فصل: تفسير الآيات رقم (135- 136)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ***


تفسير الآية رقم ‏[‏118‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏118‏)‏‏}‏

نهى الله تعالى المؤمنين بهذه الآية عن أن يتخذوا من الكفار واليهود أخلاء يأنسون بهم في الباطن من أمورهم ويفاوضونهم في الآراء ويستنيمون إليهم، وقوله‏:‏ ‏{‏من دونكم‏}‏ يعني من دون المؤمنين، ولفظة «دون» تقتضي فيما أضيف إليه أنه معدوم من القصة التي فيها الكلام، فشبه الأخلاء بما يلي بطن الإنسان من ثوبه، ومن هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما من خليفة ولا ذي إمرة إلا وله بطانتان، بطانة تأمره بالخير وتحضه عليه وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه والمعصوم من عصم الله، وقوله‏:‏ ‏{‏لا يألونكم خبالاً‏}‏ معناه لا يقصرون لكم فيما فيه الفساد عليكم، تقول‏:‏ ما ألوت في كذا أي ما قصرت بل اجتهدت ومنه قول زهير‏:‏

جرى بعدهم قوم لكي يلحقوهم *** فلم يلحقوا ولم يليموا ولم يألوا

أي لم يقصروا، والخبل والخبال‏:‏ الفساد، وقال ابن عباس‏:‏ كان رجال من المؤمنين يواصلون رجالاً من اليهود للجوار والحلف الذي كان بينهم في الجاهلية، فنزلت الآية في ذلك، وقال أيضاً ابن عباس وقتادة والربيع والسدي‏:‏ نزلت في المنافقين‏:‏ نهى الله المؤمنين عنهم، وروى أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «لا تستضيئوا بنار المشركين ولا تنقشوا في خواتيمكم عربياً» فسره الحسن بن أبي الحسن، فقال أراد عليه السلام، لا تستشيروا المشركين في شيء من أموركم ولا تنقشوا في خواتيمكم ‏(‏محمداً‏)‏‏.‏

قال القاضي‏:‏ ويدخل في هذه الآية استكتاب أهل الذمة وتصريفهم في البيع والشراء والاستنامة إليهم، وروي أن أبا موسى الأشعري استكتب ذميماً فكتب إليه عمر يعنفه، وتلا عليه هذه الآية، وقيل لعمر‏:‏ إن هاهنا رجلاً من نصارى الحيرة لا أحد أكتب منه ولا أخط بقلم، أفلا يكتب عنك‏؟‏ فقال‏:‏ إذاً أتخذ بطانة من دون المؤمنين، و‏{‏ما‏}‏ في قوله، ‏{‏ما عنتّم‏}‏ مصدرية، فالمعنى‏:‏ ‏{‏ودوا‏}‏ عنتكم، و«العنت»‏:‏ المشقة والمكروه يلقاه المرء وعقبة عنوت‏:‏ أي شاقة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك لمن خشي العنت‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 35‏]‏ معناه المشقة إما في الزنا وإما في ملك الإرب قال السدي‏:‏ معناه «ودوا» ما ضللتم، وقال ابن جريج‏:‏ المعنى «ودوا» أن تعنتوا في دينكم ويقال عنت الرجل يعنت بكسر النون في الماضي، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قد بدت البغضاء من أفواههم‏}‏ يعني بالأقوال، فهم فوق المتستر الذي تبدوا البغضاء في عينيه وخص تعالى الأفواه بالذكر دون الألسنة إشارة إلى شدقهم وثرثرتهم في أقوالهم هذه، ويشبه هذا الذي قلناه ما في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يتشحى الرجل في عرض أخيه، معناه‏:‏ أن يفتح فاه به يقال شحّى الحمار فاه بالنهيق وشحّى اللجام في الفرس، والنهي في أن يأخذ أحد عرض أخيه همساً راتب، فذكر التشحي إنما هو إشارة إلى التشدق والانبساط وقوله‏:‏ ‏{‏وما تخفي صدورهم أكبر‏}‏ إعلام بأنهم يبطنون من البغضاء أكثر مما يظهرون بأفواههم، وفي قراءة عبد الله بن مسعود‏:‏ «قد بدا البغضاء» بتذكير الفعل، لما كانت ‏{‏البغضاء‏}‏ بمعنى البغض، ثم قال تعالى للمؤمنين، ‏{‏قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون‏}‏ تحذيراً وتنبيهاً، وقد علم تعالى أنهم عقلاء ولكن هذا هز للنفوس كما تقول‏:‏ إن كنت رجلاً فافعل كذا وكذا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏119‏]‏

‏{‏هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏119‏)‏‏}‏

تقدم إعراب نظير هذه الآية وقراءتها في قوله تعالى آنفاً‏:‏ ‏{‏ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 66‏]‏ والضمير في ‏{‏تحبونهم‏}‏ لمنافقي اليهود الذين تقدم ذكرهم في قوله‏:‏ ‏{‏بطانة من دونكم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 118‏]‏ والضمير في هذه الآية اسم للجنس، أي تؤمنون بجميع الكتب وهم لا يؤمنون بقرآنكم، وإنما وقف الله تعالى المؤمنين بهذه الآية على هذه الأحوال الموجبة لبغض المؤمنين لمنافقي اليهود واطراحهم إياهم، فمن تلك الأحوال أنهم لا يحبون المؤمنين وأنهم يكفرون بكتابهم وأنهم ينافقون عليهم ويستخفون بهم ويغتاظون ويتربصون الدوائر عليهم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏عضوا عليكم الأنامل‏}‏ عبارة عن شدة الغيظ مع عدم القدرة على إنفاذه ومنه قول أبي طالب‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

‏(‏يعضُّون غَيْظاً خَلْفَنَا بِالأَنَامِلِ‏)‏ *** ومنه قول الآخر‏:‏ ‏[‏الفرزدق‏]‏‏:‏

وَقَدْ شَهِدَتْ قَيْسٌ فَمَا كَانَ نَصْرُهَا *** قُتَيْبَةَ إلاَّ عَضَّها بِالأَباهِمِ

وهذا العض هو بالأسنان، وهي هيئة في بدن الإنسان تتبع هيئة النفس الغائظة، كما أن عض اليد على اليد يتبع هيئة النفس النادمة فقط، إلى غير ذلك من عد الحصى والخط في الأرض للمهموم ونحوه، ويكتب هذا العض بالضاد، ويكتب عظ الزمان بالظاء المشالة وواحد «الأنامل» أنملة بضم الميم، ويقال بفتحها والضم أشهر، ولا نظير لهذا الاسم في بنائه إلا أشد، له نظائر في الجموع، وقوله ‏{‏وتؤمنون بالكتاب كله‏}‏ يقتضي أن الآية في منافقي اليهود لا في منافقي العرب، ويعترضها أن منافقي اليهود لم يخفظ عنهم أنهم كانوا يؤمنون في الظاهر إيماناً مطلقاً ويكفرون في الباطن، كما كان المنافقون من العرب يفعلون، إلا ما روي من أمر زيد بن الصيت القينقاعي فلم يبق إلا أن قولهم‏:‏ ‏{‏آمنا‏}‏ معناه‏:‏ صدقنا أنه نبي مبعوث إليكم، أي فكونوا على دينكم ونحن أولياؤكم وإخوانكم ولا نضمر لكم إلا المودة، ولهذا كان بعض المؤمنين يتخذهم بطانة، وهذا منزع قد حفظ أن كثيراً من اليهود كان يذهب إليه، ويدل على هذا التأويل أن المعادل لقولهم ‏{‏آمنا‏}‏، «عض الأنامل من الغيظ»، وليس هو ما يقتضي الارتداد كما هو في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنّا معكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 14‏]‏ بل هو ما يقتضي البغض وعدم المودة، وكان أبو الجوزاء إذا تلا هذه الآية قال‏:‏ هم الإباضية‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذه الصفة قد تترتب في أهل بدع من الناس إلى يوم القيامة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل موتوا بغيظكم‏}‏، قال فيه الطبري وكثير من المفسرين‏:‏ هو دعاء عليهم‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فعلى هذا يتجه أن يدعى عليهم بهذا مواجهة وغير مواجهة، قال قوم‏:‏ بل أمر النبي صلى الله عليه وسلم وأمته أن يواجهوهم بهذا‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فعلى هذا زال معنى الدعاء وبقي معنى التقريع والإغاظة، ويجري المعنى مع قول مسافر بن أبي عمرو‏:‏

وننمي في ارومتنا ونفقأ عين من حسدا *** وينظر إلى هذا المعنى في قوله، ‏{‏موتوا بغيظكم‏}‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 15‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إن الله عليم بذات الصدور‏}‏ وعيد يواجهون به على هذا التأويل الأخير في ‏{‏موتوا بغيظكم‏}‏ و«ذات الصدور»‏:‏ ما تنطوي عليه، والإشارة هنا إلى المعتقدات ومن هذا قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه‏:‏ إنما هو ذو بطن بنت خارجة، ومنه قولهم‏:‏ الذيب مغبوط بذي بطنه، وال «ذات»‏:‏ لفظ مشترك في معان لا يدخل منها في هذه الآية إلا ما ذكرناه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏120‏]‏

‏{‏إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ‏(‏120‏)‏‏}‏

«الحسنة والسيئة» في هذه الآية لفظ عام في كل ما يحسن ويسوء، وما ذكر المفسرون من الخصب والجدب واجتماع المؤمنين ودخول الفرقة بينهم وغير ذلك من الأقوال، فإنما هي أمثلة وليس ذلك باختلاف وذكر تعالى «المس في الحسنة» ليبين أن بأدنى طروء الحسنة تقع المساءة بنفوس هؤلاء المبغضين، ثم عادل ذلك بالسيئة بلفظ الإصابة وهي عبارة عن التمكن، لأن الشيء المصيب لشيء فهو متمكن منه أو فيه، فدل هذا المنزع البلغ على شدة العداوة، إذ هو حقد لا يذهب عند الشدائد، بل يفرحون بنزول الشدائد بالمؤمنين، وهكذا هي عداوة الحسد في الأغلب، ولا سيما في مثل هذا الأمر الجسيم الذي هو ملاك الدنيا والآخرة وقد قال الشاعر‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

كلٌّ العداوةِ قَدْ تُرجى إزالَتُها *** إلاّ عداوةَ مَنْ عَادَاكَ مِنْ حَسَدِ

ولما قرر تعالى هذا الحال لهؤلاء المذكورين، ووجبت الآية أن يعتقدهم المؤمنون بهذه الصفة، جاء قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً‏}‏ تسلية للمؤمنين وتقوية لنفوسهم، وشرط ذلك بالصبر والتقوى، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع‏:‏ «لا يضِرْكم» بكسر الضاد وجزم الراء وهو من ضار يضير بمعنى ضر يضر وهي لغة فصيحة، وحكى الكسائي‏:‏ ضار يضور، ولم يقرأ على هذه اللغة، ومن ضار يضير في كتاب الله ‏{‏لا ضير‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 50‏]‏ ومنه قول أبي ذؤيب الهذلى‏:‏

فَقِيلَ تَحْمَّلْ فَوْقَ طَوْقِكَ إنّها *** مُطَبَّعَةٌ مَنْ يأتِها لا يَضِيرُها

يصف مدينة، والمعنى فليس يضيرها، وفي هذا النفي المقدر بالفاء هو جواب الشرط، ومن اللفظ قول توبة بن الحمير‏:‏

وَقالَ أُنَاسٌ لا يُضِيرُكَ نَأْيُها *** بَلَى كلُّ ما شقَّ النُّفوسَ يَضِيرُها

وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي‏:‏ «لا يضُرُّكم» بضم الضاد والراء والتشديد في الراء، وهذا من ضر يضر، وروي عن حمزة مثل قراءة أبي عمرو، وأما إعراب هذه القراءة فجزم، وضمت الراء للالتقاء، وهو اختيار سيبويه في مثل هذا إتباعاً لضمة الضاد، ويجوز فتح الراء وكسرها مع إرادة الجزم، فما الكسر فلا أعرفها قراءة، وعبارة الزجّاج في هذا متجوز فيها، إذ يظهر من درج كلامه أنها قراءة، وأما فتح الراء من قوله «لا يضرَّكم» فقرأ به عاصم فيما رواه أبو زيد عن المفضل عنه، ويجوز أيضاً أن يكون إعراب قوله، «لا يضركم»، رفعاً إما على تقدير، فليس يضركم، على نحو تقدم في بيت أبي ذؤيب، وإما على نية التقدم على «وإن تصبروا» كما قال ‏[‏جرير بن عبد الله‏]‏‏:‏ ‏[‏الرجز‏]‏

يَا أقْرَعُ بْنَ حَابِسٍ يَا أَقْرَعُ *** إنَّكَ إنْ يُصْرَعْ أَخْوكَ تُصْرَعُ

المراد أنك تصرع، وقرأ أبي بن كعب‏:‏ «لا يضرركم» براءين وذلك على فك الإدغام وهي لغة أهل الحجاز وعليها تعالى في الآية ‏{‏إن تمسسكم‏}‏ ولغة سائر العرب الإدغام في مثل هذا كله، و«الكيد» الاحتيال بالأباطيل وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأكيد كيداً‏}‏ ‏[‏الطارق‏:‏ 16‏]‏ إنما هي تسمية العقوبة باسم الذنب، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الله بما يعلمون محيط‏}‏ وعيد، والمعنى محيط جزاؤه وعقابه وبالقدر والسلطان، وقرأ الحسن‏:‏ «بما تعملون» بالتاء، وهذا إما على توعد المؤمنين في اتخاذ هؤلاء بطانة، وإما على توعد هؤلاء المنافقين بتقدير‏:‏ قل لهم يا محمد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏121- 122‏]‏

‏{‏وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏121‏)‏ إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ‏(‏122‏)‏‏}‏

ذهب الطبري رحمه الله إلى أن هذه الآية متصلة بمعنى ما تقدمها من الآيات والظاهر أنها استقبال أمر آخر، لأن تلك مقاولة في شأن منافقي اليهود، وهذا ابتداء عتب المؤمنين في أمر أحد، فالعامل في ‏{‏إذ‏}‏ فعل مضمر تقديره واذكر، وقال الحسن‏:‏ هذا الغدو المذكور في هذه الآية «لتبويء المؤمنين» الذي كان في غزوة الأحزاب‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وخالفه الناس، والجمهور على أن ذلك كان في غزوة أحد، وفيها نزلت هذه الآيات كلها، وكان من أمر غزوة أحد أن المشركين اجتمعوا في ثلاثة آلاف رجل، وقصدوا المدينة ليأخذوا بثأرهم في يوم بدر، فنزلوا عند أحد يوم الأربعاء الثاني عشر من شوال سنة ثلاث من الهجرة، على رأس أحد وثلاثين شهراُ من الهجرة، وأقاموا هنالك يوم الخميس، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة يدير وينتظر أمر الله تعالى، فما كان في صبيحة يوم الجمعة جمع رسول الله صلىلله عليه وسلم الناس واستشارهم وأخبرهم أنه كان يرى بقرة تذبح وثلماً في ذباب سيفه، وأنه يدخل يده في درع حصينة، وأنه تأولها المدينة، وقال لهم، أرى أن لا نخرج إلى هؤلاء الكفار، فقال له عبد الله بن أبي ابن سلول‏:‏ أقم يا رسول الله ولا تخرج إليهم بالناس، فإن هم أقاموا أقاموا بشر محبس وإن انصرفوا مضوا خائبين، وإن جاؤونا إلى المدينة قاتلناهم في الأفنية ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من الآطام، فوالله ما حاربنا قط عدواً في هذه المدينة إلا غلبناه، ولا خرجنا منها إلى عدو إلا غلبنا، فوافق هذا الرأي رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأي جماعة عظيمة من المهاجرين والأنصار، وقال قوم من صلحاء المؤمنين ممن كان فاتته بدر‏:‏ يا رسول الله اخرج بنا إلى عدونا، وشجعوا الناس ودعوا إلى الحرب، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بالناس صلاة الجمعة وقد جشمه هؤلاء الداعون إلى الحرب، فدخل إثر صلاته بيته ولبس سلاحه، فندم إولئك القوم وقالوا‏:‏ أكرهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما خرج عليهم النبي صلى الله عليه وسلم في سلاحه، قالوا‏:‏ يا رسول الله أقم إن شئت، فإنّا لا نريد أن نكرهك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما ينبغي لنبي إذا لبس سلاحة أن يضعها حتى يقاتل ثم خرج بالناس، وسار حتى قرب من عسكر المشركين، هناك وبات تلك الليلة، وقد غضب عبد الله بن أبي ابن سلول وقال‏:‏ أطاعهم وعصاني، فلما كان في صبيحة يوم السبت، اعتزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على السير إلى مناجزة المشركين، فنهض وهو في ألف رجل، فانعزل عنه عند ذلك عبد الله بن أبي ابن سلول بثلاثمائة رجل من الناس، من منافق ومتبع، وقالوا‏:‏ نظن أنكم لا تلقون قتالاً، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم، في سبعمائة، فهمت عند ذلك بنو حارثة من الأوس وبنو سلمة من الخزرج بالانصراف، ورأوا كثافة المشركين وقلة المسلمين، وكادوا أن يجبنوا ويفشلوا فعصمهم الله تعالى، وذم بعضهم بعضاً، ونهضوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أطل على المشركين، فتصافَّ الناس، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر على الرماة عبد الله بن جبير، وكانوا خمسين رجلاً، وجعلهم يحمون الجبل وراء المسلمين، وأسند هو إلى الجبل، فلما أضرمت الحرب انكشف المشركون وانهزموا، وجعل نساء المشركين تبدو خلاخلهن وهن يسندن في صفح جبل، فلما رأى الرماة ذلك قالوا‏:‏ الغنيمة الغنيمة أيها المسلمون، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال لهم‏:‏ لا تبرحوا من هنا ولو رأيتمونا تتخطفنا الطير، فقال لهم عبد الله بن جبير وقوم منهم‏:‏ اتقوا الله واثبتوا كما أمركم نبيكم، فعصوا وخالفوا وزالوا متبعين، وكان خالد بن الوليد قد تجرد في جريدة خيل وجاء من خلف المسلمين حيث كان الرماة، فحمل على الناس ووقع التخاذل وصيح في المسلمين من مقدمتهم ومن ساقتهم، وصرخ صارخ‏:‏ قتل محمد، فتخاذل الناس واستشهد من المسلمين نيف على سبعين، قال مكي‏:‏ قال مالك رحمه الله‏:‏ قتل من المهاجرين يوم أحد أربعة، ومن الأنصار سبعون وتحيز رسول الله صلى الله عليه وسلم في أعلى الجبل وتحاوز الناس، هذا مختصر من القصة يتركب عليه تفسير الآية، وأمر «أحد» بطوله وما تخلله من الأفعال والأقوال، مستوعب في كتب السير، وليس هذا التعليق مما يقتضي ذكره وحكى مكي عن السدي ما يظهر منه أن القتال كان يوم الجمعة، وحكى عنه الطبري، أن نزول أبي سفيان بأحد كان في الثالث من شوال، وذلك كله ضعيف، وقال النقاش، وقعة «أحد» في الحادي عشر من شوال، وذلك خطأ، قال الطبري وغيره‏:‏ فغدو رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة إلى التدبير مع الناس واستشارتهم هو الذي عبر عنه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال‏}‏‏.‏

قال القاضي‏:‏ ولا سيما أن غدو النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان ورأيه أن لا يخرج الناس، فكان لا يشك في نفسه أن يقسم أقطار المدينة على قبائل الأنصار، وقال غير الطبري‏:‏ بل نهوض النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة بعد الصلاة، هو غدوه، وبوأ المؤمنين في وقت حضور القتال، وقيل ذلك في ليلته، وسماه «غدواً» إذ كان قد اعتزم التدبير، والشروع في الأمر من وقت الغدو‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ولا سيما أن صلاة الجمعة ربما كانت قبل الزوال، حسبما وردت بذلك أحاديث، فيجيء لفظ الغدو متمكناً، وقيل إن «الغدو» المذكور هو «غدوة» يوم السبت إلى القتال، ومن حيث لم يكن في تلك الليلة موافقاً للغدو فهو كأنه كان في أهله وبوأ المسلمين بأمره الرماة وبغير ذلك من تدبيره مصاف الناس و‏{‏تبوئ‏}‏ معناه‏:‏ تعين لهم مقاعد يتمكنون فيها ويثبتون تقول‏:‏ تبوأت مكان كذا، إذا حللته حلولاً متمكناً تثبت فيه، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏نتبوأ من الجنة حيث نشاء‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 74‏]‏ ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار»، ومنه قول الشاعر‏:‏ ‏[‏مجزوء الكامل مرفل‏]‏

كم صاحب ليَ صالحٍ *** بَوَّأْتُهُ بيديَّ لحْدا

ومنه قول الأعشى‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

وَمَا بَوَّأ الرَّحْمَنُ بَيْتَكَ مَنْزلاً *** بِشَرْقِيّ أجْيَادِ الصَّفَا والْمحَرَّمِ

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مقاعد‏}‏ جمع مقعد وهو مكان القعود، وهذا بمنزلة قولك مواقف، ولكن لفظة القعود أدل على الثبوت، ولا سيما أن الرماة إنما كانوا قعوداً، وكذلك كانت صفوف المسلمين أولاً، والمبارزة والسرعان يجولون، وقوله‏:‏ ‏{‏والله سميع‏}‏ أي ما تقول ويقال لك وقت المشاورة وغيره‏.‏

و ‏{‏إذ‏}‏ الثانية بدل من الأولى، و‏{‏همت‏}‏ معناه أرادت ولم تفعل، والفشل في هذا الموضع هو الجبن الذي كاد يلحق بني سلمة وبني حارثة و«الفشل» في البدن هو الإعياء والتبليح، و«الفشل» في الرأي هو العجز والحيرة وفساد العزم، وقال جابر بن عبد الله‏:‏ ما وددنا أنها لم تنزل، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله وليهما‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وعلى الله فليتوكل المؤمنون‏}‏ أمر في ضمنه التغبيط للمؤمنين بمثل ما فعله بنو حارثة وبنو سلمة من المسير مع النبي صلى الله عليه وسلم، وقرأ عبد الله بن مسعود، «تبوئ للمؤمنين» بلام الجر، وقرأ «والله وليهم» على معنى الطائفتين لا على اللفظ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏123- 125‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏123‏)‏ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ ‏(‏124‏)‏ بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ ‏(‏125‏)‏‏}‏

لما أمر الله تعالى بالتوكل عليه، ذكر بأمر «بدر» الذي كان ثمرة التوكل على الله والثقة به، فمن قال من المفسرين إن قول النبي صلى الله عليه وسلم للمؤمنين‏:‏ ‏{‏ألن يكفيكم‏}‏‏.‏ كان في غزوة بدر، فيجيء التذكير بأمر «بدر» وبأمر الملائكة وقتالهم فيه مع المؤمنين، محرضاً على الجد والتوكل على الله، ومن قال‏:‏ إن قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏ألن يكفيكم‏}‏ الآية، إنما كان في غزوة أحد، كان قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد نصركم الله ببدر‏}‏ إلى ‏{‏تشكرون‏}‏ اعتراضاً بين الكلام جميلاً، والنصر ببدر هو المشهور الذي قتل فيه صناديد قريش، وعلى ذلك اليوم انبنى الإسلام، وكانت «بدر» يوم سبعة عشر من رمضان يوم جمعة لثمانية عشر شهراً من الهجرة، و«بدر» ماء هنالك سمي به الموضع، وقال الشعبي‏:‏ كان ذلك الماء لرجل من جهينة يسمى بدراً فبه سمي، قال الواقدي‏:‏ فذكرت هذا لعبد الله بن جعفر ومحمد بن صالح فأنكراه وقالا‏:‏ بأي شيء سميت الصفراء والجار وغير ذلك من المواضع‏؟‏‏.‏ قال وذكرت ذلك ليحيى بن النعمان الغفاري فقال‏:‏ سمعت شيوخاً من بني غفار يقولون‏:‏ هو ماؤنا ومنزلنا وما ملكه أحد قط يقال له بدر، وما هو من بلاد جهينة إنما هي بلاد غفار، قال الواقدي‏:‏ فهذا المعروف عندنا، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأنتم أذلة‏}‏ معناه قليلون، وذلك أنهم كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر أو أربعة عشر رجلاً، وكان عدوهم ما بين التسعمائة إلى الألف، و‏{‏أذلة‏}‏ جمع ذليل، واسم الذل في هذا الموضع مستعار، ولم يكونوا في أنفسهم إلا أعزة، ولكن نسبتهم إلى عدوهم وإلى جميع الكفار في أقطار الأرض يقتضي عند التأمل ذلتهم، وأنهم مغلوبون، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم‏:‏ اللهم «إن تهلك هذه العصابة لم تعبد، وهذه الاستعارة كاستعارة الكذب في قوله في الموطأ، كذب كعب، وكقوله كذب أبو محمد، وكاستعارة المسكنة لأصحاب السفينة على بعض الأقوال، إذ كانت مسكنتهم بالنسبة إلى الملك القادر الغاصب، ثم أمر تعالى المؤمنين بالتقوى، ورجاهم بالإنعام الذي يوجب الشكر، ويحتمل أن يكون المعنى‏:‏ اتقوا الله عسى أن يكون تقواكم شكراً على النعمة في نصره ببدر‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذ تقول‏}‏ العامل في ‏{‏إذ‏}‏ فعل مضمر، ويحتمل أن يكون العامل ‏{‏نصركم‏}‏ وهذا على قول الجمهور‏:‏ إن هذا القول من النبي صلى الله عليه وسلم كان ببدر قال الشعبي والحسن بن أبي الحسن وغيرهما إن هذا كان ببدر، قال الشعبي بلغ المؤمنين أن كرز بن جابر بن حسل المحاربي محارب فهر، قد جاء في مدد للمشركين، فغم ذلك المؤمنين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للمؤمنين عن أمر الله تعالى، هذه المقالة فصبر المؤمنون واتقوا، وهزم المشركون وبلغت الهزيمة كرزاً ومن معه فانصرفوا ولم يأتوا من فورهم، ولم يمدّ المؤمنون بالملائكة، وكانت الملائكة بعد ذلك تحضر حروب النبي صلى الله عليه وسلم مدداً، وهي تحضر حروب المسلمين إلى يوم القيامة‏.‏

قال القاضي‏:‏ وخالف الناس الشعبي في هذه المقالة، وتظاهرت الروايات بأن الملائكة حضرت بدراً وقاتلت، ومن ذلك قول أبي أسيد مالك بن ربيعة، لو كنت معكم الآن ببدر ومعي بصري لأريتكم الشعب الذي خرجت منه الملائكة، لا أشك ولا أتمارى، ومنه حديث الغفاري وابن عمه اللذين سمعا من الصحابة، أقدم حيزوم فانكشف قناع قلب أحدهما فمات مكانه، وتماسك الآخر، وقال ابن عباس‏:‏ لم تقاتل الملائكة في يوم من الأيام إلا يوم بدر، وكانوا يكونون في سائر الأيام عدداً ومدداً لا يضربون، ومن ذلك قول أبي سفيان بن الحارث لأبي لهب‏:‏ ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا يقتلون ويأسرون، وعلى ذلك فوالله ما لمت الناس، لقينا رجالاً بيضاً على خيل بلق بين السماء والأرض ما تليق شيئاً ولا يقوم لها شيء، ومن ذلك أن أبا اليسر كعب بن عمرو الأنصاري أحد بني سلمة أسر يوم بدر العباس بن عبد المطلب وكان أبو اليسر رجلاً مجموعاً وكان العباس رجلاً طويلاً جسيماً فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لقد أعانك عليه ملك كريم، الحديث بطوله، وقد قال بعض الصحابة‏:‏ كنت يوم بدر أتبع رجلاً من المشركين لأضربه بسيفي فلما دنوت منه وقع رأسه قبل أن يصل سيفي إليه فعلمت أن ملكاً قتله، وقال قتادة ابن دعامة‏:‏ أمد الله المؤمنين يوم بدر بخمسة آلاف من الملائكة، قال الطبري‏:‏ وقال آخرون‏:‏ إن الله وعد المؤمنين يوم بدر أن يمدهم في حروبهم كلها إن صبروا واتقوا، فلم يفعلوا ذلك إلا في يوم الأحزاب، فأمدهم حين حصروا قريظة، ثم أدخل تحت هذه الترجمة عن عبد الله بن أبي أوفى أنه قال‏:‏ حاصرنا قريظة مدة فلم يفتح علينا فرجعنا، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دعا بغسل يريد أن يغسل رأسه، إذ جاءه جبريل عليه السلام فقال‏:‏ وضعتم أسلحتكم ولم تضع الملائكة أوزارها فلف رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه بخرقة ولم يغسله، ونادى فينا فقمنا كالين متعبين، حتى أتينا قريظة والنضير، فيؤمئذ أمدنا الله بالملائكة بثلاثة آلاف، وفتح لنا فتحاً يسيراً، فانقلبنا بنعمة من الله وفضل، وقال عكرمة‏:‏ كان الوعد يوم بدر، فلم يصبروا يوم أحد ولا اتقوا، فلم يمدوا ولو مدوا لم يهزموا، وقال الضحاك‏:‏ كان هذا الوعد والمقالة للمؤمنين يوم أحد، ففر الناس وولوا مدبرين فلم يمدهم الله، وإنما مدوا يوم بدر بألف من الملائكة مردفين، وقال ابن زيد‏:‏ قال المسلمون لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وهم ينتظرون المشركين‏:‏ يا رسول الله أليس يمدنا الله كما أمدنا يوم بدر‏؟‏ فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏ألن يكفيكم‏}‏ الآية وإنما أمدهم يوم بدر بألف قال ابن زيد‏:‏ فلم يصبروا، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألن يكفيكم‏}‏ تقرير على اعتقادهم الكفاية في هذا العدد من الملائكة، ومن حيث كان الأمر بيناً في نفسه أن الملائكة كافية، بادر المتكلم إلى الجواب ليبني ما يستأنف من قوله عليه فقال‏:‏ ‏{‏بلى‏}‏ وهي جواب المقررين، وهذا يحسن في الأمور البينة التي لا محيد في جوابها، ونحوه قوله تعالى‏:‏

‏{‏قل أي شيء أكبر شهادة قل الله‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 19‏]‏ وفي مصحف أبي بن كعب، «ألا يكفيكم» وقد مضى القول في قوله‏:‏ ‏{‏ويمدهم في طغيانهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 15‏]‏ وقرأ الحسن بن أبي الحسن‏:‏ «بثلاثة آلاف»، يقف على الهاء، وكذلك «بخمسة آلاف»، ووجه هذه القراءة، ضعيف، لأن المضاف والمضاف إليه يقتضيان الاتصال، إذ هما كالاسم الواحد، وإنما الثاني كمال للأول، والهاء إنما هي أمارة وقف، فيقلق الوقف في موضع إنما هو للاتصال، لكن قد جاء نحو هذا للعرب في مواضع، فمن ذلك ما حكاه الفراء أنهم يقولون‏:‏ أكلت لحماً، شاة، يريدون لحم شاة فمطلوا الفتحة حتى نشأت عنها ألف، كما قالوا في الوقف، قالا‏:‏ يريدون قال‏:‏ ثم مطلوا الفتحة في القوافي ونحوها من مواضع الروية والتثبت، ومن ذلك في الشعر قول الشاعر‏:‏ ‏[‏عنترة‏]‏‏:‏ ‏[‏الرجز‏]‏‏:‏

يَنْبَاعُ مِنْ ذفْرَى غضوبٍ جسرة *** يريد ينبع فمطل ومنه قول الآخر‏:‏ ‏[‏الرجز‏]‏

أقول إذ جرت على الكلكال *** يا ناقتا ما جُلْتِ مِن مَجَالِ

يريد على الكلكل، فمطل ومنه قول الآخر‏:‏ ‏[‏لابن هرمة‏]‏‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏

فَأَنْتَ مِنَ الْغَوَائِلِ حِينَ تَرْمي *** وَمِنْ ذمِّ الرجالِ بِمُنْتَزاحِ

يريد بمنتزح، قال أبو الفتح‏:‏ فإذا جاز أن يعترض هذا التمادي بين أثناء الكلمة الواحد، جاز التمادي والتأني بين المضاف والمضاف إليه إذ هما في الحقيقة اثنان، وقرأ ابن عامر وحده‏:‏ «منَزَّلين» بفتح النون والزاي مشددة، وقرأ الباقون‏:‏ منزلين بسكون النون وفتح الزاي مخففة، وقرأ ابن أبي عبلة‏:‏ «منَزِّلين» بفتح النون وكسر الزاي مشددة، معناها‏:‏ ينزلون النصر، وحكى النحاس قراءة ولم ينسبها‏:‏ «منْزِلين» بسكون النون وكسر الزاي خفيفة، وفسرها بأنهم ينزلون النصر‏.‏

و ‏{‏بلى‏}‏- جواب للنفي الذي في ‏{‏ألن‏}‏ وقد تقدم معناه، ثم ذكر تعالى الشرط الذي معه يقع الإمداد وهو الصبر، والتقى‏.‏ و«الفور»‏:‏ النهوض المسرع إلى الشي مأخوذ من فور القدر والماء ونحوه، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وفار التنور‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 40‏]‏ فالمعنى ويأتوكم في نهضتكم هذه، قال ابن عباس‏:‏ ‏{‏من فورهم هذا‏}‏‏:‏ معناه من سفرهم هذا، قال الحسن والسدي‏:‏ معناه، من وجههم هذا، وقاله قتادة، وقال مجاهد وعكرمة وأبو صالح مولى أم هاني‏:‏ من غضبهم هذا‏.‏

قال القاضي‏:‏ وهذا تفسير لا يخص اللفظة قد يكون «الفور» لغضب ولطمع ولرغبة في أجر، ومنه الفور في الحج والوضوء، وقرأ أبو عمرو وابن كثير وعاصم‏:‏ «مسوِّمين»، بكسر الواو، وقرأ الباقون‏:‏ «مسوَّمين» بفتح الواو، فأما من قرأ بفتح الواو فمعناه‏:‏ معلمين بعلامات، قال أبو زيد الأنصاري‏:‏ «السومة» العلامة تكون على الشاة وغيرها يجعل عليها لون يخالف لونها لتعرف، وروي أن الملائكة أعلمت يومئذ بعمائم بيض، حكاه المهدوي عن الزجّاج، إلا جبريل عليه السلام فإنه كان بعمامة صفراء على مثال عمامة الزبير بن العوام، وقاله ابن إسحاق، وقال مجاهد‏:‏ كانت خيلهم مجزوزة الأذناب والأعراف معلمة النواصي والأذناب بالصوف والعهن، وقال الربيع‏:‏ كانت سيماهم أنهم كانوا على خيل بلق، وقال عباد بن حمزة بن عبد الله بن الزبير‏:‏ نزلت الملائكة في سيما الزبير عليهم عمائم صفر، وقال ذلك عروة وعبد الله ابنا الزبير‏:‏ وقال عبد الله‏:‏ كانت ملاءة صفر فاعتم الزبير بها، ومن قرأ‏:‏ «مسوِّمين» بكسر الواو، فيحتمل من المعنى مثل ما تقدم، أي هم قد أعلموا أنفسهم بعلامة وأعلموا خيلهم، ورجح الطبري وغيره هذه القراءة، بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمسلمين يوم بدر‏:‏ «سوِّموا فإن الملائكة قد سوَّمت، فهم على هذا مسومون»، وقال كثير من أهل التفسير‏:‏ إن معنى «مسوِّمين»، بكسر الواو أي هم قد سوموا خيلهم‏:‏ أي أعطوها سومها من الجري والقتال والإحضار فهي سائمة، ومنه سائمة الماشية، لأنها تركت وسومها من الرعي، وذكر المهدوي هذا المعنى في «مسوَّمين» بفتح الواو أي أرسلوا وسومهم‏.‏

قال القاضي‏:‏ وهذا قلق‏:‏ وقد قاله ابن فورك أيضاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏126- 129‏]‏

‏{‏وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ‏(‏126‏)‏ لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ ‏(‏127‏)‏ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ‏(‏128‏)‏ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏129‏)‏‏}‏

الضمير في ‏{‏جعله الله‏}‏ عائد على الإنزال والإمداد، و«البشرى» مصدر واللام في ‏{‏ولتطمئن‏}‏ متعلقة بفعل مضمر يدل عليه جعله، ومعنى الآية‏:‏ وما كان هذا الإمداد إلا لتستبشروا به وتطمئن به قلوبكم وتروا حفاية الله بكم، وإلا فالكثرة لا تغني شيئاً إلا أن ينصر الله، قوله‏:‏ ‏{‏وما النصر‏}‏ يريد للمؤمنين، وكذلك هي الإدالة للكفار من عند الله‏.‏

واللام في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليقطع‏}‏ متعلقة بقوله ‏{‏وما النصر إلا من عند الله‏}‏ وعلى هذا لا يكون قطع الطرف مختصاً بيوم، اللهم إلا أن تكون الألف واللام في «النصر» للعهد، وقيل‏:‏ العامل في «ولقد نصركم» حكاه ابن فورك وهو قلق، لأنه قوله‏:‏ ‏{‏أو يكبتهم‏}‏ لا يترتب عليه، وقد يحتمل أن تكون اللام في قوله ‏{‏ليقطع‏}‏ متعلقة ب ‏{‏جعله‏}‏، فيكون قطع الطرف إشارة إلى من قتل ببدر، على ما قال الحسن وابن إسحاق وغيرهم، أو إلى من قتل بأحد على من قال السدي، وقتل من المشركين ببدر سبعون، وقتل منهم يوم أحد اثنان وعشرون رجلاً، وقال السدي‏:‏ قتل منهم ثمانية عشرة والأول أصح، و«الطرف» الفريق، ومتى قتل المسلمون كفاراً في حرب فقد قطعوا ‏{‏طرفاً‏}‏، لأنه الذي وليهم من الكفار فكأن جميع الكفار رقعة وهؤلاء المقتولون طرف منها أي حاشية، ويحتمل أن يكون قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليقطع طرفاً‏}‏ بمنزلة ليقطع دابراً وقوله‏:‏ ‏{‏أو يكبتهم‏}‏ معناه‏:‏ أو يخزيهم، والكبت الصرع لليدين، وقال النقاش وغيره‏:‏ التاء بدل من دال كبته أصله كبده أي فعل به يؤذي كبده، وإذا نصر الله على أمة كافرة فلا بد من أحد هذين الوجهين، إما أن يقتل منهم أو خيبوا، فذلك نوع من الهزم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليس لك من الأمر شيء‏}‏ توقيف على أن الأمر كله لله، وهذا التوقيف يقتضي أنه كان بسبب من جهة النبي صلى الله عليه وسلم وروي في ذلك «أنه لما هزم أصحابه وشج في وجهه، حتى دخلت بعض حلق الدرع في خده وكسرت رباعيته وارتث بالحجارة حتى صرع لجنبه، تحيز عن الملحمة، وجعل يمسح الدم من وجهه ويقول‏:‏ لا يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم»، هكذا لفظ الحديث من طريق أنس بن مالك، وفي بعض الطرق، وكيف يفلح‏؟‏ وفي بعضها أن سالماً مولى أبي حذيفة كان يغسل الدم عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فأفاق وهو يقول‏:‏ كيف بقوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى الله‏؟‏ فنزلت الآية‏:‏ بسبب هذه المقالة‏.‏

قال القاضي‏:‏ وكأن النبي صلى الله عليه وسلم لحقه في تلك الحال يأس من فلاح كفار قريش، فمالت نفسه إلى أن يستأصلهم الله ويريح منهم، فروي أنه دعاء عليهم أو أستأذن في أن يدعو عليهم، وروى ابن عمر وغيره‏:‏ أنه دعا على أبي سفيان والحارث بن هشام وصفوان بن أمية باللعنة، إلى غير هذا من معناه، فقيل له بسبب ذلك، ‏{‏ليس لك من الأمر شيء‏}‏ أي عواقب الأمور بيد الله، فامض أنت لشأنك ودم على الدعاء إلى ربك، قال الطبري وغيره من المفسرين‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏أو يتوب عليهم‏}‏ عطف على ‏{‏يكبتهم‏}‏‏.‏

قال القاضي‏:‏ فقوله‏:‏ ‏{‏ليس لك من الأمر شيء‏}‏ اعتراض أثناء الكلام، وقوله‏:‏ ‏{‏أو يتوب‏}‏ معناه‏:‏ فيسلمون، وقوله‏:‏ ‏{‏أو يعذبهم‏}‏ معناه‏:‏ في الآخرة بأن يوافوا على الكفر، قال الطبري وغيره‏:‏ ويحتمل أن يكون قوله ‏{‏أو يتوب‏}‏ بمعنى حتى يتوب أو إلى أن يتوب فيجيء بمنزلة قولك‏:‏ لا أفارقك أو تقضيني حقي، وكما تقول‏:‏ لا يتم هذا الأمر أو يجيء فلان، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليس لك من الأمر شيء‏}‏ ليس باعتراض على هذا التأويل، وإنما المعنى الإخبار لمحمد عليه السلام أنه ليس يتحصل له من أمر هؤلاء الكفار شيء يؤمله إلا أن يتوب عليهم فيسلموا، فيرى محمد عليه السلام أحد أمليه فيهم، أو يعذبهم الله بقتل في الدنيا، أو بنار في الآخرة أو بهما، فيرى محمد صلى الله عليه وسلم الأمل الآخر، وعلى هذا التأويل فليس في قوله‏:‏ ‏{‏ليس لك من الأمر شيء‏}‏ ردع كما هو في التأويل الأول، وذلك التأويل الأول أقوى، وقرأ أبي بن كعب، «أو يتوبُ أو يعذبُ»، برفع الباء فيهما، المعنى‏:‏ أو هو يتوب، ثم قرر تعالى ظلم هؤلاء الكفار‏.‏

ثم أكد معنى قوله ‏{‏ليس لك من الأمر شيء‏}‏ بالقول العام وذكر الحجة الساطعة في ذلك وهي ملكه الأشياء، إذ ذلك مقتض أن يفعل بحق ملكه ما شاء، لا اعتراض عليه ولا معقب لحكمه، وذكر أن الغفران أو التعذيب إنما هو بمشيئته وحسب السابق في علمه، ثم رجا في آخر ذلك تأنيساً للنفوس وجلباً لها إلى طاعته، وذلك كله في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولله ما في السموات وما في الأرض، يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء، والله غفور رحيم‏}‏ و‏{‏ما‏}‏ في قوله ‏{‏ما في السماوات وما في الأرض‏}‏، إشارة إلى جملة العالم فلذلك حسنت ‏{‏ما‏}‏، وما ذكر في هذه الآية من أن هذه الآية ناسخة لدعاء النبي صلى الله عليه وسلم على المشركين كلام ضعيف كله، وليس هذا من مواضع الناسخ والمنسوخ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏130- 132‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏130‏)‏ وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ‏(‏131‏)‏ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ‏(‏132‏)‏‏}‏

هذا النهي عن أكل الربا اعتراض أثناء قصة «أحد»، ولا أحفظ سبباً في ذلك مروياً، والربا الزيادة، وقد تقدم ذكر مثل هذه الآية وأحكام الربا في سورة البقرة، وقوله ‏{‏أضعافاً‏}‏ نصب في موضع الحال، ومعناه‏:‏ الربا الذي كانت العرب تضعف فيه الدين، فكان الطالب يقول‏:‏ أتقضي أم تربي‏؟‏ وقوله‏:‏ ‏{‏مضاعفة‏}‏ إشارة إلى تكرار التضعيف عاماً بعد عام، كما كانوا يصنعون، فدلت هذه العبارة المؤكدة على شنعة فعلهم وقبحه، ولذلك ذكرت حال التضعيف خاصة، وقد حرم الله جميع أنواع الربا، فهذا هو مفهوم الخطاب إذ المسكوت عنه من الربا في حكم المذكور، وأيضاً فإن الربا يدخل جميع أنواعه التضعيف والزيادة على وجوه مختلفة من العين أو من التأخير ونحوه‏.‏

و ‏{‏النار‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏واتقوا النار‏}‏ هي اسم الجنس، ويحتمل أن تكون للعهد، ثم ذكر أنها ‏{‏أعدت للكافرين‏}‏، أي إنهم هم المقصود والمراد الأول، وقد يدخلها سواهم من العصاة، فشنع أمر النار بذكر الكفر، وحسن للمؤمن أن يحذرها ويبعد بطاعة الله عنها وهذا كما قال في الجنة‏:‏ أعدت للمتقين، أي هم المقصود، وإن كان يدخلها غيرهم من صبي ومجنون ونحوه ممن لا يكلف ولا يوصف بتقوى، هذا مذهب أهل العلم في هذه الآية، وحكى الماوردي وغيره، عن قوم أنهم ذهبوا إلى أن أكلة الربا إنما توعدهم الله بنار الكفرة، إذ النار سبع طبقات، العليا منها وهي جهنم للعصاة، والخمس للكفار والدرك الأسفل للمنافقين، قالوا‏:‏ فأكلة الربا إنما يعذبون يوم القيامة بنار الكفرة لا بنار العصاة، وبذلك توعدوا، فالألف واللام على هذا في قوله ‏{‏واتقوا النار‏}‏ إنما هي للعهد‏.‏

ثم أمر تعالى بطاعته وطاعة رسوله، والطاعة هي موافقة الأمر الجاري عند المأمور مع مراد الأمر وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع الأمير فقد أطاعني ومن عصى الأمير فقد عصاني، وقال محمد بن إسحاق إن هذه الآية من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأطيعوا الله‏}‏ هي ابتداء المعاتبة في أمر أحد، وانهزام من فر وزوال الرماة عن مراكزهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏133- 134‏]‏

‏{‏وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏133‏)‏ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏134‏)‏‏}‏

قرأ نافع وابن عامر‏:‏ «سارعوا» بغير واو، وكذلك هي في مصاحف أهل المدينة وأهل الشام، وقرأ باقي السبعة بالواو، قال أب علي‏:‏ كلا الأمرين شائع مستقيم، فمن قرأ بالواو فلأنه عطف الجملة على الجملة، ومن ترك الواو فلأن الجملة الثانية ملتبسة بالأولى مستغنية بذلك عن العطف بالواو، وأمال الكسائي الألف من قوله ‏{‏سارعوا‏}‏ ومن قوله ‏{‏يسارعون في الخيرات‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 61‏]‏ و‏{‏ونسارع لهم في الخيرات‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 56‏]‏ في كل ذلك، قال أبو علي‏:‏ والإمالة هنا حسنة لوقوع الراء المكسورة بعدها، والمسارعة المبادرة وهي مفاعلة، إذ الناس كأن كل واحد يسرع ليصل قبل غيره، فبينهم في ذلك مفاعلة، ألا ترى إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاستبقوا الخيرات‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 48‏]‏ وقوله ‏{‏إلى مغفرة‏}‏ معناه‏:‏ سارعوا بالتقوى والطاعة والتقرب إلى ربكم إلى حال يغفر الله لكم فيها، أي يستر ذنوبكم بعفوه عنها وإزالة حكمها، ويدخلكم جنة، قال أنس بن مالك ومكحول في تفسير ‏{‏سارعوا إلى مغفرة‏}‏، معناه‏:‏ إلى تكبيرة الإحرام مع الإمام‏.‏

قال الفقيه القاضي‏:‏ هذا مثال حسن يحتذى عليه في كل طاعة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏عرضها السماوات والأرض‏}‏ تقديره‏:‏ كعرض السماوات والأرض، وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 28‏]‏ أي كخلق نفس واحدة وبعثها، فجاء هذا الاقتضاب المفهوم الفصيح، ومنه قول الشاعر‏:‏ ‏[‏ذو الخرق الطهوي‏]‏‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏‏:‏

حسبتُ بغامَ راحلتي عنَاقا *** وما هِيَ وَيْبَ غَيْرِكَ بِالعنَاقِ

ومنه قول الآخر‏:‏

كأنَّ غَدِيرَهُمْ بِجَنُوبِ سَلْيٍ *** نعَامٌ فَاقَ فيَ بَلَدٍ قِفَارٍ

التقدير صوت عناق وغدير نعام‏.‏

وأما معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عرضها السماوات والأرض‏}‏ فاختلف العلماء في ذلك على ثلاثة مذاهب، فروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال‏:‏ تقرن السماوات والأرضون بعضها إلى بعض كما يبسط الثوب، فذلك عرض الجنة ولا يعلم طولها إلا الله، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أن بين المصارعين من أبواب الجنة مسيرة أربعين سنة، وسيأتي عليها يوم يزدحم الناس فيها كما تزدحم الإبل إذا وردت خمصاً ظماء» وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أن في الجنة شجرة يسير الراكب المجدّ في ظلها مائة عام لا يقطعها» فهذا كله يقوي قول ابن عباس وهو قول الجمهور، إن الجنة أكبر من هذه المخلوقات المذكورة وهي ممتدة عن السماء حيث شاء الله تعالى، وذلك لا ينكر، فإن في حديث النبي عليه السلام‏:‏ «ما السماوات السبع والأرضون السبع في الكرسي إلا كدراهم ألقيت في فلاة من الأرض، وما الكرسي في العرش إلا كحلقة في فلاة من الأرض»، فهذه مخلوقات أعظم بكثير جداً من السماوات والأرض، وقدرة الله تعالى أعظم من ذلك كله،

«وروى يعلى بن أبي مرة قال‏:‏ لقيت التنوخي رسول هرقل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمص، شيخاً كبيراً قد فند فقال قدمت على النبي عليه السلام بكتاب هرقل، فناول الصحيفة رجلاً عن يسارة فقلت‏:‏ من صاحبكم الذي يقرأ‏؟‏ قالوا‏:‏ معاوية، فإذا كتاب هرقل‏:‏ إنك كتبت إليَّ تدعوني إلى ‏{‏جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين‏}‏، فأين النار‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ سبحان الله، فأين الليل إذا جاء النهار‏؟‏» وروى قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب قال‏:‏ جاء رجلان من اليهود من نجران إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال أحدهما‏:‏ تقولون‏:‏ ‏{‏جنة عرضها السماوات والأرض‏}‏، أين تكون النار‏؟‏ فقال عمر رضي الله عنه أرأيت النهار إذا جاء أين يكون الليل‏؟‏ والليل إذا جاء أين يكون النهار‏؟‏ فقال اليهودي‏:‏ إنه لمثلها في التوراة فقال له صاحبه‏:‏ لم أخبرته‏؟‏ دعه إنه بكل موقن‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فهذه الآثار كلها هي في طريق واحد، من أن قدرة الله تتسع لهذا كله وخص العرض بالذكر لأنه يدل متى ذكر على الطول، والطول إذا ذكر لا يدل على قدر العرض، بل قد يكون الطويل يسير العرض كالخيط ونحوه، ومن ذلك قول العرب بلاد عريضة، وفلاة عريضة، وقال قوم‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عرضها السماوات والأرض‏}‏ معناه‏:‏ كعرض السماوات والأرض، كما هي طباقاً، لا بأن تقرن كبسط الثياب، فالجنة في السماء، وعرضها كعرضها وعرض ما وراءها من الأرضين إلى السابعة، وهذه الدلالة على العظم أغنت عن ذكر الطول، وقال قوم‏:‏ الكلام جار على مقطع العرب من الاستعارة، فلما كانت الجنة من الاتساع والانفساح في غاية قصوى، حسنت العبارة عنها بعرضها السماوات والأرض، كما تقول لرجل‏:‏ هذا بحر، ولشخص كبير من الحيوان‏:‏ هذا جبل، ولم تقصد الآية تحديد العرض‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وجلب مكي هذا القول غير ملخص، وأدخل حجة عليه قول العرب‏:‏ أرض عريضة وليس قولهم، أرض عريضة، مثل قوله‏:‏ ‏{‏عرضها السماوات والأرض‏}‏ إلا في دلالة ذكر العرض على الطول فقط، وكذلك فعل النقاش وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للفارين يوم أحد‏:‏ لقد ذهبتم فيها عريضة، وقال ابن فورك‏:‏ الجنة في السماء، ويزاد فيها يوم القيامة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وفي هذا متعلق لمنذر بن سعيد وغيره ممن قال‏:‏ إن الجنة لم تخلق بعد، وكذلك النار، وهو قول ضعيف، وجمهور العلماء على أنهما قد خلقتا، وهو ظاهر كتاب الله تعالى في قوله، ‏{‏أعدت للمتقين‏}‏ و‏{‏أعدت للكافرين‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 131‏]‏ وغير ذلك، وهو نص في الأحاديث كحديث الإسراء وغيره، مما يقتضي أن ثم جنة قد خلقت، وأما من يقول‏:‏ يزاد فيهما فلا ترد عليه الأحاديث، لكنه يحتاج إلى سند يقطع العذر، و‏{‏أعدت‏}‏ معناه‏:‏ يسرت وانتظروا بها‏.‏

ثم وصف تعالى المتقين الذين أعدت لهم الجنة، بقوله‏:‏ ‏{‏الذين ينفقون‏}‏ الآية، وظاهر هذه الآية أنها مدح بفعل المندوب إليه، قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ ‏{‏في السراء والضراء‏}‏، معناه‏:‏ في العسر واليسر‏.‏

قال القاضي إذ الأغلب أن مع اليسر النشاط وسرور النفس، ومع العسر الكراهية وضر النفس، وكظم الغيظ رده في الجوف إذا كاد أن يخرج من كثرته، فضبطه ومنعه كظم له، والكظام‏:‏ السير الذي يشد به فم الزق والقربة، وكظم البعير جرته‏:‏ إذا ردها في جوفه، وقد يقال لحبسه الجرة قبل أن يرسلها إلى فيه، كظم، حكاه الزجّاج، فقال‏:‏ كظم البعير والناقة إذا لم يجترا ومنه قول الراعي‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏

فَأَفَضْنَ بَعْدَ كُظُومِهِنَّ بجِرَّةٍ *** من ذي الأباطح أذرعين حقيلا

و ‏{‏الغيظ‏}‏‏:‏ أصل الغضب، وكثيراً ما يتلازمان، ولذلك فسر بعض الناس ‏{‏الغيظ‏}‏ بالغضب وليس تحرير الامر كذلك، بل ‏{‏الغيظ‏}‏ فعل النفس لا يظهر على الجوارح، والغضب حال لها معه ظهور في الجوارح وفعل ما ولا بد، ولهذا جاز إسناد الغضب إلى الله تعالى، إذ هو عبارة عن أفعاله في المغضوب عليهم، ولا يسند إليه تعالى غيظ، وخلط ابن فورك في هذه اللفظة، ووردت في كظم الغيظ وملك النفس عند الغضب أحاديث، وذلك من أعظم العبادة وجهاد النفس، ومنه قوله عليه السلام، ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي ملك نفسه عند الغضب، ومنه قول النبي عليه السلام‏:‏ ما من جرعة يتجرعها العبد خير له وأعظم أجراً من جرعة غيظ في الله، وروى أبو هريرة أن النبي عليه السلام قال‏:‏ «من كظم غيظاً وهو يقدر على إنفاذه، ملأه الله أمناً وإيماناً»، والعفو عن الناس من أجل ضروب فعل الخير، وهذا حيث يجوز للإنسان ألا يعفو، وحيث يتجه حقه، وقال أبو العالية‏:‏ ‏{‏والعافين عن الناس‏}‏، يريد المماليك‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا حسن على جهة المثال، إذ هم الخدمة، فهم مذنبون كثيراً، والقدرة عليهم متيسرة، وإنفاذ العقوبة سهل، فلذلك مثل هذا المفسر به، وذكر تعالى بعد ذلك أنه ‏{‏يحب المحسنين‏}‏، فعم هذه الوجوه وسواها من البر، وهذا يدلك على أن الآية في المندوب إليه، ألا ترى إلى سؤال جبريل عليه السلام، فقال‏:‏ ما الإيمان‏؟‏ ثم قال ما الإسلام‏؟‏ فذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم المفروضات، ثم قال له‏:‏ ما الإحسان‏؟‏ قال‏:‏ أن تعبد الله كأنك تراه، الحديث‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏135- 136‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ‏(‏135‏)‏ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ‏(‏136‏)‏‏}‏

ذكر الله تعالى في هذه الآية صنفاً دون الصنف الأول، فألحقهم بهم برحمته ومنه، فهؤلاء هم التوابون، وروي في سبب هاتين الآيتين‏:‏ أن الصحابة قالوا‏:‏ يا رسول الله، كانت بنو إسرائيل أكرم على الله منا حين كان المذنب منهم يصبح وعقوبته مكتوبة على باب داره، فأنزل الله هذه الآية توسعة ورحمة وعوضاً من ذلك الفعل ببني إسرائيل، ويروى أن إبليس بكى حين نزلت هذه الآية، وروى أبو بكر الصديق رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «ما من عبد يذنب ذنباً ثم يقوم فيتطهر ويصلي ركعتين ويستغفر إلا غفر له»، وقوله ‏{‏والذين‏}‏ عطف جملة ناس على جملة أخرى، وليس ‏{‏الذين‏}‏ بنعت كرر معه واو العطف، لأن تلك الطبقة الأولى تنزه عن الوقوع في الفواحش، و«الفاحشة» هنا صفة لمحذوف أقيمت الصفة مقامه، التقدير‏:‏ فعلوا فعلة فاحشة، وهو لفظ يعم جميع المعاصي، وقد كثر اختصاصه بالزنا، حتى فسر السدي هذه الآية بالزنا، وقال جابر بن عبد الله لما قرأها‏:‏ زنى القوم ورب الكعبة، وقال إبراهيم النخعي‏:‏ الفاحشة من الظلم، والظلم من الفاحشة وقال قوم‏:‏ الفاحشة في هذه الآية إشارة إلى الكبائر، وظلم النفس إشارة إلى الصغائر، و‏{‏ذكروا الله‏}‏ معناه‏:‏ بالخوف من عقابه والحياء منه، إذ هو المنعم المتطول ومن هذا قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه‏:‏ رحم الله صهيباً لو لم يخف الله لم يعصه، و‏{‏استغفروا‏}‏ معناه‏:‏ طلبوا الغفران، واللام معناها‏:‏ لأجل «ذنوبهم»، ثم اعترض أثناء الكلام قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يغفر الذنوب إلا الله‏}‏، اعتراضاً موقفاً للنفس، داعياً إلى الله، مرجياً في عفوه، إذا رجع إليه، وجاء اسم ‏{‏الله‏}‏ مرفوعاً بعد الاستثناء والكلام موجب، حملاً على المعنى، إذ هو بمعنى وما يغفر الذنوب إلا الله، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولم يصروا‏}‏ الإصرار معناه‏:‏ اعتزام الدوام على الأمر، وترك الإقلاع عنه، ومنه صر الدنانير، أي الربط عليها، ومنه قول أبي السمال قعنب العدوي‏:‏ «علم الله أنها مني صرى»‏.‏

يريد‏:‏ عزيمة‏.‏ فالإصرار اعتزام البقاء على الذنب، ومنه قول النبي عليه السلام‏:‏ لا توبة مع إصرار، وقال أيضاً‏:‏ ما أصر من استغفر، واختلفت عبارة المفسرين في الإصرار، فقال قتادة‏:‏ هو الذي مضي قدماً في الذنب لا تنهاه مخافة الله‏.‏ وقال الحسن، إتيان العبد الذنب هو الإصرار حتى يتوب، وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏لم يصروا‏}‏ معناه‏:‏ لم يمضوا وقال السدي‏:‏ «الإصرار» هو ترك الاستغفار، والسكوت عنه مع الذنب، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهم يعلمون‏}‏ قال السدي‏:‏ معناه وهم يعلمون أنهم قد أذنبوا، وقال ابن إسحاق‏:‏ معناه، وهم يعلمون بما حرمت عليهم، وقال آخرون‏:‏ معناه، وهم يعلمون أن باب التوبة مفتوح لهم وقيل‏:‏ المعنى، وهم يعلمون أني أعاقب على الإصرار‏.‏

ثم شرك تعالى الطائفتين المذكورتين في قوله ‏{‏أولئك جزاؤهم‏}‏ الآية، وهذه تؤذن بأن الله تعالى أوجب على نفسه بهذا الخبر الصادق قبول توبة التائب، وليس يجب عليه تعالى من جهة العقل شيء، بل هو بحكم الملك لا معقب لأمره، وقوله‏:‏ ‏{‏ونعم أجر العاملين‏}‏ بمنزلة قوله‏:‏ ونعم الأجر، لأن نعم وبئس تطلب الأجناس المعرفة أو ما أضيف إليها وليست هذه الآية بمنزلة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ساء مثل القوم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 177‏]‏ لأن المثل هنا أضيف إلى معهود لا إلى جنس، فلذلك قدره أبو علي‏:‏ ساء المثل مثل القوم، ويحتمل أن يكون مثل القوم مرتفعاً «بساء» ولا يضمر شيء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏137- 139‏]‏

‏{‏قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ‏(‏137‏)‏ هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏138‏)‏ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏139‏)‏‏}‏

الخطاب بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قد خلت‏}‏ للمؤمنين والمعنى‏:‏ لا يذهب بكم إن ظهر الكفار المكذبون عليكم بأحد «فإن العاقبة للمتقين» وقديماً أدال الله المكذبين على المؤمنين، ولكن انظروا كيف هلك المكذبون بعد ذلك، فكذلك تكون عاقبة هؤلاء، وقال النقاش‏:‏ الخطاب ب ‏{‏قد خلت‏}‏ للكفار‏.‏

قال الفقيه القاضي أبو محمد‏:‏ وذلك قلق، و‏{‏خلت‏}‏ معناه‏:‏ مضت وسلفت، قال الزجّاج‏:‏ التقدير أهل سنن، و«السنن»‏:‏ الطرائق من السير والشرائع والملك والفتن ونحو ذلك، وسنة الإنسان‏:‏ الشيء الذي يعمله ويواليه، ومن ذلك قول خلد الهذلي، لأبي ذؤيب‏:‏

فَلاَ تَجْزَعَنْ مِنْ سُنَّة أَنْتَ سِرْتَها *** فَأَوَّلُ راضٍ سُنَّةً مَنْ يَسيرُها

وقال سليمان بن قتة‏:‏

وإنَّ الأُلى بالطَّفِّ مِنْ آلِ هاشمٍ *** تأسَّوْا فسَنُّوا للكرام التأسِّيَا

وقال لبيد‏:‏

مِنْ مَعْشَرٍ سَنَّتْ لَهُمْ آبَؤُهُمْ *** وَلكلِّ قَوْمٍ سُنَّةٌ وإِمَامُهَا

وقال ابن زيد‏:‏ ‏{‏قد خلت من قبلكم سنن‏}‏ معناه‏:‏ أمثال‏.‏

قال الفقيه الإمام‏:‏ هذا تفسير لا يخص اللفظة، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فسيروا‏}‏ وهذا الأمر قد يدرك بالإخبار دون السير لأن الإخبار إنما يكون ممن سار وعاين، إذ هو مما يدرك بحاسة البصر وعن ذلك ينتقل خبره، فأحالهم الله تعالى على الوجه الأكمل، وقوله‏:‏ ‏{‏فانظروا‏}‏، هو عند الجمهور من نظر العين، وقال قوم‏:‏ هو بالفكر‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هذا بيان للناس‏}‏ قال الحسن‏:‏ الإشارة إلى القرآن، وقال قتادة في تفسير الآية‏:‏ هو هذا القرآن جعله الله بياناً للناس عامة وهدى وموعظة للمتقين خاصة، وقال بمثله ابن جريج والربيع‏.‏

قال القاضي‏:‏ كونه بياناً للناس ظاهر، وهو في ذاته أيضاً هدى منصوب وموعظة، لكن من عمي بالكفر وضل وقسا قلبه لا يحسن أن يضاف إليه القرآن، وتحسن إضافته إلى «المتقين» الذين فيهم نفع وإياهم هدى، وقال ابن إسحاق والطبري وجماعة‏:‏ الإشارة ب ‏{‏هذا‏}‏ إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قد خلت من قبلكم سنن‏}‏ الآية، قال ابن إسحاق‏:‏ المعنى هذا تفسير للناس إن قبلوه، قال الشعبي‏:‏ المعنى، هذا بيان للناس من العمى‏.‏

ثم نهى عز وجل المؤمنين عن الوهن لما أصابهم بأحد، والحزن على من فقد، وعلى مذمة الهزيمة، وآنسهم بأنهم ‏{‏الأعلون‏}‏ أصحاب العاقبة، والوهن‏:‏ الضعف، واللين والبلى، ومنه‏:‏ ‏{‏وهن العظم مني‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 4‏]‏ ومنه قول زهير‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

فَأَصْبَحَ الْحَبْلُ مِنْها واهِناً خلقَا *** ومن كرم الخلق ألا يهن الإنسان في حربه وخصامه، ولا يلين إذا كان محقاً، وأن يتقصى جميع قدرته ولا يضرع ولو مات، وإنما يحسن اللين في السلم والرضى، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «المؤمن هين لين، والمؤمنون هينون لينون» ومنه قول الشاعر‏:‏ ‏[‏المنخل الهذلي‏]‏‏:‏ ‏[‏المتقارب‏]‏‏.‏

لَعَمْرُكَ مَا إنْ أَبُو مالِكِ *** بِوَاهٍ ولا بِضَعِيفٍ قواه

إذا سُدْتَه سُدْتَه مِطْواعَةً *** وَمَهْما وَكلْتَ إلَيْهِ كَفَاه

وفي هذا الأسلوب الذي ذكرته يجري قول النابغة‏:‏ ولا تقعد على ضمد

إلاّ لِمِثْلِكَ أَوْ مَنْ أَنْتَ سَابِقُهُ *** وفيه يجري قول العرب‏:‏ إذا لم تغلب اخلب، على من تأوله من المخلب، أي حارب ولو بالأظافر، وهذا هو فعل عبد الله بن طارق وهو من أصحاب عاصم بن عدي حين نزع يده من القرآن وقاتل حتى قتل، وفعل المنذر بن محمد بن عقبة بن أحيحة بن الجلاح في يوم بئر معونة، ومن رآه من معنى الخلب والخلابة الذي هو الخديعة والمكر، فهو رأي دهاة العرب، وليس برأي جمهورها، ومنه فعل عمر بن سعيد الأشدق مع عبد الملك بن مروان عند قتله إياه، والأمثلة في ذلك كثيرة، وأيضاً فليس المكر والخديعة بذل محض، ولذلك رآه بعضهم، وأما قولهم إذا عز أخوك فهن، فالرواية الصحيحة المعنى فيه بكسر الهاء بمعنى‏:‏ لن واضعف ضعف المطواع، وأما الرواية بضم الهاء فهي أمر بالهوان، وما أعرف ذلك في شيء من مقاطع العرب، وأما الشرع فقد قال النبي عليه السلام‏:‏ لا ينبغي لمؤمن أن يذل نفسه، ورأيت لعاصم أن المثل على ضم الهاء إنما هو من الهون الذي هو الرفق، وليس من الهوان، قال منذر بن سعيد‏:‏ يجب بهذه الآية أن لا يوادع العدو ما كانت للمسلمين قوة، فإن كانوا في قطر ما على غير ذلك فينظر الإمام لهم بالأصلح، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأنتم الأعلوْن‏}‏ إخبار بعلو كلمة الإسلام‏.‏

هذا قول الجمهور وظاهر اللفظ، وقاله ابن إسحاق‏:‏ وروي عن ابن عباس وابن جريج‏:‏ إنما قال الله لهم ذلك بسبب علوهم في الجبل، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انحاز في نفر يسير من أصحابه إلى الجبل، فبينما هو كذلك إذ علا خالد بن الوليد عليهم الجبل فقال رسول الله عليه السلام‏:‏ اللهم لا يعلوننا، ثم قام وقام من معه فقاتل أصحابه وقاتل حينئذ عمر بن الخطاب حتى أزالوا المشركين عن رأس الجبل، وصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيه، فأنزل الله تعالى عليه، ‏{‏ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن كنتم مؤمنين‏}‏ يحتمل أن يتعلق الشرط بقوله ‏{‏ولا تهنوا ولا تحزنوا‏}‏ فيكون المقصد هز النفوس وإقامتها، ويحتمل أن يتعلق بقوله ‏{‏وأنتم الأعلون‏}‏ فيكون الشرط على بابه دون تجوز، ويترتب من ذلك الطعن على من نجم نفاقه في ذلك اليوم، وعلى من تأود إيمانه واضطرب يقينه، ألا لا يتحصل الوعد إلا بالإيمان، فالزموه‏.‏

ثم قال تعالى، تسلية للمؤمنين‏:‏ ‏{‏إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله‏}‏ والأسوة مسلاة للبشر، ومنه قول الخنساء‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏

ولَوْلاَ كَثْرَةُ البَاكِينَ حَوْلي *** عَلَى إخْوَانِهِمْ لَقَتَلْتُ نَفْسِي

وَمَا يَبْكُونَ مِثْلَ أَخي ولكنْ *** أعزّي النَّفْسَ عَنْهُ بالتأَسِّي

والسلو بالتأسي هو النفع الذي يجره إلى نفسه الشاهد المحدود، فلذلك ردت شهادته فيما حد فيه وإن تاب وحسنت حاله، و«القرح»‏:‏ القتل والجراح، قاله مجاهد والحسن والربيع وقتادة وغيرهم، والمعنى‏:‏ إن مسكم في أحد فقد مس كفار قريش ببدر بأيديكم، وقرا نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وعاصم في رواية حفص‏:‏ «قَرْح» بفتح القاف، وقرأ حمزة الكسائي وعاصم في رواية أبي بكر‏:‏ «قُرْح» بضم القاف، وكلهم سكن الراء، قال أبو علي‏:‏ هما لغتان كالضَّعف والضُّعف والكَره والكُره، والفتح أولى لأنها لغة أهل الحجاز والأخذ بها أوجب لأن القرآن عليها نزل‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ هذه القراءات لا يظن إلا أنها مروية عن النبي عليه السلام‏:‏ وبجميعها عارض جبريل عليه السلام مع طول السنين توسعة على هذه الأمة، وتكملة للسبعة الأحرف حسب ما بيناه في صدر هذا التعليق، وعلى هذا لا يقال‏:‏ هذه أولى من جهة نزول القرآن بها، وإن رجحت قراءة فبوجه غير وجه النزول، قال أبو الحسن الأخفش‏:‏ «القَرح» و«القُرح» مصدران بمعنى واحد، ومن قال القَرح بالفتح الجراحات بأعيانها، والقُرح بضم القاف ألم الجراحات قبل منه إذا أتى برواية، لأن هذا مما لا يعلم بقياس، وقال بهذا التفسير الطبري، وقرأ الأعمش «إن تمسسكم»‏:‏ بالتاء من فوق، «قروح» بالجمع، «فقد مس القوم قرح مثله»، وقرأ محمد بن السميفع اليماني «قَرَح» بفتح القاف والراء، قال أبو الفتح‏:‏ هي لغة في القرح كالشل والشلل والطرد والطرد‏.‏ هذا مذهب البصريين، وليس هذا عندهم من تأثير حرف الحلق، وأنا أميل في هذا إلى قول أصحابنا البغداديين، في أن لحرف الحلق في مثل هذا أثراً معتمداً، وقد سمعت بعض بني عقيل يقول‏:‏ نحوه بفتح الحاء، يريد نحوه، ولو كانت الكلمة مبنية على فتح الحاء لأعلت الواو وكعصاة وفتاة، وسمعت غيره يقول‏:‏ أنا محموم بفتح الحاء قال ابن جني‏:‏ ولا قرابة بيني وبين البصريين ولكنها بيني وبين الحق، والحمد الله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏140- 141‏]‏

‏{‏إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ‏(‏140‏)‏ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ‏(‏141‏)‏‏}‏

أخبر تعالى على جهة التسلية أن ‏{‏الأيام‏}‏ على قديم الدهر وغابره أيضاً إنما جعلها دولاً بين البشر، أي‏:‏ فلا تنكروا أن يدال عليكم الكفار، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏نداولها‏}‏ فهي مفاعلة من جهة واحدة، وإنما ساغ ذلك لأن المداولة منه تعالى هي بين شيئين، فلما كان ذلك الفريقان يتداولان حسن ذلك، و«الدُّولة» بضم الدال المصدر، و«الدَّولة» بفتح الدال الفعلة الواحدة من ذلك، فلذلك يقال في دولة فلان لأنها مرة في الدهر، وسمع بعض العرب الأَقحاح قارئاً يقرأ هذه الآية، فقال‏:‏ إنما هو، «وتلك الأيام نداولها بين العرب»، فقيل له‏:‏ إنما هو «بين الناس» فقال‏:‏ إنّا لله، ذهب ملك العرب ورب الكعبة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وليعلم الله الذين آمنوا‏}‏ دخلت الواو لتؤذن أن اللام متعلقة بمقدر في آخر الكلام، تقديره‏:‏ وليعلم الله الذين آمنوا، فعل ذلك، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وليعلم‏}‏ معناه‏:‏ ليظهر في الوجود إيمان الذين قد علم أزلاً أنهم يؤمنون وليساوق علمه إيمانهم ووجودهم، وإلا فقد علمهم في الأول، وعلمه تعالى لا يطرأ عليه التغيير ونحو هذا‏:‏ أن يضرب حاكم أحداً ثم يبين سبب الضرب ويقول‏:‏ فعلت هذا التبيين لأضرب مستحقاً، معناه‏:‏ ليظهر أن فعلي وافق استحقاقه، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويتخذ منكم شهداء‏}‏، معناه‏:‏ أهل فوز في سبيله حسبما ورد في فضائل الشهيد‏.‏

ثم أخبر تعالى‏:‏ أن إدالته الكفار على المؤمنين إنما هي ‏{‏ليمحص‏}‏ المؤمنين، وأن إدالة المؤمنين على الكفار إنما هي لمحق الكفار، هذا مقتضى ألفاظ الآية، وقد قال ابن عباس وغيره‏:‏ جعل الله الدولة لرسوله يوم بدر، وعليه يوم أحد وذهب كثير من أهل العلم إلى العبارة عن إدالة المؤمنين بالنصر، وعن إدالة الكفار بالإدالة، وروي في ذلك عن النبي عليه السلام حديث‏:‏ إنهم يدالون كما تنصرون، و«التمحيص»‏:‏ التنقية‏.‏ قال الخليل‏:‏ التمحيص من العيب يقال‏:‏ محص الحبل إذا زال عنه بكثرة مره على اليد زئبره وامّلس هكذا ساق الزجّاج اللفظة «الحبل» ورواها النقاش محص الجمل‏:‏ إذا زال عنه وبره وامّلس، وقال حنيف الحناتم، وقد ورد ماء يقال له طويلع‏:‏ إنك لمحص الرشاء، بعيد المستقى، مطل على الأعداء، فالمعنى‏:‏ إنه لبعده يلمس حبله بالطين الحر ومد الأيدي، فمعنى الآية‏:‏ أن الله يمحص المؤمنين إذا أدال عليهم، بأنه ينقي المتشهدين من ذنوبهم، وينقي الأحياء من منافقهم إذ يميزهم، وأنه ‏{‏يمحق الكافرين‏}‏ إذا نصر عليهم أي ينقصهم والمحق‏:‏ الذهاب شيئاً شيئاً، ومنه محاق القمر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏142- 143‏]‏

‏{‏أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ‏(‏142‏)‏ وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ‏(‏143‏)‏‏}‏

‏{‏أم‏}‏ هي بمعنى الإضراب عن الكلام الأول والترك له، وفيها لازم معنى الاستفهام، فلذلك قدرها سيبويه ببل وألف الاستفهام، و‏{‏حسبتم‏}‏ معناه ظننتم‏.‏ وهذه الآية وما بعدها تقريع وعتب لطوائف المؤمنين الذين وقعت منهم الهفوات المشهورة في يوم واحد، وقوله‏:‏ ‏{‏ولما يعلم‏}‏ نفي مؤكد وهو معادل لقول القائل‏:‏ قد كان كذا، فلما أكد هذا الخبر الموجب، بقد، أكد النفي المعادل له بلما، وإذا قال القائل‏:‏ كان كذا، فمعادله لم يكن دون تأكيد في الوجهين، قاله سيبويه‏:‏ وقرأ جمهور الناس‏:‏ بكسر الميم للالتقاء في قوله‏:‏ ‏{‏ولما يعلم‏}‏ وقرأ يحيى بن وثاب وإبراهيم النخعي‏:‏ «ولما يعلم» بفتح الميم إتباعاً لفتحة اللام، وقرأ الجمهور «ويعلمَ» على النصب بإضمار- أن- عند البصريين، وبواو الصرف عند الكوفيين وروي عن أبي عمرو بن العلاء أنه قرأ‏:‏ «ويعلمُ» بالرفع على استئناف الفعل، وقرأ الحسن بن أبي الحسن ويحيى بن يعمر وأبو حيوة وعمرو بن عبيد‏:‏ «ويعلمِ» بكسر الميم جزماً معطوفاً على قوله ‏{‏ولما يعلم‏}‏‏.‏

ثم خاطب المؤمنين بقوله‏:‏ ‏{‏ولقد كنتم تمنون الموت‏}‏ والسبب في ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج في غزوة بدر يريد عير قريش مبادراً فلم يوعب الناس معه، إذ كان الظن أنه لا يلقى حرباً، فلما قضى الله ببدر ما قضى وفاز حاضروها بالمنزلة الرفيعة، كان المتخلفون من المؤمنين عنها يتمنون حضور قتال الكفار مع النبي صلى الله عليه وسلم ليكون منهم في ذلك غناء يلحقهم عند ربهم ونبيهم بمنزلة أهل بدر، ولأنس بن النضر في ذلك كلام محفوظ، فلما جاء أمر أحد-وحضر القتال لم يصدق كل المؤمنين، فعاتبهم الله بهذه الآية وألزمهم تعالى تمني الموت من حيث تمنوا لقاء الرجال بالحديد ومضاربتهم به، وهي حال في ضمنها في الأغلب الموت، ولا يتمناها إلا من طابت نفسه بالموت، فصار الموت كأنه المتمنى، وإلا فنفس قتل المشرك للمسلم لا يجوز أن يتمنى من حيث هو قتل، وإنما تتمنى لواحقه من الشهادة والتنعيم، وقرأ الجمهور‏:‏ «من قبل أن تلقوه»، وقرأ الزهري وإبراهيم النخعي «من قبل أن تلاقوه» وهذه والأولى في المعنى سواء من حيث- لقي- معناه يتضمن أنه من اثنين وإن لم يكن على وزن فاعل، وقرأ مجاهد «من قبلُ» بضم اللام وترك الإضافة، وجعل ‏{‏أن تلقوه‏}‏ بدلاً من ‏{‏الموت‏}‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فقد رأيتموه‏}‏ يريد رأيتم أسبابه وهي الحرب المشتعلة والرجال بأيديهم السيوف، وهذا كما قال عمير بن وهب يوم بدر‏:‏ رأيت البلايا، تحمل المنايا، وكما قال الحارث بن هشام‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏

وَوَجَدْتُ رِيحَ الْمَوْتِ مِنْ تِلْقَائِهِمْ *** في مَأْزقِ وَالْخَيْلُ لَمْ تتبددِ

يريد لقرب الأمر، ونحو هذا قول عامر بن فهيرة‏:‏

لقد رأيت الموت قبل ذوقه *** يريد لما اشتد به المرض، وقرأ طلحة بن مصرف «فلقد رأيتموه»، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأنتم تنظرون‏}‏ يحتمل ثلاثة معان‏:‏ أحدها التأكيد للرؤية وإخراجها من الاشتراك الذي بين رؤية القلب ورؤية العين في اللفظ، والآخر أن يكون المعنى أنتم تنظرون في أسباب النجاة والفرار وفي أمر محمد عليه السلام هل قتل أم لا‏؟‏ وذلك كله نقض لما كنتم عاهدتم الله عليه، وحكى مكي عن قوم أنهم قالوا‏:‏ المعنى‏:‏ وأنتم تنظرون إلى محمد، وهذا قول ضعيف، إلا أن ينحى به إلى هذا القول الذي ذكرته أنه النظر في أمره هل قتل‏؟‏ والاضطراب بحسب ذلك، والمعنى الثالث أن يكون قد وقفهم على تمنيهم ومعاهدتهم، وعلى أنهم رأوا ذلك الذي تمنوا، ثم قال على جهة التوبيخ والعتب‏:‏ ‏{‏وأنتم تنظرون‏}‏ في فعلكم الآن بعد انقضاء الحرب هل وفيتم أم خالفتم‏؟‏ كأنه قال‏:‏ وأنتم حسباء أنفسكم، فتأملوا قبيح فعلكم وفي هذا التوبيخ على هذا الوجه ضرب جميع من الإبقاء والصون والاستدعاء، قال ابن فوربك‏:‏ المعنى وأنتم تتأملون الحال في ذلك وتفكرون فيها كيف هي‏؟‏ وهذا نحو ما تقدم‏.‏