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته ثاني يوم الفتح، والثاني قاله أيضاً النبي صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيح عنه‏:‏ «اللهم إن إبراهيم حرم مكة، وإني حرمت المدينة، ما بين لابتيها حرام»

ولا تعارض بين الحديثين، لأن الأول إخبار بسابق علم الله فيها وقضائه، وكون الحرمة مدة آدم وأوقات عمارة القطر بإيمان، والثاني إخبار بتجديد إبراهيم لحرمتها وإظهاره ذلك بعد الدثور، وكل مقال من هذين الإخبارين حسن في مقامه، عظم الحرمة ثاني يوم الفتح على المؤمنين بإسناد التحريم إلى الله تعالى، وذكر إبراهيم عند تحريمه المدينة مثالاً لنفسه، ولا محالة أن تحريم المدينة هو أيضاً من قبل الله تعالى من نافذ قضائه وسابق علمه، و‏{‏من‏}‏ بدل من قوله ‏{‏أهله‏}‏، وخص إبراهيم المؤمنين بدعائه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن كفر‏}‏ الآية قال أبي بن كعب وابن إسحاق وغيرهما‏:‏ هذا القول من الله عز وجل لإبراهيم، وقرؤوا «فأمتّعه» بضم الهمزة وفتح الميم وشد التاء، «ثم أضطُّره» بقطع الألف وضم الراء، وكذلك قرأ السبعة حاشا ابن عامر، فإنه قرأ «فأمْتِعه» بضم الهمزة وسكون الميم وتخفيف التاء، ‏{‏ثم أضطره‏}‏ بقطع الألف، وقرأ يحيى بن وثاب «فأمتعه» كما قرأ ابن عامر «ثم إضطره» بكسر الهمزة على لغة قريش في قولهم لا إخال، وقرأ أبي بن كعب «فنمتعه» «ثم نضطره»، و‏{‏من‏}‏ شرط والجواب في ‏{‏فأمتعه‏}‏، وموضع ‏{‏من‏}‏ رفع على الابتداء والخبر، ويصح أن يكون موضعها نصباً على تقدير وأرزق من كفر، فلا تكون شرطاً‏.‏

وقال ابن عباس ومجاهد وغيرهما‏:‏ هذا القول هو من إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وقرؤوا «فأَمْتعه» بفتح الهمزة وسكون الميم «ثم اضطره» بوصل الألف وفتح الراء، وقرئت بالكسر، ويجوز فيها الضم، وقرأ ابن محيصن «ثم اطّره» بإدغام الضاد في الطاء، وقرأ يزيد بن أبي حبيب «ثم اضطُره» بضم الطاء‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه‏:‏ فكأنه إبراهيم عليه السلام دعا للمؤمنين وعلى الكافرين‏.‏

و ‏{‏قليلاً‏}‏ معناه مدة العمر، لأن متاع الدنيا قليل، وهو نعت إما لمصدر كأنه قال‏:‏ متاعاً قليلاً‏:‏ وإما لزمان، كأنه قال‏:‏ وقتاً قليلاً أو زمناً قليلاً، و‏{‏المصير‏}‏ مفعل كموضع من صار يصير‏:‏ و«بيس» أصلها بئس، وقد تقدمت في «بيسما»، وأمتعه معناه أخوله الدنيا وأبقيه فيها بقاء قليلاً، لأنه فان منقض، وأصل المتاع الزاد، ثم استعمل فيما يكون آخر أمر الإنسان أو عطائه أو أفعاله، قال الشاعر ‏[‏سليمان بن عبد الملك‏]‏‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

وَقَفْتُ على قَبْرٍ غريبٍ بقفرةٍ *** متاع قليل من حبيبٍ مفارقِ

ومنه تمتيع الزوجات، ويضطر الله الكافر إلى النار جزاء على كفره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏127- 129‏]‏

‏{‏وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏127‏)‏ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ‏(‏128‏)‏ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏129‏)‏‏}‏

المعنى واذكر إذ، و‏{‏القواعد‏}‏ جمع قاعدة وهي الأساس، وقال الفراء‏:‏ «هي الجدر»‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وفي هذا تجوز، والقواعد من النساء جمع قاعد وهي التي قعدت عن الولد وحذفت تاء التأنيث لأنه لا دخول للمذكر فيه، هذا قول بعض النحاة، وقد شذ حذفها مع اشتراك المذكر بقولهم ناقة ضامر، ومذهب الخليل أنه متى حذفت تاء التأنيث زال الجري على الفعل وكان ذلك على النسب‏.‏

و ‏{‏البيت‏}‏ هنا الكعبة بإجماع، واختلف بعض رواة القصص‏:‏ فقيل إن آدم أمر ببنائه، فبناه، ثم دثر ودرس حتى دل عليه إبراهيم فرفع قواعده، وقيل‏:‏ إن آدم هبط به من الجنة، وقيل‏:‏ إنه لما استوحش في الأرض حين نقص طوله وفقد أصوات الملائكة أهبط إليه وهو كالدرة، وقيل‏:‏ كالياقوتة، وقيل‏:‏ إن البيت كان ربوة حمراء، وقيل بيضاء، ومن تحته دحيت الأرض، وإن إبراهيم ابتدأ بناءه بأمر الله ورفع قواعده‏.‏

و الذي يصح من هذا كله أن الله أمر إبراهيم برفع قواعد البيت، وجائز قدمه وجائز أن يكون ذلك ابتداء، ولا يرجح شيء من ذلك إلا بسند يقطع العذر، وقال عبيد بن عمير‏:‏ رفعها إبراهيم وإسماعيل معاً، وقال ابن عباس‏:‏ رفعها إبراهيم، وإسماعيل يناوله الحجارة، وقال علي بن أبي طالب‏:‏ رفعها إبراهيم، وإسماعيل طفل صغير‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ولا يصح هذا عن علي رضي الله عنه، لأن الآية والآثار تردهُ، ‏{‏وإسماعيل‏}‏ عطف على ‏{‏إبراهيم‏}‏، وقيل هو مقطوع على الابتداء وخبره فيما بعد، قال الماوردي‏:‏ ‏{‏إسماعيل‏}‏ أصله اسمع يا إيل‏.‏

قال القاضي أبو محمد وهذا ضعيف، وتقدير الكلام‏:‏ يقولان ربنا تقبل، وهي في قراءة أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود كذلك بثبوت «يقولان»، وقالت فرقة‏:‏ التقدير وإسماعيل يقول ربنا، وحذف لدلالة الظاهر عليه، وكل هذا يدل على أن إسماعيل لم يكن طفلاً في ذلك الوقت، وخصّا هاتين الصفتين لتناسبهما مع حالهما، أي ‏{‏السميع‏}‏ لدعائنا و‏{‏العليم‏}‏ بنياتنا‏.‏

وقولهما ‏{‏اجعلنا‏}‏ بمعنى صيرنا تتعدى إلى مفعولين، و‏{‏مسلمين‏}‏ هو المفعول الثاني، وكذلك كانا، فإنما أرادا التثبيت والدوام، والإسلام في هذا الموضع الإيمان والأعمال جميعاً، وقرأ ابن عباس وعوف‏:‏ «مسلمين» على الجمع، و‏{‏من‏}‏ في قوله ‏{‏ومن ذريتنا‏}‏ للتبعيض، وخص من الذرية بعضاً لأن الله تعالى قد كان أعلمه أن منهم ظالمين، والأمة الجماعة، وحكى الطبري أنه أراد بذلك العرب خاصة‏.‏

قال القاضي أبو محمد رحمه الله‏:‏ وهو ضعيف، لأن دعوته ظهرت في العرب وفيمن آمن من غيرهم، وقرأ نافع وحمزة والكسائي، «أرِنا» بكسر الراء، وقرأ ابن كثير «أرْنا» بإسكان الراء، وقرأ أبو عمرو بين الإسكان والكسر اختلاساً، والأصل أرئينا حذفت الياء للجزم ونقلت حركة الهمزة إلى الراء وحذفت تخفيفاً، واستثقل بعد من سكن الراء الكسرة كما استثقلت في فخذ، وهنا من الإجحاف ما ليس في فخذ، وقالت طائفة‏:‏ ‏{‏أرنا‏}‏ من رؤية البصر، وقالت طائفة‏:‏ من رؤية القلب، وهو الأصح، ويلزم قائله أن يتعدى الفعل منه إلى ثلاثة مفعولين، وينفصل عنه بأنه يوجد معدى بالهمزة من رؤية القلب كغير المعدى‏.‏

قال حطائط بن يعفر أخو الأسود بن يعفر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

أريني جواداً ماتَ هزلاً لأنني *** أرى ما ترين أو بخيلاً مخلدا

وقال قتادة‏:‏ المناسك معالم الحج، وروي عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال‏:‏ لما فرغ إبراهيم من بناء البيت ودعا بهذه الدعوة بعث الله إليه جبريل فحج به، وقال ابن جريج‏:‏ المناسك المذابح أي مواضع الذبح، وقال فريق من العلماء‏:‏ المناسك العبادات كلها، ومنه الناسك أي العابد، وفي قراءة ابن مسعود «وأرهم مناسكهم» كأنه يريد الذرية، والتوبة الرجوع، وعرفه شرعاً من الشر إلى الخير وتوبة الله على العبد رجوعه به وهدايته له‏.‏

واختلف في معنى طلبهم التوبة وهم أنبياء معصومون، فقالت طائفة‏:‏ طلبا التثبيت والدوام، وقيل‏:‏ أرادا من بعدهما من الذرية كما تقول برني فلان وأكرمني وأنت تريد في ولدك وذريتك، وقيل وهو الأحسن عندي‏:‏ إنهما لما عرفا المناسك وبنيا البيت وأطاعا أرادا أن يسنا للناس أن ذلك الموقف وتلك المواضع مكان التنصل من الذنوب وطلب التوبة‏.‏ وقال الطبري‏:‏ إنه ليس أحد من خلق الله تعالى إلا وبينه وبين الله تعالى معانٍ يحب أن تكون أحسن مما هي‏.‏

وأجمعت الأمة على عصمة الأنبياء في معنى التبليغ ومن الكبائر ومن الصغائر التي فيها رذيلة، واختلف في غير ذلك من الصغائر، والذي أقول به أنهم معصومون من الجميع، وأن قول النبي صلى الله عليه وسلم «إني لأتوب إلى الله في اليوم وأستغفره سبعين مرة» إنما هو رجوعه من حالة إلى أرفع منها لتزيد علومه واطلاعه على أمر الله، فهو يتوب من المنزلة الأولى إلى الأخرى، والتوبة هنا لغوية‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم‏}‏ الآية، هذا هو الذي أراد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله «أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى»، ومعنى ‏{‏منهم‏}‏ أن يعرفوه ويتحققوا فضله ويشفق عليهم ويحرص، ‏{‏يتلو‏}‏ في موضع نصب نعت لرسول أي تالياً عليهم، ويصح أن يكون في موضع الحال، والآيات آيات القرآن، و‏{‏الكتاب‏}‏ القرآن، ونسب التعليم إلى النبي صلى الله عليه وسلم من حيث هو يعطي الأمور التي ينظر فيها ويعلم طرق النظر بما يلقيه الله إليه ويوحيه، وقال قتادة‏:‏ ‏{‏الحكمة‏}‏ السنة وبيان النبي صلى عليه وسلم الشرائع، وروى ابن وهب عن مالك‏:‏ أن الحكمة الفقه في الدين والفهم الذي هو سجية ونور من الله تعالى، و‏{‏يزكيهم‏}‏ معناه يطهرهم وينميهم بالخير، ومعنى الزكاة لا يخرج عن التطهير أو التنمية، و‏{‏العزيز‏}‏ الذي يغلب ويتم مراده ولا يرد، و‏{‏الحكيم‏}‏ المصيب مواقع الفعل المحكم لها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏130- 132‏]‏

‏{‏وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏130‏)‏ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏131‏)‏ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ‏(‏132‏)‏‏}‏

‏{‏من‏}‏ استفهام في موضع رفع بالابتداء، و‏{‏يرغب‏}‏ خبره، والمعنى يزهد ويربأ بنفسه عنها، والملة الشريعة والطريقة، و‏{‏سفه‏}‏ من السفه الذي معناه الرقة والخفة، واختلف في نصب ‏{‏نفسه‏}‏، فقال الزجاج‏:‏ ‏{‏سفه‏}‏ بمعنى جهل وعداه بالمعنى، وقال غيره‏:‏ ‏{‏سفه‏}‏ بمعنى أهلك، وحكى ثعلب والمبرد أن سفه بكسر الفاء يتعدى كسفه بفتح الفاء وشدها، وحكي عن أبي الخطاب أنها لغة، وقال الفراء نصبها على التمييز‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه‏:‏ لأن السفه يتعلق بالنفس والرأي والخلق، فكأنه ميزها بين هذه ورأوا أن هذا التعريف ليس بمحض لأن الضمير فيه الإبهام الذي في ‏{‏من‏}‏، فكأن الكلام‏:‏ إلا من سفه نفساً، وقال البصريون‏:‏ لا يجوز التمييز مع هذا التعريف، وإنما النصب على تقدير حذف «في»، فلما انحذف حرف الجر قوي الفعل، وهذا يجري على مذهب سيبويه فيما حكاه من قولهم ضرب فلان الظهر والبطن أي في الظهر والبطن، وحكى مكي أن التقدير ‏{‏إلا من سفه‏}‏ قوله ‏{‏نفسه‏}‏ على أن نفسه تأكيد حذف المؤكد وأقيم التوكيد مقامه قياساً على النعت والمنعوت‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا قول متحامل، و«اصطفى» «افتعل» من الصفوة معناه تخير الأصفى، وأبدلت التاء طاء لتناسبها مع الصاد في الإطباق، ومعنى هذا الاصطفاء أنه نبأه واتخذه خليلاً، و‏{‏في الآخرة‏}‏ متعلق باسم فاعل مقدر من الصلاح، ولا يصلح تعلقه ب ‏{‏الصالحين‏}‏ لأن الصلة لا تتقدم الموصول، هذا على أن تكون الألف واللام بمعنى الذي، وقال بعضهم‏:‏ الألف واللام هنا للتعريف ويستقيم الكلام، وقيل‏:‏ المعنى أنه من عمل الآخرة ‏{‏لمن الصالحين‏}‏، فالكلام على حذف مضاف‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذ قال له ربه أسلم‏}‏، العامل في ‏{‏إذ‏}‏ ‏{‏اصطفيناه‏}‏، وكان هذا القول من الله حين ابتلاه بالكوكب والقمر والشمس‏.‏ والإسلام هنا على أتم وجوهه، وقرأ نافع وابن عامر «وأوصى»، وقرأ الباقون ‏{‏ووصى‏}‏، والمعنى واحد، إلا أن وصى يقتضي التكثير، والضمير في ‏{‏بها‏}‏ عائد على كلمته التي هي ‏{‏أسلمت لرب العالمين‏}‏، وقيل‏:‏ على الملة المتقدمة، والأول أصوب لأنه أقرب مذكور، وقرأ عمرو بن فائد الأسواري «ويعقوبَ» بالنصب على أن يعقوب داخل فيمن أوصى، واختلف في إعراب رفعه، فقال قوم من النحاة‏:‏ التقدير ويعقوب أوصى بنيه أيضاً، فهو عطف على ‏{‏إبراهيم‏}‏، وقال بعضهم‏:‏ هو مقطوع منفرد بقوله ‏{‏يا بني‏}‏، فتقدير الكلام ويعقوب قال يا بني، و‏{‏اصطفى‏}‏ هنا معناه تخير صفة الأديان، والألف واللام في ‏{‏الدين‏}‏ للعهد، لأنهم قد كانوا عرفوه، وكسرت ‏{‏إنّ‏}‏ بعد ‏{‏أوصى‏}‏ لأنها بمعنى القول، ولذلك سقطت «إن» التي تقتضيها «أوصى» في قوله «أن يا بني»، وقرأ ابن مسعود والضحاك «أن يا بني» بثبوت أن‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون‏}‏ إيجاز بليغ، وذلك أن المقصود منه أمرهم بالإسلام والدوام عليه، فأتى ذلك بلفظ موجز يقتضي المقصود ويتضمن وعظاً وتذكيراً بالموت، وذلك أن المرء يتحقق أنه يموت ولا يدري متى‏؟‏ فإذا أمر بأمر لا يأتيه الموت إلا وهو عليه، فقد توجه من وقت الأمر دائباً لازماً، وحكى سيبويه فيما يشبه هذا المعنى قوله‏:‏ لا أرينك ها هنا، وليس إلى المأمور أن يحجب إدراك الأمر عنه، فإنما المقصود، اذهب وزل عن هاهنا، فجاء بالمقصود بلفظ يزيد معنى الغضب والكراهية، و‏{‏أنتم مسلمون‏}‏ ابتداء وخبر في موضع الحال‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏133- 135‏]‏

‏{‏أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ‏(‏133‏)‏ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏134‏)‏ وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏135‏)‏‏}‏

هذا الخطاب لليهود والنصارى الذين انتحلوا الأنبياء صلوات الله عليهم ونسبوهم إلى اليهودية والنصرانية، فرد الله تعالى عليهم وكذبهم، وأعلمهم أنهم كانوا على الحنيفية، والإسلام، وقال لهم على جهة التقريع والتوبيخ‏:‏ أشهدتم يعقوب وعلمتم بما أوصى فتدعون عن علم‏؟‏، أي لم تشهدوا بل أنتم تفترون، و‏{‏أم‏}‏ تكون بمعنى ألف الاستفهام في صدر الكلام لغة يمانية، وحكى الطبري أن ‏{‏أم‏}‏ يستفهم بها في وسط كلام قد تقدم صدره، وهذا منه، ومنه ‏{‏أم يقولون افتراه‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 38، هود‏:‏ 13، 35، السجدة‏:‏ 3، الأحقاف‏:‏ 8‏]‏، وقال قوم‏:‏ ‏{‏أم‏}‏ بمعنى بل، والتقدير بل شهد أسلافكم يعقوب وعلمتم منهم ما أوصى به، ولكنكم كفرتم جحداً ونسبتموهم إلى غير الحنيفية عناداً، والأظهر أنها التي بمعنى بل وألف الاستفهام معاً، و«شهداء» جمع شاهد أي حاضر، ومعنى الآية حضر يعقوب مقدمات الموت، وإلا فلو حضر الموت لما أمكن أن يقول شيئاً، وقدم يعقوب على جهة تقديم الأهم، والعامل في ‏{‏إذ‏}‏‏:‏ ‏{‏شهداء‏}‏، و‏{‏إذ قال‏}‏ بدل من ‏{‏إذ‏}‏ الأولى، وعبر عن المعبود بما تجربة لهم، ولم يقل من لئلا يطرق لهم الاهتداء، وإنما أراد أن يختبرهم، وأيضاً فالمعبودات المتعارفة من دون الله تعالى جمادات كالأوثان والنار والشمس والحجارة فاستفهمهم عما يعبدون من هذه، و‏{‏من بعدي‏}‏ أي من بعد موتي، وحكي أن يعقوب عليه السلام حين خير كما يخير الأنبياء اختار الموت، وقال أمهلوني حتى أوصي بنيَّ وأهلي، فجمعهم وقال لهم هذا فاهتدوا وقالوا‏:‏ ‏{‏نعبد إلهك‏}‏ الآية، فأروه ثبوتهم على الدين ومعرفتهم بالله تعالى، ودخل إسماعيل في الآباء لأنه عمٌّ‏.‏

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في العباس‏:‏ «ردوا علي أبي، إني أخاف أن تفعل به قريش ما فعلت ثقيف بعروة بن مسعود»‏.‏

وقال عنه في موطن آخر‏:‏ «هذا بقية آبائي»، ومنه قوله عليه السلام‏:‏ «أنا ابن الذبيحين» على القول الشهير في إن إسحاق هو الذبيح‏.‏

وقرأ الحسن وابن يعمر والجحدري وأبو رجاء «وإله أبيك»، واختلف بعد فقيل هو اسم مفرد أرادوا به إبراهيم وحده، وقال بعضهم‏:‏ هو جمع سلامة، وحكى سيبويه أب وأبون وأبين‏.‏ قال الشاعر‏:‏ ‏[‏زياد بن واصل السلمي‏]‏‏:‏ ‏[‏المتقارب‏]‏‏:‏

فلمّا تبيَّنَّ أصواتنا *** بكينَ وَفَدَّيْنَنَا بالأبينا

وقال ابن زيد‏:‏ يقال قدم إسماعيل لأنه أسن من إسحاق و‏{‏إلهاً‏}‏ بدل من ‏{‏إلهك‏}‏، وكرره لفائدة الصفة بالوحدانية، وقيل ‏{‏إلهاً‏}‏ حال، وهذا قول حسن، لأن الغرض إثبات حال الوحدانية، ‏{‏نحن له مسلمون‏}‏ ابتداء وخبر، أي كذلك كنا نحن ونكون، ويحتمل أن يكون في موضع الحال والعامل ‏{‏نعبد‏}‏، والتأويل الأول أمدح‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قد خلت‏}‏ في موضع رفع نعت لأمة، ومعناه ماتت وصارت إلى الخلاء من الأرض، ويعنى بالأمة الأنبياء المذكورون، والمخاطب في هذه الآية اليهود والنصارى، أي أنتم أيها الناحلوهم اليهودية والنصرانية، ذلك لا ينفعكم، لأن كل نفس ‏{‏لها ما كسبت‏}‏ من خير وشر، فخيرهم لا ينفعكم إن كسبتم شراً، وفي هذه الآية رد على الجبرية القائلين لا اكتساب للعبد، ‏{‏ولا تسألون عما كانوا يعملون‏}‏ فتنحلوهم ديناً‏.‏

وقولهم‏:‏ ‏{‏كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا‏}‏ نظير قولهم ‏{‏لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 111‏]‏، ونصب ‏{‏ملة‏}‏ بإضمار فعل، أي بل نتبع ملة، وقيل نصبت على الإغراء، وقرأ الأعرج وابن أبي عبلة «بل ملةُ» بالرفع والتقدير بل الهدى ملة، و‏{‏حنيفاً‏}‏ حال، وقيل نصب بإضمار فعل، لأن الحال تعلق من المضاف إليه، والحنف الميل، ومنه الأحنف لمن مالت إحدى قدميه إلى الأخرى، والحنيف في الدين الذي مال عن الأديان المكروهة إلى الحق، وقال قوم‏:‏ الحنف الاستقامة، وسمي المعوج القدمين أحنف تفاؤلاً كما قيل سليم ومفازة، ويجيء الحنيف في الدين المستقيم على جميع طاعات الله عز وجل، وقد خصص بعض المفسرين، فقال قوم‏:‏ الحنيف الحاج، وقال آخرون‏:‏ المختتن، وهذه أجزاء الحنف‏.‏

ونفى عنه الإشراك فانتفت عبادة الأوثان واليهودية لقولهم عزير ابن الله، والنصرانية لقولهم المسيح ابن الله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏136- 138‏]‏

‏{‏قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ‏(‏136‏)‏ فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏137‏)‏ صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ ‏(‏138‏)‏‏}‏

هذا الخطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، علمهم الله الإيمان، و‏{‏ما أنزل إلينا‏}‏ يعني به القرآن، وصحت إضافة الإنزال إليهم من حيث هم المأمورون المنهيون فيه، و‏{‏إبراهيم وإسماعيل‏}‏ يجمعان براهيم وسماعيل، هذا هو اختيار سيبويه والخليل، وقال قوم «براهم»، وقال الكوفيون‏:‏ «براهمة وسماعلة»، وقال المبرد‏:‏ «أباره وأسامع»، وأجاز ثعلب «براه» كما يقال في التصغير «بريه»، ‏{‏والأسباط‏}‏ هم ولد يعقوب، وهم روبيل وشمعون ولاوي ويهوذا وربالون ويشحر ودنية بنته وأمهم ليا، ثم خلف على أختها راحيل فولدت له يوسف وبنيامين، وولد له من سريتين ذان وتفثالي وجاد وأشرو، والسبط في بني إسرائيل بمنزلة القبيلة في ولد إسماعيل، فسموا الأسباط لأنه كان من كل واحد منهم سبط، و‏{‏ما أوتي موسى‏}‏ هو التوراة وآياته، و«ما أوتي عيسى» هو الإنجيل وآياته، فالمعنى أنا نؤمن بجميع الأنبياء لأن جميعهم جاء بالايمان بالله، فدين الله واحد وإن اختلفت أحكام الشرائع، و‏{‏لا نفرق بين أحد منهم‏}‏ أي لا نؤمن ببعض ونكفر ببعض كما تفعلون، وفي الكلام حذف تقديره‏:‏ بين أحد منهم وبين نظيره، فاختصر لفهم السامع، والضمير في ‏{‏له‏}‏ عائد على اسم الله عز وجل‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به‏}‏ الآية، خطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم وأمته‏.‏

والمعنى إن صدقوا تصديقاً مثل تصديقكم، فالمماثلة وقعت بين الإيمانين، هذا قول بعض المتأولين، وقيل الباء زائدة مؤكدة، والتقدير آمنوا مثل، والضمير في ‏{‏به‏}‏ عائد كالضمير في ‏{‏له‏}‏، فكأن الكلام فإن آمنوا بالله مثل ما آمنتم به، ويظهر عود الضمير على ‏{‏ما‏}‏، وقيل ‏{‏مثل‏}‏ زائدة كما هي في قوله ‏{‏ليس كمثله شيء‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 11‏]‏، وقالت فرقة‏:‏ هذا من مجاز الكلام، تقول هذا أمر لا يفعله مثلك أي لا تفعله أنت، فالمعنى فإن آمنوا بالذي آمنتم به، هذا قول ابن عباس، وقد حكاه عنه الطبري قراءة، ثم أسند إليه أنه قال‏:‏ «لا تقولوا فإن آمنوا بمثل ما أمنتم به، فإنه لا مثل لله تعالى، ولكن قولوا فإن آمنوا بالذي آمنتم أو بما آمنتم به»‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه‏:‏ وهذا على جهة التفسير، أي هكذا فليتأول، وحكاهما أبو عمرو الداني قراءتين عن ابن عباس فالله أعلم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن تولوا‏}‏ أي أعرضوا، يعني به اليهود والنصارى، والشقاق المشاقة والمحادة والمخالفة، أي في شقاق لك هم في شق وأنت في شق، وقيل‏:‏ شاق معناه شق كل واحد وصل ما بينه وبين صاحبه، ثم وعده تعالى أنه سيكفيه إياهم ويغلبه عليهم، فكان ذلك في قتل بني قينقاع وبني قريظة وإجلاء النضير‏.‏

وهذا الوعد وانتجازه من أعلام نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، و‏{‏السميع‏}‏ لقول كل قائل، ‏{‏العليم‏}‏ بما يجب أن ينفذ في عباده‏.‏

و ‏{‏صبغة الله‏}‏ شريعته وسنته وفطرته، قال كثير من المفسرين‏:‏ وذلك أن النصارى لهم ماء يصبغون فيه أولادهم، فهذا ينظر إلى ذلك‏:‏ وقيل‏:‏ سمي الدين ‏{‏صبغة‏}‏ استعارة من حيث تظهر أعماله وسمته على المتدين كما يظهر الصبغ في الثوب وغيره، ونصب الصبغة على الإغراء، وقيل بدل من ملة، وقيل نصب على المصدر المؤكد لأن ما قبله من قوله ‏{‏فقد اهتدوا‏}‏ هو في معنى يلبسون أو يتجللون صبغة الله، وقيل‏:‏ التقدير ونحن له مسلمون صبغة الله، فهي متصلة بالآية المتقدمة، وقال الطبري من قرأ برفع «ملةُ» قرأ برفع «صبغةُ»‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه‏:‏ وقد ذكرتها عن الأعرج وابن أبي عبلة‏.‏ و‏{‏نحن له عابدون‏}‏ ابتداء وخبر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏139- 141‏]‏

‏{‏قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ ‏(‏139‏)‏ أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏140‏)‏ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏141‏)‏‏}‏

معنى الآية‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ يا محمد لهؤلاء اليهود والنصارى الذين زعموا أنهم أبناء الله وأحباؤه، وادعوا أنهم أولى بالله منكم لقدم أديانهم وكتبهم‏:‏ ‏{‏أتحاجوننا في الله‏}‏‏؟‏ أي أتجاذبوننا الحجة على دعواكم، والرب تعالى واحد وكل مجازى بعمله، فأي تأثير لقدم الدين‏؟‏، ثم وبخوا بقوله ‏{‏ونحن له مخلصون‏}‏ أي ولم تخلصوا أنتم، فكيف تدعون ما نحن أولى به منكم‏؟‏‏.‏

وقرأ ابن محيصن «أتحاجونا» بإدغام النون في النون، وخف الجمع بين ساكنين لأن الأول حرف مد ولين، فالمد كالحركة، ومن هذا الباب دابة وشابة، و‏{‏في الله‏}‏ معناه في دينه والقرب منه والحظوة لديه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أم تقولون‏}‏ عطف على ألف الاستفهام المتقدمة، وهذه القراءة بالتاء من فوق قرأها ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم، وقرأ بن كثير ونافع وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم «أم يقولون» بالياء من أسفل، و‏{‏أم‏}‏ على هذه القراءة مقطوعة، ذكره الطبري، وحكي عن بعض النحاة أنها ليست بمقطوعة لأنك إذا قلت أتقوم أم يقوم عمرو‏؟‏ فالمعنى أيكون هذا أم هذا‏؟‏‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه‏:‏ وهذا المثال غير جيد، لأن القائل فيه واحد والمخاطب واحد، والقول في الآية من اثنين والمخاطب اثنان غيران، وإنما تتجه تتجه معادلة ‏{‏أم‏}‏ للألف على الحكم المعنوي كأن معنى ‏{‏قل أتحاجوننا‏}‏ أي أيحاجون يا محمد أم يقولون، وقيل أن ‏{‏أم‏}‏ في هذا الموضع غير معادلة على القراءتين، وحجة ذلك اختلاف معنى الآيتين وإنهما ليسا قسمين، بل المحاجة موجودة في دعواهم الأنبياء عليهم السلام، ووقفهم تعالى على موضع الانقطاع في الحجة، لأنهم إن قالوا إن الأنبياء المذكورين على اليهودية والنصرانية كذبوا، لأنه قد علم أن هذين الدينين حدثا بعدهم، وإن قالوا لم يكونوا على اليهودية النصرانية قيل لهم فهلموا إلى دينهم إذ تقرون بالحق‏.‏

وقله تعالى‏:‏ ‏{‏قل أأنتم أعلم أم الله‏}‏ تقرير على فساد دعواهم إذ لا جواب لمفطور إلا أن الله تعالى أعلم، و‏{‏من أظلم‏}‏ لفظه الاستفهام والمعنى لا أحد أظلم منهم، وإياهم أراد تعالى بكتمان الشهادة‏.‏

واختلف في الشهادة هنا ما هي‏؟‏ فقال مجاهد والحسن والربيع‏:‏ هي ما في كتبهم من أن الأنبياء على الحنيفية لا على ما ادعوا هم، وقال قتادة وابن زيد‏:‏ هي ما عندهم من الأمر بتصديق محمد صلى الله عليه وسلم واتباعه، والأول أِبه بسياق معنى الآية، واستودعهم الله تعالى هذه الشهادة ولذلك قال‏:‏ ‏{‏من الله‏}‏، ف ‏{‏من‏}‏ على هذا متعلقة ب ‏{‏عنده‏}‏، كأن المعنى شهادة تحصلت له من الله، ويحتمل أن تتعلق ‏{‏من‏}‏ ب ‏{‏كتم‏}‏، أي كتمها من الله‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما الله بغافل عما تعملون‏}‏، وعيد وإعلام أنه لا يترك أمرهم سدى، وأن أعمالهم تحصل ويجازون عليها، والغافل الذي لا يفطن للأمور إهمالاً منه، مأخوذ من الأرض الغفل، وهي التي لا معلم بها‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تلك أمة‏}‏ الآية، كررها عن قرب لأنها تضمنت معنى التهديد والتخويف، أي إذا كان أولئك الأنبياء على إمامتهم وفضلهم يجازون بكسبهم فأنتم أحرى، فوجب التأكيد، فلذلك كررها، ولترداد ذكرهم أيضاً في معنى غير الأول‏.‏