فصل: تفسير الآيات رقم (186- 187)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏168- 169‏]‏

‏{‏الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏168‏)‏ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ‏(‏169‏)‏‏}‏

‏{‏الذين‏}‏ بدل من «الذين» المتقدم، و«إخوانهم» المقتولون من الخزرج وهي أخوة نسب ومجاورة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لإخوانهم‏}‏ معناه لأجل إخوانهم وفي شأن إخوانهم، ويحتمل أن يكون قوله‏:‏ ‏{‏لإخوانهم‏}‏ للأحياء من المنافقين، ويكون الضمير في ‏{‏أطاعونا‏}‏ هو للمقتولين، وقوله‏:‏ ‏{‏وقعدوا‏}‏ جملة في موضع الحال وهي حالة معترضة أثناء الكلام، وقوله‏:‏ ‏{‏لو أطاعونا‏}‏ يريد في أن لا يخرجوا إلى قريش، وقرأ الحسن بن أبي الحسن‏:‏ «ما قتّلوا» بشد التاء، وهذا هو القول بالأجلين، فرد الله تعالى عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏قل فادرؤوا‏}‏ الآية، والدرء الدفع ومنه قول دغفل النسابة‏:‏ ‏[‏الرجز‏]‏

صَادَفَ دَرْءُ السَّيْلِ درءاً يَدْفَعُهْ *** وَالْعِبءُ لا تَعْرفُهُ أَوْ تَرْفَعُه

ولزوم هذه الحجة هو أنكم أيها القائلون‏:‏ إن التوقي واستعمال النظر يدفع الموت، فتوقوا وانظروا في الذي يغشاكم منه حتف أنوفكم، فادفعوه إن كان قولكم صدقاً، أي إنما هي آجال مضروبة عند الله‏.‏

وقرأ جمهور القراء‏:‏ «ولا تحسبن» بالتاء مخاطبة للنبي عليه السلام، وقرأ حميد بن قيس، «ولا يحسبن» بالياء على ذكر الغائب، ورويت عن ابن عمر وذكره أبو عمرو وكأن الفاعل مقدر‏:‏ ولا يحسبن أحد أو حاسب، وأرى هذه القراءة بضم الباء فالمعنى‏:‏ ولا يحسب الناس، ويحسبن، معناه يظن، وقرأ الحسن‏:‏ «الذين قتّلوا»، بشد التاء، وابن عامر من السبعة، وروي عن عاصم أنه قرأ‏:‏ «الذين قاتلوا» بألف بين القاف والتاء، وأخبر الله تعالى في هذه الآية عن الشهداء‏:‏ أنهم في الجنة يرزقون، هذا موضع الفائدة، ولا محالة أنهم ماتوا وأن أجسادهم في التراب وأرواحهم حية كأرواح سائر المؤمنين وفضلوا بالرزق في الجنة من وقت القتل، حتى كأن حياة الدنيا دائمة لهم، قال الحسن بن أبي الحسن‏:‏ ام زال ابن آدم يتحمد حتى صار حياً لا يموت بالشهادة في سبيل الله، فقوله‏:‏ ‏{‏بل أحياء‏}‏ مقدمة قوله‏:‏ ‏{‏يرزقون‏}‏ إذ لا يرزق إلا الحي، وهذا كما تقول لمن ذم رجلاً‏:‏ بل هو رجل فاضل، فتجيء باسم الجنس الذي تركب عليه الوصف بالفضل، وقرأ جمهور الناس‏:‏ «بل أحياءٌ» بالرفع على خبر ابتداء مضمر، أي هم أحياء، وقرأ ابن أبي عبلة، «بل أحياءً» بالنصب، قال الزجّاج‏:‏ ويجوز النصب على معنى بل أحسبهم أحياء، قال أبو علي في الاغفال‏:‏ ذلك لا يجوز لأن الأمر يقين فلا يجوز أن يؤمر في بمحسبة، ولا يصح أن يضمر له إلا فعل المحسبة‏.‏

قال القاضي‏:‏ فوجه قراءة ابن أبي عبلة أن تضمر فعلاً غير المحسبة، اعتقدهم أو اجعلهم وذلك ضعيف إذ لا دلالة في الكلام على ما يضمر، وقوله ‏{‏عند ربهم‏}‏ فيه حذف مضاف تقديره‏:‏ عند كرامة ربهم، لأن ‏{‏عند‏}‏ تقتضي غاية القرب، ولذلك لم تصغر قاله سيبويه، وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ أرواح الشهداء على نهر بباب الجنة يقال له بارق، يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشياً، وروي عنه عليه السلام أنه قال‏:‏ أرواح الشهداء في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها‏.‏

قال القاضي رحمه الله‏:‏ وهؤلاء طبقات وأحوال مختلفة، يجمعها أنهم يرزقون، وقال عليه السلام‏:‏ إنام نسمة المؤمن طير تعلق في ثمار الجنة، ويروى يعلق بفتح اللام وبالياء، والحديث معناه في الشهداء خاصة، لأن أرواح المؤمنين غير الشهداء، إنما ترى مقاعدها من الجنة دون أن تدخلها، وأيضاً فإنها لا ترزق، وتعلق معناه‏:‏ تصيب العلقة من الطعام، وفتح اللام هو من التعلق، وقد رواه القراء في إصابة العلقة، وروي عن النبي عليه السلام أنه قال‏:‏ «إن الله تعالى يطلع إلى الشهداء فيقول‏:‏ يا عبادي ما تشتهون فأزيدكم‏؟‏ فيقولون يا ربنا لا فوق ما أعطيتنا، هذه الجنة نأكل منها حيث نشاء، لكنا نريد أن تردنا إلى الدنيا فنقاتل في سبيلك فنقتل مرة أخرى، فيقول تعالى‏:‏ قد سبق أنكم لا تردون»، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجابر بن عبد الله‏:‏ «ألا أبشرك يا جابر‏؟‏» قال جابر‏:‏ قلت بلى يا رسول الله، قال‏:‏ «إن أباك حيث أصيب- بأحد- أحياه الله، ثم قال‏:‏ ما تحب يا عبد الله بن عمرو أن أفعل بك‏؟‏ قال‏:‏ يا رب أحب أن تردني إلى الدنيا فأقاتل فيك فأقتل مرة أخرى»، وقال قتادة رحمه الله‏:‏ ذكر لنا أن رجالاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا‏:‏ ليتنا نعلم ما فعل إخواننا الذين أصيبوا-بأحد- فنزلت هذه الآية وقال محمد بن قيس بن مخرمة في حديث إن الشهداء قالوا يا ربنا ألا رسول يخبر نبينا عنا بما أعطيتنا‏؟‏ فقال الله تعالى‏:‏ أنا رسولكم، فنزل جبريل بهذه الآية وكثرت هذه الأحاديث في هذا المعنى، واختلفت الروايات وجميع ذلك جائز على ما اقتضبته من هذه المعاني وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فرحين‏}‏ نصب في موضع الحال وهو من الفرح بمعنى السرور، و«الفضل» في هذه الآية‏:‏ التنعيم المذكور‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏170- 172‏]‏

‏{‏فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏170‏)‏ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏171‏)‏ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ ‏(‏172‏)‏‏}‏

‏{‏يستبشرون‏}‏ معناه‏:‏ يسرون ويفرحون، وليست استفعل في هذا الموضع بمعنى طلب البشارة، بل هي بمعنىستغنى الله واستمجد المرخ والعفار، وذهب قتادة والربيع وابن جريج وغيرهم‏:‏ إلى أن هذا الاستبشار إنما هو بأنهم يقولون‏:‏ إخواننا الذين تركناهم خلفنا في الدنيا يقاتلون في سبيل الله مع نبيهم فيستشهدون فينالون من الكرامة مثل ما نحن فيه فيسرون لهم بذلك، إذ يحصلون لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وذهب فريق من العلماء وأشار إليه الزجّاج وابن فورك‏:‏ إلى أن الإشارة في قوله‏:‏ ‏{‏بالذين لم يلحقوا‏}‏ إلى جميع المؤمنين، أي لم يلحقوا بهم في فضل الشهادة لكن الشهداء لما عاينوا ثواب الله، وقع اليقين بأن دين الإسلام هو الحق الذي يثيب الله عليه، فهم فرحون لأنفسهم بما آتاهم الله من فضله، ‏{‏ويستبشرون‏}‏ للمؤمنين بأنهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون «، و‏{‏ألا‏}‏ مفعول من أجله، التقدير، بأن لا خوف، ويجوز أن يكون في موضع خفض بدل اشتمال‏.‏

ثم أكد تعالى استبشارهم بقوله‏:‏ ‏{‏يستبشرون بنعمة‏}‏ ثم بين تعالى بقوله‏:‏ ‏{‏وفضل‏}‏ فوقع إدخاله إياهم الجنة الذي هو فضل منه لا بعمل أحد، وأما النعمة في الجنة والدرجات فقد أخبر أنها على قدر الأعمال، وقرأ الكسائي وجماعة من أهل العلم‏:‏» وإن الله «- بكسر الألف من» أن «، وقرأ باقي السبعة وجمهور العلماء‏:‏» وأن الله «- بفتح الألف، فمن قرأ بالفتح فذلك داخل فيما يستبشر به، المعنى، بنعمة وبأن الله، ومن قرأ بالكسر فهو إخبار مستأنف، وقرأ عبد الله» وفضل الله لا يضيع «‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين استجابوا‏}‏ يحتمل أن تكون ‏{‏الذين‏}‏ صفة للمؤمينين على قراءة من كسر الألف من» إن «، والأظهر أن ‏{‏الذين‏}‏ ابتداء وخبره في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏للذين أحسنوا‏}‏ الآية، فهذه الجملة هي خبر الابتداء الأول، والمستجيبون لله والرسول هم الذين خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى حمراء الأسد في طلب قريش وانتظارهم لهم وذلك أنه لما كان في يوم الأحد وهو الثاني من يوم أحد نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس باتباع المشركين، وقال‏:‏ لا يخرجن معنا إلا من شاهدنا بالأمس، وكانت بالناس جراحة وقرح عظيم، ولكن تجلدوا ونهض معه مائتا رجل من المؤمنين حتى بلغ حمراء الأسد، وهي على ثمانية أميال من المدينة، وأقام بها ثلاثة أيام، وجرت قصة معبد بن أبي معبد التي ذكرناها، ومرت قريش وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فأنزل الله تعالى في شأن أولئك المستجيبين هذه الآية، ومدحهم لصبرهم، وروي أنه خرج في الناس أخوان وبهما جراحة شديدة وكان أحدهما قد ضعف، فكان أخوه يحمله عقبه ويمشي هو عقبة، ورغب جابر بن عبد الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم في الخروج معه فأذن له، وأخبرهم تعالى أن الأجر العظيم قد تحصل لهم بهذه الفعلة، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنها غزوة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏173- 174‏]‏

‏{‏الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ‏(‏173‏)‏ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ‏(‏174‏)‏‏}‏

‏{‏الذين‏}‏ صفة للمحسنين المذكورين، وهذا القول هو الذي قاله الركب من عبد القيس لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، حين حملهم أبو سفيان ذلك، وقد ذكرته قبل، ف ‏{‏الناس‏}‏ الأول ركب عبد القيس و‏{‏الناس‏}‏ الثاني عسكر قريش، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فزادهم إيماناً‏}‏، أي ثبوتاً واستعداداً، فزيادة الإيمان في هذا هي في الأعمال، وأطلق العلماء عبارة‏:‏ أن الإيمان يزيد وينقص، والعقيدة في هذا أن نفس الإيمان الذي هو تصديق واحد بشيء ما، إنما هو معنى فرد لا تدخله زيادة إذا حصل، ولا يبقى منه شيء إذا زال، فلم يبق إلا أن تكون الزيادة والنقص في متعلقاته دون ذاته فذهب بعض العلماء إلى أنه يقال‏:‏ يزيد وينقص من حيث تزيد الأعمال الصادرة عنه وتنقص، لا سيما أن كثيراً من العلماء يوقعون اسم الإيمان على الطاعات، وذهب قوم‏:‏ إلى أن الزيادة في الإيمان إنما هي بنزول الفروض والإخبار في مدة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي المعرفة بها بعد الجهل غابر الدهر وهذا إنما زيادة إيمان إلى إيمان، فالقول فيه إن الإيمان يزيد وينقص قول مجازي ولا يتصور النقص فيه على هذا الحد وإنما يتصور الأنقص بالإضافة إلى الأعلم، وذهب قوم من العلماء‏:‏ إلى أن زيادة الإيمان ونقصه إنما هي من طريق الأدلة، فتزيد الأدلة عند واحد، فيقال في ذلك‏:‏ إنها زيادة في الأيمان، وهذا كما يقال في الكسوة، إنها زيادة في الإيمان، وذهب أبو المعالي في الإرشاد‏:‏ إلى أن زيادة الإيمان ونقصانه إنما هو بثبوت المعتقد وتعاوره دائباً، قال‏:‏ وذلك أن الإيمان عرض وهو لا يثبت زمانين فهو للنبي صلى الله عليه وسلم وللصلحاء متعاقب متوال، وللفاسق والغافل غير متوال، يصحبه حيناً ويفارقه حيناً في الفترة، فذلك الآخر أكثر إيماناً، فهذه هي الزيادة والنقص وفي هذا القول نظر، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فزادهم إيماناً‏}‏ لا يتصور أن يكون من جهة الأدلة، ويتصور في الآية الجهات الأخر الثلاث، وروي أنه لما أخبر الوفد من عبد القيس رسول الله صلى الله عليه وسلم بما حملهم أبو سفيان، وأنه ينصرف إليهم بالناس ليستأصلهم، وأخبر بذلك أيضاً أعرابي، شق ذلك على المسلمين فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ قولوا ‏{‏حسبنا الله ونعم الوكيل‏}‏ فقالوا واستمرت عزائمهم على الصبر ودفع الله عنهم كل سوء، وألقى الرعب في قلوب الكفار فمروا‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فانقلبوا بنعمة من الله وفضل‏}‏ يريد في السلامة والظهور في اتباع العدو وحماية الحوزة، وبفضل في الأجر الذي حازوه والفضل الذي تجللوه، وباقي الآية بين قد مضت نظائره، هذا هو تفسير الجمهور لهذا الآية، وأنها عزوة-أحد- في الخرجة إلى حمراء الأسد وشذ مجاهد رحمه الله فقال‏:‏ إن هذه الآية من قوله‏:‏ ‏{‏الذين قال لهم الناس‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏فضل عظيم‏}‏ إنما نزلت في خروج النبي عليه السلام إلى بدر الصغرى، وذلك أنه خرج لميعاد أبي سفيان في- أحد- إذ قال‏:‏ موعدنا بدر من العام المقبل، فقال النبي عليه السلام‏:‏ قولوا نعم‏:‏ فخرج رسول الله قبل بدر وكان بها سوق عظيم، فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه دراهم وقرب من بدر فجاءه نعيم بن مسعود الأشجعي فأخبره أن قريشاً قد اجتمعت وأقبلت لحربه هي ومن انضاف إليها، فأشفق المسلمون من ذلك لكنهم قالوا‏:‏ ‏{‏حسبنا الله ونعم الوكيل‏}‏، وصممو حتى أتوا بدراً فلم يجدوا عدواً ووجدوا السوق فاشتروا بدراهمهم أدماً وتجارة وانقلبوا ولم يلقوا كيداً وربحوا في تجارتهم، فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بنعمة من الله وفضل‏}‏ أي فضل في تلك التجارة، والصواب ما قاله الجمهور‏:‏ إن هذه الآية نزلت في غزوة حمراء الأسد، وما قال ابن قتيبة وغيره‏:‏ من أن لفظة ‏{‏الناس‏}‏ على رجل واحد من هذه الآية، فقول ضعيف‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏175- 177‏]‏

‏{‏إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏175‏)‏ وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏176‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏177‏)‏‏}‏

مقتضى ‏{‏إنما‏}‏ في اللغة الحصر، هذا منزع المتكلم بها من العرب، ثم إذا نظر مقتضاها-عقلاً- وهذا هو نظرالأصوليين- فهي تصلح للحصر وللتأكيد الذي يستعار له لفظ الحصر، وهي في هذه الآية حاصرة، والإشارة ب ‏{‏ذلكم‏}‏ إلى جميع ما جرى من أخبار الركب العبديين، عن رسالة أبي سفيان ومن تحميل أبي سفيان ذلك الكلام، ومن جزع من ذلك الخبر من مؤمن أو متردد، و‏{‏ذلكم‏}‏ في الإعراب ابتداء، و‏{‏الشيطان‏}‏ مبتدأ آخر، و‏{‏يخوف أولياءه‏}‏ خبر عن الشيطان، والجملة خبر الابتداء الأول، وهذا الإعراب خير في تناسق المعنى من أن يكون ‏{‏الشيطان‏}‏ خبر ‏{‏ذلكم‏}‏ لأنه يجيء في المعنى استعارة بعيدة، و‏{‏يخوف‏}‏ فعل يتعدى إلى مفعولين، لكن يجوز الاقتصار على أحدهما إذ الآخر مفهوم من بنية هذا الفعل، لأنك إذا قلت‏:‏ خوفت زيداً، فمعلوم ضرورة أنك خوفته شيئاً حقه أن يخاف، وقرأ جمهور الناس ‏{‏يخوف أولياءه‏}‏ فقال قوم المعنى‏:‏ يخوفكم أيها المؤمنون أولياءه الذين هم كفار قريش، فحذف المفعول الأول وقال قوم‏:‏ المعنى يخوف المنافقين ومن في قلبه مرض وهم أولياؤه، فإذاً لا يعمل فيكم أيها المؤمنون تخويفه، إذ لستم بأوليائه، والمعنى‏:‏ يخوفهم كفار قريش، فحذف هنا المفعول الثاني واقتصر على الأول، وقرأ ابن عباس فيما حكى أبو عمرو الداني «يخوفكم أولياءه» المعنى يخوفكم قريش ومن معهم، وذلك بإضلال الشيطان لهم وذلك كله مضمحل، وبذلك قرأ النخعي وحكى أبو الفتح بن جني عن ابن عباس أنه قرأ «يخوفكم أولياءه» فهذه قراءة ظهر فيها المفعولان، وفسرت قراءة الجماعة «يخوف أولياءه» قراءة أبي بن كعب «يخوفكم بأوليائه» والضمير في قوله ‏{‏فلا تخافوهم‏}‏ لكفار قريش وغيرهم من أولياء الشيطان، حقر الله شأنه وقوى نفوس المؤمنين عليهم، وأمرهم بخوفه هو تعالى وامتثال أمره، من الصبر والجلد، ثم قرر بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن كنتم مؤمنين‏}‏ كما تقول‏:‏ إن كنت رجلاً فافعل كذا‏.‏

وقرأ نافع وحده «يُحزنك» بضم الياء من أحزن، وكذلك قرأ في جميع القرآن، إلا في سورة الأنبياء ‏{‏لايحزنهم الفزع الأكبر‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 103‏]‏ فإنه فتح الياء، وقرأ الباقون «يَحزنك» بفتح الياء من قولك حزنت الرجل، قال سيبويه‏:‏ يقال حزن الرجل وفتن إذا أصابه الحزن والفتنة، وحزنته وفتنته، إذا جعلت فيه وعنده حزناً وفتنة، كما تقول‏:‏ دهنت وكحلت، إذا جعلت دهناً وكحلاً، وأحزنته وأفتنته، إذا جعلته حزيناً وفاتناً، كما تقول‏:‏ أدخلته وأسمعته، هذا معنى قول سيبويه والمسارعة في الكفر هي المبادرة إلى أقواله وأفعاله والجد في ذلك، وقرأ الحر النحوي «يسرعون» في كل القرآن وقراءة الجماعة أبلغ، لأن من يسارع غيره أشد اجتهاداً من الذي يسرع وحده، ولذلك قالوا كل مجرٍ بالخلاء يسر، وسلَّى الله نبيه بهذه الآية عن حال المنافقين والمجاهدين إذ كلهم مسارع، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنهم لن يضروا الله شيئاً‏}‏ خبر في ضمنه وعيد لهم أي‏:‏ إنما يضرون أنفسهم، والحظ إذا لم يقيد فإنما يستعمل في الخير، ألا ترى قوله تعالى‏:‏

‏{‏وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 35‏]‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين اشتروا‏}‏ أطلق عليهم الشراء من حيث كانوا متمكنين من قبول هذا وهذا فجاء أخذهم للواحد وتركهم للآخر كأنه ترك لما قد أخذ وحصل، إذ كانوا ممكنين منه، ولمالك رحمه الله متعلق بهذه الآية في مسألة شراء ما تختلف آحاد جنسه مما لا يجوز التفاضل فيه، في أن منع الشراء على أن يختار المبتاع، وباقي الآية وعيد كالمتقدم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏178- 179‏]‏

‏{‏وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ‏(‏178‏)‏ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ ‏(‏179‏)‏‏}‏

‏{‏نملي‏}‏ معناه‏:‏ نمهل ونمد في العمر، والملاوة‏:‏ المدة من الدهر والملوان الليل والنهار وتقول‏:‏ ملاك الله النعمة أي منحكها عمراً طويلاً، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع‏:‏ «يحسبن» بالياء من أسفل وكسر السين وفتح الباء، وقرأ ابن عامر كذلك إلا في السين فإنه فتحها وقرأ حمزة تحسبن‏.‏ بالتاء من فوق الباء، وقرأ ابن عامر كذلك إلا في-السين- فإنه فتحها، وقرأ حمزة «تحسبن»‏.‏ بالتاء من فوق وفتح السين، وقرأ عاصم والكسائي، كل ما في هذه السورة بالتاء من فوق إلا حرفين، قوله ‏{‏ولا يحسبن الذين كفروا‏}‏ في هذه الآية وبعدها ‏{‏ولا يحسبن الذين يبخلون‏}‏ فأما من قرأ «ولا يحسبن» بالياء من أسفل فإن ‏{‏الذين‏}‏ فاعل وقوله ‏{‏إنما نملي لهم خير‏}‏ بفتح الألف من «أنما» ساد مسد مفعولي حسب، وذلك أن «حسب» وما جرى مجراها تتعدى إلى مفعولين أو إلى مفعول يسد مسد مفعولين، وذلك إذا جرى في صلة ما تتعدى إليه ذكر الحديث والمحدث عنه، قال أبو علي‏:‏ وكسر «إن» في قوله من قرأ «يحسبن» بالياء لا ينبغي، وقد قرئ فيما حكاه غير أحمد بن موسى وفي غير السبع، ووجه ذلك أن يتلقى بها القسم كما يتلقى بلام الابتداء، ويدخلان على الابتداء والخبر، أعني-اللام- وإن فعلق عن «إنما» عمل الحسبان كما تعلق عن اللام في قولك‏:‏ حسبت لزيد قائم، فيعلق الفعل عن العمل لفظاً، وأما بالمعنى فما بعد «أن أو اللام» ففي موضع مفعولي «حسب»، وما يحتمل أن تكون بمعنى الذي، ففي ‏{‏نملي‏}‏ عائد مستكن، ويحتمل أن تكون مصدرية فلا تحتاج إلى تقدير عائد وأما من قرأ «ولا تحسبن» بالتاء فالذين مفعول أول للحسبان، قال أبو علي‏:‏ وينبغي أن تكون الألف من «إنما» مكسورة في هذه القراءة، وتكون «إن» وما دخلت عليه في موضع المفعول الثاني لتحسبن، ولا يجوز فتح الألف من «إنما» لأنها تكون المفعول الثاني، والمفعول الثاني في هذا الباب هو المعفول الأول بالمعنى، والإملاء لا يكون إياهم، قال مكي في مشكله‏:‏ ما علمت أحداً قرأ «تحسبن» بالتاء من فوق وكسر الألف من «إنما» وجوز الزجّاج هذه القراءة «تحسبن» بالتاء و«أنما» بفتح الألف، وظاهر كلامه أنها تنصب خيراً، قال وقد قرأ بها خلق كثير وساق عليها مثالاً قول اللشاعر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

‏(‏فما كان قيسٌ هُلْكُهُ هُلْكُ وَاحِدٍ‏)‏ *** بنصب هلك الثاني على أن الأول بدل، فكذلك يكون ‏{‏إنما نملي‏}‏ بدلاً من ‏{‏الذين كفروا‏}‏ كقوله تعالى‏:‏

‏{‏وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 63‏]‏ وقوله ‏{‏وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 7‏]‏ ويكون «خيراً» المفعول الثاني قال أبو علي‏:‏ لم يقرأ هذه القراءة أحد، وقد سألت أحمد بن موسى عنها فزعم أنه لم يقرأ بها أحد، ويظهر من كلام أبي علي أن أبا إسحاق إنما جوز المسألة مع قراءة «خير» بالرفع، وأبو علي أعلم لمشاهدته أبا إسحاق، وذكر قوم أن هذه القراءة تجوز على حذف مضاف تقديره‏:‏ ولا تحسبن شأن الذين كفروا أنما نملي لهم، فهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واسأل القرية‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 82‏]‏ وغير ذلك ويذهب الأستاذ أبو الحسن بن الباذش‏:‏ إلى أنها تجوز على بدل أن من الذين وحذف المفعول لحسب، إذ الكلام يدل عليه‏.‏

قال القاضي‏:‏ والمسألة جائزة إذ المعنى لا تحسبن إملاءنا للذين كفروا خيراً لهم أو نحو هذا ومعنى هذه الآية‏:‏ الرد على الكفار في قولهم‏:‏ إن كوننا ظاهرين ممولين أصحة دليل على رضى الله بحالنا واستقامة طريقتنا عنده، فأخبر الله أن ذلك التأخير والإمهال إنما هو إملاء واستدارج، ليكتسبوا الآثام، وقال عبد الله بن مسعود‏:‏ ما من نفس برة ولا فاجرة إلا والموت خير لها، أما البرة فلتسرع إلى رحمة الله، وقرأ ‏{‏وما عند الله خير للأبرار‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 198‏]‏ وأما الفاجرة فلئلا تزداد إثماً، وقرأ هذه الآية ووصف العذاب بالمهين معناه‏:‏ التخسيس لهم‏:‏ فقد يعذب من لا يهان، وذلك إذا اعتقدت إقالة عثرته يوماً ما‏.‏

واختلف المفسرون في معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما كان الله ليذر‏}‏ فقال مجاهد وابن جريج وابن إسحاق وغيرهم‏:‏ الخطاب للمؤمنين، والمعنى‏:‏ ما كان الله ليدع المؤمنين مختلطين بالمنافقين مشكلاً أمرهم، يجري المنافق مجرى المؤمن، ولكنهم ميز بعضهم من بعض، بما ظهر من هؤلاء وهؤلاء في أحد من الأفعال والأقوال، وقال قتادة والسدي‏:‏ الخطاب للكفار، والمعنى‏:‏ حتى يميز المؤمنين من الكافرين بالإيمان والهجرة، وقال السدي وغيره‏:‏ قال الكفار في بعض جدلهم‏:‏ أنت يا محمد تزعم في الرجل منا أنه من أهل النار، وأنه إذا اتبعك من أهل الجنة، فكيف يصح هذا‏؟‏ ولكن أخبرنا بمن يؤمن منا وبمن يبقى على كفره، فنزلت الآية، فقيل لهم‏:‏ لا بد من التمييز ‏{‏وما كان الله ليطلعكم على الغيب‏}‏ فيمن يؤمن ولا فيمن يبقى كافراً ولكن هذا رسول الله مجتبى فآمنوا به‏.‏ فإن آمنتم نجوتم وكان لكم أجر، وأما مجاهد وابن جريج وأهل القول، فقولهم في تأويل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كان الله ليطلعكم على الغيب‏}‏ أنه في أمر «أحد» أي ما كان الله ليطلعكم على أنكم تهزمون، فكنتم تكعون عن هذا‏.‏ وأيضاً فما كان ليطلعكم على المنافقين تصريحاً بهم وتسمية لهم، ولكن هذا بقرائن أفعالهم وأقوالهم في مثل هذا الموطن، وحتى- في قوله‏:‏ ‏{‏حتى يميز‏}‏ غاية مجردة، لأن الكلام قبلها معناه‏:‏ الله يخلص ما بينكم بابتلائه وامتحانه حتى يميز، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم‏:‏ «حتى يَمِيز»- بفتح الياء وكسر الميم وتخفيف الياء، وكذلك «ليميز»، وقرأ حمزة والكسائي‏:‏ «حتى يُميِّز» و«ليميز الله» بضم الياء والتشديد، قال يعقوب بن السكيت‏:‏ مزت وميزت، لغتان بمعنى واحد، قال أبو علي‏:‏ وليس ميزت بمنقول من مزت، بدليل أن ميزت لا يتعدى إلى مفعولين وإنما يتعدى إلى مفعول واحد كمزت، كما أن «ألقيت» ليس بمنقول من لقي، إنما هو بمعنى أسقطت، والغيب هنا‏:‏ ما غاب عن البشر مما هو في علم الله من الحوادث التي تحدث ومن الأسرار التي في قلوب المنافقين‏:‏ ومن الأقوال التي يقولونها إذا غابوا عن الناس، قال الزجّاج وغيره‏:‏ روي أن بعض الكفار قال‏:‏ لم لا يكون جميعنا أنبياء‏؟‏ فنزلت هذه الآية، و‏{‏يجتبي‏}‏- معناه‏:‏ يختار ويصطفي، وهي من جبيب الماء والمال، وباقي الآية بين والله المستعان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏180- 184‏]‏

‏{‏وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ‏(‏180‏)‏ لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ‏(‏181‏)‏ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ‏(‏182‏)‏ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏183‏)‏ فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ‏(‏184‏)‏‏}‏

‏{‏وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذينَ يَبْخَلُونَ بِمَآ ءَاتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُم بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيآءُ‏}‏

القراءات في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يحسبن الذين يبخلون‏}‏ كالتي تقدمت آنفاً في قوله ‏{‏ولا يحسبن الذين كفروا‏}‏ سواء، وقال السدي وجماعة من المتأولين‏:‏ الآية نزلت في البخل بالمال والإنفاق في سبيل الله وأداء الزكاة المفروضة ونحو ذلك، قالوا‏:‏ ومعنى‏:‏ ‏{‏سيطوقون بما بخلوا‏}‏ هو الذي ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ما من ذي رحم يأتي ذا رحمه فيسأله عن فضل ما عنده فيبخل به عليه إلا خرج له يوم القيامة شجاع أقرع من الناس يتلمظ حتى يتوقه‏.‏ والأحاديث في مثل هذا من منع الزكاة واكتناز المال كثيرة صحيحة‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ الآية إنما نزلت في أهل الكتاب وبخلهم ببيان ما علمهم الله من أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وقال ذلك مجاهد وجماعة من أهل التفسير، وقوله تعالى ‏{‏سيطوقون‏}‏ على هذا التأويل معناه سيحملون عقاب ما بخلوا به، فهو من الطاقة كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وعلى الذين يطيقونه‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 184‏]‏ وليس من التطويق، وقال إبراهيم النخعي‏:‏ ‏{‏سيطوقون‏}‏ سيجعل لهم يوم القيامة طوق من نار، وهذا يجري مع التأويل الأول الذي ذكرته للسدي وغيره، وقال مجاهد‏:‏ سيكلفون بأن يأتوا بمثل ما بخلوا به يوم القيامة، وهذا يضرب مع قوله‏:‏ إن البخل هو بالعلم الذي تفضل الله عليهم بأن علمهم إياه وإعراب قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين يبخلون‏}‏ رفع في قراءة من قرأ «يحسبن» بالياء من أسفل والمفعول الأول مقدر بالصلة تقديره «ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم من فضله بخلهم هو خيراً»، والمفعول الثاني خيراً، وهو فاصلة وهي العماد عند الكوفيين، ودل قوله‏:‏ ‏{‏يبخلون‏}‏ على هذا البخل المقدر كما دل السفيه على السفه في قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏

إذا نُهِيَ السَّفيهُ جَرى إليهِ *** وَخَالَفَ، وَالسَّفيهُ إلى خلافِ

فالمعنى جرى إلى السفه، وأما من قرأ «تحسبن» بالتاء من فوق ففي الكلام حذف مضاف هو المفعول الأول، تقديره ولا تحسبن يا محمد بخل الذين يبخلون خيراً لهم، قال الزّجاج، وهي مثل ‏{‏واسأل القرية‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 82‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولله ميراث السماوات‏}‏ خطاب على ما يفعله البشر دال على فناء الجميع وأنه لا يبقى مالك إلى الله تعالى وإن كان ملكه تعالى على كل شيء لم يزل، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «والله بما يعملون» بالياء من أسفل على ذكر الذين يبخلون ويطوقون، وقرأ الباقون بالتاء من فوق، وذلك على الرجوع من الغيبة إلى المخاطبة لأنه قد تقدم

‏{‏وإن تؤمنوا وتتقوا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 179‏]‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لقد سمع الله‏}‏ الآية، قال ابن عباس‏:‏ نزلت بسبب فنحاص اليهودي وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر الصديق رضي الله عنه إلى بيت المدراس ليدعوهم فوجد فيه جماعة من اليهود قد اجتمعوا على فنحاص- وهو حبرهم- فقال أبو بكر له‏:‏ يا فنحاص اتق الله وأسلم فوالله إنك لتعلم أن محمداً رسول الله قد جاءكم بالحق من عند الله تجدونه مكتوباً عندكم في التوراة، فقال فنحاص‏:‏ والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من حاجة وإنه إلينا لفقير وإنّا عنه لإغنياء، ولو كان غنياً لما استقرضنا أموالنا كما يزعم صاحبكم، في كلام طويل غضب أبو بكر منه، فرفع يده فلطم وجه فنحاص وسبه وهمَّ بقتله، ثم منعه من ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له‏:‏ لا تحدث شيئاً حتى تنصرف إليَّ، ثم ذهب فنحاص إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشكا فعل أبي بكر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر‏:‏ ما حملك على ما صنعت‏؟‏ قال يا رسول الله‏:‏ إنه قال قولاً عظيماً فلم أملك نفسي أن صنعت ما صنعت، فنزلت الآية في ذلك وقال قتادة‏:‏ نزلت الآية في حيي بن أخطب، وذلك أنه لما نزلت ‏{‏من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 245‏]‏ قال‏:‏ يستقرضنا ربنا‏؟‏ إنما يستقرض الفقير الغني، وقال الحسن بن أبي الحسن ومعمر وقتادة أيضاً وغيرهم‏:‏ لما نزلت ‏{‏من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 245‏]‏، قالت اليهود‏:‏ إنما يستقرض الفقير من الغني، ولا محالة أن هذا قول صدر أولاً عن فنحاص وحيي وأشباههما من الأحبار ثم تقاولها اليهود، وهو قول يغلط به الأتباع ومن لا علم عنده بمقاصد الكلام، وهذا تحريف اليهود التأويل على نحو ما صنعوا في توراتهم وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قول الذين كفروا‏}‏ دال على أنهم جماعة‏.‏

قوله تعالى‏:‏

‏{‏سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَآءِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَآ أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ‏}‏

قرأ حمزة وحده «سيكتب» بالياء من أسفل على بناء الفعل للمفعول و«قتلُهم» برفع اللام عطفاً على المفعول الذي لم يسم فاعله، و«يقول» بالياء من أسفل، وقرأ الباقون بنون الجمع، فإما أنها نون العظمة، وإما هي للملائكة و‏{‏ما‏}‏ على هذه القراءة مفعولة بها، و«قتلَهم» بنصب اللام عطفاً على ‏{‏ما‏}‏ ‏{‏ونقول‏}‏ بالنون على نحو ‏{‏سنكتب‏}‏ والمعنى في هاتين القراءتين قريب بعضه من بعض، قال الكسائي‏:‏ وفي قراءة عبد الله بن مسعود «ويقال ذوقوا» وقال أبو معاذ النحوي في حرف ابن مسعود‏:‏ «سنكتب ما يقولون ويقال لهم ذوقوا» وقرأ طلحة بن مصرف «سنكتب ما يقولون» وحكى أبو عمرو عنه أيضاً أنه قرأ «ستكتب» بتاء مرفوعة ‏{‏ما قالوا‏}‏، بمعنى‏:‏ ستكتب مقالتهم، وهذه الآية وعيد لهم، أي سيحصى عليهم قولهم، والكتب فيما قال كثير من العلماء هو في صحف تقيده الملائكة فيها، وتلك الصحف المكتوبة هي التي توزن وفيها يخلق الله الثقل والخفة بحسب العلم المكتوب فيها، وذهب قوم إلى أن الكتب عبارة عن الإحصاء وعدم الإهمال، فعبر عن ذلك بما تفهم العرب منه غاية الضبط والتقييد، فمعنى الآية‏:‏ أن أقوال هؤلاء تكتب وأعمالهم، ويتصل ذلك بأفعال آبائهم من قتل الأنبياء بغير حق ونحوه، ثم يقال لجميعهم ‏{‏ذوقوا عذاب الحريق‏}‏ وخلطت الآية الآباء مع الأبناء في الضمائر، إذ الآباء هم الذين طوقوا لأبنائهم الكفر وإذ الأبناء راضون بأفعال الآباء متبعون لهم، والذوق مع العذاب مستعار، عبارة عن المباشرة، إذ الذوق من أبلغ أنواعها وحاسته مميزة جداً، و‏{‏الحريق‏}‏ معناه‏:‏ المحرق فعيل بمعنى مفعل وقيل‏:‏ ‏{‏الحريق‏}‏ طبقة من طبقات جهنم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك بما قدمت أيديكم‏}‏ توبيخ وتوقيف داخل فيما يقال لهم يوم القيامة، ويحتمل أن يكون خطاباً لمعاصري النبي عليه السلام يوم نزول الآية، ونسب هذا التقديم إلى اليد إذ هي الكاسبة للأعمال في غالب أمر الإنسان، فأضيف كل كسب إليها، ثم بين تعالى‏:‏ أنه يفعل هذا بعدل منه فيهم ووضع الشيء موضعه، والتقدير‏:‏ وبأن الله ‏{‏ليس بظلام للعبيد‏}‏ وجمع «عبداً» في هذه الآية على عبيد، لأنه مكان تشفيق وتنجية من ظلم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين قالوا إن الله عهد إلينا‏}‏ صفة راجعة إلى قوله‏:‏ ‏{‏الذين قالوا إن الله فقير‏}‏ وقال الزجاج‏:‏ ‏{‏الذين‏}‏ صفة للعبيد، وهذ مفسد للمعنى والرصف، وهذه المقالة قالتها أحبار يهود مدافعة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم أي إنك لا تأتي بنار فنحن قد عهد إلينا أن لا نؤمن لك، و‏{‏عهد‏}‏ معناه‏:‏ أمر والعهد‏:‏ أخص من الأمر، وذلك أنه في كل ما يتطاول أمره ويبقى في غابر الزمان، وتعدى «آمن» في هذه الآية باللام والباء في ضمن ذلك، «وقربان» مصدر سمي به الشيء الذي يقرب كالرهن، وكان أمر القربان حكماً قديماً في الأنبياء، ألا ترى أن ابني آدم قربا قرباناً، وذلك أنهم كانوا إذا ارادوا معرفة قبول الله تعالى لصدقة إنسان أو عمله أو صدق قوله، قرب قرباناً شاة أو بقرة ذبيحة أو بعض ذلك وجلعه في مكان للهواء وانتظر به ساعة، فتنزل نار من السماء فتحرق ذلك الشيء، فهذه علامة القبول، وإذا لم تنزل النار فليس ذلك العمل بمقبول، ثم كان هذا الحكم في أنبياء بني إسرائيل، وكانت النار أيضاً تنزل لأموال الغنائم فتحرقها، حتى أحلت الغنائم لمحمد صلى الله عليه وسلم حسب الحديث وروي عن عيسى بن عمر، أنه كان يقرأ «بقرُبان» بضم الراء وذلك للإتباع لضمة القاف وليست بلغة، لأنه ليس في الكلام فعلان بضم الفاء والعين، وقد حكى سبيويه‏:‏ السلطان بضم اللام، وقال‏:‏ إن ذلك على الإتباع‏.‏

قوله تعالى‏:‏

‏{‏قُلْ قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِى بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِى قُلْتُمْ فَلِمَ قُتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآءُو بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُورِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ‏}‏

هذا رد عليهم في مقالتهم وتبيين لإبطالهم، أي‏:‏ ‏{‏قد جاءكم رسل‏}‏ بالآيات الباهرة البينة، وفي جملتها ما قلتم من أمر القربان فلم قتلتموهم يا بني إسرائيل المعنى بل هذا منكم تعلل وتعنت، ولو أتيتكم بالقربان لتعللتم بغير ذلك، والاقتراح لا غاية له، ولا يجاب كل مقترح، ولم يجب الله مقترحاً إلا وقد أراد تعذيبه وأن لا يمهله، كقوم صالح وغيرهم، وكذلك قيل لمحمد في اقتراح قريش فأبى، وقال‏:‏ بل أدعوهم وأعالجهم‏.‏

ثم آنس تعالى نبيه بالأسوة والقدوة فيمن تقدم من الأنبياء أي‏:‏ فلا يعظم عليك ذلك، وقرأ ابن عامر‏:‏ و«بالزبر»‏:‏ بإعادة باء الجر، وسقوطها على قراءة الجمهور متجه، لأن الواو شركت الزبر في الباء الأولى فاستغني عن إعادة الباء، وإعادتها أيضاً متجهة لأجل التأكيد، وكذلك ثبتت في مصاحف أهل الشام، وروي أيضاً عن ابن عامر إعادة الباء في قوله‏:‏ «وبالكتاب المنير» و‏{‏الزبر‏}‏‏:‏ الكتاب المكتوب يقال‏:‏ زبرت الكتاب إذا كتبته، وزبرته إذا قرأته، والشاهد لأنه الكتاب قول امرئ القيس‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

لِمَنْ طَلَلٌ أبْصَرْتُهُ فَشَجَاني *** كَخَطِّ زَبورٍ في عَسِيبِ يَماني‏؟‏

وقال الزجّاج‏:‏ زبرت كتبت، وذبرت بالذال، قرأت، و«المنير»‏:‏ وزنه مفعل من النور أي سطع نوره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏185- 185‏]‏

‏{‏كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ‏(‏185‏)‏‏}‏

والمعنى‏:‏ كل نفس مخلوقة حية، والذوق هنا‏:‏ استعارة ‏{‏وإنما‏}‏ حاصرة على التوفية التي هي على الكمال، لأن من قضي له بالجنة فهو ما لم يدخلها غير موفى، وخص تعالى ذكر «الأجور» لشرفها وإشارة مغفرته لمحمد صلى الله عليه وسلم وأمته، ولا محالة أن المعنى‏:‏ أن يوم القيامة تقع توفية الأجور وتوفية العقاب، و‏{‏زحزح‏}‏ معناه‏:‏ أبعد، والمكان الزحزح‏:‏ البعيد، وفاز معناه‏:‏ نجا من خطره وخوفه، و‏{‏الغرور‏}‏، الخدع والترجية بالباطل، والحياة الدنيا وكل ما فيها من الأموال فهي متاع قليل تخدع المرء وتمنيه الأباطيل وعلى هذا فسر الآية جمهور من المفسرين، قال عبد الرحمن بن سابط‏:‏ ‏{‏متاع الغرور‏}‏ كزاد الراعي يزود الكف من التمر أو الشيء من الدقيق يشرب عليه اللبن، قال الطبري‏:‏ ذهب إلى أن متاع الدنيا قليل لا يكفي من تمتع به ولا يبلغه سفره‏.‏

قال القاضي‏:‏ و‏{‏الغرور‏}‏ في هذا المعنى مستعمل في كلام العرب، ومنه قولهم في المثل‏:‏ غش ولا تغتر، أي لا تجتز بما لا يكفيك، وقال عكرمة‏:‏ ‏{‏متاع الغرور‏}‏، القوارير أي لا بد لها من الانكسار والفساد، فكذلك أمر الحياة الدنيا كله، وهذا تشبيه من عكرمة، وقرأ عبد الله بن عمر «الغَرور» بفتح الغين، وقرأ أبو حيوة والأعمش‏:‏ ‏{‏ذائقة‏}‏ بالتنوين ‏{‏الموت‏}‏ بالنصب، وقال النبي صلى الله عليه وسلم، «لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها»، ثم تلا هذه الآية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏186- 187‏]‏

‏{‏لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ‏(‏186‏)‏ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ‏(‏187‏)‏‏}‏

هذا الخطاب للنبي عليه السلام وأمته، والمعنى‏:‏ لتختبرن ولتمتحنن في أموالكم بالمصائب والأرزاء، وبالإنفاق في سبيل الله، وفي سائر تكاليف الشرع، والابتلاء في الأنفس بالموت والأمراض، وفقد الأحبة بالموت، واختلف المفسرون في سبب قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم‏}‏ فقال عكرمة وغيره‏:‏ السبب في ذلك قول فنحاص‏:‏ إن الله فقير ونحن إغنياء، وقوله‏:‏ يد الله مغلولة إلى غير ذلك، وقال الزهري وغيره‏:‏ نزلت هذه الآية بسبب كعب بن الأشرف، فإنه كان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه ويشبب بنساء المسلمين، حتى بعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتله القتلة المشهورة في السيرة، و«الأذى»‏:‏ اسم جامع في معنى الضرر وهو هنا يشمل أقوالهم فيما يخص النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من سبهم وأقوالهم في جهة الله تعالى وأنبيائه، وندب الله تعالى عباده إلى الصبر والتقوى، وأخبر أنه من عزم الأمور، أي من أشدها وأحسنها، و«العزم»‏:‏ إمضاء الأمر المروي المنقح، وليس ركوب الأمر دون روية عزماً إلا على مقطع المشيحين من فتاك العرب كما قال‏:‏

إذا هَمَّ ألقَى بَيْنَ عَيْنَيْهِ عزْمَهُ *** وَنَكَّبَ عَنْ ذِكْرِ الْحَوَادِثِ جَانِبَا

وقال النقاش‏:‏ العزم والحزم بمعنى واحد‏:‏ الحاء مبدلة من العين‏.‏

قال القاضي‏:‏ وهذا خطأ، والحزم‏:‏ جودة النظر في الأمور وتنقيحه والحذر من الخطأ فيه، و«العزم»‏:‏ قصد الإمضاء، والله تعالى يقول‏:‏ ‏{‏وشاورهم في الأمر، فإذا عزمت‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 159‏]‏ فالمشاورة وما كان في معناها هو الحزم، والعرب تقول‏:‏ قد أحزم لو أعزم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب‏}‏ الآية، توبيخ لمعاصري النبي صلى الله عليه وسلم، ثم هو مع ذلك خبر عام لهم ولغيرهم‏.‏ والعامل في ‏{‏إذ‏}‏ فعل مقدر تقديره اذكر، وأخذ هذا الميثاق وهو على ألسنة الأنبياء أمة بعد أمة، وقال ابن عباس والسدي وابن جريج‏:‏ الآية في اليهود خاصة، أخذ الله عليهم الميثاق في أمر محمد فكتموه ونبذوه، قال مسلم البطين‏:‏ سأل الحجاج بن يوسف جلساءه عن تفسير هذه الآية فقالم رجل إلى سعيد بن جبير فسأله فقال له‏:‏ نزلت في يهود أخذ الميثاق عليهم في أمر محمد فكتموه، وروي عن ابن عباس أنه قرأ «وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لتبيننه» فيجيء قوله ‏{‏فنبذوه‏}‏ عائداً على الناس الذين بين الأنبياء لهم، وقال قوم من المفسرين‏:‏ الآية في اليهود والنصارى، وقال جمهور من العلماء‏:‏ الآية عامة في كل من علمه الله علماً، وعلماء هذه الأمة داخلون في هذا الميثاق، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار، وقد قال أبو هريرة‏:‏ إني لأحدثكم حديثاً، ولولا آية في كتاب الله ما حدثتكموه ثم تلا

‏{‏إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 174‏]‏ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر‏:‏ «ليبيننه للناس ولا يكتمونه»، بالياء من أسفل فيهما، وقرأ الباقون وحفص وعاصم بالتاء من فوق فيهما، وكلا القراءتين متجه، والضمير في الفصلين عائد على الكتاب، وفي قراءة ابن مسعود «لتبينونه» دون النون الثقيلة، وقد لا تلزم هذه النون لام القسم، قاله سيبويه، و«النبذ» الطرح، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وراء ظهورهم‏}‏، استعارة لما يبالغ في اطراحه، ومنه ‏{‏واتخذتموه وراءكم ظهرياً‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 92‏]‏ ومنه قول الفرزدق‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

تَميم بْنَ مُرٍّ لا تَكُونَنَّ حاجتي *** بظهرٍ فَلا يعيى عليَّ جَوابُها

ومنه بالمعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا تجعلوني كقدح الراكب‏.‏ أراد عليه السلام، لا تجعلوا ذكري وطاعتي خلف أظهركم، وهو موضع القدح ومنه قول حسان‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

‏(‏كَمَا نِيطَ خلْفَ الراكِبِ الْقَدَحُ الْفَرْدُ‏)‏ *** والتشبيه بالقدح إنما هو في هيئته لا في معناه، لأن الراكب يحتاجه، ومحله من محلات الراكب جليل، والثمن القليل‏:‏ هو مكسب الدنيا‏.‏ وباقي الآية بين‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ والظاهر في هذه الآية أنها نزلت في اليهود، وهم المعنيون ثم إن كل كاتم من هذه الأمة يأخذ بحظه من هذه المذمة ويتصف بها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏188- 190‏]‏

‏{‏لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏188‏)‏ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏189‏)‏ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ‏(‏190‏)‏‏}‏

اختلف المفسرون في المراد بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين يفرحون‏}‏ فقال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه وابن زيد وجماعة‏:‏ الآية نزلت في المنافقين، وذلك أنهم كانوا إذا خرج النبي صلى الله عليه وسلم للغزو تخلفوا عنه، فإذا جاء اعتذروا إليه وقالوا‏:‏ كانت لنا أشغال ونحو هذا، فيظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم القبول ويستغفر لهم، ففضحهم الله تعالى بهذه الآية، فكانوا يفرحون بما يأتونه ويفعلونه من التخلف والاعتذار، ويحبون أن يقال لهم‏:‏ إنهم في حكم المجاهدين لكن العذر حبسهم، وقالت جماعة كثيرة من المفسيرين إنما نزلت الآية في أهل الكتاب أحبار اليهود ثم اختلفوا فيما هو الذي أتوه وكيف أحبوا المحمدة فقال ابن عباس رضي الله عنه‏:‏ أتوا إضلال أتباعهم عن الإيمان بمحمد وفرحوا بذلك لدوام رياستهم الدنيوية، وأحبوا أن يقال عنهم‏:‏ إنهم علماء بكتاب الله ومتقدم رسالاته، وقال ابن عباس أيضاً والضحاك والسدي‏:‏ أتوا أنهم تعاقدوا وتكاتبوا من كل قطر بالارتباط إلى تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم والدفع في صدر نبوته، وأحبوا أن يقال عنهم‏:‏ إنهم أهل صلاة وصيام وعبادة، وقالوا هم ذلك عن أنفسهم، وقال مجاهد‏:‏ فرحوا بإعجاب أتباعهم بتبديلهم تأويل التوراة، وأحبوا حمدهم إياهم على ذلك، وهم في الحقيقة لم يفعلوا شيئاً نافعاً ولا صحيحاً بل الحق أبلج، وقال سعيد بن جبير‏:‏ الآية في اليهود، فرحوا بما أعطى الله آل إبراهيم من النبوءة والكتاب، فهم يقولون‏:‏ نحن على طريقهم ويحبون أن يحمدوا بذلك وهم ليسوا على طريقتهم، وقراءة سعيد بن جبير‏:‏ «أوتوا» بمعنى أعطوا بضم الهمزة والتاء، وعلى قراءته يستقيم المعنى الذي قال‏.‏ وقال ابن عباس أيضاً‏:‏ إن الآية نزلت في قوم سألهم النبي عليه السلام عن شيء فكتموه الحق وقالوا له غير ذلك، ففرحوا بما فعلوا وأحبوا أن يحمدوا بما أجابوا، وظنوا أن ذلك قد قنع به واعتقدت صحته، وقال قتادة‏:‏ إن الآية في يهود خيبر، نافقوا على النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين مرة، وقالوا‏:‏ نحن معكم وعلى رأيكم وردء لكم وهم يعتقدون خلاف ذلك، فأحبوا الحمد على ما أظهروا وفرحوا بذلك، وقال الزجّاج‏:‏ نزلت الآية في قوم من اليهود، دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم وكلموه في أشياء ثم خرجوا، فقالوا لمن لقوا من المسلمين‏:‏ إن النبي أخبرهم بأشياء قد عرفوها فحمدهم المسلمون على ذلك وطمعوا بإسلامهم وكانوا قد أبطنوا خلاف ما أظهروا للمسلمين وتمادوا على كفرهم، فنزلت الآية فيهم وقرأ جمهور الناس‏:‏ «أتوا» بمعنى فعلوا، كما تقول أتيت أمر كذا، وقرأ مروان بن الحكم وإبراهيم النخعي‏:‏ «آتوا» بالمد، بمعنى أعطوا بفتح الهمزة والطاء‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهي قراءة تستقيم على بعض المعاني التي تقدمت، وقرأ سعيد بن جبير وأبو عبد الرحمن السلمي، «أوتوا» بمعنى أعطوا، وقد تقدمت مع معناها وقرأ أبو عمرو وابن كثير، ‏{‏لا يحسبن الذي يفرحون‏}‏ «فلا يحسِبنهم» بالياء من تحت فيهما وبكسر السين وبرفع الباء في يحسبنهم، قال أبو علي‏:‏ ‏{‏الذين‏}‏ رفع بأنه فاعل «يحسب»، ولم تقع «يحسبن» على شيء، وقد تجيء هذه الأفعال لغواً لا في حكم الجمل المفيدة نحو قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

وما خلت أبقى بيننا من مودة *** عراض المذاكي المسنفات القلائصا

وقال الخليل‏:‏ العرب تقول‏:‏ ما رأيته يقول ذلك إلا زيد، وما ظننته يقول ذلك إلا زيد فتتجه القراءة بكون قوله‏:‏ «فلا تحسبنهم» بدلاً من الأول وقد عدي إلى مفعوليه وهما الضمير، وقوله ‏{‏بمفازة‏}‏ فاستغني بذلك عن تعدية الأولى إليها كما استغني في قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

بأيّ كِتابٍ أَوْ بأيِّةِ سُنَّةٍ *** تَرَى حُبَّهُمْ عاراً عليَّ وَتَحْسِبُ‏؟‏

فاستغني بتعدية أحد الفعلين عن تعدية الآخر، والفاء في قوله ‏{‏فلا تحسبنهم‏}‏ زائدة، ولذلك حسن البدل، إذ لا يتمكن أن تكون فاء عطف ولا فاء جزاء، فلم يبق إلا أن تكون زائدة لا يقبح وجودها بين البدل والمبدل منه، وقوله على هذه القراءة «فلا يحسبنهم»، فيه تعدي فعل الفاعل إلى ضمير نفسه، نحو ظننتني أخاه، ورأيتني الليلة عند الكعبة، ووجدتني رجعت من الإصغاء، وذلك أن هذه الأفعال وما كان في معناها لما كانت تدخل على الابتداء والخبر أشبهت «أن» وأخواتها، فكما تقول‏:‏ إني ذاهب، فكذلك تقول‏:‏ ظننتني ذاهباً، ولو قلت‏:‏ أظن نفسي أفعل كذا لم يحسن، كما يحسن‏:‏ أظنني فاعلاً، قرأ نافع وابن عامر‏:‏ «لا يحسبن الذين» بالياء من تحت وفتح الباء، وكسر نافع السين، وفتحها ابن عامر «فلا تحسبنهم» بالتاء من فوق، وفتح الباء، والمفعولان اللذان يقتضيهما قوله «لا يحسبن الذين» محذوفان لدلالة ما ذكر بعده، والكلام في ذلك كما تقدم في قراءة ابن كثير، إلا أنه لا يجوز في هذا البدل الذي ذكره في قراءة ابن كثير وأبي عمرو لاختلاف الفعلين واختلاف فعليهما، وقرأ حمزة «لا تحسبن» بالتاء من فوق وكسر السين «فلا تحسبنهم» بالتاء من فوق وكسر السين وفتح الباء ف ‏{‏الذين‏}‏ على هذه القراءة مفعول أول «لتحسبن»، والمفعول الثاني محذوف لدلالة ما يجيء بعد عليه، كما قيل آنفاً في المفعولين، وحسن تكرار الفعل في قوله «فلا تحسبنهم» لطول الكلام، وهي عادة العرب وذلك تقريب لذهن المخاطب، وقرأ الضحاك بن مزاحم «فلا تحسبنهم» بالتاء من فوق وفتح السين وضم الباء، و«المفازة»‏:‏ مفعلة من فاز يفوز إذا نجا فهي بمعنى منجاة، وسمي موضع المخاف مفازة على جهة التفاؤل، قاله الأصمعي وقيل‏:‏ لأنها موضع تفويز ومظنة هلاك، تقول العرب‏:‏ فوز الرجل إذا مات قال ثعلب‏:‏ حكيت لابن الأعربي قول الأصمعي فقال‏:‏ أخطأ، قال لي أبو المكارم‏:‏ إنما سميت «مفازة» لأن من قطعها فاز، وقال الأصمعي‏:‏ سمي اللديغ سليماً تفاولاً، قال ابن الأعرابي‏:‏ بل لأنه مستسلم لما أصابه، وبعد أن نهى أن يحسبوا ناجين أخبر أن لهم عذابا‏.‏

ثم استفتح القول بذكر قدرة الله تعالى وملكه فقال‏:‏ ‏{‏ولله ملك السماوات والأرض‏}‏ الآية، قال بعض المفسرين‏:‏ الآية رد على الذين قالوا‏:‏ ‏{‏إن الله فقير ونحن أغنياء‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 181‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله على كل شيء قدير‏}‏‏.‏ قال القاضي ابن الطيب وغيره‏:‏ ظاهره العموم، ومعناه الخصوص لأن الله تعالى لا يوصف بالقدرة على المحالات هو الموجود على مقتضى كلام العرب‏.‏

ثم دل على مواضع النظر والعبرة، حيث يقع الاستدلال على الصانع بوجود السماوات والأرضين والمخلوقات دال على العلم، ومحال أن يكون موجود عالم مريد غير حي، فثبت بالنظر في هذه الآية عظم الصفات ‏{‏واختلاف الليل والنهار‏}‏ هو تعاقبهما، إذ جعلهما الله خلفة، ويدخل تحت لفظة الاختلاف كونهما يقصر هذا ويطول الآخر وبالعكس، ويدخل في ذلك اختلافهما بالنور والظلام، و«الآيات»‏:‏ العلامات و‏{‏الألباب‏}‏ في هذه الآية‏:‏ هي ألباب التكليف لا ألباب التجربة، لأن كل من له علوم ضرورية يدركها فإنه يعلم ضرورة ما قلناه من صفات الله تعالى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏191- 192‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ‏(‏191‏)‏ رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ‏(‏192‏)‏‏}‏

‏{‏الذين‏}‏ في موضع خفض صفة ‏{‏لأولي الألباب‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 190‏]‏، وهذا وصف ظاهره استعمال التحميد والتهليل والتكبير ونحوه من ذكر الله، وأن يحصر القلب اللسان، وذلك من أعظم وجوه العبادات، والأحاديث في ذلك كثيرة، وابن آدم منتقل في هذه الثلاث الهيئات لا يخلو في غالب أمره منها فكأنها تحصر زمنه، وكذلك جرت عائشة رضي الله عنها إلى حصر الزمن في قولها، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه، فدخل في ذلك كونه على الخلاء وغير ذلك، وذهبت جماعة من المفسرين إلى أن قوله‏:‏ ‏{‏الذين يذكرون الله‏}‏، إنما هو عبارة عن الصلاة، أي لا يضيعونها ففي حال العذر يصلونها قعوداً وعلى جنوبهم، قال بعضهم وهي كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 103‏]‏، هذا تأويل من تأول هنالك قضيتم بمعنى أديتم، لأن بعض الناس يقول قضيتم هنالك بمعنى فرغتم منها، فإذا كانت هذه الآية في الصلاة ففقهها أن الإنسان يصلي قائماً، فإن لم يستطيع فقاعداً، ظاهر المدونة متربعاً، وروي عن مالك وبعض أصحابه أنه يصلي كما يجلس بين السجدتين، فإن لم يستطع القعود صلى على جنبه أو ظهره على التخيير، هذا مذهب المدونة، وحكى ابن حبيب عن ابن القاسم يصلي على ظهره، فإن لم يستطع فعلى جنبه الأيمن، ثم على الأيسر، وفي كتاب ابن المواز، يصلي على جنبه الأيمن، وإلا فعلى الأيسر، وإلا فعلى الظهر، وقال سحنون يصلي على الأيمن كما يجعل في لحده، وإلا فعلى ظهره، وإلا فعلى الأيسر، وحسن عطف قوله ‏{‏وعلى جنوبهم‏}‏، على قوله‏:‏ ‏{‏قياماً وقعوداً‏}‏ لأنه في معنى مضطجعين، ثم عطف على هذه العبادة التي ذكر الله باللسان أو الصلاة فرضها ومندوبها بعبادة أخرى عظيمة، وهي الفكرة في قدرة الله تعالى ومخلوقاته، والعبر التي بث‏:‏ ‏[‏المتقارب‏]‏

وفي كل شيءٍ له آيةٌ *** تَدُلُّ على أنَّهُ واحدُ

ومر النبي صلى الله عليه وسلم على قوم يتفكرون في الله فقال‏:‏ تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق، فإنكم لا تقدرون قدره، وهذا هو قصد الآية‏:‏ ‏{‏ويتفكرون في خلق السموات والأرض‏}‏، وقال بعض العلماء‏:‏ المتفكر في ذات الله تعالى كالناظر في عين الشمس، لأنه تعالى ليس كمثله شيء، وإنما التفكير وانبساط الذهن في المخلوقات، وفي مخاوف الآخرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا عبادة كتفكر»، وقال الحسن بن أبي الحسن‏:‏ الفكرة مرآة المؤمن، ينظر فيها إلى حسناته وسيئاته، وقال ابن عباش وأبو الدرداء‏:‏ فكرة ساعة خير من قيام ليلة، وقال سري السقطي‏:‏ فكرة ساعة خير من عبادة سنة، ما هو إلا أن تحل أطناب خيمتك فتجعلها في الآخرة، وأخذ أبو سليمان الداراني قدح الماء ليتوضأ لصلاة الليل وعنده ضيف، فرآه لما أدخل أصبعه في أذن القدح أقام كذلك مفكراً حتى طلع الفجر، فقال له ما هذا يا أبا سليمان‏؟‏ فقال‏:‏ إني لما طرحت أصبعي في أذن القدح تذكرت قول الله جل وتعالى‏:‏

‏{‏إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 71‏]‏، ففكرت في حالي، وكيف أتلقى الغل إن طرح في عنقي يوم القيامة، فما زلت في ذلك حتى أصبحت‏.‏

قال القاضي‏:‏ فهذه نهاية الخوف، وخير الأمور أوسطها، وليس علماء الأمة الذين هم الحجة على هذا المنهاج، وقراءة علم كتاب الله ومعاني سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن يفهم ويرجى نفعه أفضل من هذا، لكنه يحسن أن لا تخلو البلاد من مثل هذا، وحدثني أبي رضي الله عنه عن بعض علماء المشرق قال‏:‏ كنت بائتاً في مسجد الأقدام بمصر، فصليت العشاء فرأيت رجلاً قد اضطجع في كساء له مسجى بكسائه حتى أصبح، وصلينا نحن تلك الليلة وسهرنا، فلما أقيمت صلاة الصبح قام ذلك الرجل فاستقبل القبلة فصلى مع الناس، فاستعظمت جرأته في الصلاة بغير وضوء، فلما فرغت الصلاة خرج فتبعته لأعظه فلما دونت منه سمعته ينشد‏:‏ ‏[‏المنسرح‏]‏

مُنْسَحِقُ الجسْمِ غائِبٌ حاضِرْ *** مُنْتَبِهُ الْقَلْبِ صَامِتٌ ذَاكِرْ

مُنْقَبِضٌ في الغُيوبِ مُنْبَسِطٌ *** كذاكَ مَنْ كَانَ عارفاً ذَاكِرا

يَبيتُ في لَيْلهِ أَخَا فِكَرٍ *** فهوَ مَدَى اللَّيلِ نَائِمٌ سَاهِرْ

قال فعلمت أنه ممن يعبد بالفكرة وانصرفت عنه، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ربنا‏}‏ معناه يقولون ربنا على النداء، ما خلقت هذا باطلاً، يريد لغير غاية منصوبة بل خلقته وخلقت البشر لينظر فيه فتوحد وتعبد، فمن فعل ذلك نعمته ومن ضل عن ذلك عذبته لكفره وقوله عليك ما لا يليق بك، ولهذا المعنى الذي تعطيه قوة اللفظ حسن قولهم‏:‏ ‏{‏سبحانك‏}‏‏:‏ أي تنزيهاً لك عما يقول المبطلون وحسن قولهم‏:‏ ‏{‏فقنا عذاب النار‏}‏ إذ نحن المسبحون المنزهون لك الموحدون‏.‏

وقولهم‏:‏ ‏{‏ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته‏}‏، استجارة واستعاذة، أي فلا تفعل بنا ذلك ولا تجعلنا ممن يعمل عملها، والخزي‏:‏ الفضيحة المخجلة الهادمة لقدر المرء، خزي الرجل يخزى خزياً إذا افتضح، وخزاية إذا استحيى، الفعل واحد والمصدر مختلف، وقال أنس بن مالك والحسن بن أبي الحسن وابن جريج وغيرهم‏:‏ هذه إشارة إلى من يخلد في النار، ومن يخرج منها بالشفاعة والإيمان فليس بمخزي، وقال جابر بن عبد الله وغيره‏:‏ كل من دخل النار فهو مخزي وإن خرج منها، وإن في دون ذلك لخزياً‏.‏

قال القاضي‏:‏ أما إنه خزي دون خزي وليس خزي من يخرج منها بفضيحة هادمة لقدره، وإنما الخزي التام للكفار وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما للظالمين من أنصار‏}‏ هو من قول الداعين، وبذلك يتسق وصف الآية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏193- 194‏]‏

‏{‏رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ ‏(‏193‏)‏ رَبَّنَا وَآَتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ ‏(‏194‏)‏‏}‏

هذه الآيات حكاية عن أولي الألباب أنهم يقولون‏:‏ ‏{‏ربنا‏}‏ قال أبو الدرداء‏:‏ يرحم الله المؤمنين ما زالوا يقولون‏:‏ «ربنا ربنا» حتى استجيب لهم، واختلف المتأولون في المنادي، فقال ابن جريج وابن زيد وغيرهما‏:‏ المنادى محمد صلى الله عليه وسلم، وقال محمد بن كعب القرظي‏:‏ المنادي كتاب الله وليس كلهم رأى النبي صلى الله عليه وسلم وسمعه، ولما كانت ‏{‏ينادي‏}‏ بمنزلة يدعو، حسن وصولها باللام بمعنى «إلى الإيمان»، وقوله‏:‏ ‏{‏أن آمنوا‏}‏ «أن» مفسرة لا موضع لها من الإعراب، وغفران الذنوب وتكفير السيئات أمر قريب بعضه من بعض، لكنه كرر للتأكيد ولأنها مناح من الستر، وإزالة حكم الذنب بعد حصوله، و‏{‏الأبرار‏}‏ جمع بر، أصله برر على وزن فعل، أدغمت الراء في الراء، وقيل‏:‏ هو جمع بار كصاحب وأصحاب، والمعنى‏:‏ توفنا معهم في كل أحكامهم وأفعالهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك‏}‏ معناه‏:‏ على ألسنة رسلك، وقرأ الأعمش «رسْلك» بسكون السين، وطلبوا من الله تعالى إنجاز الوعد، وهو تعالى من لا يجوز عليه خلفه من حيث في طلبه الرغبة أن يكونوا ممن يستحقه، فالطلبة والتخويف إنما هو في جهتهم لا في جهة الله تعالى لأن هذا الدعاء إنما هو في الدنيا، فمعنى قول المرء‏:‏ اللهم أنجز لي وعدك، إنما معناه‏:‏ اجعلني ممن يستحق إنجاز الوعد، وقيل‏:‏ معنى دعائهم الاستعجال مع ثقتهم بأن الوعد منجز، وقال الطبري وغيره‏:‏ معنى الآية ما وعدتنا على ألسنة رسلك من النصر على الأعداء فكأن الدعوة إنما هي في حكم الدنيا، وقولهم‏:‏ ‏{‏ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد‏}‏، إشارة إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 8‏]‏ فهذا وعده تعالى وهو دال على أن الخزي إنما هو مع الخلود‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏195- 195‏]‏

‏{‏فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ ‏(‏195‏)‏‏}‏

‏{‏استجاب‏}‏ استفعل بمعنى أجاب، فليس استفعل على بابه من طلب الشيء بل هو كما قال الشاعر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

وداعٍ دَعَا يا مَنْ يُجيبُ إلى النَّدى *** فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ

أي لم يجبه، وقوله‏:‏ ‏{‏أني‏}‏ يجوز أن تكون «أن» مفسرة ويمكن أن تكون بمعنى «أني»، وقرأ عيسى بن عمر‏:‏ «إني» بكسر الهمزة، وهذه آية وعد من الله تعالى‏:‏ أي هذا فعله مع الذين يتصفون بما ذكر، وروي أن أم سلمة رضي الله عنها قالت‏:‏ يا رسول الله، قد ذكر الله تعالى الرجال في الهجرة ولم يذكر النساء في شيء من ذلك، فنزلت الآية، ونزلت آيات في معناها فيها ذكر النساء، وقوله‏:‏ ‏{‏من ذكر‏}‏ تبيين لجنس العامل، وقال قوم‏:‏ ‏{‏من‏}‏ زائدة لتقدم النفي من الكلام وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بعضكم من بعض‏}‏ يعني في الأجر وتقبل العمل، أي إن الرجال والنساء في ذلك على حد واحد، وبيّن تعالى حال المهاجرين، ثم الآية بعد تنسحب على كل من أوذي في الله تعالى وهاجر أيضاً إلى الله تعالى وإن كان اسم الهجرة وفصلها الخاص بها قد انقطع بعد الفتح، فالمعنى باق إلى يوم القيامة، ‏{‏والله يضاعف لمن يشاء‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 261‏]‏ و«هاجر» مفاعلة من اثنين، وذلك أن الذي يهجر وطنه وقرابته في الله كان الوطن والقرابة يهجرونه أيضاً فهي مهاجرة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأخرجوا من ديارهم‏}‏ عبارة إلزام ذنب للكفار، وذلك أن المهاجرين إنما أخرجهم سوء العشرة وقبيح الأفعال فخرجوا باختيارهم فإذا جاء الكلام في مضمار إلزام الذنب، للكفار قيل أخرجوا من ديارهم، وإخراج أهله منه أكبر عند الله، إلى غير ذلك من الأمثلة، وإذا جاء الكلام في مضمار الفخر والقوة على الأعداء، تمسك بالوجه الآخر من أنهم خرجوا برأيهم، فمن ذلك إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على أبي سفيان بن الحارث حين أنشده‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

‏(‏وردني‏.‏‏.‏‏.‏ إلى الله من طردت كل مطردِ‏)‏ *** فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنت طردتني كل مطرد‏؟‏ إنكاراً عليه ومن ذلك قول كعب بن زهير‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

في عصبةٍ مِنْ قريشٍ قَالَ قَائِلُهُمْ *** ببطنِ مَكَّةَ لَمَّا أسْلَمُوا زُولُوا

زَالُوا فَمَا زَالَ أَنْكَاسٌ وَلاَ كُشُفٌ *** عِنْدَ اللّقَاءِ وَلاَ مِيلٌ مَعَازِيلُ

وقرأ نافع وعاصم وأبو عمرو‏:‏ «وقاتلوا وقتُلوا» بتخفيف التاء وضم القاف، ومعنى هذه القراءة بيّن، وقرأ ابن كثير‏:‏ «وقاتلوا وقتّلوا» بتشديد التاء وهي في المعنى كالأولى في المبالغة في القتل، وقرأ حمزة والكسائي‏:‏ «وقتلوا وقاتلوا» يبدآن بالفعل المبني للمفعول به، وكذلك اختلافهم في سورة التوبة، غير أن ابن كثير وابن عامر يشددان في التوبة، ومعنى قراءة حمزة هذه‏:‏ إما أن لا تعطى الواو رتبه لأن المعطوف بالواو يجوز أن يكون أولاً في المعنى وليس كذلك العطف بالفاء، ويجوز أن يكون المعنى وقتلوا وقاتل باقيهم فتشبه الآية قوله تعالى‏:‏

‏{‏فما وهنوا لما أصابهم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 146‏]‏ على تأويل من رأى أن القتل وقع بالربيين، وقرأ عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه‏:‏ و«قَتَلوا» بفتح القاف والتاء من غير ألف، و«قُتِلوا» بضم القاف وكسر التاء خفيفة، وهي قراءة حسنة المعنى مستوفية للفضلين على الترتيب المتعارف، وقرأ محارب بن ثار‏:‏ «وقَتلوا» بفتح القاف «وقاتلوا»، وقرأ طلحة بن مصرف‏:‏ «وقُتّلوا» بضم القاف وشد التاء «وقاتلوا» وهذه يدخلها إما رفض رتبه الواو، وإما أنه قاتل من بقي، واللام في قوله‏:‏ ‏{‏لأكفرن‏}‏ لام القسم و‏{‏ثواباً‏}‏ مصدر مؤكد مثل قوله‏:‏ ‏{‏صنع الله‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 88‏]‏ و‏{‏كتاب الله عليكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 24‏]‏ وباقي الآية بين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏196- 198‏]‏

‏{‏لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ ‏(‏196‏)‏ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ‏(‏197‏)‏ لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ ‏(‏198‏)‏‏}‏

نزلت ‏{‏لا يغرنك‏}‏ في هذه الآية، منزلة‏:‏ لا تظن أن حال الكفار حسنة فتهتم لذلك، وذلك أن المغتر فارح بالشئ الذي يغتر به، فالكفار مغترون بتقلبهم والمؤمنون مهتمون به، لكنه ربما يقع في نفس مؤمن أن هذا الإملاء للكفار إنما هو لخير لهم، فيجئ هذا جنوحاً إلى حالهم ونوعاً من الاغترار فلذلك حسنت ‏{‏لا يغرنك‏}‏ ونظيره قول عمر لحفصة‏:‏ لا يغرنك إن كانت جارتك أوضأ منك وأحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، المعنى‏:‏ لا تغتري بما يتم لتلك من الإدلال فتقعي فيه فيطلقك النبي صلى الله عليه وسلم، والخطاب للنبي عليه السلام، والمراد أمته وللكفار في ذلك حظ، أي لا يغرنكم تقلبهم، وقرأ ابن أبي إسحاق ويعقوب‏:‏ «لا يغرنْك» بسكون النون خفيفة، وكذلك «لا يصدنك ولا يصدنكم ولا يغرنكم»- وشبهه، و«التقلب»‏:‏ التصرف في التجارات والأرباح والحروب وسائر الأعمال، ثم أخبر تعالى عن قلة ذلك المتاع، لأنه منقض صائر إلى ذل وقل وعذاب‏.‏

وقرأ أبو جعفر بن القعقاع‏:‏‏:‏ «لكنّ الذين»، بشد النون، وعلى أن ‏{‏الذين‏}‏ في موضع نصب اسماً ل «لكنّ»، و‏{‏نزلاً‏}‏‏:‏ معناه تكرمة، ونصبه على المصدر المؤكد، وقرأ الحسن‏:‏ «نزْلاً» ساكنة الزاي، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما عند الله خير للأبرار‏}‏ يحتمل أن يريد‏:‏ خير مما هؤلاء فيه من التقلب والتنعم، ويحتمل أن يريد‏:‏ خير مما هم فيه في الدنيا، وإلى هذا ذهب ابن مسعود فإنه قال‏:‏ ما من مؤمن ولا كافر إلا والموت خير له، أما الكافر فلئلا يزداد إثماً، وأما المؤمن فلأن ما عند الله خير للأبرار‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر»، فقال القاضي ابن الطيب‏:‏ هذا هو بالإضافة إلى ما يصير إليه كل واحد منهما في الآخرة، فالدنيا على المؤمن المنعم سجن بالإضافة إلى الجنة، والدنيا للكافر الفقير المضيق عليه في حاله صحته جنة بالإضافة إلى جهنم، وقيل‏:‏ المعنى أنها سجن المؤمن لأنها موضع تبعه في الطاعات وصومه وقيامه، فهو فيها كالمعنت المنكل، وينتظر الثواب في الأخرى التي هي جنته، والدنيا جنة الكافر، لأنها موضع ثوابه على ما عسى أن يعمل من خير، وليس ينتظر في الآخرة ثواباً، فهذه جنته، وهذا القول عندي كالتفسير والشرح للأول‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏199- 200‏]‏

‏{‏وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ‏(‏199‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏200‏)‏‏}‏

اختلف المتأولون، فيمن عنى بهذه الآية، فقال جابر بن عبد الله وابن جريج وقتادة وغيرهم‏:‏ نزلت بسبب أصحمة النجاشي سلطان الحبشة، وذلك أنه كان مؤمناً بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم، فلما مات عرف بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه‏:‏ اخرجوا فصلوا على أخ لكم، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس، فكبر أربعاً، وفي بعض الحديث‏:‏ أنه كشف لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن نعشه في الساعة التي قرب منها للدفن، فكان يراه من موضعه بالمدينة، فلما صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم قال المنافقون‏:‏ انظروا إلى هذا يصلي على علج نصراني لم يره قط، فنزلت هذه الآية، وكان أصحمة النجاشي نصرانياً، وأصحمة تفسيره بالعربية عطية، قاله سفيان بن عيينة وغيره، وروي أن المنافقين قالوا بعد ذلك‏:‏ فإنه لم يصل القبلة فنزلت ‏{‏والله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 115‏]‏ وقال قوم‏:‏ نزلت في عبد الله بن سلام، وقال ابن زيد ومجاهد‏:‏ نزلت في جميع من آمن من أهل الكتاب، و‏{‏خاشعين‏}‏ حال من الضمير في ‏{‏يؤمن‏}‏، ورد ‏{‏خاشعين‏}‏ على المعنى في «من» لأنه جمع لا على لفظ «من» لأنه إفراد، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يشترون بأيات الله ثمناً قليلاً‏}‏ مدح لهم وذم لسائر كفار أهل الكتاب لتبديلهم وإيثارهم كسب الدنيا الذي هو ثمن قليل على آخرتهم وعلى آيات الله تعالى، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الله سريع الحساب‏}‏ قيل معناه‏:‏ سريع إتيان بيوم القيامة، وهو يوم الحساب، فالحساب إذاً سريع إذ كل آت قريب، وقال قوم‏:‏ ‏{‏سريع الحساب‏}‏ أي إحصاء أعمال العباد وأجورهم وآثامهم، إذ ذلك كله في عمله لا يحتاج فيه إلى عد وروية ونظر كما يحتاج البشر‏.‏

ثم ختم الله تعالى السورة بهذه الوصاة التي جمعت الظهور في الدنيا على الأعداء، والفوز بنعيم الآخرة، فحض على الصبر على الطاعات وعن الشهوات، وأمر بالمصابرة فقيل‏:‏ معناه مصابرة الأعداء، قاله زيد بن أسلم، وقيل معناه‏:‏ مصابرة وعد الله في النصر، قاله محمد بن كعب القرظي‏:‏ أي لا تسأموا وانتظروا الفرج، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «انتظار الفرج بالصبر عبادة»، وكذلك اختلف المتأولون في معنى قوله ‏{‏ورابطوا‏}‏ فقال جمهور الأمة معناه‏:‏ رابطوا أعداءكم الخيل، أي ارتبطوها كما يرتبطها أعداؤكم، ومنه قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ومن رباط الخيل‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 8‏]‏، وكتب عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة، وقد كتب إليه يذكر جموع الروم، فكتب إليه عمر‏:‏ أما بعد، فإنه مهما نزل بعبد مؤمن شدة، جعل الله بعدها فرجاً، ولن يغلب عسر يسرين، وأن الله تعالى يقول في كتابه‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا‏}‏ الآية، وقد قال أبو سلمة بن عبد الرحمن‏:‏ هذه الآية هي في انتظار الصلاة بعد الصلاة، ولم يكن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزو يرابط فيه، واحتج بحديث علي بن أبي طالب وجابر بن عبد الله وأبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ألا أدلكم على ما يحط الله به الخطايا ويرفع به الدرجات‏؟‏ إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط فذلكم الرباط، والقول الصحيح هو أن الرباط هو الملازمة في سبيل الله أصلها من ربط الخيل، ثم سمي كل ملازم لثغر من ثغور الإسلام مرابطاً، فارساً كان أو راجلاً، واللفظة مأخوذة من الربط، وقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ فذلك الرباط إنما هو تشبيه بالرباط في سبيل الله، إذ انتظار الصلاة إنما هو سبيل من السبل المنجية، والرباط اللغوي هو الأول، وهذا كقوله‏:‏ ليس الشديد بالصرعة‏:‏ كقوله‏:‏ ليس المسكين بهذا الطواف إلى غير ذلك من الأمثلة، والمرابط في سبيل الله عند الفقهاء‏:‏ هو الذي يشخص إلى ثغر من الثغور ليرابط فيه مدة ما، قاله ابن المواز ورواه، فأما سكان الثغور دائماً بأهليهم الذي يعتمرون ويكتسبون هنالك، وإن كانوا حماة فليسوا بمرابطين، وقوله‏:‏ ‏{‏لعلكم تفلحون‏}‏ ترجّ في حق البشر‏.‏