فصل: تفسير الآيات رقم (149- 151)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏144- 147‏]‏

‏{‏وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ‏(‏144‏)‏ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآَخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ ‏(‏145‏)‏ وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ‏(‏146‏)‏ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ‏(‏147‏)‏‏}‏

هذا استمرار في عتبهم، وإقامة لحجة الله عليهم، المعنى‏:‏ أن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول كسائر الرسل، قد بلغ كما بلغوا، ولزمكم أيها المؤمنون العمل بمضمن الرسالة وليست حياة الرسول وبقاؤه بين أظهركم شرطاً في ذلك، لأن الرسول يموت كما مات الرسل قبله، و‏{‏خلت‏}‏ معناه مضت وسفلت، وصارت إلى الخلاء من الأرض‏.‏ وقرأ جمهور الناس «الرسل» بالتعريف، وفي مصحف ابن مسعود «رسل» دون تعريف، وهي قراءة حطان بن عبد الله، فوجه الأولى تفخيم ذكر الرسل، والتنويه، بهم على مقتضى حالهم من الله تعالى، ووجه الثانية، أنه موضع تيسير لأمر النبي عليه السلام في معنى الحياة، ومكان تسوية بينه وبين البشر في ذلك، فجي تنكير «الرسل» جارياً في مضمار هذا الاقتصاد به صلى الله عليه وسلم، وهكذا يفعل في مواضع الاقتصاد بالشي، فمنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقليل من عبادي الشكور‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 13‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما آمن معه إلا قليل‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 40‏]‏ إلى غير ذلك من الأمثلة، ذكر ذلك أبو الفتح، والقراءة بتعريف «الرسل» أوجه في الكلام، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفإن مات‏}‏ الآية، دخلت ألف الاستفهام على جملة الكلام على الحد الذي يخبر به ملتزمه، لأن أقبح الأحوال أن يقولوا‏:‏ إن مات محمد أو قتل انقلبنا، فلما كان فعلهم ينحو هذا المنحى وقفوا على الحد الذي به يقع الإخبار، وقال كثير من المفسرين‏:‏ ألف الاستفهام دخلت في غير موضعها، لأن الغرض إنما هو‏:‏ أتنقلبون على أعقابكم إن مات محمد‏؟‏ فالسؤال إنما هو عن جواب الشرط‏.‏

قال الفقيه القاضي أبو محمد‏:‏ وبذلك النظرالذي قدمته يبين وجه فصاحة دخول الألف على الشرط، وذلك شبيه بدخول ألف التقريب في قوله‏:‏ ‏{‏أو لو كان آباؤهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 170، المائدة‏:‏ 104‏]‏ ونحوه من الكلام، كأنك أدخلت التقرير على ما ألزمت المخاطب أنه يقوله، والانقلاب على العقب يقتضي التولي عن المنقلب عنه، ثم توعد تعالى المنقلب على عقبه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلن يضر الله شيئاً‏}‏ لأن المعنى فأنما يضر نفسه وإياها يوبق، ثم وعد الشاكرين وهم الذين صدقوا وصبروا ولم ينقلب منهم أحد على عقبيه بل مضى على دينه قدماً حتى مات، فمنهم سعد بن الربيع وتقضي بذلك وصيته إلى الأنصار، ومنهم أنس بن النضر، ومنهم الأنصاري الذي ذكر الطبري عنه بسند أنه مر عليه رجل من المهاجرين، والأنصاريّ يتشحط في دمه، فقال‏:‏ يا فلان أشعرت أن محمداً قد قتل‏:‏ فقال الأنصاري‏:‏ إن كان محمد قد قتل فإنه قد بلغ، فقاتلوا عن دينكم‏.‏

قال الفقيه أبو محمد‏:‏ فهؤلاء أصحاب النازلة يومئذ صدق فعلهم قولهم‏:‏ ثم يدخل في الآية الشاكرون إلى يوم القيامة‏:‏ قال ابن إسحاق معنى ‏{‏وسيجزي الله الشاكرين‏}‏ أي من أطاعه وعمل بأمره، وذكر الطبري بسند عن علي بن أبي طالب وذكر غيره‏:‏ أنه قال في تفسير هذه الآية‏:‏ «الشاكرون»‏:‏ الثابتون على دينهم، أبو بكر وأصحابه وكان يقول‏:‏ أبو بكر أمير الشاكرين، وهذه عبارة من علي بن أبي طالب رضي الله عنه إنما هي إلى صدع أبي بكر رضي الله عنه بهذه الآية في يوم موت النبي عليه السلام وثبوته في ذلك الموطن، وثبوته في أمر الردة، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قبض وشاع موته، هاج المنافقون وتكلموا، وهموا بالاجتماع والمكاشفة، أوقع الله تعالى في نفس عمر رضي الله عنه أن النبي لم يقبض فقام بخطبته المشهورة المخوفة للمنافقين برجوع النبي عليه السلام، ففت ذلك في أعضاد المنافقين وتفرقت كلمتهم ثم جاء أبو بكر بعد أن نظر إلى النبي عليه السلام فسمع كلام عمر فقال له‏:‏ اسكت، فاستمر عمر في كلامه فتشهد أبو بكر فأصغى الناس إليه، فقال‏:‏ اما بعد فإنه من كان يعبد الله تعالى، فإن الله حي لا يموت ومن كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ‏{‏وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل‏}‏، وتلا الآية كلها، فبكى الناس ولم يبق أحد إلا قرأ الآية كأن الناس ما سمعوها قبل ذلك اليوم، قالت عائشة رضي الله عنها في البخاري‏:‏ فنفع الله بخطبة عمر، ثم بخطبة أبي بكر‏.‏

قال الفقيه الإمام أبو محمد‏:‏ فهذا من المواطن التي ظهر فيها شكر أبي بكر وشكر الناس بسببه‏.‏

ثم أخبر تعالى عن النفوس أنها إنما تموت بأجل مكتوب محتوم واحد عند الله تعالى، أي فالجبن لا يزيد فيه، والشجاعة والإقدام لا تنقص منه، وفي هذه الآية تقوية النفوس للجهاد، قال ابن فورك‏:‏ وفيها تسلية في موت النبي عليه السلام، العبارة بقوله‏:‏ ‏{‏وما كان‏}‏ قد تجيء فيما هو ممكن قريب نحو قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه‏:‏ ما كان لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله، وقد تقع في الممتنع عقلاً نحو قوله ‏{‏ما كان لكم أن تنبتوا شجرها‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 60‏]‏ فهي عبارة لا صيغة لها ولا تتضمن نهياً كما يقول بعض المفسرين، وإنما يفهم قدر معناها من قرائن الكلام الذي تجيء العبارة فيه، و«نفس» في هذه الآية‏:‏ اسم الجنس، و«الإذن» التمكين من الشيء مع العلم بالشيء المأذون فيه، فإن انضاف إلى ذلك قول فهو الأمر، وقوله‏:‏ ‏{‏كتاباً‏}‏ نصب على التمييز و‏{‏مؤجلا‏}‏ صفة‏.‏ وهذه الآية ردّ على المعتزلة في قولهم بالأجلين، وأما الانفصال عن تعلقهم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويؤخركم إلى أجل مسمى‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 4‏]‏ ونحو هذا من الآيات، فسيجيء في مواضعه إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله تعالى‏:‏

‏{‏وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الأَخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِى الشَّاكِرِينَ وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏نؤته منها‏}‏ مشروط بالمشيئة، أي نؤت من شئنا منها ما قدر له، بيّن ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 18‏]‏، وقرينة الكلام تقتضي أنه لا يؤتى شيئاً من الآخرة لأن من كانت نيته من عمله مقصورة على طلب الدنيا، فلا نصيب له في الآخرة، والأعمال بالنيات، وقرينة الكلام في قوله‏:‏ ‏{‏ومن يرد ثواب الآخر نؤته منها‏}‏ لا تمنع أن يؤتى نصيباً من الدنيا، وقرأ جمهور الناس «نؤته ونؤته وسنجزي»‏.‏ كلها بنون العظمة، وقرأ الأعمش بالياء في الثلاثة، وذلك على على حذف الفاعل لدلالة الكلام عليه، قال ابن فورك‏:‏ في قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وسنجزي الشاكرين‏}‏ إشارة إلى أنه ينعمهم بنعيم الدنيا لا أنهم يقصرون على الآخرة‏.‏

ثم ضرب تعالى المثل للمؤمنين بمن سلف من صالحي الأمم الذين لم يثنهم عن دينهم قتل الكفار لأنبيائهم فقال‏:‏ ‏{‏وكأين من نبي‏}‏ الآية، وفي ‏{‏كأين‏}‏ أربع لغات‏:‏ «كأين» على وزن كعين يفتح العين، و«كاين»، على وزن كاعن و«كأين» على وزن كعين بسكون العين وكان على وزن كعن بكسر العين، وأكثر ما استعملت العرب في أشعارها التي على وزن كاعن، فمن ذلك قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

وَكَائِنْ رَدَدْنا عَنْكُمُ مِنْ مُدْجَّجٍ *** يجيءُ أمامَ القومِ يَرْدِي مُقَنَّعَا

وقال جرير‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

وَكَائِنْ بِالأَبَاطِحِ مِنْ صَدِيقٍ *** يَرَاني لَوْ أُصِبْتُ هُوَ المُصَابَا

وقال آخر‏:‏ ‏[‏زهير‏]‏‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏‏:‏

وَكَائِنْ تَرَى مِنْ صَامِتٍ لَكَ مُعْجِب *** زِيَادَتُهُ أَوْ نَقْصُهُ في التَّكَلُّمِ

وقد جاء في اللغة التي ذكرتها أولاً قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏

كَأَيِّنْ في المَعَاشِرِ مِنْ أُنَاسٍ *** أَخْوهُمْ فَوْقَهُمْ وَهُمُ كِرَامُ

وهذه اللغة هي أصل هذه اللفظة، لأنها كاف التشبيه دخلت على «أي» كما دخلت على «ذا» في قولك لفلان كذا وكذا، وكما دخلت على «أن» في قولك كأن زيداً أسد، لكن بقي لها معنى التشبيه في كأن وزال عنها ذلك في كذا وكذا، وفي ‏{‏كأين‏}‏، وصرفت العرب ‏{‏كأين‏}‏ في معنى «كم» التي هي للتكثير، وكثر استعمالهم للفظة حتى لعب فيها لسان العرب على اللغات الأربع التي ذكرت، وهذا كما لعب في قولهم‏:‏ لعمري حتى قالوا‏:‏ وعملي، وكما قالوا‏:‏ أطيب وأيطب، وكما قالوا‏:‏ طبيخ في بطيخ، فعوملت الكاف «وأي» معاملة ما هو شيء واحد، فأما اعتلال لغة من قال‏:‏ «كأين» على وزن فاعل، فإنهم أخذوا الأصل الذين هو «كاين» فقلبوا الياء قبل الهمزة ونقلت حركة كل واحد منهما إلى أختها، فجاء «كيا» على وزن كيع، فحذفوا الياء الثانية المفتوحة تخفيفاً، كما حذفوا الياء من ميت وهين ولين فقالوا‏:‏ ميت وهين ولين، وكما حذفوا الياء الثانية من «أي» تخفيفاً ومنه قول الفرزدق بن غالب التميمي‏:‏

تنظرت نصراً والسماكين أيهما *** عليَّ من الغيث استهلت مواطره‏؟‏

فجاء «كيا» على وزن كيع، فأبدلت هذه الياء الساكنة ألفاً مراعاة للفتحة التي قبلها، كما قالوا‏:‏ في يوجل يأجل، وكما أبدلوا الياء ألفاً في «طاى» وكما أبدلت في آية عند سيبويه، إذا أصلها عنده أية على وزن فعلة بسكون العين، فجاء «كاء» ثم كتب هذا التنوين نوناً في المصحف، فأما قياس اللغة فحذفه في الوقف، فكما يقولون‏:‏ مررت بزيد فكذلك يقولون كأي، ووقف عليه أبو عمرو بياء دون نون، وكذلك روى سورة بن المبارك عن الكسائي، ووقف سائر القراء بإثبات النون مراعاة لخط المصحف، قال أبو علي‏:‏ ولو قيل إنه لما تصرف في الكلمة بالقلب صارت بمنزلة النون التي من نفس الكلمة وصارت بمنزلة لام فاعل فأقرت في الوقف، لكان قولاً، ويقوي ذلك أنهم لما حذفوا الكلام من قولهم أما لا، جعلوها بالحذف ككلمة واحدة، فأجازوا الإمالة في ألف «لا» كما تجوز في التي من نفس الكلمة في الأسماء والأفعال، فيوقف على «كأين» بالنون ولا يتوقف على النون إذا لم تقلب، كما لا تميل الألف من «لا» إذا لم يحذف فعلها‏.‏

قال الفقيه أبو محمد‏:‏ وبهذه اللغة التي فيها هذا القلب وقرأ ابن كثير وحده، وقرأ سائر السبعة باللغة التي هي الأصل «كأين»، وذهب يونس بن حبيب في «كأين» إلى أنه فاعل من الكون، وقوله مردود، إذ يلزم عنه إعراب الكلمة ولم يعربها أحد من العرب، وأما اللغة التي هي «كأين» على وزن كعين فهي قراءة ابن محيصن والأشهب العقيلي، وتعليل هذه اللغة أنه علل الأصل الذي هو «كأين» بالتعليل المتقدم، فلما جاء «كيا» على وزن كيعن، ترك هؤلاء إبدال الياء الساكنة ألفاً كما تقدم في التعليل الأول، وقلبوا الكلمة فجعلوها «كأين» على وزن كعين، وحسن هذا من وجهين‏:‏ أحدهما أن التلعب والتصرف في هذه الكلمة مهيع، والثاني أنهم راجعوا الأصل الذي هو تقديم الهمزة على الياء، وأما اللغة التي هي كان على وزن كع فهي قراءة ابن محيصن أيضاً، حكاها عنه أبو عمرو الداني، وقرأها الحسن بن أبي الحسن، إلا أنه سهل الهمزة ياء فقرأ كي في جميع القرآن، وتعليل هذه اللغة أنهم حذفوا الألف من «كاء» المدودة على وزن كاعن بعد ذلك التصرف كله تخفيفاً، وهذا كما قالوا‏:‏ أم والله، يريدون‏:‏ أما، وكما قالوا على لسان الضب ‏[‏المجتث‏]‏‏:‏

لا أشتهي أنْ أردّا *** إلاّ عراداً عردّا

وصلياناً بردّا *** وعنكثا ملتبدّا

أرادوا‏:‏ عارداً وبادراً، فحذفوا تخفيفاً، وهذا كثير في كلامهم، ‏{‏وكأين‏}‏ في هذه الآية في موضع رفع بالابتداء، وهي بمنزلة «كم» وبمعناها تعطي في الأغلب التكثير، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع‏:‏ «قُتِل»، بضم القاف وكسر التاء مخففة، وقرأ الباقون «قاتل معه» بألف بين القاف والتاء، وقرأ قتادة «قُتل» بضم القاف وكسر التاء مشددة على التكثير، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قتل‏}‏ قال فيه جماعة من المفسرين منهم الطبري‏:‏ إنه مستند إلى ضمير ‏{‏نبي‏}‏، والمعنى عندهم أن النبي قتل، قال ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وما كان لنبي أن يغل‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 161‏]‏ النبي يقتل، فكيف لا يخان، وإذا كان هذا ف ‏{‏ربيون‏}‏ مرتفع بالظرف بلا خلاف، وقوله‏:‏ ‏{‏معه ربيون‏}‏ على هذا التأويل يجوز أن يكون صفة ل ‏{‏نبي‏}‏، ويجوز أن يكون حالاً من الضمير الذي أسند إليه ‏{‏قتل‏}‏ فإن جعلته صفة أضمرت للمبتدأ الذي هو ‏{‏كأين‏}‏ خبراً تقديره في آخر الكلام‏:‏ مضى أو ذهب أو فقد‏:‏ ‏{‏فما وهنوا‏}‏ وإن جعلت ‏{‏معه ربيون‏}‏ حالاً من الضمير فخبر المبتدأ في قوله‏:‏ ‏{‏قتل‏}‏ وإذا جعلته صفة فالضمير في ‏{‏معه‏}‏ عائد على ‏{‏النبي‏}‏، وإذا جعلته حالاً فالضمير في ‏{‏معه‏}‏ عائد على الضمير ذي الحال، وعلى كلا الوجهين من الصفة أو الحال ف «معه ربيون» متعلق في الأصل بمحذوف، وليس متعلقاً ب ‏{‏قتل‏}‏ وقال الحسن بن أبي الحسن وجماعة معه‏:‏ إن ‏{‏قتل‏}‏ إنما هو مستند إلى قوله‏:‏ ‏{‏ربيون‏}‏ وهم المقتولون قال الحسن وسعيد بن جبير‏:‏ لم قتل نبي في حرب قط‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فعلى هذا القول يتعلق قوله‏:‏ ‏{‏معه‏}‏ ب ‏{‏قتل‏}‏- وهذه الجملة- ‏{‏قتل معه ربيون‏}‏، هي الابتداء ويتصور في قراءة من قرأ «قاتل» جميع ما ذكرته من التقديرات في قراءة «قتل» وأما قراءة قتادة «قتل» فقال أبو الفتح‏:‏ لا يحسن أن يسند الفعل إلا الربيين، لما فيه من معنى التكثير الذي لا يجوز أن يستعمل في قتل شخص واحد، فإن قيل‏:‏ يستند إلى نبي مراعاة لمعنى «كم» فالجواب أن اللفظ قد مشى على جهة الإفراد في قوله ‏{‏من نبي‏}‏ ودل الضمير المفرد في ‏{‏معه‏}‏ على أن المراد إنما هو التمثيل بواحد واحد، فخرج الكلام على معنى «كم» قال أبو الفتح‏:‏ وهذه القراءة تقوي قول من قال من السبعة‏:‏ إن «قتل»- بتخفيف التاء أو «قاتل» إنما يستند إلى الربيين، ورجح الطبري استناد «قتل» إلى «النبي» بدلالة نازلة محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك أن المؤمنين إنما تخاذلوا لما قيل قتل محمد- فضرب بالمثل بنبي قتل‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وإذا لم يسند الفعل إلى «نبي» فإنما يجي معنى الآية‏:‏ تثبيت المؤمنين بعد من قتل منهم فقط، وترجيح الطبري حسن، ويؤيد ذلك ما تقدم من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفإن مات أو قتل‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 144‏]‏ وحجة من قرا «قاتل» أنها أعم في المدح لأنه يدخلها فيها من قتل ومن بقي‏.‏

قال الفقيه أبو محمد‏:‏ ويحسن عندي على هذه القراءة إسناد الفعل إلى الربيين، وعلى قراءة «قتل» إسنادة إلى نبي، وأجمع السبعة وجماعة من الناس على كسر الراء من «رِبيون» وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن مسعود وابن عباس وعكرمة والحسن وأبو رجاء وعمرو بن عبيد وعطاء بن السائب‏:‏ «رُبيون» بضم الراء، وروى قتادة عن ابن عباس «رَبيون» بفتح الراء، قال ابن جني‏:‏ الفتح في الراء لغة تميم وكلها لغات، واختلف الناس في معنى ‏{‏ربيون‏}‏ فقال ابن مسعود‏:‏ الربيون الألوف من الناس والجمع الكثير، وقال ابن عباس‏:‏ ‏{‏ربيون‏}‏ جموع كثير، وقاله الحسن وقتادة وعكرمة ولقول عبد الله بن مسعود وابن عباس‏:‏ إنهم الألوف، قال بعض المفسرين‏:‏ هم عشرة آلاف فصاعداً، أخذ ذلك من بناء الجمع الكثير في قولهما‏:‏ هم الألوف وهذا في الربيين أنهم الجماعات الكثيرة هو من الرِبة بكسر الراء وهي الجماعة الكثيرة، قاله يونس بن حبيب، وقال‏:‏ إن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قتل معه ربيون‏}‏ منسوبون إليها، قال قطرب‏:‏ جماعة العلماء على قول يونس، وقال الزجّاج‏:‏ يقال‏:‏ إن الربة عشرة آلاف، وروي عن ابن عباس وعن الحسن بن أبي الحسن وغيرهما أنهم قالوا‏:‏ ‏{‏ربيون‏}‏ معناه علماء، وقال الحسن‏:‏ فقهاء علماء قال أيضاً‏:‏ علماء صبر، وهذا القول هو على النسبة إلى الرب، إما لأنهم مطيعون له، أو من حيث هم علماء بما شرع، ويقوي هذا القول في قراءة من قرأ «رَبيون» بفتح الراء وأما في ضم الراء وكسرها فيجي على تغيير النسب، كما قالوا في النسبة إلى الحرم‏:‏ حِرمي بكسر الحاء، وإلى البصرة، بصري بكسر الباء، وفي هذا نظر، وقال ابن زيد‏:‏ «الربانيون»‏:‏ الولاة، والربيون الرعية الأتباع للولاة‏.‏

قال الفقيه أبو محمد‏:‏ كان هذا من حيث هم مربوبون، وقال النقاش‏:‏ اشتقاق ربي من ربا الشي يربو إذا كثر، فسمي بذلك الكثير العلم‏.‏

قال الفقيه أبو محمد‏:‏ وهذا ضعيف، وقال مكي‏:‏ رِبي بكسر الراء منسوب إلى الرب لكن كسرت راؤه إتباعاً للكسرة والياء اللتين بعد الراء، وروي بضم الراء كذلك لكنهم ضموها كما قيل‏:‏ دُهري بضم الدال في النسب إلى الدهر، وقرأ جمهور الناس «فما وهَنوا» بفتح الهاء، وقرأ الأعمش والحسن وأبو السمال «وهِنوا» بكسر الهاء، وهما لغتان بمعنى، يقال‏:‏ وهن بكسر الهاء يوهن ووهن بفتح الهاء يهن، وقرأ عكرمة وأبو السمال أيضاً «وهْنوا» بإسكان الهاء، وهذا الوهن في قوله آنفاً ‏{‏ولا تهنوا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 139‏]‏ والضمير في قوله‏:‏ ‏{‏فما وهنوا‏}‏ عائد على جميع الربيين في قول من أسند قتل إلى نبي، ومن أسنده إلى الربيين قال في الضمير إنه يعود على من بقي منهم، إذا المعنى يفهم نفسه، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما ضعفوا‏}‏ معناه لم يتكسبوا من العجز والإلقاء باليد ما ينبي عن ضعفهم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما استكانوا‏}‏ ذهبت طائفة من النحاة إلى أنه من السكون فوزنه افتعلوا استكنوا، فمطلت فتحة الكاف فحدث من مطلها ألف، وذهب طائفة إلى أنه مأخوذ من كان يكون فوزنه على هذا الاشتقاق استفعلوا أصله استكونوا، نقلت حركة الواو إلى الكاف، وقلبت ألفاً، كما فعلوا في قولك‏:‏ استعانوا واستقاموا، والمعنى‏:‏ أنهم لم يضعفوا ولا كانوا قريباً من ذلك، كما تقول‏:‏ ما فعلت كذا ولا كدت، فتحذف لأن الكلام يدل على أن المراد، وما كدت أن أفعل، ومحبة الله تعالى للصابرين ما يظهر عليهم من نصره وتنعيمه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏148‏]‏

‏{‏فَآَتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏148‏)‏‏}‏

هذه الآية في ذكر الربيين، أي هذا كان قولهم، لا ما قاله بعضكم يا أصحاب محمد، من قول من قال‏:‏ نأخذ أماناً من أبي سفيان ومن قول من قال‏:‏ نرجع إلى ديننا الأول، ومن قول من فر، فلا شك أن قوله مناسب لفعله ولو بعض المناسبة، إلى غير ذلك مما اقتضته تلك الحال من الأقوال، وقرأ السبعة وجمهور الناس «قولَهم» بالنصب، ويكون الاسم فيما بعد ‏{‏إلا‏}‏ وقرا جماعة من القراء «قولُهم» بالرفع وجعلوا الخبر فيما بعد ‏{‏إلا‏}‏ وروى ذلك حماد بن سلمة عن ابن كثير، وأبو بكر عن عاصم، ذكره المهدوي، واستغفار هؤلاء القوم الممدوحين في هذا الموطن ينحو إلى أنهم رأوا ما نزل من مصائب الدنيا إنما هو بذنوب من البشر وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا‏}‏ عبارتان عن معنى قريب بعضه من بعض، جاء ذلك للتأكيد ولتعم مناحي الذنوب، وكذلك فسر ابن عباس وغيره، وقال الضحاك‏:‏ الذنوب عام، والإسراف في الأمر أريد به الكبائر خاصة، وقولهم‏:‏ ‏{‏وثبت أقدامنا‏}‏ يحتمل أن يجري مع ما قبله من معنى الاستغفار، فيكون المعنى‏:‏ اجعلنا دائبين على طاعتك والإيمان بك، وتثبيت القدم على هذا‏:‏ استعارة، ويحتمل أن يكون في معنى ما بعده من قوله‏:‏ ‏{‏وانصرنا على القوم الكافرين‏}‏ فيراد ثبوت القدم حقيقة في مواقف الحرب، قال ابن فورك‏:‏ في هذا الدعاء رد على القدرية، لقولهم‏:‏ إن الله لا يخلق أفعال العبد، ولو كان ذلك لم يسغ أن يدعي فيما لا يفعله‏.‏

و ‏{‏ثواب الدنيا‏}‏ في هذه الآية‏:‏ الظهور على عدوهم، قاله ابن إسحاق وقتادة وغيرهما، وقال ابن جريج‏:‏ الظفر والغنيمة، وفسر بهذا جماعة من المؤلفين في التفسير، قال النقاش‏:‏ ليس إلا الظفر والغلبة فقط، لأن الغنيمة لم تحلل إلا لهذه الأمة‏.‏

قال الفقيه الإمام‏:‏ وهذا اعتراض صحيح، ‏{‏وحسن ثواب الآخرة‏}‏ الجنة بلا خلاف، وعبر بلفظة «حسن» زيادة في الترغيب وباقي الآية بين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏149- 151‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ ‏(‏149‏)‏ بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ ‏(‏150‏)‏ سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ ‏(‏151‏)‏‏}‏

الإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏الذين كفروا‏}‏ إلى المنافقين الذين جنبوا المسلمين وقالوا في أمر- أحد- لو كان محمد نبياً لم يهزم، والذين قالوا‏:‏ قد قتل محمد فلنرجع إلى ديننا الأول، إلى نحو هذه الأقوال، ثم اللفظ يقتضي كل كافر كان في ذلك الوقت ويكون إلى يوم القيامة، نهى الله المؤمنين عن طاعتهم‏.‏

و ‏{‏بل‏}‏ ترك للكلام الأول ودخول في غيره، وقرأ جمهور الناس «بل اللهُ مولاكم» على الابتداء والخبر، وهذا تثبيت، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «بل اللهَ» بالنصب على معنى‏:‏ بل أطيعوا لله‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏سنلقي‏}‏ استعارة، إذ حقيقة الإلقاء إنما هي في الأجرام، وهذا مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين يرمون المحصنات‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 4‏]‏ ونحوه قول الفرزدق‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

هما نفثا في فيّ من فَمَوَيْهِما *** عَلى النَّابحِ الْعاوي أَشَدَّ رَجَامِ

وقرأ جمهور الناس «سنلقي» بنون العظمة، وقرأ أيوب السختياني «سيلقي» بالياء على معنى هو، وقرأ ابن عامر والكسائي «الرعُب» بضم العين حيث وقع، وقرأ الباقون «الرعْب» بسكون العين، وهذا كقولهم‏:‏ عُنُق وعنْق وكلاهما حسن فصيح، وسبب هذه الآية‏:‏ أنه لما ارتحل أبو سفيان بالكفار بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وقال‏:‏ انظر القوم، فإن كانوا قد جنبوا الخيل وركبوا الإبل فهم متشمرون إلى مكة، وإن كانوا على الخيل فهم عائدون إلى المدينة، فمضى علي فرآهم قد جنبوا الخيل فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسر وسر المسلمون، ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فتجهز واتبع المشركين يريهم الجلد، فبلغ حمراء الأسد وأن أبا سفيان قال له كفار قريش‏:‏ أحين قتلناهم وهزمناهم ولم يبق إلا الفل والطريد ننصرف عنهم‏؟‏ ارجع بنا إليهم حتى نستأصلهم فعزموا على ذلك، وكان معبد بن أبي معبد الخزاعي قد جاء إلى رسول الله عليه السلام وهو على كفره، إلا أن خزاعة كلها كانت تميل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له، والله يا محمد لقد ساءنا ما أصابك، ولوددنا أنك لم ترزأ في أصحابك، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس بما عزمت عليه قريش من الانصراف، اشتد ذلك عليهم، فسخر الله ذلك الرجل معبد بن أبي معبد، وألقى بسببه الرعب في قلوب الكفار، وذلك أنه لما سمع الخبر، ركب حتى لحق بأبي سفيان بالروحاء، وقريش قد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فلما رأى أبو سفيان معبداً قال‏:‏ ما وراءك يا معبد‏؟‏ قال‏:‏ محمد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أرى مثله قط، يتحرقون عليكم، قد اجتمع إليه من كان تخلف عنه، وندموا على ما صنعوا، قال‏:‏ ويلك ما تقول‏؟‏ قال والله ما أرى أن ترتحل حتى ترى نواصي الخيل، قال‏:‏ فوالله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل بقيتهم، قال‏:‏ فإني أنهاك عن ذلك، والله لقد حملني ما رأيت على أن قلت فيه شعراً قال وما قلت‏؟‏ قال قلت‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

كادت تُهَدُّ مِنَ الأَصْواتِ رَاحلتي *** إذ سالتِ الأرضُ بالجُرْدِ الأَبابيلِ

ترْدِي بِأُسْدٍ كِرامٍ لا تنابلةٍ *** عندَ اللقاءِ لا ميلٍ معازيلِ

فَظلْتُ عَدْواً أَظُنُّ الأَرْضَ مائلة *** لمّا سَمَوْا برئيسٍ غَيْرِ مَخْذُولِ

إلى آخر الشعر، فوقع الرعب في قلوب الكفار، وقال صفوان بن أمية‏:‏ لا ترجعوا فإني أرى أنه سيكون للقوم قتال غير الذي كان، فنزلت هذه الآية في هذا الإلقاء، وهي بعد متناولة كل كافر، ويجري معها قول النبي عليه السلام‏:‏ نصرت بالرعب مسيرة شهر، ويظهر ان هذه الفضيلة إنما أعلم عليه السلام بها بعد هذه الأحوال كلها حين امتد ظل الإسلام، قال بعض أهل العلم‏:‏ إنه لما أمر الله المؤمن بالصبر، ووعده النصر، وأخبره أن الرعب ملقى في قلوب الكفار، نقص الرعب من كل كافر جزءاً مع زيادة شجاعة المؤمن، إذ قد وعد النصر فلذلك كلف المؤمن الوقوف للكافرين، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بما أشركوا‏}‏ هذه باء السبب، والمعنى‏:‏ أن المشرك بالله نفسه مقسمة في الدنيا وليس له بالله تعالى ثقة، فهو يكره الموت ويستشعر الرعب منه، و«السلطان»، الحجة والبرهان، ثم أخبر تعالى بعاقبة الكفار في الآخرة، و«المأوى»‏:‏ مفعل من أويت إلى المكان إذا دخلته وسكنت فيه، و«المثوى»، مفعل من‏:‏ ثويت، والتقدير‏:‏ وبئس مثوى الظالمين هي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏152‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏152‏)‏‏}‏

جاءت المخاطبة في هذه الآيات بجمع ضمير المؤمنين، وإن كانت الأمور التي عاتبهم الله تعالى عليها لم يقع فيها جميعهم، ولذلك وجوه من الفصاحة‏:‏ منها وعظ الجميع وزجره، إذ من لم يفعل معد أن يفعل إن لم يزجر، ومنها الستر والإبقاء على من فعل، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وعد المؤمنين النصر يؤمئذ على خبر الله تعالى-إن صبروا وجدوا- فصدق الله الوعد أولاً، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صاف المسلمين يومئذ ورتب الرماة على ما قد ذكرناه في صدر تفسير هذه الآيات في قصة أُحد، فبارز علي بن أبي طالب أبا سعد بن أبي طلحة وهو صاحب لواء المشركين، وحمل الزبير وأبو دجانة فهزّا عسكر المشركين، ونهض رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس، فأبلى حمزة بن عبد المطلب وعاصم بن ابي الأقلح، وانهزم المشركون وقتل منهم اثنان وعشرون رجلاً فهذا معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذ تحسونهم بإذنه‏}‏ والحسن‏:‏ القتل الذريع، يقال حسهم إذا استأصلهم قتلاً، وحس البرد النبات وقال رؤبة‏:‏ ‏[‏الرجز‏]‏

إذا تَشَكَّوْا سُنَّةً حَسُوسا *** تَأْكُلُ بَعْدَ الأَخْضَرِ الْيَبِيسا

قال بعض الناس‏:‏ هو مأخوذ من الحاسة، والمعنى في حس‏:‏ أفسد الحواس‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا ضعيف، و«الإذن»‏:‏ التمكين مع العلم بالممكن منه، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى إذا فشلتم‏}‏ يحتمل أن تكون ‏{‏حتى‏}‏ غاية مجردة، كأنه قال‏:‏ إلى أن فشلتم، ويقوي هذا أن ‏{‏إذا‏}‏ بمعنى «إذ» لأن الأمر قد كان تقضى، وإنما هي حكاية حال، فتستغني ‏{‏إذا‏}‏ على هذا النظر عن جواب، والأظهر الأقوى أن ‏{‏إذا‏}‏ على بابها تحتاج إلى الجواب، وتكون حتى كأنها حرف ابتداء على نحو دخولها على الجمل، واختلف النحاة في جواب ‏{‏إذا‏}‏ فذهبت فرقة إلى أن الجواب قوله ‏{‏تنازعتم‏}‏، والواو زائدة، وحكى المهدوي عن أبي علي أنه قال‏:‏ الجواب قوله‏:‏ ‏{‏صرفكم‏}‏ و‏{‏ثم‏}‏ زائدة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا قول لا يشبه نظر أبي علي وسيبويه، والخليل وفرسان الصناعة، إن الجواب محذوف مقدر، يدل عليه المعنى، تقديره‏:‏ انهزمتم ونحوه، و«الفشل»- استشعار العجز وترك الجد، وهذا مما فعله يومئذ قوم، و«التنازع» هو الذي وقع بين الرماة، فقال بعضهم‏:‏ الغنيمة الغنيمة، الحق بنا بالمسلمين، وقال بعضهم‏:‏ بل نثبت كما أمرنا ‏{‏وعصيتم‏}‏ عبارة عن ذهاب من ذهب من الرماة حتى تمكن خالد بن الوليد من غرة المسلمين، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏من بعد ما أراكم ما تحبون‏}‏ يعني من هزم القوم، قال الزبير بن العوام‏:‏ والله لقد رأيتني أنظر إلى خدم هند بنت عتبة وصواحبها مشمرات هاربات ما دون أخذهن قليل ولا كثير، إذ مالت الرماة إلى العسكر حين كشفنا القوم عنه يريدون النهب وخلوا ظهورنا للخيل، فأتينا من أدبارنا، وصرخ صارخ‏:‏ ألا إن محمداً قد قتل، فانكفأنا وانكفأ علينا القوم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏منكم من يريد الدنيا‏}‏ إخبار عن الذين حرصوا على الغنيمة وكان المال همهم، قاله ابن عباس وسائر المفسرين، وقال عبد الله بن مسعود‏:‏ ما كنت أرى أن أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا حتى نزل فينا يوم أحد ‏{‏منكم من يريد الدنيا‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومنكم من يريد الآخرة‏}‏ إخبار عن ثبوت من الرماة مع عبد الله بن جبير امتثالاً للأمر حتى قتلوا، ويدخل في هذا أنس بن النضر وكل من جد ولم يضطرب من المؤمنين، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليبتليكم‏}‏ معناه‏:‏ لينزل بكم ذلك البلاء من القتل والتمحيص، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد عفا عنكم‏}‏ إعلام بأن الذنب كان يستحق أكثر مما نزل، وهذا تحذير، والمعنى «ولقد عفا عنكم» بأن لم يستأصلوكم، فهو بمنزلة‏:‏ ولقد أبقى عليكم، ويحتمل أن يكون إخباراً بأنه عفا عن ذنوبهم في قصة أحد، فيكون بمنزلة العفو المذكور بعد، وبالتفسير الأول قال ابن جريج وابن إسحاق وجماعة من المفسرين، وقال الحسن بن أبي الحسن‏:‏ قتل منهم سبعون، وقتل عم النبي عليه السلام وشج في وجهه وكسرت رباعيته وإنما العفو أن لم يستأصلهم، هؤلاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي سبيل الله غضاب لله، يقاتلون أعداء الله، نهوا عن شيء فضيعوه، فوالله ما تركوا حتى غموا بهذا الغم، فأفسق الفاسقين اليوم يجترم كل كبيرة، ويركب كل داهية، ويسحب عليها ثيابه، ويزعم أن لا بأس عليه فسوف يعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏153- 154‏]‏

‏{‏إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏153‏)‏ ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏154‏)‏‏}‏

‏{‏إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمَّاً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَآ أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ‏}‏

العامل في ‏{‏إذ‏}‏ قوله‏:‏ ‏{‏عفا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 152‏]‏ وقرأ جمهور الناس بضم التاء وكسر العين من «أصعد» ومعناه‏:‏ ذهب في الأرض، وفي قراءة أبي بن كعب، «إذ تصعدون في الوادي»‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ والصعيد وجه الأرض، وصعدة اسم من أسماء الأرض، فأصعد معناه‏:‏ دخل في الصعيد، كما أصبح دخل في الصباح إلى غير ذلك، والعرب تقول أصعدنا من مكة وغيرها، إذا استقبلوا سفراً بعيداً وأنشد أبو عبيدة لحادي الإبل‏:‏ ‏[‏الرجز‏]‏

قَدْ كُنْتِ تَبْكِينَ على الإصْعادِ *** فَالآنَ صرَّحَتِ وَصَاحَ الحادِي

وقرأ الحسن بن أبي الحسن وأبو عبد الرحمن واليزيد ومجاهد وقتادة «إذ تَصعَدون» بفتح التاء والعين، من صعد إذا علا، والمعنى بهذا صعود من صعد في الجبل والقراءة الأولى أكثر، وقوله تعالى ‏{‏ولا تلوون‏}‏ مبالغة في صفة الانهزام وهو كما قال دريد‏:‏

وهل يرد المنهزم شيء‏؟‏ *** وهذا أشد من قول امرئ القيس‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

أخو الْجَهْدِ لاَ يلْوي على من تَعَذَّرا *** وقرأ ابن محيصن وابن كثير في رواية شبل «إذ يصعدون ولا يلوون» بالياء فيهما على ذكر الغيب، وقرأ بعض القراء «ولا تلؤون» بهمز الواو المضمومة، وهذه لغة، وقرأ بعضهم «ولا تلون» بضم اللام وواو واحدة، وهي قراءة متركبة على لغة من همز الواو المضمومة، ثم نقلت حركة الهمزة إلى اللام وحذفت إحدى الواوين الساكنتين، وقرأ الأعمش وعاصم في رواية أبي بكر «تُلوون» بضم التاء من ألوى وهي لغة، وقرأ حميد بن قيس «على أُحُد» بضم الألف والحاء، يريد الجبل، والمعنى بذلك رسول الله عليه السلام، لأنه كان على ا لجبل، والقراءة الشهيرة أقوى لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن علىلجبل إلا بعد ما فر الناس عنه، وهذه الحال من إصعادهم إنما كانت وهو يدعوهم، وروي أنه كان ينادي‏:‏ إليَّ عباد الله، والناس يفرون‏.‏ وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏في أخراكم‏}‏ مدح للنبي عليه السلام فإن ذلك هو موقف الابطال في أعقاب الناس، ومنه قول الزبير بن باطا ما فعل مقدمتنا إذ حملنا وحاميتنا إذ فررنا، وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشجع الناس، ومنه قول سلمة بن الأكوع كنا إذا احمر البأس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأثابكم‏}‏ معناه‏:‏ جازاكم على صنيعكم، وسمي الغم ثواباً على معنى أنه القائم في هذه النازلة مقام الثواب، وهذا كقوله‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏

تَحِيَّةُ بَيْنهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ *** وكقول الآخر‏:‏ ‏[‏الفرزدق‏]‏‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

أخَافُ زِياداً أنْ يَكُونَ عَطَاؤُهُ *** أَدَاهِمَ سوداً أَوْ مُحَدْرَجَةً سُمْرا

فجعل القيود والسياط عطاء، ومحدرجة‏:‏ بمعنى مدحرجة، واختلف الناس في معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏غماً بغم‏}‏ فقال قوم‏:‏ المعنى «أثابكم غماً» بسبب الغم الذي أدخلتموه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر المؤمنين، بفشلكم وتنازعكم وعصيانكم‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فالباء على هذا باء السبب، وقال قوم‏:‏ ‏{‏أَثابكم غماً بغم‏}‏، الذي أوقع على أيديكم بالكفار يوم بدر‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فالباء باء معادلة، كما قال أبو سفيان‏:‏ يوم بيوم بدر والحرب سجال، وقالت جماعة كبيرة من المتأولين‏:‏ المعنى أثابكم غماً على غم، أو غماً مع غم، وهذه باء الجر المجرد، واختلفوا في ترتيب هذين الغمين فقال قتادة ومجاهد‏:‏ الغم الأول أن سمعوا‏:‏ ألا إن محمداً قد قتل، والثاني، القتل والجراح الواقعة فيهم، وقال الربيع وقتادة أيضاً بعكس هذا الترتيب، وقال السدي ومجاهد أيضاً وغيرهما‏:‏ بل الغم الأول هو قتلهم وجراحهم وكل ما جرى في ذلك المأزق، والغم الثاني هو إشراف أبي سفيان على النبي ومن كان معه، ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يومئذ يدعو الناس حتى انتهى إلى قوم من أصحابه قد علوا صخرة في سفح الجبل فمشى نحوهم فأهوى إليه رجل بسهم ليرميه، فقال‏:‏ أنا رسول الله، ففرحوا بذلك، وفرح هو عليه السلام إذ رأى من أصحابه الامتناع، ثم أخذوا يتأسفون على ما فاتهم من الظفر، وعلى من مات من أصحابهم فبينما هم كذلك إذ أشرف عليهم أبو سفيان من علو في خيل كثيرة، فنسوا ما نزل بهم أولاً، وأهمهم أمر أبي سفيان، فقال رسول الله عليه وسلم‏:‏ ليس لهم أن يعلونا، اللهم إن تقتل هذه العصابة لا تعبد، ثم ندب أصحابه فرموهم بالحجارة، وأغنى هنالك عمر بن الخطاب حتى أنزلوهم‏.‏ واختلفت الروايات في هذه القصة من هزيمة-أحد- اختلافاً كثيراً، وذلك أن الأمر هول، فكل أحد وصف ما رأى وسمع، قال كعب بن مالك‏:‏ أول من ميز رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا، رأيت عينيه تزهران تحت المغفر، وروي أن الخيل المستعلية إنما كانت حملة خالد بن الوليد، وأن أبا سفيان إنما دنا، والنبي عليه السلام في عرعرة الجبل، ولأبي سفيان في ذلك الموقف قول كثير، ولعمر معه مراجعة محفوظة اختصرتها إذ لا تخص الآية، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لكيلا تحزنوا على ما فاتكم‏}‏ معناه‏:‏ من الغنيمة و‏{‏ما أصابكم‏}‏ معناه‏:‏ من القتل والجرح وذل الانهزام وما نيل من نبيكم‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ واللام من قوله‏:‏ ‏{‏لكيلا‏}‏ متعلقة بأثابكم، المعنى‏:‏ لتعلموا أن ما وقع بكم إنما هو بجنايتكم، فأنتم آذيتم أنفسكم، وعادة البشر أن جاني الذنب يصبر للعقوبة، وأكثر قلق المعاقب وحزنه إنما هو مع ظنه البراءة بنفسه وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله خبير بما تعملون‏}‏ توعد‏.‏

ثم ذكر الله تعالى أمر النعاس الذي أمن به المؤمنين، فغشي أهل الإخلاص، وذلك أنه لما ارتحل أبو سفيان من موضع الحرب، قال النبي عليه السلام لعلي بحضرة أصحابه المتحيزين في تلك الساعة إليه‏:‏ اذهب فانظر إلى القوم، فإن جنبوا الخيل فهم ناهضون إلى مكة، وإن كانوا على خيلهم فهم عامدون إلى المدينة، فاتقوا الله واصبروا، ووطنهم على القتال، فمضى علي ثم رجع، فأخبر أنهم جنبوا الخيل وقعدوا على أثقالهم عجالاً، فآمن الموقنون المصدقون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وألقى الله عليهم النعاس، وبقي المنافقون والذين في قلوبهم مرض لا يصدقون، بل كان ظنهم أن أبا سفيان يؤم المدينة ولا بد، فلم يقع على أحد منهم نوم، وإنما كان همهم في أحوالهم الدنيوية، قال أبو طلحة‏:‏ لقد نمت في ذلك اليوم حتى سقط سيفي من يدي مراراً، وقال الزبير بن عوام‏:‏ لقد رفعت رأسي يوم أحد من النوم فجعلت أنظر إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فما منهم أحد إلا وهو يميل تحت جحفته، وقال ابن مسعود‏:‏ نعسنا يوم-أحد- والنعاس في الحرب أمنة من الله، والنعاس في الصلاة من الشيطان، وقرأ جمهور الناس «أمَنة» بفتح الميم، وقرأ ابن محيصن والنخعي «أمْنة» بسكون الميم، وهما بمعنى الأمن، وفتح الميم أفصح، وقوله‏:‏ ‏{‏نعاساً‏}‏ بدل، وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر «يغشي» بالياء حملاً على لفظ النعاس بإسناد الفعل إلى ضمير البدل، وقرأ حمزة والكسائي «تغشى» بالتاء حملاً على لفظ- الأمنة- بإسناد الفعل إلى ضمير المبدل منه، والواو في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وطائفة قد أهمتهم‏}‏ هي واو الحال كما تقول‏:‏ جئت وزيد قائم، قاله سيبويه وغيره قال الزجاج‏:‏ وجائز أن يكون خبر قوله ‏{‏وطائفة‏}‏ قوله- يظنون- ويكون قد أهمتهم صفة للطائفة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قد أهمتهم أنفسهم‏}‏ ذهب أكثر المفسرين قتادة والربيع وابن إسحاق وغيرهم‏:‏ إلى أن اللفظة من الهم الذي هو بمعنى الغم والحزن، والمعنى‏:‏ أن نفوسهم المريضة وظنونهم السيئة، قد جلبت إليهم الهم خوف القتل وذهاب الأموال، تقول العرب‏:‏ أهمني الشيء إذا جلب الهم، وذكر بعض المفسرين‏:‏ أن اللفظة من قولك‏:‏ هم بالشيء يهم إذا أراد فعله‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ أهمتهم أنفسهم المكاشفة‏:‏ ونبذ الدين، وهذا قول من قال‏:‏ قد قتل محمد، فلنرجع إلى ديننا الأول ونحو هذا من الأقوال‏.‏

قوله تعالى‏:‏

‏{‏يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِى أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَئ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قَلْ لَّوْ كُنتُمْ فِى بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ إِلى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِىَ اللَّهُ مَا فِى صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِى قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدوُرِ‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏غير الحق‏}‏ معناه‏:‏ يظنون أن الإسلام ليس بحق وأن أمر محمد عليه السلام يضمحل ويذهب، وقوله‏:‏ ‏{‏ظن الجاهلية‏}‏ ذهب جمهور الناس إلى أن المراد مدة الجاهلية القديمة قبل الإسلام، وهذا كما قال‏:‏ ‏{‏حمية الجاهلية‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 26‏]‏ و‏{‏تبرج الجاهلية‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 33‏]‏، وكما تقول شعر الجاهلية، وكما قال ابن عباس‏:‏ سمعت أبي في الجاهلية يقول‏:‏ اسقنا كأساً دهاقاً، وذهب بعض المفسرين إلى أنه أراد في هذه الآية ظن الفرقة الجاهلية، والإشارة إلى أبي سفيان ومن معه، والأمر محتمل، وقد نحا هذا المنحى قتادة والطبري، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يقولون هل لنا من الأمر من شيء‏}‏ حكاية كلام قالوه، قال قتادة وابن جريج‏:‏ قيل لعبد الله بن أبي ابن سلول‏:‏ قتل بنو الخزرج فقال‏:‏ «وهل لنا من الأمر من شيء»‏؟‏ يريد أن الرأي ليس لنا، ولو كان لنا منه شيء لسمع من رأينا فلم يخرج فلم يقتل أحد منا، وهذا منهم قول بأجلين، وكان كلامهم يحتمل الكفر والنفاق، على معنى‏:‏ ليس لنا من أمر الله شيء، ولا نحن على حق في اتباع محمد، ذكره المهدوي وابن فورك، لكن يضعف ذلك أن الرد عليهم إنما جاء على أن كلامهم في معنى سوء الرأي في الخروج، وأنه لو لم يخرج لم يقتل أحد، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل إن الأمر كله لله‏}‏ اعتراض أثناء الكلام فصيح، وقرأ جمهور القراء «كلَّه»- بالنصب على تأكيد الأمر، لأن «كله» بمعنى أجمع، وقرأ أبو عمرو بن العلاء «كلُّه لله» برفع كل على الابتداء والخبر، ورجح الناس قراءة الجمهور لأن التأكيد أملك بلفظة «كل»، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك‏}‏ يحتمل أن يكون إخباراً عن تسترهم بمثل هذه الأقوال التي ليست بمحض كفر، بل هي جهالة، ويحتمل أن يكون إخباراً عما يخفونه من الكفر الذي لا يقدرون أن يظهروا منه أكثر من هذه النزعات، وأخبر تعالى عنهم على الجملة دون تعيين، وهذه كانت سنته في المنافقين، لا إله إلا هو، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا‏}‏ هي مقالة سمعت من معتب بن قشير المغموص عليه بالنفاق، وقال الزبير بن العوام فيما أسند الطبري عنه‏:‏ والله لكأني أسمع قول معتب بن قشير أخي بني عمرو بن عوف، والنعاس يغشاني، ما أسمعه إلا كالحلم حين قال ‏{‏لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا‏}‏‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وكلام معتب يحتمل من المعنى ما احتمل كلام عبد الله بن أبي، ومعتب هذا ممن شهد بدراً، ذكر ذلك ابن إسحاق وغيره، وقال ابن عبد البر‏:‏ إنه شهد العقبة، وذلك وهم، والصحيح أنه لم يشهد عقبة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل لو كنتم في بيوتكم‏}‏ الآية رد على الأقوال، وإعلام بأن أجل كل امرئ إنما هو واحد، فمن لم يقتل فهو يموت لذلك الأجل على الوجه الذي قدر الله تعالى، وإذا قتل فذلك هو الذي كان في سابق الأزل، وقرأ جمهور الناس «في بُيوتكم» بضم الباء، وقرأ بعض القراء وهي بعض طرق السبعة «في بِيوتكم»، بكسر الباء، وقرأ جمهور الناس «لَبَرَز» بفتح الراء والباء على معنى‏:‏ صاروا في البراز من الأرض، وقرأ أبو حيوة «لبُرِّز» بضم الباء وكسر الراء وشدها، وقرأ جمهور الناس‏:‏ «عليهم القَتل» أي كتب عليهم في قضاء الله وتقديره، وقرأ الحسن والزهري‏:‏ «عليهم القتال» وتحتمل هذه القراءة معنى الاستغناء عن المنافقين، أي لو تخلفتم أنتم لبرز المؤمنون الموقنون المطيعون في القتال المكتوب عليهم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم‏}‏ الآية، اللام في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وليبتلي‏}‏ متعلقة بفعل متأخر تقديره وليبتلي وليمحص فعل هذه الأمور الواقعة والابتلاء هنا هو الاختبار، والتمحيص‏:‏ تخليص الشيء من غيره، والمعنى ليختبره فيعلمه علماً مساوقاً لوجوده وقد كان متقرراً قبل وجود الابتلاء أزلاً، و‏{‏ذات الصدور‏}‏ ما تنطوي عليه من المعتقدات، هذا هو المراد في هذه الآية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏155‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ‏(‏155‏)‏‏}‏

اختلف المتأولون في من المراد بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان‏}‏ فقال الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه‏:‏ المراد بها جميع من تولى ذلك اليوم عن العدو‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ يريد على جميع أنحاء التولي الذي لم يكن تحرفاً لقتال، وأسند الطبري رحمه الله قال‏:‏ خطب عمر رضي الله عنه يوم الجمعة فقرأ آل عمران، وكان يعجبه إذا خطب أن يقرأها، فلما انتهى إلى قوله ‏{‏إن الذين تولوْا منكم يوم التقى الجمعان‏}‏، قال‏:‏ لما كان يوم-أحد- هزمنا ففررت حتى صعدت الجبل، فلقد رأيتني أنزو كأني أروى، والناس يقولون قتل محمد، فقلت‏:‏ لا أجد أحداً يقول‏:‏ قتل محمد إلا قتلته، حتى اجتمعنا على الجبل فنزلت هذه الآية كلها، قال قتادة‏:‏ هذه الآية في كل من فر بتخويف الشيطان وخدعه، وعفا الله عنهم هذه الزلة، قال ابن فورك‏:‏ لم يبق مع النبي يومئذ إلا ثلاثة عشر رجلاً، أبو بكر، وعلي، وطلحة، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وسائرهم من الانصار أبو طلحة وغيره وقال السدي وغيره‏:‏ إنه لما انصرف المسلمون عن حملة المشركين عليه صعد قوم الجبل، وفر آخرون حتى أتوا المدينة، فذكر الله في هذه الآية الذين فروا إلى المدينة خاصة‏.‏

قال القاضي‏:‏ جعل الفرار إلى الجبل تحيزاً إلى فئة، وقال عكرمة‏:‏ نزلت هذه الآية فيمن فر من المؤمنين فراراً كثيراً، منهم رافع بن المعلى، وأبو حذيفة بن عتبة ورجل آخر، قال ابن إسحاق‏:‏ فر عثمان بن عفان، وعقبة بن عثمان وأخوه سعد، ورجلان من الأنصار زرقيان، حتى بلغوا الجعلب، جبل بناحية المدينة مما يلي الأعوص، فأقاموا به ثلاثة أيام، ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم‏:‏ لقد ذهبتم فيها عريضة، قال ابن زيد‏:‏ فلا أدري هل عفا عن هذه الطائفة خاصة‏؟‏ أم على المؤمنين جميعاً‏؟‏ و«استزل»- معناه طلب منهم أن يزلوا، لأن ذلك هو مقتضى وسوسته وتخويفه، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ببعض ما كسبوا‏}‏ ظاهره عند جمهور المفسرين‏:‏ أنه كانت لهم ذنوب عاقبهم الله عليها بتمكين الشيطان من استزلالهم، وبخلق ما اكتسبوه أيضاً هم من الفرار، وذهب الزجّاج وغيره‏:‏ إلى أن المعنى، أن الشيطان ذكرهم بذنوب لهم متقدمة، فكرهوا الموت قبل التوبة منها والإقلاع عنها، قال المهدوي‏:‏ بما اكتسبوا من حب الغنيمة والحرص على الحياة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ويحتمل لفظ الآية أن تكون الإشارة في قوله‏:‏ ‏{‏ببعض ما كسبوا‏}‏ إلى هذه العبرة، أي كان للشيطان في هذا الفعل الذي اكتسبوه استزلال لهم، فهو شريك في بعضه، ثم أخبر تعالى بعفوه عنهم، فتأوله جمهور العلماء على حط التبعة في الدنيا والآخرة، وكذلك تأوله عثمان بن عفان في حديثه مع عبد الله بن عدي بن الخيار، وكذلك تأوله ابن عمر في حديثه مع الرجل العراقي، وقال ابن جريج‏:‏ معنى الآية، ‏{‏عفا الله عنهم‏}‏ إذ لم يعاقبهم، والفرار من الزحف كبيرة من الكبائر بإجماع فيما علمت، وعدها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموبقات مع الشرك وقتل النفس وغيرها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏156‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏156‏)‏‏}‏

نهى الله تعالى المؤمنين عن الكون مثل الكفار والمنافقين في هذا المعتقد الفاسد، الذي هو أن من سافر في تجارة ونحوها ومن قاتل فقتل لو قعد في بيته لعاش ولم يمت في ذلك الوقت الذي عرض فيه نفسه للسفر أو للقتال، وهذا هو معتقد المعتزلة في القول بالإجلين، وهو نحو منه، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لإخوانهم‏}‏ هي أخوة نسب، لأن قتلى-أحد- كانوا من الأنصار، أكثرهم من الخزرج، ولم يكن فيهم من المهاجرين إلى أربعة، وصرح بهذه المقالة فيما ذكر السدي ومجاهد وغيرهما، عبد الله بن أبي المنافق وأصحابه، وقيل‏:‏ بل قالها جميع المنافقين، ودخلت ‏{‏إذا‏}‏ في هذه الآية وهي حرف استقبال، من حيث ‏{‏الذين‏}‏ اسم فيه إبهام يعم من قال في الماضي، ومن يقول في المستقبل، ومن حيث هذه النازلة تتصور في مستقبل الزمان، ويطرد النهي للمؤمنين فيها، فوضعت ‏{‏إذا‏}‏ لتدل على اطراد الأمر في مستقبل الزمان، وهذه فائدة وضع المستقبل موضع الماضي، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏والله يدعو إلى دار السلام‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 25‏]‏ إلى نحوها من الآيات وكما قالت‏:‏

وفينا نبي يعلم ما في غد *** كما أن فائدة وضعهم الماضي موضع المستقبل للدلالة على ثبوت الأمر، لأن صيغة الماضي متحققة الوقوع، فمن ذلك قول الشاعر‏:‏

وَإنّي لآتيكم تَشَكُّرَ ما مَضَى *** مِنَ الأَمْرِ واسْتيجَاب مَا كَانَ في غَدِ

ومنه قول الربيع‏:‏

أَصْبَحْتُ لا أَمْلِكُ السلاحَ وَلاَ *** أَمْلِكُ رَأْسَ الْبَعِيرِ إنْ نَفَرَا

و «الضرب في الأرض»‏:‏ الإبعاد في السير، ومنه ضرب الدهر ضربانه‏:‏ إذا بعدت المدة، وضرب الأرض‏:‏ هو الذهاب فيها لحاجة الإنسان خاصة بسقوط «في» وقال السدي وغيره‏:‏ في هذه الآية، الضرب في الأرض‏:‏ السير في التجارة، وقال ابن إسحاق وغيره‏:‏ بل هو السير في جمع طاعات الله ورسوله، والضرب في الأرض يعم القولين، و‏{‏غزى‏}‏‏:‏ جمع غاز، وزنه-فعل- بضم الفاء وشد العين المفتوحة كشاهد وشهد وقائل وقول، وينشد بيت رؤبة‏:‏ ‏[‏الرجز‏]‏

فالآنَ قَدْ نَهْنَهَني تَنَهْنُهِي *** وَقَوْلُ حِلْمٍ لَيْسَ بِالْمُسَفَّهِ

‏(‏وقول، الاده فلاده‏)‏ *** يريد إن لم تتب الآن فلا تتوب أبداً، وهو مثل معناه‏:‏ إن لم تكن كذا فلا تكن كذا، وقد روي، وقولهم الأده فلاده، قال سيبويه وغيره‏:‏ لا يدخل ‏{‏غزى‏}‏ الجر ولا الرفع، وقرأته عامة القراءة بتشديد الزاي، وقرأ الحسن بن أبي الحسن والزهري، «غزى» مخففة الزاي، ووجهه إما أن يريد غزاة، فحذف الهاء إخلاداً إلى لغة من يقول «غزّى» بالتشديد، وهذ الحرف كثير في كلامهم، قول الشاعر يمدح الكسائيّ‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

أَبى الذَّمُّ أَخْلاَقَ الكِسَائيّ وانتمى *** بهِ الْمَجْدُ أخْلاق الأُبُوِّ السوابقِ

يريد الأبوة جمع أب، كما أن العمومة جمع عم، والبنوة جمع ابن وقد قالوا‏:‏ ابن وبنو، وتحتمل قراءتهما أن تكون تخفيفاً للزاي من «غزى»، ونظيره قراءة علي بن أبي طالب رضي الله عنه

‏{‏وكذبوا بآياتنا كذاباً‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 28‏]‏ في قول من قال‏:‏ إنه تخفيف، وقد قيل‏:‏ إنه مصدر جرى على غير المصدر، وقرأ الحسن «وما قتّلوا» مشددة التاء، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليجعل الله ذلك‏}‏ قال مجاهد‏:‏ معناه يحزنهم قوله ولا ينفعهم‏.‏

قال القاضي‏:‏ فالإشارة في ذلك إلى هذا المعتقد الذي لهم، جعل الله ذلك حسرة، لأن الذي يتقين أن كل موت وقتل فبأجل سابق، يجد برد اليأس والتسليم لله تعالى على قلبه، والذي يعتقد أن حميمه لو قعد في بيته لم يمت، يتحسر ويتلهف، وعلى هذا التأويل مشى المتأولون، وهو أظهر ما في الآية، وقال قوم‏:‏ الإشارة بذلك إلى انتهاء المؤمنين ومخالفتهم الكافرين في هذا المعتقد، فيكون خلافهم لهم حسرة في قلوبهم، وقال قوم‏:‏ الإشارة بذلك إلى نفس نهي الله تعالى عن الكون مثل الكافرين في هذا المعتقد لأنهم إذا رأوا أن الله تعالى قد وسمهم بمعتقد وأمر بخلافهم كان ذلك حسرة في قلوبهم، ويحتمل عندي أن تكون الإشارة إلى النهي والانتهاء معاً، فتأمله «والحسرة»‏:‏ التلهف على الشيء والغم به، ثم أخبر تعالى خبراً جزماً أنه الذي ‏{‏يحيى ويميت‏}‏ بقضاء حتم، لا كما يعتقد هؤلاء، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي‏:‏ «والله بما يعملون» بالياء، فهذا وعيد للمنافقين، وقرأ الباقون «تعملون» بالتاء على مخاطبة المؤمنين، فهذا توكيد للنهي في قوله ‏{‏لا تكونوا‏}‏ ووعيد لمن خالفه ووعد لمن امتثله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏157- 160‏]‏

‏{‏وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ‏(‏157‏)‏ وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ ‏(‏158‏)‏ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ‏(‏159‏)‏ إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ‏(‏160‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ وَلَئِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ فِبَمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنَتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظَّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ‏}‏

اللام في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولئن قتلتم‏}‏ هي المؤذنة بمجيء القسم، واللام في قوله‏:‏ ‏{‏لمغفرة‏}‏ هي المتلقية للقسم، والتقدير‏:‏ والله لمغفرة، وترتب الموت قبل القتل في قوله ‏{‏ما ماتوا وما قتلوا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 156‏]‏ مراعاة لرتبة الضرب في الأرض والغزو فقدم الموت الذي هو بإزاء المتقدم الذكر وهو الضرب، وقدم القتل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولئن قتلتم‏}‏ لأنه ابتداء إخبار، فقدم الأشرف الأهم، والمعنى‏:‏ أو متم في سبيل الله، فوقع أجركم على الله، ثم قدم الموت في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولئن متم أو قتلتم‏}‏ لأنها آية وعظ بالآخرة والحشر، وآية تزهيد في الدنيا والحياة، والموت المذكور فيها هو موت على الإطلاق في السبيل وفي المنزل وكيف كان، فقدم لعمومه وأنه الأغلب في الناس من القتل، وقرأ نافع وحمزة والكسائي «مِتم» بكسر الميم و«متنا» و«مت» بالكسر في جميع القرآن وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر‏:‏ بضم الميم في جميع القرآن، وروى أبو بكر عن عاصم ضم الميم في جميع القرآن، وروى عنه حفص ضم الميم في هذين الموضعين «أو مُتم ولئن مُتم» فقط، وكسر الميم حيث ما وقعت في جميع القرآن، قال أبو علي‏:‏ ضم الميم هو الأشهر والأقيس، مت تموت مثل‏:‏ قلت تقول وطفت تطوف، والكسر شاذ في القياس وإن كان قد استعمل كثيراً، وليس كما شذ قياساً واستعمالاً كشذوذ اليجدع ونحوه، ونظير مت تموت بكسر الميم فضل بكسر الضاد يفضل في الصحيح وأنشدوا‏:‏

ذكرت ابن عباس بباب ابن عامر *** وما مر من عمري ذكرت وما فضل

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لمغفرة‏}‏ رفع بالابتداء ‏{‏ورحمة‏}‏، عطف على المغفرة و‏{‏خير‏}‏ خبر الابتداء، والمعنى‏:‏ المغفرة والرحمة اللاحقة عن القتل أو الموت في سبيل الله خير، فجاء لفظ المغفرة غير معرف إشارة بليغة إلى أن أيسر جزء منها خير من الدنيا، وأنه كاف في فوز العبد المؤمن، وتحتمل الآية أن يكون قوله ‏{‏لمغفرة‏}‏ إشارة إلى القتل أو الموت في سبيل الله، سمى ذلك مغفرة ورحمة إذ هما مقترنان به ويجيء التقدير‏:‏ لذلك مغفرة ورحمة وترتفع المغفرة على خبر الابتداء المقدر، وقوله ‏{‏خير‏}‏ صفة لخبر الابتداء، وقرأ جمهور الناس «تجمعون» بالتاء على المخاطبة وهي أشكل بالكلام، وقرأ قوم منهم عاصم فيما روى عن حفص «يجمعون» بالياء، والمعنى مما يجمعه المنافقون وغيرهم‏.‏

ثم ذكر تعالى الحشر إليه، وأنه غاية لكل أحد قتل أو مات، وفي الآية تحقير لأمر الدنيا وحض على طلب الشهادة، أي إذا كان الحشر في كلا الأمرين فالمضي إليه في حال الشهادة أولى‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فبما رحمة من الله‏}‏، معناه‏:‏ فبرحمة من الله «وما» قد جرد عنها معنى النفي ودخلت للتأكيد وليست بزائدة على الإطلاق لا معنى لها، وأطلق عليها سيبويه اسم الزيادة من حيث زال عملها، وهذه بمنزلة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فبما نقضهم ميثاقهم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 155‏]‏ قال الزجاج‏:‏ الباء بإجماع من النحويين صلة وفيه معنى التأكيد، ومعنى الآية‏:‏ التقريع لجميع من أخل يوم- أحد- بمركزه، أي كانوا يستحقون الملام منك، وأن لا تلين لهم، ولكن رحم الله جميعكم، أنت يا محمد بأن جعلك الله على خلق عظيم، وبعثك لتتمم محاسن الأخلاق، وهم بأن لينك لهم وجعلت بهذه الصفات لما علم تعالى في ذلك من صلاحهم وأنك ‏{‏لو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك‏}‏، وتفرقوا عنك، والفظ‏:‏ الجافي في منطقه ومقاطعه، وفي صفة النبي عليه السلام في الكتب المنزلة‏:‏ ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخاب في الأسواق، وقال الجواري لعمر بن الخطاب‏:‏ أنت أفظ وأغلظ من رسول الله؛ الحديث، وفظاظة عمر بن الخطاب رضي الله عنه إنما كانت مستعملة منه آلة لعضد الحق والشدة في الدين، والفظاظة‏:‏ الجفوة في المعاشرة قولاً وفعلاً ومنه قول الشاعر‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

أخشى فَظَاظَةَ عمٍّ أَوْ جَفَاءَ أخٍ *** وَكُنْتُ أَخْشَى عَلَيْهَا مِنْ أذى الْكَلِمِ

وغلظ القلب‏:‏ عبارة عن تجهم الوجه وقلة الانفعال في الرغائب وقلة الإشفاق والرحمة ومن ذلك قول الشاعر‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

يُبْكَى عَلَيْنا ولا نَبْكي على أحد *** لَنَحْنُ أَغْلَظُ أَكباداً من الإبلِ

والانفضاض‏:‏ افتراق الجموع ومنه فض الخاتم‏.‏

قوله تعالى‏:‏

‏{‏فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى الأَمْرِ فإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِى يَنصُرُكُمْ مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ‏}‏

أمر الله تعالى رسوله بهذه الأوامر التي هي بتدريج بليغ، وذلك أنه أمره بأن يعفو عليه السلام عنهم ما له في خاصته عليهم من تبعة وحق، فإذا صاروا في هذه الدرجة، أمره أن يستغفر لهم فيما لله عليهم من تبعة، فإذا صاروا في هذه الدرجة كانوا أهلاً للاسشارة في الأمور والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام، ومن لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب، هذا ما لا خلاف فيه، وقد مدح الله المؤمنين بقوله‏:‏ ‏{‏وأمرهم شورى بينهم‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 38‏]‏ وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما خاب من استخار ولا ندم من استشار، وقال عليه السلام‏:‏ المستشار مؤتمن، وصفة المستشار في الأحكام أن يكون عالماً ديناً، وقل ما يكون ذلك إلا في عاقل، فقد قال الحسن بن أبي الحسن‏:‏ ما كمل دين امرئ لم يكمل عقله، وصفة المستشار في أمور الدنيا أن يكون عاقلاً مجرباً واداً في المستشير، والشورى بركة، وقد جعل عمر بن الخطاب الخلافة- وهي أعظم النوازل- شورى، وقال الحسن‏:‏ والله ما تشاور قوم بينهم إلا هداهم الله لأفضل ما بحضرتهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه، وقد قال في غزوة بدر‏:‏ أشيروا عليّ أيها الناس، في اليوم الذي تكلم فيه المقداد، ثم سعد بن عبادة، ومشاورته عليه السلام إنما هي في أمور الحرب والبعوث ونحوه من أشخاص النوازل، وأما في حلال أو حرام أو حد فتلك قوانين شرع‏.‏

‏{‏ما فرطنا في الكتاب من شيء‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 38‏]‏ وكأن الآية نزلت مؤنسة للمؤمنين، إذ كان تغلبهم على الرأي في قصة- أحد- يقتضي أن يعاقبوا بأن لا يشاوروا في المستأنف، وقرأ ابن عباس «وشاورهم في بعض الأمر» وقراءة الجمهور إنما هي باسم الجنس الذي يقع للبعض وللكل، ولا محالة أن اللفظ خاص بما ليس من تحليل وتحريم، والشورى مبينة على اختلاف الآراء، والمستشير ينظر في ذلك الخلاف ويتخير، فإذا أرشده الله تعالى إلى ما شاء منه، عزم عليه وأنفذه متوكلاً على الله، إذ هي غاية الاجتهاد المطلوب منه، وبهذا أمر تعالى نبيه في هذه الآية، وقرأ جابر بن زيد وأبو نهيك وجعفر بن محمد وعكرمة «عزمتُ»- بضم التاء سمى الله تعالى إرشاده وتسديده عزماً منه، وهذا في المعنى نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لتحكم بين الناس بما أراك الله‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 105‏]‏ ونحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 17‏]‏ فجعل تعالى هزمه المشركين بحنين وتشويه وجوههم رمياً، إذ كان ذلك متصلاً برمي محمد عليه السلام بالحصباء‏.‏ وقد قالت أم سلمة ثم عزم الله لي، والتوكل على الله تعالى من فروض الإيمان وفصوله، ولكنه مقترن بالجد في الطاعة والتشمير والحزامة بغاية الجهد‏:‏ وليس الإلقاء باليد وما أشبهه بتوكل، وإنما هو كما قال عليه السلام‏:‏ قيدها وتوكل‏.‏

ثم ثبت تعالى المؤمنين بقوله‏:‏ ‏{‏إن ينصركم الله فلا غالب لكم‏}‏ أي فالزموا الأمور التي أمركم بها ووعدكم النصر معها، و«الخذل»‏:‏ هو الترك في مواطن الاحتياج إلى التارك، وأصله من خذل الظباء، وبهذا قيل لها‏:‏ خاذل إذ تركتها أمها، وهذا على النسب أي ذات خذل لأن المتروكة هي الخاذل بمعنى مخذولة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن ذا الذي ينصركم‏}‏ تقدير جوابه‏:‏ لا من- والضمير في ‏{‏بعده‏}‏ يحتمل العودة على المكتوبة، ويحتمل العودة على الخذل الذي تضمنه قوله ‏{‏إن يخذلكم‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏161- 163‏]‏

‏{‏وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏161‏)‏ أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏162‏)‏ هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ‏(‏163‏)‏‏}‏

تقدم القول في صيغة‏:‏ وما كان لكذا أن يكون كذا، في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كان لنفس أن تموت‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 145‏]‏ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم «يغُل» بفتح الياء وضم الغين، وبها قرأ ابن عباس وجماعة من العلماء، وقرأ باقي السبعة «أن يُغَل» بضم الياء وفتح الغين، وبها قرأ ابن مسعود وجماعة من العلماء، واللفظة‏:‏ بمعنى الخيانة في خفاء، قال بعض اللغويين هي مأخوذة من الغلل وهو الماء الجاري في أصول الشجر والدوح، قال أبو عمرو‏:‏ تقول العرب‏:‏ أغل الرجل يغل إغلالاً‏:‏ إذا خان، ولم يؤد الأمانة، ومنه قول النمر بن تولب‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

جزى اللَّهُ عنّي جَمْرَة َ ابْنَةَ نَوْفَلٍ *** جزاءَ مُغِلًّ بالأمانةِ كاذبِ

وقال شريح‏:‏ ليس على المستعير غير المغل ضمان، قال أبو علي‏:‏ وتقول من الغل الذي هو الضغن‏:‏ غل يغِل بكسر الغين، ويقولون في الغلول من الغنيمة، غل يغُل بضم الغين، والحجة لمن قرأ يغل أن ما جاء من هذا النحو في التنزيل أسند الفعل فيه إلى الفاعل على نحو ‏{‏ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 38‏]‏ ‏{‏وما كان ليأخذ أخاه في دين الملك‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 76‏]‏ ‏{‏وما كان لنفس أن تموت‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 145‏]‏ ‏{‏وما كان الله ليضل قوماً بعد أن هداهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 115‏]‏ ‏{‏وما كان الله ليطلعكم على الغيب‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 179‏]‏ ولا يكاد يجيء‏:‏ ما كان زيد ليضرب، فيسند الفعل فيه إلى المفعول به، وفي هذا الاحتجاج نظر، وروي عن ابن عباس أنه قرأ «يغُل» بضم الغين، فقيل له‏:‏ إن ابن مسعود قرأ «يغَل» بفتح الغين، فقال ابن عباس‏:‏ بلى والله ويقتل، واختلف المفسرون في السبب الذي أوجب أن ينفي الله تعالى عن النبي أن يكون غالاً على هذه القراءة- التي هي بفتح الياء وضم الغين، فقال ابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير وغيرهم‏:‏ نزلت بسبب قطيفة حمراء فقدت من المغانم يوم بدر، فقال بعض من كان مع النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لعل رسول الله أخذها فنزلت الآية‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ قيل‏:‏ كانت هذه المقالة من مؤمنين لم يظنوا أن في ذلك حرجاً، وقيل كانت من منافقين، وقد روي أن المفقود إنما كان سيفاً، قال النقاش‏:‏ ويقال‏:‏ إنما نزلت لأن الرماة قالوا يوم أحد‏:‏ الغنيمة الغنيمة أيها الناس، إنما نخشى أن يقول النبيُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ من أخذ شيئاً فهو له، فلما ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، قال‏:‏ خشيتم أن نغل‏؟‏ ونزلت هذه الآية، وقال الضحاك‏:‏ بل السبب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث طلائع في بعض غزواته ثم غنم قبل مجيئهم، فقسم للناس ولم يقسم لطلائع، فأنزل الله تعالى عليه عتاباً، ‏{‏وما كان لنبي أن يغل‏}‏ أي يقسم لبعض ويترك بعضاً، وروي نحو هذا القول عن ابن عباس، ويتجه على هذا أن تكون الآية إعلاماً بعدل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقسمه للغنائم، ورداً على الأعراب الذين صاحوا به‏:‏ اقسم علينا غنائمنا يا محمد، وازدحموا حتى اضطروه إلى السمرة التي أخذت رداءه، ونحا إليه الزجّاج، وقال ابن إسحاق‏:‏ الآية إنما نزلت إعلاماً بأن النبي عليه السلام لم يكتم شيئاً ما أمر بتبليغه‏.‏

قال القاضي‏:‏ وكأن الآية على هذا في قصة- أحد- لما نزل عليه‏:‏ ‏{‏وشاورهم في الأمر‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 159‏]‏ إلى غير ذلك مما استحسنوه بعد إساءتهم من العفو عنهم ونحوه، وبالجملة فهو تأويل ضعيف، وكان يجب أن يكون «يُغِل» بضم الياء وكسر الغين، لأنه من الإغلال في الأمانة، وأما قراءة من قرأ «أن يُغَل» بضم الياء وفتح الغين، فمعناها عند جمهور من أهل العلم‏:‏ أن ليس لأحد أن يغله‏:‏ أي يخونه في الغنيمة، فالآية في معنى نهي الناس عن الغلول في المغانم والتوعد عليه، وخص النبي بالذكر وإن كان ذلك محظوراً مع الأمراء لشنعة الحال مع النبي صلى الله عليه وسلم، لأن المعاصي تعظم مع حضرته لتعين توقيره، والولاة هم عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فلهم حظهم من التوقير، وقال بعض الناس‏:‏ معنى «أن يغل» أن يوجد غالاً، كما تقول‏:‏ أحمدت الرجل وجدته محموداً، فهذه القراءة على هذا التأويل ترجع إلى معنى «يغُل» بفتح الياء وضم الغين، وقال أبو علي الفارس‏:‏ معنى «يُغَل» بضم الياء وفتح الغين يقال له‏:‏ غللت وينسب إلى ذلك، كما تقول أسقيته، إذا قلت‏:‏ سقاك الله كما قال ذو الرمة‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

وَأُسْقيهِ حتى كاد مِمّا أَبُثُّهُ *** تُكَلِّمُني أحْجَارُه وَمَلاعِبُهْ

وهذا التأويل موقر للنبي عليه السلام، ونحوه في الكلام‏:‏ أكفرت الرجل إذا نسبته إلى الكفر، وقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه‏:‏ لا آكل سمناً حتى يحياً الناس من أول ما يحيون‏:‏ أي دخلون في الحيا وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يغلل يأتِ بما غل يوم القيامة‏}‏ وعيد لمن يغل من الغنيمة، أو في زكاته، فيجحدها ويمسكها، فالفضيحة يوم القيامة بأن يأتي على رؤوس الأشهاد بالشيء الذي غل في الدنيا، وروى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب فقال‏:‏ «ألا يخشى رجل منكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء، يقول‏:‏ يا رسول الله أغثني، فأقول‏:‏ لا أملك لك من الله شيئاً قد أبلغتك، ثم ذكر ذلك عليه السلام في بقرة لها خوار وجمل له رغاء، وفرس له حمحمة»

، وروى نحو هذا الحديث ابن عباس، قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا أعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل شاة لها ثغاء، الحديث بطوله، وروى نحوه أبو حميد الساعدي وعمر بن الخطاب وعبد الله بن أنيس، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أدوا الخياط والمخيط، فقام رجل فجاء بشراك أو شراكين، فقال رسول الله صلى الله عليه سلم‏:‏ شراك أو شراكان من نار، وقال في مدعم، إن الشملة التي غل من المغانم يوم خيبر لتشتعل عليه ناراً»‏.‏

قال القاضي‏:‏ وهذه الفضيحة التي يوقع الله بالغالّ، هي نظيرة الفضيحة التي توقع بالغادر، في أن ينصب له لواء بغدرته حسب قوله عليه السلام، وجعل الله هذه المعاقبات حسبما يعهده البشر ويفهمونه، ألا ترى إلى قول الحارد‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏

أسُمَيَّ وَيْحَكِ هَلْ سَمِعْتِ بِغَدْرَةٍ *** رفع اللِّواء لَنَا بِهَا في الْمَجمَعِ

وكانت العرب ترفع للغادر لواء، وكذلك يطاف بالجاني مع جنايته، وقد تقدم القول في نظير، ‏{‏ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 281‏]‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفمن اتبع رضوان الله‏}‏ الآية، توقيف على تباين المنزلتين وافتراق الحالتين، والرضوان‏:‏ مصدر، وقرأه عاصم- فيما روي عنه- بضم الراء- وقرأ جميعهم بكسرها، وحكى أبو عمرو الداني عن الأعمش، أنه قرأها- بكسر الراء وضم الضاد، وهذا كله بمعنى واحد مصدر من الرضى، والمعنى، اتبعوا الطاعة الكفيلة برضوان الله، ففي الكلام حذف مضاف، و‏{‏باء بسخط‏}‏- معناه‏:‏ مضى متحملاً له، والسخط‏:‏ صفة فعل، وقد تتردد متى لحظ فيها معنى الإرادة، وقال الضحاك‏:‏ إن هذه الآية مشيرة إلى أن من لم يغل واتقى فله الرضوان، وإلى أن من غل وعصى فله السخط، وقال غيره‏:‏ هي مشيرة إلى أن من استشهد- بأحد- فله الرضوان، وإلى المنافقين الراجعين عن النبي صلى الله عليه وسلم فلهم السخط، وباقي الآية بّين‏.‏

واختلف المفسرون في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هم درجات‏}‏ من المراد بذلك‏؟‏ فقال ابن إسحاق وغيره‏:‏ المراد بذلك الجمعان المذكوران، أهل الرضوان وأصحاب السخط، أي لكل صنف منهم تباين في نفسه في منازل الجنة، وفي أطباق النار أيضاً، وقال مجاهد والسدي ما ظاهره‏:‏ إن المراد بقوله ‏{‏هم‏}‏ إنما هو لمتبعي الرضوان، أي لهم درجات كريمة عند ربهم، وفي الكلام حذف مضاف تقديره «هم درجات» والدرجات المنازل بعضها أعلى من بعض في المسافة أو في التكرمة، أو العذاب، وقرأ إبراهيم النخعي «هم درجة» بالإفراد، وباقي الآية وعيد ووعد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏164- 165‏]‏

‏{‏لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏164‏)‏ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏165‏)‏‏}‏

اللام في ‏{‏لقد‏}‏ لام القسم، و‏{‏منّ‏}‏ في هذه الآية معناه‏:‏ تطول وتفضل، وقد يقال‏:‏ منّ بمعنى‏:‏ كدرمعروفه بالذكر فهي لفظة مشتركة‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏من أنفسهم‏}‏ معناه في الجنس واللسان والمجاورة فكونه من الجنس يوجب الأنس به وقلة الاستيحاش منه، وكونه بلسانهم يوجب حسن التفهيم وقرب الفهم، وكونه جاراً وربياً يوجب التصديق والطمأنينة، إذ قد خبروه وعرفوا صدقه وأمانته فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسب قومه، وكذلك الرسل، قال النقاش‏:‏ ليس في العرب قبيلة إلى وقد ولدت رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل أمهاتهم إلا بني تغلب لنصرانيتهم، والآيات في هذه الآية، يحتمل أن يراد بها القرآن ويحتمل أن يراد بها العلامات، والأول أظهر، ‏{‏ويزكيهم‏}‏ معناه‏:‏ يطهرهم من دنس الكفر والمعاصي، قال بعض المفسرين‏:‏ معناه يأخذ منهم الزكاة، وهذا ضعيف، و‏{‏الكتاب‏}‏‏:‏ القرآن، ‏{‏والحكمة‏}‏، السنة المتعلمة من لسانه عليه السلام، ثم ذكر حالتهم الأولى من الضلال ليظهر الفرق بتجاور الضدين- وقيل‏:‏ لفظة مبنية لما تضمنت الإضافة، فأشبهت الحروف في تضمن المعاني فبنيت‏.‏

ثم وقف تعالى المؤمنين على الخطا في قلقهم للمصيبة التي نزلت بهم وإعراضهم عما نزل بالكفار، وعرفهم أن ذلك لسبب أنفسهم، والواو في قوله‏:‏ ‏{‏أولما‏}‏ عطف جملة على جملة دخلت عليها ألف التقرير على معنى إلزام المؤمنين هذه المقالة في هذه الحال، والمصيبة التي نالت المؤمنين هي‏:‏ قصد- أحد- وقتل سبعين منهم، واختلف في المثلين اللذين أصاب المؤمنين فقال قتادة والربيع‏:‏ وابن عباس وجمهور المتأولين‏:‏ ذلك في يوم بدر، قتل المؤمنون من كفار قريش سبعين وأسروا سبعين، وقال الزجّاج‏:‏ أحد المثلين‏:‏ هو قتل السبعين يوم بدر، والثاني‏:‏ هو قتل اثنين وعشرين من الكفار يوم- أحد- فهو قتل بقتل، ولا مدخل للأسرى في هذه الآية، هذا معنى كلامه، لأن أسارى بدر أسروا ثم فدوا، فلا مماثلة بين حالهم وبين قتل سبعين من المؤمنين، و‏{‏أَنّى‏}‏-معناها‏:‏ كيف ومن أين‏؟‏ ثم أمر تعالى نبيه عليه السلام أن يقول لهم‏:‏ ‏{‏هو من عند أنفسكم‏}‏، واختلف الناس كيف هو من عند أنفسهم ولأي سبب‏؟‏ فقال الجمهور من المفسرين‏:‏ لأنهم خالفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرأي حين رأى أن يقيم بالمدينة ويترك كفار قريش بشر محبس فأبوا إلا الخروج حتى جرت القصة، وقالت طائفة‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من عند أنفسكم‏}‏ إشارة إلى عصيان الرماة وتسبيبهم الهزيمة على المؤمنين‏.‏ وقال الحسن وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما‏:‏ بل ذلك لما قبلوا الفداء يوم بدر، وذلك أن علياً بن أبي طالب رضي الله عنه قال‏:‏ لما فرغت هزيمة المشركين ببدر جاء جبريل عليه السلام إلى النبي عليه السلام فقال‏:‏ يا محمد إن الله قد كره ما يصنع قومك في أخذ الأسارى، وقد أمرك أن تخيرهم بين أمرين‏:‏ أن يقدموا الأسارى فتضرب أعناقهم، أو يأخذوا الفداء، على أن يقتل من أصحابك عدة هؤلاء الأسارى، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فذكر ذلك لهم فقالوا‏:‏ يا رسول الله، عشائرنا وإخواننا، بل نأخذ فداءهم فنتقوى به على قتال عدونا ويستشهد منا عدتهم، فليس في ذلك ما نكره، قال‏:‏ فقتل منهم يوم أحد- سبعون رجلاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏166- 167‏]‏

‏{‏وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏166‏)‏ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ ‏(‏167‏)‏‏}‏

الخطاب بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أصابكم‏}‏ للمؤمنين، و‏{‏الجمعان‏}‏ هما عسكر النبي صلى الله عليه وسلم وعسكر قريش يوم-أحد- ودخلت الفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فبإذن الله‏}‏ رابطة مشددة، وذلك للإبهام الذي في ‏{‏ما‏}‏ فأشبه الكلام الشرط، وهذا كما قال سبيويه‏:‏ الذي قام فله درهمان، فيحسن دخول الفاء إذا كان القيام سبب الإعطاء، وكل ترتيب هذه الآية، فالمعنى إنما هو، وما أذن الله فيه فهو الذي أصاب، لكن قدم الأهم في نفوسهم والأقرب إلى حسهم، والإذن‏:‏ التمكين من الشيء مع العلم به، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وليعلم‏}‏ معناه‏:‏ ليكون العلم مع وجود المؤمنين والمنافقين‏:‏ أي مساوقين للعلم الذي لم يزل ولا يزال واللام في قوله‏:‏ ‏{‏ليعلم‏}‏ متعلقة بفعل مقدر في آخر الكلام، والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏نافقوا‏}‏ وقيل لهم هي إلى عبد الله بن أبي وأصحابه الذين انصرفوا معه عن النبي صلى الله عليه وسلم يوم- أحد- وذلك أنه كان من رأي عبد الله بن أبي أن لا يخرج إلى كفار قريش، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس على الوجه الذي قد ذكرناه، قال عبد الله بن أبي أطاعهم وعصاني، فانخذل بنحو ثلث الناس، فمشى في أثرهم عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري أبو جابر بن عبد الله فقال لهم‏:‏ اتقوا الله ولا تتركوا نبيكم وقاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا، أو نحو هذا من القول، فقال له ابن أبي‏:‏ ما أرى أن يكون قتال، ولو علمنا أن يكون قتال لكنا معكم، فلما يئس منهم عبد الله قال‏:‏ اذهبوا أعداء الله، فسيغني الله رسوله عنكم، ومضى مع النبي صلى الله عليه وسلم فاستشهد، واختلف الناس في معنى قوله‏:‏ ‏{‏أو ادفعوا‏}‏ فقال السدي وابن جريج وغيرهما معناه‏:‏ كثروا السواد وإن لم تقاتلوا، فيندفع القوم لكثرتكم، وقال أبو عون الأنصاري‏:‏ معناه رابطوا، وهذا قريب من الأول، ولا محالة أن المرابط مدافع، لأنه لولا مكان المرابطين في الثغور لجاءها العدو، والمكثر للسواد مدافع، وقال أنس بن مالك‏:‏ رأيت يوم القادسية عبد الله ابن أم مكتوم الأعمى، وعليه درع يجر أطرافها وبيده راية سوداء، فقيل له‏:‏ أليس قد أنزل الله عذرك‏؟‏ قال‏:‏ بلى، ولكني أكثر المسلمين بنفسي، وروي أنه قال‏:‏ فكيف بسوادي في سبيل الله، وذهب بعض المفسرين إلى أن قول عبد الله بن عمرو‏:‏ ‏{‏أو ادفعوا‏}‏، إنما هو استدعاء القتال حمية، لأنه دعاهم إلى القتال في سبيل الله، وهو أن تكون كلمة الله هي العليا، فلما رأى أنهم ليسوا أهل ذلك، عرض عليهم الوجه الذي يحشمهم ويبعث الأنفة، أي أو قاتلوا دفاعاً عن الحوزة، ألا ترى أن قزمان قال‏:‏ والله ما قاتلت إلا على أحساب قومي، وألا ترى أن بعض الأنصار قال يوم- أحد- لما رأى قريشاً قد أرسلت الظهر في زروع قناة قال‏:‏ أترعى زروع بني قيلة ولما نضارب‏؟‏ وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر أن لا يقاتل أحد حتى يأمره بالقتال، فكأن عبد الله بن عمرو بن حرام دعاهم إلى هذا المقطع العربي الخارج عن الدين والقتال في سبيل الله، وذهب جمهور المفسرين إلى أن قوله‏:‏ ‏{‏أقرب‏}‏ مأخوذ من القرب ضد البعد، وسددت- اللام- في قوله‏:‏ ‏{‏للكفر‏}‏، و‏{‏للإيمان‏}‏- مسد إلى، وحكى النقاش‏:‏ أن قوله ‏{‏أقرب‏}‏ مأخوذ من القرب بفتح القاف والراء وهو الطلب، والقارب طالب الماء، وليلة القرب ليلة الورد، فاللفظة بمعنى أطلب، واللام متمكنة على هذا القول، وقوله‏:‏ ‏{‏بأفواههم‏}‏ تأكيد، مثل يطير بجناحيه، وقوله‏:‏ ‏{‏ما ليس في قلوبهم‏}‏ يريد ما يظهرون من الكلمة الحاقنة لدمائهم، ثم فضحهم تعالى بقوله‏:‏ ‏{‏والله أعلم بما يكتمون‏}‏ أي من الكفر وعداوة الدين وفي الكلام توعد لهم‏.‏