فصل: تفسير الآيات رقم (195- 196)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏178- 180‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏178‏)‏ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ‏(‏179‏)‏ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ‏(‏180‏)‏‏}‏

‏{‏كتب‏}‏ معناه فرض وأثبت، والكتب مستعمل في الأمور المخلدات الدائمة كثيراً، وقيل إن ‏{‏كتب‏}‏ في مثل هذا إخبار عما كتب في اللوح المحفوظ وسبق به القضاء، وصورة فرض القصاص هو أن القاتل فرض عليه إذا أرد الولي القتل الاستسلام لأمر الله والانقياد لقصاصه المشروع، وأن الولي فرض عليه الوقوف عند قتل قاتل وليه وترك التعدي على غيره كما كانت العرب تتعدى وتقتل بقتيلها الرجل من قوم قاتله، وأن الحكام وأولي الأمر فرض عليهم النهوض بالقصاص وإقامة الحدود، وليس القصاص بلزام إنما اللزام أن لا يتجاوز القصاص إلى اعتداء، فأما إذا وقع الرضى بدون القصاص من دية أو عفو فذاك مباح، فالآية معلمة أن القصاص هو الغاية عند التشاح، و‏{‏القصاص‏}‏ مأخوذ من قص الأثر فكأن القاتل سلك طريقاً من القتل فقص أثره فيها ومشى على سبيله في ذلك، و‏{‏القتلى‏}‏ جمع قتيل، لفظ مؤنث تأنيث الجماعة وهو مما يدخل على الناس كرهاً فلذلك جاء على هذا البناء كجرحى وزمنى وحمقى وصرعى وغرقى‏.‏

واختلف في سبب هذه الآية، فقال الشعبي‏:‏ إن العرب كان أهل العزة منهم والمنعة إذا قتل منهم عبد قتلوا به حراً، وإذاقتلت امرأة قتلوا بها ذكراً، فنزلت الآية في ذلك ليعم الله تعالى بالسوية ويذهب أمر الجاهلية، وحكي أن قوماً من العرب تقاتلوا قتال عمية ثم قال بعضهم‏:‏ نقتل بعبيدنا أحراراً، فنزلت الآية، وقيل‏:‏ نزلت بسبب قتال وقع بين قبيلتين من الأنصار، وقيل‏:‏ من غيرهم فقتل هؤلاء من هؤلاء رجالاً وعبيداً ونساء، فأمر رسول الله صلى عليه وسلم أن يصلح بينهم ويقاصهم بعضهم ببعض بالديات على استواء الأحرار بالأحرار والنساء بالنساء والعبيد بالعبيد، وروي عن ابن عباس أن الآية نزلت مقتضية أن لا يقتل الرجل بالمرأة ولا المرأة بالرجل ولا يدخل صنف على صنف ثم نسخت بآية المائدة أن النفس بالنفس‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ هكذا روي، وآية المائدة إنما هي إخبار عما كتب على بني إسرائيل، فلا يترتب النسخ إلا بما تلقي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن حكمنا في شرعنا مثل حكمهم، وروي عن ابن عباس فيما ذكر أبو عبيد وعن غيره الآية محكمة وفيها إجمال فسرته آية المائدة، وأن قوله هنا ‏{‏الحر بالحر‏}‏ يعم الرجال والنساء، وقاله مجاهد‏.‏

وقال مالك رحمه الله‏:‏ أحسن ما سمعت في هذه الآية أنه يراد بها الجنس الذكر والأنثى فيه سواء، وأعيد ذكر ‏{‏الأنثى‏}‏ تأكيداً وتهمماً بإذهاب أمر الجاهلية، وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعن الحسن بن أبي الحسن أن الآية نزلت مبينة حكم المذكورين ليدل ذلك على الفرق بينهم وبين أن يقتل حر عبداً أو عبد حراً أو ذكر أنثى أو أنثى ذكراً، وقالا‏:‏ إنه إذا قتل رجل امرأة فإن أراد أولياؤها قتلوا صاحبهم ووفوا أولياءه نصف الدية منه وإن أرادوا استحيوه وأخذوا منه دية المرأة، وإذا قتلت المرأة رجلاً فإن أراد أولياؤه قتلوا وأخذوا نصف الدية وإلا أخذوا دية صاحبهم واستحيوها، وإذا قتل الحر العبد فإن أراد سيد العبد قتل وأعطى دية الحر إلا قيمة العبد وإن شاء استحيا وأخذ قيمة العبد، هذا مذكور عن علي رضي الله عنه وعن الحسن، وقد أنكر ذلك عنهما أيضاً، وأجمعت الأمة على قتل الرجل بالمرأة والمرأة بالرجل، والجمهور لا يرون الرجوع بشيء، وفرقة ترى الاتباع بفضل الديات، قال مالك والشافعي‏:‏ وكذلك القصاص بينهما فيما دون النفس، وقال أبو حنيفة، لا قصاص بينهما فيما دون النفس وإنما هو في النفس بالنفس، وقال النخعي وقتادة وسعيد بن المسيب والشعبي والثوري وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن وأبو يوسف‏:‏ يقتل الحر بالعبد، وقال مالك رحمه الله وجمهور من العلماء‏:‏ لا يقتل الحر بالعبد، ودليلهم إجماع الأمة على أن العبد لا يقاوم الحر فيما دون النفس، فالنفس مقيسة على ذلك، وأيضاً فالإجماع فيمن قتل عبداً خطأً أنه ليس عليه إلا القيمة، فكما لم يشبه الحر في الخطأ لم يشبهه في العمد، وأيضاً فإن العبد سلعة من السلع يباع ويشترى، وإذا قتل الرجل ابنه فإن قصد إلى قتله مثل أن يضجعه ويذبحه أو يصبره مما لا عذر له فيه لا شبهة في ادعاء الخطأ فإنه يقتل به قولاً واحداً في مذهب مالك، وإن قتله على حد ما يرمي أو يضرب فيقتله ففيه في المذهب قولان‏:‏ يقتل به، ولا يقتل وتغلظ الدية‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن عفي له من أخيه شيء‏}‏ فيه أربع تأويلات‏:‏

أحدها أن ‏{‏من‏}‏ يراد بها القاتل و‏{‏عفي‏}‏ يتضمن عافياً هو ولي الدم والأخ هو المقتول، ويصح أن يكون هو الولي على هذا التأويل، وهي أخوة الإسلام، و‏{‏شيء‏}‏ هو الدم الذي يعفى عنه ويرجع إلى أخذ الدية، هذا قول ابن عباس وجماعة من العلماء، والعفو في هذا القول على بابه والضميران راجعان على ‏{‏من‏}‏ في كل تأويل‏.‏

والتأويل الثاني وهو قول مالك‏:‏ ان ‏{‏من‏}‏ يراد بها الولي، و‏{‏عفي‏}‏ بمعنى يسر لا على بابها في العفو، والأخ يراد به القاتل، و‏{‏شيء‏}‏ هي الدية، والأخوة على هذا أخوة الإسلام، ويحتمل أن يراد بالأخ على هذا التأويل المقتول أي يسر له من قبل أخيه المقتول وبسببه، فتكون الأخوة أخوة قرابة وإسلام، وعلى هذا التأويل قال مالك رحمه الله‏:‏ إن الولي إذا جنح إلى العفو على أخذ الدية فإن القاتل مخير بين أن يعطيها أو يسلم نفسه فمرة تيسر ومرة لا تيسر، وغير مالك يقول‏:‏ إذا رضي الأولياء بالدية فلا خيار للقاتل بل تلزمه، وقد روي أيضاً هذا القول عن مالك ورجحه كثير من أصحابه‏.‏

والتأويل الثالث أن هذه الألفاظ في المعينين الذين نزلت فيهم الآية كلها وتساقطوا الديات فيما بينهم مقاصة حسبما ذكرناه آنفاً، فمعنى الآية فمن فضل له من الطائفتين على الأخرى شيء من تلك الديات، ويكون ‏{‏عفي‏}‏ بمعنى فضل من قولهم عفا الشيء إذا كثر أي أفضلت الحال له أو الحساب أو القدر‏.‏

والتأويل الرابع هو على قول علي رضي الله عنه والحسن بن أبي الحسن في الفضل بين دية المرأة والرجل والحر والعبد، أي من كان له ذلك الفضل فاتباع بالمعروف، و‏{‏عفي‏}‏ في هذا الموضع أيضاً بمعنى أفضل، وكأن الآية من أولها بينت الحكم إذا لم تتداخل الأنواع ثم الحكم إذا تداخلت، و‏{‏شيء‏}‏ في هذه الآية مفعول لم يسم فاعله، وجاز ذلك و‏{‏عفي‏}‏ لا يتعدى الماضي الذي بنيت منه من حيث يقدر ‏{‏شيء‏}‏ تقدير المصدر، كأن الكلام‏:‏ عفي له من أخيه عفو، و‏{‏شيء‏}‏ اسم عام لهذا وغيره، أو من حيث تقدر ‏{‏عفي‏}‏ بمعنى ترك فتعمل عملها، والأول أجود، وله نظائر في كتاب الله، منها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تضرونه شيئاً‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 57‏]‏، قال الأخفش‏:‏ التقدير لا تضرونه ضراً، ومن ذلك قول أبي خراش‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

فَعَادَيْتُ شَيْئاً والدَّرِيس كأنَّمَا *** يُزَعْزِعُهُ وِرْدٌ مِنَ الْمومِ مردمُ

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاتباع‏}‏ رفع على خبر ابتداء مضمر تقديره فالواجب والحكم اتباع، وهذا سبيل الواجبات كقوله تعالى ‏{‏فإمساك بمعروف‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 229‏]‏، وأما المندوب إليه فيأتي منصوباً كقوله تعالى ‏{‏فضرب الرقاب‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 4‏]‏، وهذا الآية حض من الله تعالى على حسن الاقتضاء من الطالب وحسن القضاء من المؤدي، وقرأ ابن أبي عبلة «فاتباعاً» بالنصب‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذاك تخفيف من ربكم‏}‏ إشارة إلى ما شرعه لهذه الأمة من أخذ الدية، وكانت بنو إسرائيل لا دية عندهم إنما هو القصاص فقط، والاعتداء المتوعد عليه في هذه الآية هو أن يأخذ الرجل دية وليه ثم يقتل القاتل بعد سقوط الدم واختلف في العذاب الأليم الذي يلحقه‏:‏ فقال فريق من العلماء منهم مالك‏:‏ هو كمن قتل ابتداء إن شاء الولي قتله وإن شاء عفا عنه، وعذابه في الآخرة، وقال قتادة وعكرمة والسدي وغيرهم‏:‏ عذابه أن يقتل البتة ولايمكن الحاكم الولي من العفو، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه الله‏:‏ نقسم أن يعفي عن رجل عفا عن الدم وأخذ الدية ثم عدا فقتل، وقال الحسن‏:‏ عذابه أن يرد الدية فقط ويبقى إثمه إلى عذاب الآخرة، وقال عمر بن عبد العزيز أمره إلى الإمام يصنع فيه ما رأى‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكم في القصاص حياة‏}‏ نحوه قول العرب في مثل‏:‏ القتل أوقى للقتل، ويروى‏:‏ أبقى، بباء وقاف‏.‏

ويروى أنفى بنون وفاء، والمعنى أن القصاص إذا أقيم وتحقق الحكم به ازدجر من يريد قتل أحد مخافة أن يقتص منه فحييا بذلك معاً، وهذا الترتيب ما سبق لهما في الأزل، وأيضاً فكانت العرب إذا قتل الرجل الآخر حمي قبيلاهما وتقاتلوا وكان ذلك داعية إلى موت العدد الكثير، فلما شرع الله القصاص قنع الكل به ووقف عنده وتركوا الاقتتال، فلهم في ذلك حياة، وخص ‏{‏أولي الألباب‏}‏ بالذكر تنبيهاً عليهم، لأنهم العارفون القابلون للأوامر والنواهي، وغيرهم تبع لهم، و‏{‏تتقون‏}‏ معناه القتل فتسلمون من القصاص ثم يكون ذلك داعية لأنواع التقوى في غير ذلك فإن الله تعالى يثيب على الطاعة بالطاعة، وقرأ أبو الجوزاء أوس بن عبد الله الربعي «ولكم في القصص» أي في كتاب الله الذي شرع فيه القصاص وحكمه، ويحتمل أن يكون مصدراً كالقصاص، أي إنه قص أثر القاتل قصصاً فقتل كما قتل‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كتب عليكم‏}‏ الآية، كأن الآية متصلة بقوله ‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏ فلذلك سقطت واو العطف، و‏{‏كتب‏}‏ معناه فرض وأثبت، وقال بعض أهل العلم‏:‏ الوصية فرض، وقال قوم‏:‏ كانت فرضاً ونسخت، وقال فريق‏:‏ هي مندوب إليها، و‏{‏كتب‏}‏ عامل في رفع ‏{‏الوصية‏}‏ على المفعول الذي لم يسم فاعله في بعض التقديرات، وسقطت علامة التأنيث من ‏{‏كتب‏}‏ لطول الكلام فحسن سقوطها، وقد حكى سيبويه‏:‏ قام امرأة، ولكن حسن ذلك إنما هو مع طول الحائل، ولا يصح عند جمهور النحاة أن تعمل ‏{‏الوصية‏}‏ في ‏{‏إذا‏}‏ لأنها في حكم الصلة للمصدر الذي هو ‏{‏الوصية‏}‏، وقد تقدمت فلا يجوز أن يعمل فيها متقدمة، ويتجه في إعراب هذه الآية أن يكون ‏{‏كتب‏}‏ هو العامل في ‏{‏إذا‏}‏ والمعنى توجه إيجاب الله عليكم ومقتضى كتابه إذا حضر، فعبر عن توجه الإيجاب ب ‏{‏كتب‏}‏ لينتظم إلى هذا المعنى أنه مكتوب في الأزل، و‏{‏الوصية‏}‏ مفعول لم يسم فاعله ب ‏{‏كتب‏}‏ وجواب الشرطين ‏{‏إذا‏}‏ و‏{‏إن‏}‏ مقدّر، يدل عليه ما تقدم من قوله ‏{‏كتب عليكم‏}‏، كما تقول شكرت فعلك إن جئتني إذا كان كذا، ويتجه في إعرابها أن يكون التقدير‏:‏ كتب عليكم الإيصاء، ويكون هذا الإيصاء المقدر الذي يدل عليه ذكر الوصية بعد هو العامل في ‏{‏إذا‏}‏، وترتفع ‏{‏الوصية‏}‏ بالابتداء وفيه جواب الشرطين على نحو ما أنشد سيبويه‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

مَنْ يَفْعَلِ الصَّالِحَاتِ اللَّهُ يَحْفظُهَا *** أو يكون رفعها بالابتداء بتقدير‏:‏ فعليه الوصية، أو بتقدير الفاء فقط، كأنه قيل‏:‏ فالوصية للوالدين، ويتجه في إعرابها أن تكون ‏{‏الوصية‏}‏ مرتفعة ب ‏{‏كتب‏}‏ على المفعول الذي لم يسم فاعله، وتكون ‏{‏الوصية‏}‏ هي العامل في ‏{‏إذا‏}‏، وهذا على مذهب أبي الحسن الأخفش فإنه يجيز أن يتقدم ما في الصلة الموصول بشرطين هما في هذه الآية، أحدهما أن يكون الموصول ليس بموصول محض بل يشبه الموصول، وذلك كالألف واللام حيث توصل، أو كالمصدر، وهذا في الآية مصدر وهو ‏{‏الوصية‏}‏، والشرط الثاني أن يكون المتقدم ظرفاً فإن في الظرف يسهل الاتساع، و‏{‏إذا‏}‏ ظرف وهذا هو رأي أبي الحسن في قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

تَقُولُ وَصَكَّتْ وَجْهَهَا بِيَمِينِهَا *** أبَعْلِيَ هذا بِالرَّحَا المُتَقَاعِس

فإنه يرى أن «بالرحا» متعلق بقوله المتقاعس، كأنه قال‏:‏ أبَعلي هذا المتقاعس بالرحا، وجواب الشرطين في هذا القول كما ذكرناه في القول الأول، وفي قوله تعالى ‏{‏إذا حضر‏}‏ مجاز لأن المعنى إذا تخوف وحضرت علاماته، والخير في هذه الآية المال‏.‏

واختلف موجبو الوصية في القدر الذي تجب منه، فقال الزهري وغيره‏:‏ تجب فيما قل وفيما كثر، وقال النخعي‏:‏ تجب في خمسمائة درهم فصاعداً، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقتادة‏:‏ في ألف فصاعداً‏.‏

واختلف العلماء في هذه الآية، فقال فريق‏:‏ محكمة ظاهرها العموم ومعناها الخصوص في الوالدين اللذين لا يرثان كالكافرين والعبدين، وفي القرابة غير الوارثة، وقال ابن عباس والحسن وقتادة‏:‏ الآية عامة وتقرر الحكم بها برهة ونسخ منها كل من يرث بآية الفرائض، وفي هذه العبارة يدخل قول ابن عباس والحسن وغيرهما إنه نسخ منها الوالدان وثبت الأقربون الذين لا يرثون، وبين أن آية الفرائض في سورة النساء ناسخة، لهذا الحديث المتواتر‏:‏ «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث»‏.‏

وقال ابن عمر وابن عباس أيضاً وابن زيد‏:‏ الآية كلها منسوخة وبقيت الوصية ندباً، ونحو هذا قول مالك رحمه الله، وقال الربيع بن خثيم وغيره‏:‏ لا وصية لوارث، وقال عروة بن ثابت للربيع بن خثيم‏:‏ أوصِ لي بمصحفك، فنظر الربيع إلى ولده وقرأ‏:‏ ‏{‏وأولو الأرحام بعضَهم أولى ببعض في كتاب الله‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 6‏]‏، ونحو هذا صنع ابن عمر رضي الله عنه‏.‏

وقال بعض أهل العلم‏:‏ إن الناسخ لهذه الآية هي السنة المتواترة في الحديث المذكور قبل، وقد تقدم توجيه نسخ السنة للكتاب في تفسير قوله تعالى ‏{‏ما ننسخ من آية‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 106‏]‏‏.‏

وقال قوم من العلماء‏:‏ الوصية للقرابة أولى فإن كانت لأجنبي فمعهم ولا تجوز لغيرهم مع تركهم‏.‏

وقال الناس حين مات أبو العالية‏:‏ عجباً له أعتقته امرأة من رياح وأوصى بماله لبني هاشم‏.‏

وقال الشعبي‏:‏ «لم يكن ذلك له ولا كرامة»‏.‏

وقال طاوس‏:‏ «إذا أوصى لغير قرابة ردت الوصية إلى قرابته ونقض فعله» وقاله جابر بن زيد‏.‏

وقال الحسن وجابر بن زيد أيضاً وعبد الملك بن يعلى‏:‏ يبقى ثلث الوصية حيث جلعها ويرد ثلثاها إلى قرابته‏.‏

وقال مالك رحمه الله وجماعة من العلماء‏:‏ الوصية ماضية حيث جعلها الميت، والأقربون‏:‏ جمع أقرب، و‏{‏بالمعروف‏}‏ معناه بالقصد الذي تعرفه النفوس دون إضرار بالورثة ولا تبذير للوصية، و‏{‏حقاً‏}‏ مصدر مؤكد، وخص المتقون بالذكر تشريفاً للرتبة ليتبادر الناس إليها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏181- 184‏]‏

‏{‏فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏181‏)‏ فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏182‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ‏(‏183‏)‏ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏184‏)‏‏}‏

الضمير في ‏{‏بدله‏}‏ عائد على الإيصاء وأمر الميت وكذلك في ‏{‏سمعه‏}‏، ويحتمل أن يعود الذي في ‏{‏سمعه‏}‏ على أمر الله تعالى في هذه الآية، والقول الأول أسبق للناظر، لكن في ضمنه أن يكون المبدل عالماً بالنهي عامداً لخلافه، والضمير في ‏{‏إثمه‏}‏ عائد على التبديل، و‏{‏سميع عليم‏}‏ صفتان لا يخفى معهما شيء من جنف الموصين وتبديل المتعدين، وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم «من موَصّ» بفتح الواو وتشديد الصاد، وقرأ الباقون بسكون الواو، والجنف الميل، وقال الأعشى‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

تجانِفُ عَنْ حِجْرِ الْيَمَامَةِ نَاقَتي *** وَمَا قَصَدَتْ مِنْ أَهْلِهَا لِسِوَائِكَا

وقال عامر الرامي الحضرمي المحاربي‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏

هُمُ الْمَوْلَى وَقَدْ جَنَفُوا عَلَيْنَا *** وإِنَّا مِنْ عَدَواتِهِمْ لَزُورُ

ومعنى الآية على ما قال مجاهد‏:‏ من خشي أن يحيف الموصي ويقطع ميراث طائفة ويتعمد الإذاية أو يأتيها دون تعمد وذلك هو الجنف دون إثم وإذا تعمد فهو الجنف في إثم، فالمعنى‏:‏ من وعظه في ذلك ورده عنه فصلح بذلك ما بينه وبين ورثته وما بين الورثة في ذاتهم ‏{‏فلا إثم، عليه، إن الله غفور‏}‏ عن الموصي إذا عملت فيه الموعظة ورجع عما أراد من الإذاية ‏{‏رحيم‏}‏ به‏.‏

وقال ابن عباس رضي الله عنه وقتادة والربيع‏:‏ معنى الآية، من خاف أي علم ورأى وأتى علمه عليه بعد موت الموصي أن الموصي خلف وجنف وتعمد إذاية بعض ورثته فأصلح ما وقع بين الورثة من الاضطراب والشقاق فلا إثم عليه، أي لا يلحقه إثم المبدل المذكور قبل وإن كان في فعله تبديل ما ولا بد، لكنه تبديل لمصلحة، والتبديل الذي فيه الإثم إنما هو تبديل الهوى‏.‏ وقرأ عبد الله بن عمر رضي الله عنه‏:‏ «فلإثم عليه» بحذف الألف، و‏{‏كتب‏}‏‏:‏ معناه فرض‏.‏

والصيام في اللغة الإمساك وترك التنقل من حالٍ إلى حال، ومنه قول النابغة‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

خَيْلٌ صِيَامٌ وَخَيْلٌ غَيْرُ صَائِمَةٍ *** تَحْتَ العَجَاجٍ وَخَيْلٌ تَعْلِكُ اللُّجُمَا

أي خيل ثابتة ممسكة، ومنه قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏إني نذرت للرحمن صوماً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 26‏]‏ أي إمساكاً عن الكلام، ومنه قول امرئ القيس‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

كأَنَّ الثُّريَّا عُلِّقَتْ في مَصَامها *** أي في موضع ثبوتها وامتساكها، ومنه قوله‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

فَدَعْ ذَا وَسَلِّ الْهَمِّ عَنْكَ بِجَسْرَةٍ *** ذَمُولٍ إِذَا صَامَ النَّهَارُ وَهَجَّرَا

أي وقفت الشمس عن الانتقال وثبتت، والصيام في الشرع إمساك عن الطعام والشراب مقترنة به قرائن من مراعاة أوقات وغير ذلك، فهو من مجمل القرآن في قول الحذاق، والكاف من قوله ‏{‏كما‏}‏ في موضع نصب على النعت، تقديره كتباً كما، أو صوماً كما، أو على الحال كأن الكلام‏:‏ كتب علكيم الصيام مشبهاً ما كتب على الذين من قبلكم‏.‏

وقال بعض النحاة‏:‏ الكاف في موضع رفع على النعت للصيام إذ ليس تعريفه بمحض لمكان الإجمال الذي فيه مما فسرته الشريعة فلذلك جاز نعته ب ‏{‏كما‏}‏ إذ لا تنعت بها إلا النكرات فهو بمنزلة كتب عليكم صيام، وقد ضعف هذا القول‏.‏

واختلف المتأولون في موضع التشبيه، فقال الشعبي وغيره‏:‏ المعنى كتب عليكم رمضان كما كتب على النصارى، قال‏:‏ «فإنه كتب عليهم رمضان فبدلوه لأنهم احتاطوا له بزيادة يوم في أوله ويوم في آخره، قرناً بعد قرن حتى بلغوه خمسين يوماً، فصعب عليهم في الحر فنقلوه إلى الفصل الشمسي»‏.‏

قال النقاش‏:‏ «وفي ذلك حديث عن دغفل بن حنظلة والحسن البصري والسدي»، وقيل‏:‏ بل مرض ملك من ملوكهم فنذر إن برئ أن يزيد فيه عشرة أيام، ثم آخر سبعة، ثم آخر ثلاثة، ورأوا أن الزايادة فيه حسنة بإزاء الخطأ في نقله‏.‏

وقال السدي والربيع‏:‏ التشبيه هو أن من الإفطار إلى مثله لا يأكل ولا يشرب ولا يطأ، فإذا حان الإفطار فلا يفعل هذه الأشياء من نام، وكذلك كان في النصارى أولاً، وكان في أول الإسلام، ثم نسخه الله بسبب عمر وقيس بن صرمة بما يأتي من الآيات في ذلك‏.‏

وقال عطاء‏:‏ «التشبيه كتب عليكم الصيام ثلاثة أيام من كل شهر- قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه‏:‏ وفي بعض الطرق‏:‏ ويوم عاشوراء- كما كتب على الذين من قبلكم ثلاثة أيام من كل شهر ويوم عاشوراء، ثم نسخ هذا في هذه الأمة بشهر رمضان»‏.‏

وقالت فرقة‏:‏ التشبيه كتب عليكم كصيام بالإطلاق، أي قد تقدم في شرع غيركم، ف ‏{‏الذين‏}‏ عام في النصارى وغيرهم، و‏{‏لعلكم‏}‏ ترجّ في حقهم، و‏{‏تتقون‏}‏ قال السدي‏:‏ معناه تتقون الأكل والشرب والوطء بعد النوم على قول من تأول ذلك، وقيل‏:‏ تتقون على العموم، لأن الصيام كما قال عليه السلام‏:‏ «جنة» ووجاء وسبب تقوى، لأنه يميت الشهوات‏.‏

و ‏{‏أياماً‏}‏ مفعول ثان ب ‏{‏كتبَ‏}‏، قاله الفراء، وقيل‏:‏ هي نصب على الظرف، وقيل‏:‏ نصبها ب ‏{‏الصيام‏}‏، وهذا لا يحسن إلا على أن يعمل الصيام في الكاف من ‏{‏كما‏}‏ على قول من قدر‏:‏ صوما كما، وإذا لم يعمل في الكاف قبح الفصل بين المصدر وبين ما عمل فيه بما عمل فيه غيره، وذلك إذا كان العامل في الكاف ‏{‏كتب‏}‏، وجوز بعضهم أن يكون ‏{‏أياماً‏}‏ ظرفاً يعمل فيه ‏{‏الصيام‏}‏، و‏{‏معدودات‏}‏، قيل‏:‏ رمضان‏:‏ وقيل‏:‏ الثلاثة الأيام‏.‏

وقوله تعالى ‏{‏فمن كان منكم مريضاً أو على سفر‏}‏، التقدير‏:‏ فأفطر ‏{‏فعدة من أيام أخر‏}‏، وهذا يسمونه فحوى الخطاب‏.‏

واختلف العلماء في حد المرض الذي يقع به الفطر‏:‏ فقال قوم‏:‏ متى حصل الإنسان في حال يستحق بها اسم المريض صح الفطر قياساً على المسافر أنه يفطر لعلة السفر وإن لم تدعه إلى الفطر ضرورة، وقاله ابن سيرين‏.‏

وقال جمهور من العلماء‏:‏ إذا كان به مرض يؤذيه ويؤلمه أو يخاف تماديه أو يخاف من الصوم تزيده صح له الفطر، وهذا مذهب حذاق أصحاب مالك رحمه الله، وبه يناظرون، وأما لفظ مالك فهو‏:‏ المرض الذي يشق على المرء ويبلغ به‏.‏

وقال الحسن‏:‏ «إذا لم يقدر من المرض على الصلاة قائماً أفطر»‏.‏

وقالت فرقة‏:‏ لا يفطر بالمرض إلا من دعته ضرورة المرض نفسه الفطر، ومتى احتمل الضرورة معه لم يفطر، وهذا قول الشافعي رحمه الله‏.‏

واختلف العلماء في الأفضل من الفطر أو الصوم في السفر، فقال قوم والشافعي ومالك في بعض ما روي عنه‏:‏ الصوم أفضل لمن قوي، وجل مذهب مالك التخيير‏.‏

وقال ابن عباس وابن عمر وغيرهما‏:‏ الفطر أفضل‏.‏

وقال مجاهد وعمر بن العزيز وغيرهما‏:‏ أيسرهما أفضلهما، وكره ابن حنبل وغيره الصوم في السفر‏.‏

وقال ابن عمر‏:‏ من صام في السفر قضى في الحضر، وهو مذهب عمر رضي الله عنه، ومذهب مالك في استحبابه الصوم لمن قدر عليه‏.‏ وتقصير الصلاة حسن، لأن الذمة تبرأ في رخصة الصلاة وهي مشغولة في أمر الصيام، والصواب المبادرة بالأعمال‏.‏ وقال ابن عباس رضي الله عنه‏:‏ «الفطر في السفر عزمة»، وذهب أنس بن مالك إلى الصوم، وقال‏:‏ إنما نزلت الرخصة ونحن جياع نروح إلى جوع، ونغدو إلى جوع، والسفر سفر الطاعة كالحج والجهاد بإجماع، ويتصل بهذين سفر صلة الرحم وطلب المعاش الضروري‏.‏ وأما سفر التجارة والمباحات فمختلف فيه بالمنع والجواز والقول بالجواز أرجح وأما سفر المعاصي فمختلف فيه بالجواز والمنع والقول بالمنع أرجح، ومسافة سفر الفطر عند مالك حيث تقصر الصلاة، واختلف في قدر ذلك، فقال مالك‏:‏ يوم وليلة ثم رجع فقال‏:‏ ثمانية وأربعون ميلاً، وروي عنه‏:‏ يومان، وروي عنه في العتبية‏:‏ خمسة وأربعون ميلاً، وفي المبسوط‏:‏ أربعون ميلاً، وفي المذهب‏:‏ ستة وثلاثون ميلاً، وفيه‏:‏ ثلاثون‏.‏

وقال ابن عمر وابن عباس والثوري‏:‏ الفطر في سفر ثلاثة أيام، وفي غير المذهب‏:‏ يقصر في ثلاثة أميال فصاعداً‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فعدة‏}‏ مرفوع على خبر الابتداء تقديره فالحكم أو فالواجب عدة، ويصح أن يرتفع على ابتداء والخبر بعده والتقدير فعدة أمثل له، ويصح فعليه عدة، واختلف في وجوب تتابعها على قولين، و‏{‏أخر‏}‏ لا ينصرف عند سيبويه لأنه معدول عن الألف واللام لأن هذا البناء إنما يأتي بالألف واللام كما تقول الفضل والكبر فاجتمع فيه العدل والصفة، وجاء في الآية ‏{‏أخر‏}‏ ولم يجئ أخرى لئلا تشكل بأنها صفة للعدة، والباب أن جمع ما لا يعقل يجري في مثل هذا مجرى الواحدة المؤنثة ومنه قوله تعالى

‏{‏يا جبال أوبي معه‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 10‏]‏، إلى غير ذلك‏.‏

وقرأ جمهور الناس «يطيقونه» بكسر الطاء وسكون الياء والأصل «يطوقونه» نقلت حركة الواو إلى الطاء وقلبت ياء لانكسار ما قبلها، وقرأ حميد «يطوقونه» وذلك على الأصل، والقياس الإعلال‏.‏

وقرأ ابن عباس «يطوقونه» بمعنى يكلفونه‏.‏

وقرأت عائشة وطاوس وعمرو بن دينار «يَطَّوقونه» بفتح الياء وشد الطاء مفتوحة‏.‏

وقرأت فرقة «يُطَيَّقونه» بضم الياء وشد الطاء وشد الياء المفتوحة بمعنى يتكلفونه، وحكاها النقاش عن عكرمة، وتشديد الياء في هذه اللفظة ضعيف‏.‏

وقرأ نافع وابن عامر من طريق ابن ذكوان «فديةُ طعام مساكين» بإضافة الفدية‏.‏

وقرأ هاشم عن ابن عامر «فديةٌ طعام مساكين» بتنوين الفدية‏.‏

وقرأ الباقون «فديةٌ» بالتنوين «طعام مسكين» بالإفراد، وهي قراءة حسنة لأنها بينت الحكم في اليوم، وجمع المساكين لا يدرى كم منهم في اليوم إلا من غير الآية‏.‏

قال أبو علي‏:‏ «فإن قلت كيف أفردوا المساكين والمعنى على الكثرة لأن الذين يطيقونه جمع وكل واحد منهم يلزمه مسكين فكان الوجه أن يجمعوا كما جمع المطيقون‏؟‏، فالجواب أن الإفراد حسن لأنه يفهم بالمعنى أن لكل مسكيناً، ونظير هذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 4‏]‏ فليست الثمانون متفرقة في جميعهم بل لكل واحد ثمانون‏.‏

واختلف المتأولون في المراد بالآية فقال معاذ بن جبل وعلقمة والنخعي والحسن البصري وابن عمر والشعبي وسلمة بن الأكوع وابن شهاب‏:‏ كان فرض الصيام هكذا على الناس من أراد صام ومن أراد أطعم مسكيناً وأفطر، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن شهد منكم الشهر فليصمه‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 185‏]‏‏.‏

وقالت فرقة‏:‏ و‏{‏على الذين يطيقونه‏}‏ أي على الشيوخ والعجّز، الذين يطيقون، لكن بتكلف شديد فأباح الله لهم الفدية والفطر، وهي محكمة عند قائلي هذا القول‏.‏ وعلى هذا التأويل تجيء قراءة ‏{‏يطوقونه‏}‏ و» يطوقونه «‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏» نزلت هذه الرخصة للشيوخ والعجّز خاصة إذا أفطروا وهم يطيقون الصوم ثم نسخت بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن شهد منكم الشهر فليصمه‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 185‏]‏، فزالت الرخصة إلا لمن عجز منهم «‏.‏

وقال السدي‏:‏ ‏{‏وعلى الذين يطيقونه‏}‏ أي على الذين كانوا يطيقونه وهم بحالة الشباب ثم استحالوا بالشَّيَخ فلا يستطيعون الصوم»، وهي عنده محكمة، ويلزم الشيوخ عنده الفدية إذا أفطروا، ونحوه عن ابن عباس‏.‏

وقال مالك‏:‏ «لا أرى الفدية على الشيخ الضعيف واجبة، وتستحب لمن قدر عليها»، والآية عنده إنما هي فيمن يدركه رمضان وعليه صوم من المتقدم فقد كان يطيق في تلك المدة الصوم فتكره فعليه الفدية‏.‏

وقال الشافعي وأبو حنيفة‏:‏ على الشيخ العاجز الإطعام‏.‏

وحكى الطبري عن عكرمة أنه كان يقرؤها «وعلى الذين يَطَّيَّقونه» فأفطر، ومذهب مالك رحمه الله وجماعة من العلماء أن قدر الدية مد لكل مسكين‏.‏

وقال قوم‏:‏ قوت يوم‏:‏ وقال قوم‏:‏ عشاء وسحور‏.‏

وقال سفيان الثوري‏:‏ نصف صاع من قمح أو صاع من تمر أو زبيب، والضمير في ‏{‏يطيقونه‏}‏ عائد على ‏{‏الصيام‏}‏، وقيل على الطعام وهو قول ضعيف‏.‏

واختلف في الحامل فقال ابن عمر وابن عباس‏:‏ تفدي وتفطر ولا قضاء عليها‏.‏

وقال الحسن وعطاء والضحاك والزهري وربيعة ومالك‏:‏ تقضي الحامل إذا أفطرت ولا فدية عليها‏.‏

وقال الشافعي وأحمد بن حنبل ومجاهد‏:‏ تقضي وتفدي إذا أفطرت، وكذلك قال مالك في المرضع إنها إذا أفطرت تقضي وتفدي، هذا هو المشهور عنه، وقال في مختصر ابن عبد الحكم‏:‏ لا إطعام على المرضع‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن تطوع خيراً فهو خير له‏}‏ الآية، قال ابن عباس وطاوس عطاء والسدي‏:‏ المراد من أطعم مسكينين فصاعداً‏.‏

وقال ابن شهاب‏:‏ «من زاد الإطعام على الصوم» وقال مجاهد‏:‏ «من زاد في الإطعام على المد»، و‏{‏خير‏}‏ الثاني صفة تفضيل، وكذلك الثالث، و‏{‏خير‏}‏ الأول قد نزل منزلة مالاً أو نفعاً، وقرأ أبيّ بن كعب «والصوم خير لكم» بدل ‏{‏وأن تصوموا‏}‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن كنتم تعلمون‏}‏ يقتضي الحض على الصوم أي فاعلموا ذلك وصوموا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏185- 186‏]‏

‏{‏شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏185‏)‏ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ‏(‏186‏)‏‏}‏

الشهر مشتق من الاشتهار لأنه مشتهر لا يتعذر علمه على أحد يريده، ورمضان علقه الاسم من مدة كان فيها في الرمض وشدة الحر، وكان اسمه قبل ذلك ناثراً، كما سمي ربيع من مدة الربيع، وجمادى من مدة الجمود، وكره مجاهد أن يقال رمضان دون أن يقال ‏{‏شهر رمضان‏}‏ كما قال الله تعالى، وقال‏:‏ لعل رمضان اسم من أسماء الله عز وجل‏.‏

وقرأ الجمهور الناس «شهرُ» بالرفع، ووجه خبر ابتداء أي ذلكم شهر، وقيل‏:‏ بدل من الصيام، ‏[‏البقرة‏:‏ 183‏]‏ وقيل‏:‏ على الابتداء وخبره ‏{‏الذي أنزل فيه القرآن‏}‏، وقيل‏:‏ ابتداء وخبره ‏{‏فمن شهد‏}‏، و‏{‏الذي أنزل‏}‏ نعت له، فمن قال إن ‏{‏الصيام‏}‏ في قوله ‏{‏كتب عليكم الصيام‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 183‏]‏ هي ثلاثة أيام وعاشوراء قال هاهنا بالابتداء، ومن قال‏:‏ إن ‏{‏الصيام‏}‏ هنالك هو رمضان وهو الأيام المعدودة قال هنا بخبر الابتداء أو بالبدل من الصيام، وقرأ مجاهد وشهر بن حوشب «شهرَ» بالنصب، ورواها أبو عمارة عن حفص عن عاصم ورواها هارون عن أبي عمرو، وهي على الإغراء، وقيل‏:‏ نصب ب ‏{‏تصوموا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 184‏]‏ وقيل‏:‏ نصب على الظرف، وقرأت فرقة بإدغام الراء في الراء وذلك لا تقتضيه الأصول لاجتماع الساكنين فيه‏.‏

واختلف في إنزال القرآن فيه‏:‏ فقال الضحاك‏:‏ أنزل في فرضه وتعظيمه والحض عليه، وقيل‏:‏ بدئ بنزوله فيه على النبي صلى الله عليه وسلم، وقال ابن عباس فيما يؤثر‏:‏ أنزل إلى السماء الدنيا جملة واحدة ليلة أربع وعشرين من رمضان ثم كان جبريل ينزله رسلاً في الأوامر والنواهي والأسباب، وروى واثلة بن الأسقع عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «نزلت صحف إبراهيم أول ليلة من شهر رمضان والتوراة لست مضين منه والإنجيل لثلاث عشرة والقرآن لأربع وعشرين»

وترك ابن كثير همزة ‏{‏القرآن‏}‏ مع التعريف والتنكير حيث وقع، وقد قيل‏:‏ إن اشتقاقه على هذه القرآءة من قرن وذلك ضعيف، و‏{‏هدى‏}‏ في موضع نصب على الحال من ‏{‏القرآن‏}‏، فالمراد أن القرآن بجملته من محكم ومتشابه وناسخ ومنسوخ هدى، ثم شرف بالذكر والتخصيص البينات منه يعني الحلال والحرام والمواعظ، والمحكم كله، فالألف واللام في ‏{‏الهدى‏}‏ للعهد والمراد الأول، و‏{‏الفرقان‏}‏ المفرق بين الحق والباطل، و‏{‏شهد‏}‏ بمعنى حضر، و‏{‏الشهر‏}‏ نصب على الظرف، والتقدير‏:‏ من حضر المصر في الشهر، وقرأ الحسن وعيسى الثقفي والزهري وأبو عبد الرحمن السلمي وأبو حيوة «فَلِيَصُمْه» بتحريك اللام، وكذلك قرؤوا لام الأمر في جميع القرآن على أصلها الذي هو الكسر، وقال علي بن أبي طالب وابن عباس وعبيدة السلماني‏:‏ من شهد أي من حضر دخول الشهر وكان مقيماً في أوله فليكمل صيامه سافر بعد ذلك أو أقام وإنما يفطر في السفر من دخل عليه رمضان وهو في السفر، وقال جمهور الأمة‏:‏ من شهد أول الشهر أو آخره فليصم ما دام مقيماً، وقال أبو حنيفة وأصحابه‏:‏ من شهد الشهر بشروط التكليف غير مجنون ولا مغمى عليه فليصمه، ومن دخل عليه رمضان وهو مجنون وتمادى به طول الشهر فلا قضاء عليه لأنه لم يشهد بصفة يجب بها الصيام، ومن جن أول الشهر أو آخره فإنه يقضي أيام جنونه، ونصب ‏{‏الشهر‏}‏ على هذا التأويل هوعلى المفعول الصريح ب ‏{‏شهد‏}‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو على سفر‏}‏ بمنزلة أو مسافراً فلذلك عطف على اسم، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع ويحيى بن وثاب وابن هرمز وعيسى بن عمر «اليُسُر» و«العسُر» بضم السين، والجمهور‏:‏ بسكونه، وقال مجاهد والضحاك بن مزاحم‏:‏ اليسر الفطر في السفر و‏{‏العسر‏}‏ الصوم في السفر، والوجه عموم اللفظ في جميع أمور الدين، وقد فسر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم «دين الله يسر»‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولتكملوا العدة‏}‏ معناه وليكمل من أفطر في سفره أو في مرضه عدة الأيام التي أفطر فيها، وقرأ أبو بكر عن عصام وأبو عمرو في بعض ما روي عنه «ولتكمّلوا» بتشديد الميم، وقد روي عنهما التخفيف كالجماعة، وهذه اللام متعلقة إما ب ‏{‏يريد‏}‏ فهي اللام الداخلة على المفعول، كالذي في قولك ضربت لزيد، المعنى ويريد إكمال العدة وهي مع الفعل مقدرة بأن، كأن الكلام‏:‏ ويريد لأن تكملوا، هذا قول البصريين، ونحوه قول قيس كثير بن صخر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

أُرِيدُ لأَنْسَى ذِكْرَهَا *** وإما بفعل مضمر بعد، تقديره ولأن تكملوا العدة رخص لكم هذه الرخصة، وهذا قول بعض الكوفيين، ويحتمل أن تكون هذه اللام لام الأمر والواو عاطفة جملة كلام على جملة كلام‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ولتكبروا الله‏}‏ حض على التكبير في آخر رمضان، واختلف الناس في حده، فقال ابن عباس‏:‏ «يكبر المرء من رؤية الهلال إلى انقضاء الخطبة، ويمسك وقت خروج الإمام ويكبر بتكبيره»، وقال قوم‏:‏ يكبر من رؤية الهلال إلى خروج الإمام إلى الصلاة، وقال سفيان‏:‏ «هو التكبير يوم الفطر»، وقال مالك‏:‏ «هو من حين يخرج الرجل من منزله إلى أن يخرج الإمام»، ولفظه عند مالك وجماعة من العلماء‏:‏ «الله أكبر، الله أكبر الله أكبر»، ثلاثاً، ومن العلماء من يكبر ثم يهلل ويسبح أثناء التكبير، ومنه من يقول‏:‏ «الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً»‏.‏ وقد قيل غير هذا، والجميع حسن واسع مع البدأة بالتكبير‏.‏

و ‏{‏هداكم‏}‏، قيل المراد لما ضل فيه النصارى من تبديل صيامهم، وتعميم الهدى جيد، و‏{‏لعلكم تشكرون‏}‏ ترجِّ في حق البشر، أي على نعمة الله في الهدى‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا سألك عبادي عني‏}‏ الآية، قال الحسن بن أبي الحسن‏:‏ سببها أن قوماً قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه‏؟‏ فنزلت، وقال عطاء‏:‏ لما نزلت ‏{‏وقال ربكم ادعوني أستجب لكم‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 60‏]‏ قال قوم في أي ساعة ندعو‏؟‏ فنزلت ‏{‏وإذا سألك عبادي عني‏}‏، وقال مجاهد‏:‏ بل قالوا إلى أين ندعو فنزلت هذه الآية، وقال قتادة بل قالوا‏:‏ كيف ندعو‏؟‏ فنزلت ‏{‏وإذا سألك عبادي‏}‏، روي أن المشركين قالوا لما نزل ‏{‏فإني قريب‏}‏‏:‏ كيف يكون قريباً وبيننا وبينه على قولك سبع سماوات في غلط سمك كل واحدة خمسمائة عام وفيما بين كل سماء مثل ذلك‏؟‏ فنزلت‏:‏ ‏{‏أجيب دعوة الداعي إذا دعان‏}‏ أي فإني قريب بالإجابة والقدرة، وقال قوم‏:‏ المعنى أجيب إن شئت، وقال قوم‏:‏ إن الله تعالى يجيب كل الدعاء‏:‏ فإما أن تظهر الإجابة في الدنيا، وإما أن يكفر عنه، وإما أن يدخر له أجر في الآخرة، وهذا بحسب حديث الموطأ‏:‏ «ما من داع يدعو إلا كان بين إحدى ثلاث»، الحديث، وهذا إذا كان الدعاء على ما يجب دون اعتداء، فإن الاعتداء في الدعاء ممنوع، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ادعوا ربكم تضرعاً وخفية إنه لا يحب المعتدين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 55‏]‏ قال المفسرون‏:‏ أي في الدعاء‏.‏

والوصف بمجاب الدعوة‏:‏ وصف بحسن النظر والبعد عن الاعتداء، والتوفيق من الله تعالى إلى الدعاء في مقدور‏.‏ وانظر أن أفضل البشر المصطفى محمداً صلى الله عليه وسلم قد دعا أن لا يجعل بأس أمته بينهم، الحديث، فمنعها، إذ كان القدر قد سبق بغير ذلك‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فليستجيبوا‏}‏ قال ابو رجاء الخراساني‏:‏ «معناه فليدعوا لي»‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه‏:‏ المعنى فليطلبوا أن أجيبهم، وهذا هو باب استفعل، أي طلب الشيء، إلا ما شذ، مثل، استغنى الله، وقال مجاهد وغيره‏:‏ المعنى فليجيبوا لي فيما دعوتهم إليه من الإيمان، أي بالطاعة والعمل، ويقال‏:‏ أجاب واستجاب بمعنى، ومنه قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

وداع يا من يجيب إلى النّدا *** فلم يستجبه عند ذاك مجيب

أي لم يجبه، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وليؤمنوا بي‏}‏، قال أبو رجاء‏:‏ في أني أجيب دعاءهم، وقال غيره‏:‏ بل ذلك دعاء إلى الإيمان بجملته‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏يَرشُدون‏}‏ بفتح الياء وضم الشين‏.‏ وقرأ قوم بضم الياء وفتح الشين‏.‏ وروي عن ابن أبي عبلة وأبي حيوة فتح الياء وكسر الشين باختلاف عنهما قرآ هذه القرءة والتي قبلها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏187- 187‏]‏

‏{‏أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ‏(‏187‏)‏‏}‏

لفظة ‏{‏أحل‏}‏ تقتضي أنه كان محرماً قبل ذلك، و‏{‏ليلة‏}‏ نصب على الظرف، وهي اسم جنس فلذلك أفردت، ونحوه قول عامر الرامي الحضرمي المحاربي‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏

همُ المَولَى وَقَدْ جَنَفُوا عَلَيْنا *** وإنّا مِنْ عَدَواتِهِمْ لَزُورُ

و ‏{‏الرفث‏}‏ كناية عن الجماع، لأن الله تعالى كريم يكني، قاله ابن عباس والسدي، وقرأ ابن مسعود «الرفوث»، و‏{‏الرفث‏}‏ في غير هذا ما فحش من القول، ومنه قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الرجز‏]‏

عَنِ اللّغَا وَرَفَثِ التَّكَلُّمِ *** وقال أبو إسحاق‏:‏ «الرفث كل ما يأتيه الرجل مع المرأة من قبل ولمس وجماع»‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه‏:‏ أو كلام في هذه المعاني، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من خطاياه كيوم ولدته أمه»

وسبب هذه الآية فيما قال ابن عباس وغيره أن جماعة من المسلمين اختانوا أنفسهم وأصابوا النساء بعد النوم، أو بعد صلاة العشاء، على الخلاف، منهم عمر بن الخطاب، جاء إلى امرأته فأرادها، فقالت له‏:‏ قد نمت، فظن أنها تعتل، فوقع بها ثم تحقق أنها قد كانت نامت، وكان الوطء بعد نوم أحدهما ممنوعاً‏:‏ وقال السدي‏:‏ جرى له هذا في جارية له، قالوا‏:‏ فذهب عمر فاعتذر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجرى نحو هذا لكعب بن مالك الأنصاري، فنزل صدر الآية فيهم، فهي ناسخة للحكم المتقرر في منع الوطء بعد النوم، وحكى النحاس ومكي أن عمر نام ثم وقع بامرأته، وهذا عندي بعيد على عمر رضي الله عنه، وروي أن صرمة بن قيس، ويقال صرمة بن مالك، ويقال أبو أنس قيس بن صرمة، نام قبل الأكل فبقي كذلك دون أكل حتى غشي عليه في نهاره المقبل، فنزل فيه من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكلوا واشربوا‏}‏، واللباس أصله في الثياب ثم شبه التباس الرجل بالمرأة وامتزاجهما وتلازمهما بذلك، كما قال النابغة الجعدي‏:‏ ‏[‏المتقارب‏]‏

إِذَا مَا الضَّجِيعُ ثَنَى جِيدَهَا *** تَدَاعتْ فَكَانَتْ عَلَيْهِ لِبَاسَا

وقال النابغة أيضاً‏:‏ ‏[‏المتقارب‏]‏

لَبِسْت أُنَاساً فَأَفْنَيْتُهُمْ *** وَأَفْنَيْت بَعْدَ أُنَاسِ أُنَاسَا

فشبه خلطته لهم باللباس، نحا هذا المنحى في تفسير اللباس الربيع وغيره، وقال مجاهد والسدي‏:‏ ‏{‏لباس‏}‏‏:‏ سكن، أي يسكن بعضهم إلى بعض، وإنما سميت هذه الأفعال اختياناً لعاقبة المعصية وجزائها، فراكبها يخون نفسه ويؤذيها، و‏{‏فتاب عليكم‏}‏ معناه من المعصية التي واقعتموها، و‏{‏عفا عنكم‏}‏ يحتمل أن يريد عن المعصية بعينها فيكون ذلك تأكيداً، وتأنيساً بزيادة على التوبة، ويحتمل أن يريد عفا عما كان ألزمكم من اجتناب النساء فيما يؤتنف، بمعنى تركه لكم، كما تقول شيء معفو عنه أي متروك‏.‏

قال ابن عباس وغيره‏:‏ ‏{‏باشروهن‏}‏ كناية عن الجماع، مأخوذ من البشرة، وقد ذكرنا لفظة ‏{‏الآن‏}‏ في ماضي قصة البقرة‏.‏ ‏{‏وابتغوا ما كتب الله لكم‏}‏‏.‏

قال ابن عباس ومجاهد والحكم بن عتيبة وعكرمة والحسن والسدي والربيع والضحاك‏:‏ معناه ابتغوا الولد‏.‏

وروي أيضاً عن ابن عباس وغيره أن المعنى وابتغوا ليلة القدر، وقيل‏:‏ المعنى ابتغوا الرخصة والتوسعة، قاله قتادة، وهو قول حسن، وقرأ الحسن فيما روي عنه ومعاوية بن قرة «واتبعوا» من الاتباع، وجوزها ابن عباس، ورجح ‏{‏ابتغوا‏}‏ من الابتغاء‏.‏

‏{‏وكلوا واشربوا حتى يتبين‏}‏ نزلت بسبب صرمة بن قيس، و‏{‏حتى‏}‏ غاية للتبين، ولا يصح أن يقع التبين لأحد ويحرم عليه الأكل إلا وقد مضى لطولع الفجر قدر، و‏{‏الخيط‏}‏ استعارة وتشبيه لرقة البياض أولاً ورقة السواد الحاف به، ومن ذلك قول أبي داود‏:‏

فَلَمَّا بَصُرْنَ بِهِ غدْوَةً *** وَلاَحَ مِنَ الْفَجْرِ خَيْطٌ أَنَارا

ويروى فنارا، وقال بعض المفسرين‏:‏ ‏{‏الخيط‏}‏ اللون، وهذ لا يطرد لغة، والمراد فيما قال جميع العلماء بياض النهار وسواد الليل، وهو نص قول النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم في حديثه المشهور، و‏{‏من‏}‏ الأولى لابتداء الغاية، والثانية للتبعيض، و‏{‏الفجر‏}‏ مأخوذ من تفجر الماء، لأنه يتفجر شيئاً بعد شيء، وروي عن سهل بن سعد وغيره من الصحابة أن الآية نزلت إلا قوله ‏{‏من الفجر‏}‏ فصنع بعض الناس خيطين أبيض وأسود، فنزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من الفجر‏}‏، وروي أنه كان بين طرفي المدة عام‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ من رمضان إلى رمضان، تأخر البيان إلى وقت الحاجة، وعدي بن حاتم جعل خيطين على وساده وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له‏:‏ «إن وسادك لعريض»، وروي أنه قال له‏:‏ «إنك لعريض القفا» ولهذه الألفاظ تأويلان، واختلف في الحد الذي بتبينه يجب الإمساك‏.‏ فقال الجمهور وبه أخذ الناس ومضت عليه الأمصار والأعصار ووردت به الأحاديث الصحاح‏:‏ ذلك الفجر المعترض الآخذ في الأفق يمنة ويسرة، فبطلوع أوله في الأُوفق يجب الإمساك، وهو مقتضى حديث ابن مسعود وسمرة بن جندب، وروي عن عثمان بن عفان وحذيفة بن اليمان وابن عباس وطلق بن علي وعطاء بن أبي رباح والأعمش وغيرهم أن الإمساك يجب بتبين الفجر في الطرق وعلى رؤوس الجبال، وذكر عن حذيفة أنه قال‏:‏ «تسحرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو النهار، إلا أنّ الشمس لم تطلع»، وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه صلى الصبح بالناس ثم قال‏:‏ «الآن تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود»‏.‏

قال الطبري‏:‏ «ومما قادهم إلى هذا القول أنهم يرون أن الصوم إنما هو في النهار، والنهار عندهم من طلوع الشمس لأن آخره غروبها، فكذلك أوله طلوعها»‏.‏

وحكى النقاش عن الخليل بن أحمد أن النهار من طلوع الفجر، ويدل على ذلك قول الله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏أقم الصلاة طرفي النهار‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 114‏]‏،

قال القاضي أبو محمد‏:‏ والقول في نفسه صحيح، وقد ذكرت حجته في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واختلاف الليل والنهار‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 164، آل عمران‏:‏ 190، الجاثية‏:‏ 5‏]‏، وفي الاستدلال بهذه الآية نظر، ومن أكل وهو يشك هل طلع الفجر أم لم يطلع فعليه عند مالك القضاء‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم أتموا الصيام إلى الليل‏}‏ أمر يقتضي الوجوب، و‏{‏إلى‏}‏ غاية، إذا كان ما بعدها من جنس ما قبلها فهو داخل في حكمه، كقولك اشتريت الفدان إلى حاشيته، وإذا كان من غير جنسه كما تقول اشتريت الفدان إلى الدار لم يدخل في المحدود ما بعد ‏{‏إلى‏}‏، ورأت عائشة رضي الله عنها أن قوله ‏{‏إلى الليل‏}‏ يقتضي النهي عن الوصال، وقد واصل النبي صلى الله عليه وسلم ونهى الناس عن الوصال، وقد واصل جماعة من العلماء وقد تقدم أن هذه الآية نسخت الحكم الذي في قوله ‏{‏كما كتب على الذين من قبلكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 183‏]‏ على قول من رأى التشبيه في الامتناع من الوطء والأكل بعد النوم في قول بعضهم، وبعد صلاة العشاء في قول بعضهم، والليل الذي يتم به الصيام مغيب قرص الشمس، فمن أفطر وهو شاكّ هل غابت الشمس فالمشهور من المذهب أن عليه القضاء والكفارة‏.‏

في ثمانية أبي زيد‏:‏ عليه القضاء فقط قياساً على الشك في الفجر، وهو قول جماعة من العلماء‏.‏

وقال إسحاق والحسن‏:‏ لا قضاء عليه كالناسي‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد‏}‏، قالت فرقة‏:‏ المعنى لا تجامعوهن‏.‏

وقال الجمهور‏:‏ ذلك يقع على الجماع فما دونه مما يتلذذ به من النساء، و‏{‏عاكفون‏}‏ ملازمون، يقال عكف على الشيء إذا لازمه مقبلاً عليه، قال الراجز‏:‏ ‏[‏الرجز‏]‏

عكف النبيط يلعبونَ الفَنْزَجا *** وقال الشاعر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

وَظَلَّ بَنَاتُ اللَّيْلِ حَوْليَ عُكَّفاً *** عَكُوفَ الْبَوَاكِي بَيْنَهُنَّ صَرِيعُ

وقال أبو عمرو وأبو حاتم، قرأ قتادة «عكفون بغير ألف، والاعتكاف سنة، وقرأ الأعمش» في المسجد «بالإفراد، وقال‏:‏» وهو المسجد الحرام «‏.‏

قال مالك رحمه الله وجماعة معه‏:‏ لا اعتكاف إلا في مساجد الجمعات، وروي عن مالك أيضاً أن ذلك في كل مسجد، ويخرج إلى الجمعة كما يخرج إلى ضروري أشغاله‏.‏

وقال قوم‏:‏ لا اعتكاف إلا في أحد المساجد الثلاثة التي تشد المطي إليها حسب الحديث في ذلك‏.‏

وقالت فرقة لا اعتكاف إلى في مسجد نبي‏.‏

وقال مالك‏:‏» لا يعتكف أقل من يوم وليلة، ومن نذر أحدهما لزمه الآخر «‏.‏

وقال سحنون‏:‏» من نذر اعتكاف ليلة لم يلزمه شيء «‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ أيهما نذر اعتكفه ولم يلزمه أكثر‏.‏

وقال مالك‏:‏» لا اعتكاف بصوم «‏.‏

وقال غيره‏:‏ يعتكف بغير صوم، وروي عن عائشة أنه يعتكف في غير مسجد‏.‏

و ‏{‏تلك‏}‏ إشارة إلى هذه الأوامر والنواهي، والحدود‏:‏ الحواجز بين الإباحة والحظر، ومنه قيل للبواب حداد لأنه يمنع، ومنه الحاد وهي المرأة الممتنعة من الزينة، والآيات‏:‏ العلامات الهادية إلى الحق، و‏{‏لعلهم‏}‏ ترّجٍ في حقهم، وظاهر ذلك عموم ومعناه خصوص فيمن يسره الله للهدى بدلالة الآيات التي تتضمن أن الله يضل من يشاء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏188- 190‏]‏

‏{‏وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏188‏)‏ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏189‏)‏ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ‏(‏190‏)‏‏}‏

الخطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، والمعنى لا يأكل بعضكم مال بعض، فأضيفت الأموال إلى ضمير المنهي لما كان كل واحد منهياً عنه، وكما قال ‏{‏تقتلون أنفسكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 85‏]‏، ويدخل في هذه الآية القمار والخداع والغصوب وجحد الحقائق وغير ذلك، ولا يدخل فيه الغبن في البيع مع معرفة البائع بحقيقة ما يبيع لأن الغبن كأنه هبه‏.‏

وقال قوم‏:‏ المراد بالآية ‏{‏ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل‏}‏ أي في الملاهي والقيان والشراب والبطالة، فتجيء على هذا إضافة المال إلى ضمير المالكين‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتدلوا بها‏}‏ الآية، يقال أدلى الرجل بالحجة أو بالأمر الذي يرجو النجاح به تشبيهاً بالذي يرسل الدلو في البئر يرجو بها الماء‏.‏

قال قوم‏:‏ معنى الآية تسارعون في الأموال إلى المخاصمة إذا علمتم أن الحجة تقوم لكم، إما بأن لا تكون على الجاحد بينة، أو يكون مال أمانة كاليتيم ونحوه مما يكون القول فيه قوله، فالباء في ‏{‏بها‏}‏ باء السبب، وقيل‏:‏ معنى الآية ترشوا بها على أكل أكثر منها، فالباء إلزاق مجرد، وهذا القول يترجح لأن الحكام مظنة الرشا إلا من عصم وهو الأقل، وأيضاً فإن اللفظين متناسبتان، ‏{‏تدلوا‏}‏ من أرسل الدلو والرشوة من الرشا، كأنها يمد بها لتقضي الحاجة، و‏{‏تدلوا‏}‏ في موضع جزم عطفاً على ‏{‏تأكلوا‏}‏، وفي مصحف أبيّ «ولا تدلوا» بتكرار حرف النهي، وهذ القراءة تؤيد جزم ‏{‏تدلوا‏}‏ في قراءة الجماعة، وقيل‏:‏ ‏{‏تدلوا‏}‏ في موضع نصب على الظرف، وهذا مذهب كوفي أن معنى الظرف هو الناصب، والذي ينصب في مثل هذا عند سيبويه «أن» مضمرة، والفريق‏:‏ القطعة والجزء، و‏{‏بالإثم‏}‏ معناه بالظلم والتعدي، وسمي ذلك إثماً لما كان الإثم معنى يتعلق بفاعله، و‏{‏أنتم تعلمون‏}‏ أي إنكم مبطلون آثمون، وهذه مبالغة في المعصية والجرأة‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يسألونك عن الأهلة‏}‏ الآية، قال ابن عباس وقتادة والربيع وغيرهم‏:‏ نزلت على سؤال قوم من المسلمين النبي صلى الله عليه وسلم عن الهلال وما فائدة محاقه وكماله ومخالفته لحال الشمس‏؟‏، وجمع ‏{‏الأهلّة‏}‏ وهو واحد في الحقيقة من حيث كونه هلالاً في شهر غير كونه هلالاً في الآخر، فإنما جمع أحواله من الهلالية، والهلال ليلتان بلا خلاف ثم يقمر، وقيل ثلاث‏.‏

وقال الأصمعي‏:‏ هو هلال حتى يحجر ويستدير له كالخيط الرقيق، وقيل هو هلال حتى يبهر بضوئه السماء وذلك ليلة سبع‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏مواقيت‏}‏ معناه لمحل الديون وانقضاء العدد والأكرية وما أشبه هذا من مصالح العباد، ومواقيت الحج أيضاً يعرف بها وقته وأشهره، و‏{‏مواقيت‏}‏ لا ينصرف لأنه جمع لا نظير له في الآحاد، فهو جمع ونهاية إذ ليس يجمع، وقرأ ابن أبي إسحاق «والحِج» بكسر الحاء في جميع القرآن، وفي قوله «حج البيت» في آل عمران‏.‏

قال سيبويه‏:‏ الحج كالرد والشد، والحج كالذكر، فهما مصدران بمعنى، وقيل‏:‏ الفتح مصدر والكسر الاسم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وليس البر‏}‏ الآية، قال البراء بن عازب والزهري وقتادة‏:‏ سببها أن الأنصار كانوا إذا حجوا أو اعتمروا يلتزمون تشرعاً أن لا يحول بينهم وبين السماء حائل، فكانوا يتسنمون ظهور بيوتهم على الجدرات، وقيل‏:‏ كانوا يجعلون في ظهور بيوتهم فتوحاً يدخلون منها ولا يدخلون من الأبواب، وقيل غير هذا مما يشبهه فاختصرته، فجاء رجل منهم فدخل من باب بيته فعيّر بذلك، فنزلت الآية فيه‏.‏

وقال إبراهيم‏:‏ «كان يفعل ما ذكر قوم من أهل الحجاز»‏.‏

وقال السدي‏:‏ ناس من العرب، وهم الذين يسمون الحمس، قال‏:‏ فدخل النبي صلى الله عليه وسلم باباً ومعه رجل منهم، فوقف ذلك الرجل وقال إني أحمس، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أحمس، ونزلت الآية‏.‏

وروى الربيع أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل وخلفه رجل أنصاري فدخل وخرق عادة قومه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لم دخلت وانت قد أحرمت‏؟‏، قال‏:‏ دخلت أنت فدخلت بدخولك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إني أحمس، أي من قوم لا يدينون بذلك، فقال الرجل‏:‏ وأنا ديني دينك، فنزلت الآية‏.‏

قال أبو عبيدة‏:‏ الآية ضرب مثل، المعنى‏:‏ ليس البر أن تسألوا الجهَّال ولكن اتقوا واسألوا العلماء، فهذا كما يقال أتيت هذا الأمر من بابه‏.‏

وقال غير أبي عبيدة‏:‏ «المعنى ليس البر أن تشذوا في الأسئلة عن الأهلّة وغيرها فتأتون الأمور على غير ما يجب»‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا يحتمل والأول أسدُّ، وأما ما حكاه المهدوي ومكي عن ابن الأنباري من أن الآية مثل في جماع النساء فبعيد مغير نمط الكلام، وقرأ ابن كثير وابن عامر والكسائي ونافع بخلاف عنه «البِيوت» بكسر الباء، وقرأ بعض القراء «ولكنَّ البرَّ» بتشديد نون «لكنَّ» ونصب «البرَّ»، وقد تقدم القول على ‏{‏من‏}‏ في قوله ‏{‏من آمن بالله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 177‏]‏ ‏{‏واتقوا‏}‏ معناه اجعلوا بينكم وبين عقابه وقاية، و‏{‏لعلكم‏}‏ ترجٍّ في حق البشر، والفلاح درك البغية‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقاتلوا في سبيل الله‏}‏ الآية، هي أول آية نزلت في الأمر بالقتال‏.‏

قال ابن زيد والربيع‏:‏ معناها قاتلوا من قاتلكم وكفوا عمن كف عنكم، ولا تعتدوا في قتال من لم يقاتلوكم، وهذه الموادعة منسوخة بآية براءة، وبقوله‏:‏ ‏{‏قاتلوا المشركين كافة‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 36‏]‏‏.‏

وقال ابن عباس وعمر بن عبد العزيز ومجاهد‏:‏ معنى الآية قاتلوا الذين هم بحالة من يقاتلكم، ولا تعتدوا في قتل النساء والصبيان والرهبان وشبهه، فهي محكمة على هذا القول، وقال قوم‏:‏ المعنى لا تعتدوا في القتال لغير وجه الله كالحمية وكسب الذكر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏191- 194‏]‏

‏{‏وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ‏(‏191‏)‏ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏192‏)‏ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ ‏(‏193‏)‏ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ‏(‏194‏)‏‏}‏

قال ابن إسحاق وغيره‏:‏ نزلت هذه الآيات في شأن عمرو بن الحضرمي وواقد، وهي سرية عبد الله بن جحش، و‏{‏ثقفتموهم‏}‏ معناه أحكمتم غلبهم ولقيتموهم قادرين عليهم، يقال رجل ثقف لقف إذا كان محكماً لما يتناوله من الأمور، ‏{‏وأخرجوهم‏}‏‏.‏

قال الطبري‏:‏ «الخطاب للمهاجرين، والضمير لكفار قريش»‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه‏:‏ بل الخطاب لجميع المؤمنين، ويقال ‏{‏أخرجوكم‏}‏ إذا أخرجوا بعضهم الأجل قدراً وهم النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرون، ‏{‏والفتنة أشد من القتل‏}‏ أي الفتنة التي حملوكم عليها وراموكم بها على الرجوع إلى الكفر أشد من القتل‏.‏

قال مجاهد‏:‏ «أي من أن يقتل المؤمن، فالقتل أخف عليه من الفتنة»‏.‏

قال غيره‏:‏ بل المعنى الفتنة التي فعلوا أشد في هتك حرمات الحق من القتل الذي أبيح لكم أيها المؤمنون أن توقعوه بهم، ويحتمل أن يكون المعنى والفتنة أي الكفر والضلال الذي هم فيه أشد في الحرم وأعظم جرماً من القتل الذي عيروكم به في شأن ابن الحضرمي‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام‏}‏ الآية، قال الجمهور‏:‏ كان هذا ثم نسخ وأمر بالقتال في كل موضع‏.‏

قال الربيع‏:‏ نسخه ‏{‏وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة‏}‏‏.‏

وقال قتادة‏:‏ نسخة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا انسلخ الأشهر الحرم فقاتلوا المشركين حيث وجدتموهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 5‏]‏‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ «الآية محكمة ولا يجوز قتال أحد في المسجد الحرام إلا بعد أن يقاتل»‏.‏

وقرأ حمزة والكسائي والأعمش «ولا تقتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقتلوكم فيه فإن قتلوكم فاقتلوهم» بالقتل في الأربعة، ولا خلاف في الأخيرة أنها ‏{‏فاقتلوهم‏}‏، والمعنى على قراءة حمزة والكسائي‏:‏ فإن قتلوا منكم فاقتلوهم أيها الباقون، وذلك كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قتل معه ربيون كثير فما وهنوا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 146‏]‏ أي فما وهن الباقون، والانتهاء في هذه الآية هو الدخول في الإسلام، لأن غفران الله ورحمته إنما تكون مع ذلك‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة‏}‏ أمر بالقتال لكل مشرك في كل موضع على قول من رآها ناسخة، ومن رآها غير ناسخة قال‏:‏ المعنى قاتلوا هؤلاء الذين قال الله فيهم ‏{‏فإن قاتلوكم‏}‏، والأول أظهر، وهو أمر بقتال مطلق لا بشرط أن يبدأ الكفار، دليل ذلك قوله ‏{‏ويكون الدين لله‏}‏، والفتنة هنا‏:‏ الشرك وما تابعه من أذى المؤمنين، قاله ابن عباس وقتادة والربيع والسدي، و‏{‏الدين‏}‏ هنا الطاعة والشرع‏.‏ وقال الأعشى ميمون بن قيس‏:‏ ‏[‏الخفيف‏]‏

هو دان الرباب إذ كرهوا الدي *** ن دراكاً بغزوةٍ وصيال

والانتهاء في هذا الموضع يصح مع عموم الآية في الكفار أن يكون الدخول في الإسلام، ويصح أن يكون أداء الجزية، وسمى ما يصنع بالظالمين عدواناً من حيث هو جزاء عدوان إذ الظلم يتضمن العدوان، والعقوبة تسمى باسم الذنب في غير ما موضع، والظالمون هم على أحد التأويلين‏:‏ من بدأ بقتال، وعلى التأويل الآخر‏:‏ من بقي على كفر وفتنة‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الشهر الحرام بالشهر الحرام‏}‏ الآية، قال ابن عباس ومجاهد ومقسم والسدي والربيع والضحاك وغيرهم‏:‏ نزلت في عمرة القضاء وعام الحديبية، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج معتمراً حتى بلغ الحديبية سنة ست، فصده كفار قريش عن البيت، فانصرف ووعده الله أنه سيدخله عليهم، فدخله سنة سبع، فنزلت الآية في ذلك، أي الشهر الحرام الذي غلبكم الله فيه وأدخلكم الحرم عليهم بالشهر الحرام الذي صدوكم فيه، ومعنى ‏{‏الحرمات قصاص‏}‏ على هذا التأويل‏:‏ أي حرمة الشهر وحرمة البلد وحرمة المحرمين حين صددتم بحرمة البلد الشهر والقطان حين دخلتم‏.‏

وقال الحسن بن أبي الحسن‏:‏ نزلت الآية في أن الكفار سألوا النبي صلى الله عليه وسلم هل يقاتل في الشهر الحرام‏؟‏ فأخبرهم أنه لا يقاتل فيه، فهموا بالهجوم عليه فيه وقتل من معه حين طمعوا أنه لا يدافع فيه، فنزلت‏:‏ ‏{‏الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص‏}‏، أي هو عليكم في الامتناع من القتال أو الاستباحة بالشهر الحرام عليهم في الوجهين، فأية سلكوا فاسلكوا، و‏{‏الحرمات‏}‏ على هذا جمع حرمة عموماً‏:‏ النفس والمال والعرض وغير ذلك، فأباح الله بالآية مدافعتهم‏.‏ والقول الأول أكثر‏.‏

وقالت فرقة‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏والحرمات قصاص‏}‏ مقطوع مما قبله، وهو ابتداء أمر كان في أول الإسلام أن من انتهك حرمتك نلت منه مثل ما اعتدى عليك به، ثم نسخ ذلك بالقتال‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ ما تناول من الآية التعدي بين أمة محمد والجنايات ونحوها لم ينسخ، وجائز لمن تعدي عليه في مال أو جرح أن يتعدى بمثل ما تعدي عليه به إذا خفي ذلك له، وليس بينه وبين الله في ذلك شيء، قاله الشافعي وغيره، وهي رواية في مذهب مالك‏.‏

وقالت طائفة منهم مالك‏:‏ ليس ذلك له، وأمور القصاص وقف على الحكام، والأموال يتناولها قول النبي صلى الله عليه وسلم «أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك»‏.‏

وقرأ الحسن بن أبي الحسن «والحرْمات» بسكون الراء‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن اعتدى عليكم‏}‏ الآية، اختلف في نسخ هذه الآية حسبما تقدم، وسمي الجزاء على العدوان عدواناً كما قال ‏{‏الله يستهزئ بهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 15‏]‏ إلى غير ذلك، ‏{‏واتقوا الله‏}‏، قيل‏:‏ معناه في أن لا تعتدوا، وقيل‏:‏ في أن لا تزيدوا على المثل‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ «نزلت هذه الآية وما هو في معناها بمكة والإسلام لم يعزَّ فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعز دينه أمر المسلمون برفع أمورهم إلى حكامهم وأمروا بقتال الكفار»‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ «بل نزلت هذه الآية بالمدينة بعد عمرة القضاء، وهي من التدريج في الأمر بالقتال»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏195- 196‏]‏

‏{‏وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏195‏)‏ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏196‏)‏‏}‏

‏{‏سبيل الله‏}‏ هنا الجهاد، واللفظ يتناول بعد جميع سبله‏.‏

وقال أبو عبيدة وقوم‏:‏ الباء في قوله ‏{‏بأيديكم‏}‏ زائدة، التقدير تلقوا أيديكم‏.‏

وقال الجمهور‏:‏ ذلك ضرب مثل، تقول ألقى فلان بيده في أمر كذا إذا استسلم، لأن المستسلم في القتال يلقي سلاحة بيده، فكذلك فعل كل عاجز في أي فعل كان، ومنه قول عبد المطلب‏:‏ «والله إن إلقاءنا بأيدينا إلى الموت لعجز»‏.‏

وقال قوم‏:‏ التقدير لا تلقوا أنفسكم بأيديكم، كما تقول لا تفسد حالك برأيك، و«التهلُكة» بضم اللام مصدر من هلك، وقرأ الخليل ‏{‏التهلِكة‏}‏ بكسر اللام، وهي تفعلة من «هلّك» بشد اللام‏.‏

وروي عن أبي أيوب الأنصاري أنه كان على القسطنطينية، فحمل رجل على عسكر العدو، فقال قوم ألقى بيده إلى التهلكة، فقال أبو أيوب‏:‏ لا إن هذه الآية نزلت في الأنصار حين أرادوا لما ظهر الإسلام أن يتركوا الجهاد ويعمروا أموالهم، وأما هذا فهو الذي قال الله فيه‏:‏ ‏{‏ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 207‏]‏‏.‏

وقال حذيفة بن اليمان وابن عباس والحسن وعطاء وعكرمة وجمهور الناس‏:‏ المعنى لا تلقوا بأيديكم بأن تتركوا النفقة في سبيل الله وتخافوا العيلة، فيقول الرجل ليس عندي ما أنفق‏.‏

وقال قوم‏:‏ المعنى لا تقنطوا من التوبة‏.‏

وقال البراء بن عازب وعبيدة السلماني‏:‏ الآية في الرجل يقول قد بالغت في المعاصي فلا فائدة في التوبة فينهمك بعد ذلك، وقال زيد بن أسلم‏:‏ المعنى لا تسافروا في الجهاد بغير زاد، وقد كان فعل ذلك قوم فأداهم ذلك إلى الانقطاع في الطريق أو الكون على عالة الناس، وقوله ‏{‏وأحسنوا‏}‏، قيل‏:‏ معناه في أعمالكم بامتثال الطاعات، وروي ذلك عن بعض الصحابة، وقيل‏:‏ المعنى أحسنوا في الإنفاق في سبيل الله في الصدقات، قاله زيد بن أسلم‏.‏

وقال عكرمة‏:‏ المعنى وأحسنوا الظن بالله‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأتموا الحج والعمرة لله‏}‏، قال ابن زيد والشعبي وغيرهما‏:‏ إتمامهما أن لا تفسخ وأن تتمهما إذا بدأت بهما‏.‏

وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه‏:‏ إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك، وفعله عمران بن حصين‏.‏

وقال سفيان الثوري‏:‏ إتمامهما أن تخرج قاصداً لهما لا لتجارة ولا لغير ذلك، ويؤيد هذا قوله‏:‏ ‏{‏لله‏}‏‏.‏

وقال قتادة والقاسم بن محمد‏:‏ إتمامهما أن تحرم بالعمرة وتقضيها في غير أشهر الحج، وأن تتم الحج دون نقص ولا جبر بدم، وهذا مبني على أن الدم في الحج والعمرة جبر نقص، وهو قول مالك وجماعة من العلماء‏.‏ وأبو حنيفة وأصحابه يرون أن كثرة الدم كمال وزيادة، وكلما كثر عندهم لزوم الدم فهو أفضل، واحتجوا بأنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما أفضل الحج‏؟‏ فقال‏:‏ العج والثج، ومالك ومن قال بقوله يراه ثج التطوع‏.‏

وقالت فرقة‏:‏ إتمامهما أن تفرد كل واحدة من حجة وعمرة ولا تقرن، وهذا على أن الإفراد أفضل‏.‏

وقالت فرقة‏:‏ القرآن أفضل، وذلك هو الإتمام عندهم‏.‏

وقال ابن عباس وعلقمة وإبراهيم وغيرهم‏:‏ إتمامهما أن تقضي مناسكهما كاملة بما كان فيها من دماء‏.‏

وفروض الحج‏:‏ النية، والإحرام، والطواف المتصل بالسعي، والسعي بين الصفا والمروة عندنا خلافاً لأبي حنيفة، والوقوف بعرفة، والجمرة على قول ابن الماجشون، وأما أعمال العمرة فنية وإحرام، وطواف، وسعي‏.‏

واختلف في فرض العمرة فقال مالك رحمه الله‏:‏ هي نسة واجبة لا ينبغي أن تترك كالوتر، وهي عندنا مرة واحدة في العام، وهذا قول جمهور أصحابه، وحكى ابن المنذر في الإشراف عن أصحاب الرأي أنها عندهم غير واجبة، وحكى بعض القرويين والبغداديين عن أبي حنيفة أنه يوجبها كالحج، وبأنها سنة‏.‏

قال ابن مسعود وجمهور من العلماء، وأسند الطبري النص على ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروي عن علي بن أبي طالب وابن عباس وابن عمر والشافعي وأحمد وإسحاق والشعبي وجماعة تابعين‏:‏ أنها وجبة كالفرض، وقاله ابن الجهم من المالكيين‏.‏

وقال مسروق‏:‏ «الحج والعمرة فرض، نزلت العمرة من الحج منزلة الزكاة من الصلاة»، وقرأ الشعبي وأبو حيوة «والعمرةُ لله» برفع العمرة على القطع والابتداء، وقرأ ابن أبي إسحاق «الحجِ» بكسر الحاء، وفي مصحف ابن مسعود «وأتموا الحج والعمرة إلى البيت لله»، وروي عنه‏:‏ «وأقيموا الحج والعمرة إلى البيت»، وروي غير هذا مما هو كالتفسير‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي‏}‏، قال علقمة وعروة بن الزبير وغيرهما‏:‏ الآية فيمن أحصر بالمرض لا بالعدو‏.‏

وقال ابن عباس وغيره بعكس ذلك، والمشهور من اللغة أحصر بالمرض وحصر بالعدو، وفي المجمل لابن فارس حصر بالمرض وأحصر بالعدو‏.‏

وقال الفراء‏:‏ «هما بمعنى واحد في المرض والعدو»‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه‏:‏ والصحيح أن حصر إنما هي فيما أحاط وجاور فقد يحصر العدو والماء ونحوه ولا يحصر المرض، وأحصر معناه جعل الشيء ذا حصر كأقبر وأحمى وغير ذلك، فالمرض والماء والعدو وغير ذلك قد يكون محصراً لا حاصراً، ألا ترى أن العدو كان محصراً في عام الحديبية، وفي ذلك نزلت هذه الآية عند جمهور أهل التأويل، وأجمع جمهور الناس على أن المحصر بالعدو يحل حيث أحصر، وينحر هديه إن كان ثم هدي ويحلق رأسه‏.‏

وقال قتادة وإبراهيم‏:‏ يبعث بهديه إن أمكنه فإذا بلغ محله صار حلالاً ولا قضاء عليه عند الجيمع إلا أن يكون صرورة فعليه حجة الإسلام‏.‏

وقال ابن الماجشون‏:‏ «ليست عليه حجة الإسلام وقد قضاها حين أحصر»‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا ضعيف لا وجه له‏.‏

وقال أشهب‏:‏ «يهدي المحصر بعدو هدياً من أجل الحصر»‏.‏

وقال ابن القاسم‏:‏ «لا يهدي شيئاً إلا إن كان معه هدي فأراد نحره»، ذكره ابن أبي زيد‏.‏

وقال عطاء وغيره‏:‏ المحصر بالمرض كالمحصر بالعدو‏.‏

وقال مالك رحمه الله وجمهور من العلماء‏:‏ المحصر بالمرض لا يحله إلا البيت، ويقيم حتى يفيق، وإن قام سنين، فإذا وصل البيت بعد فوت الحج قطع التلبية في أوائل الحرم وحل بعمرة، ثم تكون عليه حجة قضاء وفيها يكون الهدي، وقيل‏:‏ إن الهدي يجب في وقت الحصر أولاً، ولم ير ابن عباس من أحصره المرض داخلاً في هذه الآية، وقال‏:‏ إن المريض إن لم يكن معه هدي حل حيث حبس، وإن كان معه هدي لم يحل حتى يبلغ الهدي محله ثم لا قضاء عليه، قال‏:‏ وإنما قال الله‏:‏ ‏{‏فإذا أمنتم‏}‏ والأمن إنما هو من العدو فليس المريض في الآية‏.‏

و ‏{‏ما‏}‏ في موضع رفع، أي فالجواب أو فعليكم ما استيسر، ويحتمل أن تكون في موضع نصب أي فانحروا أو فاهدوا، و‏{‏ما استيسر‏}‏ عند جمهور أهل العلم‏:‏ شاة‏.‏

وقال ابن عمر وعروة بن الزبير ‏{‏ما استيسر‏}‏ جمل دون جمل وبقرة دون بقرة‏.‏

وقال الحسن‏:‏ أعلى الهدي بدنة وأوسطه بقرة واخسّه شاة، و‏{‏الهدي‏}‏ جمع هدية كجدية السرج وهي البراد جمعها جدى، ويحتمل أن يكون ‏{‏الهدي‏}‏ مصدراً سمي به كالرهن ونحوه فيقع للإفراد وللجمع‏.‏

وقال أبو عمرو بن العلاء‏:‏ «لا أعرف لهذه اللفظة نظيراً»‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تحلقوا رؤوسكم‏}‏ الآية، الخطاب لجميع الأمة محصر ومخلى، ومن العلماء من يراها للمحصرين خاصة، ومحل الهدي حيث يحل نحره، وذلك لمن لم يحصر بمنى ولمن أحصر بعدو حيث أحصر إذا لم يمكن إرساله، واما المريض فإن كان له هدي فيرسله إلى محله‏.‏

والترتيب أن يرمي الحاج الجمرة ثم ينحر ثم يحلق ثم يطوف طواف الإفاضة، فإن نحر رجل قبل الرمي أو حلق قبل النحر فلا حرج حسب الحديث ولا دم‏.‏

وقال قوم‏:‏ لا حرج في الحج ولكن يهرق دماً‏.‏

وقال عبد الملك بن الماجشون من أصحابنا‏:‏ «إذا حلق قبل أن ينحر فليهد، وإن حلق رجل قبل أن يرمي فعليه دم قولاً واحداً في المذهب»‏.‏

قال ابن المواز عن مالك‏:‏ ويمر الموسى على رأسه بعد الرمي، ولا دم في ذلك عند أبي حنيفة وجماعة معه‏.‏

وقرأ الزهري والأعرج وأبو حيوة «الهدِيّ» بكسر الدال وشد الياء في الموضعين واحدته هدية، ورويت هذه القراءة عن عاصم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن كان منكم مريضاً‏}‏ الآية، المعنى فحلق لإزالة الأذى ‏{‏ففدية‏}‏، وهذا هو فحوى الخطاب عند أكثر الأصوليين، ونزلت هذه الآية في كعب بن عجرة حين رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأسه يتناثر قملاً، فأمره بالحلاق ونزلت الرخصة‏.‏ و‏{‏فدية‏}‏ رفع على خبر الابتداء، والصيام عند مالك وعطاء ومجاهد وإبراهيم وغيرهم وجميع أصحاب مالك‏:‏ ثلاثة أيام، والصدقة‏:‏ ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع، وذلك مدّان بمدّ النبي صلى الله عليه وسلم، والنسك‏:‏ شاة بإجماع، ومن ذبح أفضل منها فهو أفضل‏.‏

وقال الحسن بن أبي الحسن وعكرمة‏:‏ الصيام عشرة أيام، والإطعام عشرة مساكين‏.‏

وقرأ الزهري «أو نسْك» بسكون السين‏.‏

وقال سعيد بن جبير ومجاهد‏:‏ النسْك شاة، فإن لم يجدها فقيمتها يشترى بها طعام فيطعم منه مدّان لكل مسكين، فإن لم يجد القيمة عرفها وعرف ما يشترى بها من الطعام وصام عن كل مدين يوماً‏.‏

قال علي ابن أبي طالب رضي الله عنه‏:‏ ذلك كله حيث شاء، وقاله إبراهيم وهو مذهب مالك وأصحابه إلا ابن الجهم، فإنه قال‏:‏ لا يكون النسك إلا بمكة‏.‏

وقال عطاء في بعض ما روي عنه وأصحاب الرأي‏:‏ النسك بمكة، والصيام والإطعام حيث شاء‏.‏

وقال الحسن بن أبي الحسن وطاوس وعطاء أيضاً ومجاهد والشافعي‏:‏ النسك والإطعام بمكة، والصيام حيث شاء، والمفتدي مخير في أي هذه الثلاثة شاء، وكذلك قال مالك وغيره في كل ما في القرآن أو فإنه على التخيير‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا أمنتم‏}‏، قال علقمة وعروة‏:‏ المعنى إذا برأتم من مرضكم‏.‏ وقال ابن عباس وقتادة وغيرهما‏:‏ إذا أمنتم من خوفكم من العدو المحصر، وهذا أشبه باللفظ إلا أن يتخيل الخوف من المرض فيكون الأمن منه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن تمتع بالعمرة إلى الحج‏}‏ الآية، قال عبد الله بن الزبير وعلقمة وإبراهيم‏:‏ الآية في المحصرين دون المخلى سبيلهم، وصورة المتمتع عند ابن الزبير أن يحصر الرجل حتى يفوته الحج ثم يصل إلى البيت فيحل بعمرة ويقضي الحج من قابل، فهذا قد تمتع بما بين العمرة إلى حج القضاء، وصورة المتمتع المحصر عند غيره أن يحصر فيحل دون عمرة ويؤخرها حتى يأتي من قابل فيعتمر في أشهر الحج ويحج من عامه‏.‏

وقال ابن عباس وجماعة من العلماء‏:‏ الآية في المحصرين وغيرهم ممن خلي سبيله، وصورة المتمتع أن تجتمع فيه ستة شروط‏:‏ أن يكون معتمراً في أشهر الحج، وهو من غير حاضري المسجد الحرام، ويحل وينشئ الحج من عامه ذلك دون رجوع إلى وطنه أو ما ساواه بعداً‏.‏ هذا قول مالك واصحابه، واختلف لم سمي متمتعاً، فقال ابن القاسم‏:‏ لأنه تمتع بكل ما لا يجوز للمحرم فعله من وقت حله في العمرة إلى وقت إنشائه الحج، وقال غيره‏:‏ سمي متمتعاً لأنه تمتع بإسقاط أحد السفرين، وذلك أن حق العمرة أن تقصد بسفرة وحق الحج كذلك، فلما تمتع بإسقاط أحدهما ألزمه الله هدياً كالقارن الذي يجمع الحج والعمرة في سفر واحد‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه‏:‏ هذه شدة على القادم مكة من سائر الأقطار لما أسقط سفراً، والمكي لا يقتضي حاله سفراً في عمرة ولا حج لأنه في بقعة الحج فلم يلزم شيئاً لأنه لم يسقط شيئاً، ومن قال إن اسم التمتع وحكمه إنما هو من جهة التمتع بالنساء والطيب وغير ذلك فيرد عليه أنه يستغرق قوله‏:‏ ‏{‏فمن تمتع بالعمرة إلى الحج‏}‏ المكي وغيره على السواء في القياس، فكيف يشتد مع ذلك على الغريب الذي هو أعذر ويلزم هدياً، ولا يفعل ذلك بالمكي، فيترجح بهذا النظر أن التمتع إنما هو من أجل إسقاط أحد السفرين، إلا أن أبا عبيد قال في كتاب الناسخ والمنسوخ له‏:‏ إن العمرة في أشهر الحج ممنوعة للمكي لا تجوز له، ورخص الله تعالى للقادم لطول بقائه محرماً وقرن الرخصة بالهدي‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فهذه شدة على أهل مكة، وبهذا النظر يحسن أن يكون التمتع من جهة استباحة ما لا يجوز للمحرم، لكنه قول شاذ لا يعول عليه، وجل الأمة على جواز العمرة في أشهر الحج للمكي ولا دم عليه، وذكر أبو عبيد القولين عن ابن عمر واستند إليه في الذي وافقه، وقد حكاه الطبري عن ابن عباس وقال‏:‏ إنه قال يا أهل مكة لا متعة لكم، إن الله قد أحلها لأهل الآفاق وحرمها عليكم، وإنما يقطع أحدكم وادياً ثم يحرم بعمرة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فمعنى هذا أنهم متى أحرموا داموا إلى الحج، وقال السدي‏:‏ المتمتع هو الذي يفسخ الحج في العمرة، وذلك لا يجوز عند مالك، وفي صحيح مسلم حديث سراقة بن مالك قال‏:‏ قلت يا رسول الله‏:‏ فسخ الحج في العمرة ألنا خاصة أم للأبد‏؟‏ فقال‏:‏ «بل لأبد أبد، بل لأبد أبد»‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وإنما شرط في المتمتع أن يحل في أشهر الحج لأنها مدة يملكها الحج فمن كان فيها محرماً فحقه أن يصل الإحرام إلى الحج، وفي كتاب مسلم إيعاب الأحاديث في هذا المعنى، ومذهب عمر وقول أبي ذر إن متعة النساء ومتعة الحج خاصتان لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقال طاوس‏:‏ «من اعتمر في غير أشهر الحج ثم أقام حتى حج من عامه فهو متمتع»‏.‏

وقال الحسن بن أبي الحسن البصري «من اعتمر بعد يوم النحر في بقية العام فو متمتع»، وهذان قولان شاذان لم يوافقهما أحد من العلماء، وتقدم القول فيما استيسر من الهدي‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏لم يجد‏}‏ إما بعدم المال وإما بعدم الحيوان، و‏{‏في الحج‏}‏ قال عكرمة وعطاء‏:‏ له أن يصومها في أشهر الحج وإن كان لم يحرم بالحج‏.‏

وقال ابن عباس ومالك بن أنس‏:‏ له أن يصومها منذ يحرم بالحج‏.‏

وقال عطاء أيضاً ومجاهد‏:‏ لا يصومها إلا في عشر ذي الحجة‏.‏

وقال ابن عمر والحسن الحكم‏:‏ يصوم يوماً قبل يوم التروية ويوم التروية ويوم عرفة، وكلهم يقول‏:‏ لا يجوز تأخيرها عن عشر ذي الحجة لأن بانقضائه ينقضي الحج‏.‏

وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن عمر ومالك بن أنس وجماعة من أهل العلم‏:‏ من فاته صيامها قبل يوم النحر فله صيامها في أيام التشريق، لأنها من أيام الحج‏.‏

وقال قوم‏:‏ له ابتداء تأخيرها إلى يوم التشريق لأنه لا يجب عليه الصيام إلا بأن لا يجد يوم النحر‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وسبعة إذا رجعتم‏}‏ قال مجاهد وعطاء وإبراهيم‏:‏ المعنى إذا رجعتم من منى فمن بقي بمكة صامها، ومن نهض إلى بلده صامها في الطريق‏.‏

وقال قتادة والربيع‏:‏ هذه رخصة من الله تعالى، والمعنى إذا رجعتم إلى أوطانكم فلا يجب على أحد صوم السبعة إلا إذا وطنه، إلا أن يتشدد أحد كما يفعل من يصوم في السفر في رمضان، وقرأ زيد بن علي «وسبعةً» بالنصب، أي وصوموا سبعة، ولما جاز أن يتوهم متوهم التخيير بين ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع أزيل ذلك بالجملة من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تلك عشرة كاملة‏}‏ قال الحسن بن أبي الحسن‏:‏ المعنى كاملة في الثواب كمن أهدى، وقيل كاملة في الثواب كمن لم يتمتع، وهذا على أن الحج الذي لم تكثر فيه الدماء أخلص وأفضل خلافاً لأبي حنيفة، وقيل‏:‏ ‏{‏كاملة‏}‏ توكيد كما تقول كتبت بيدي، وكقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فخر عليهم السقف من فوقهم‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 6‏]‏، وقيل‏:‏ لفظها الإخبار ومعناها الأمر أي أكملوها فذلك فرضها‏.‏

وقال الاستاذ الأجل أبو الحسن علي بن أحمد‏:‏ المعنى تلك كاملة، وكرر الموصوف تأكيداً كما تقول زيد رجل عاقل‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك لمن لم يكن أهله‏}‏ الآية، الإشارة إلى التمتع وهديه وحكمه، وهذا على قول من يرى أن المكي لا تجوز له المتعة في أشهر الحج، فكان الكلام ذلك الترخيص، ويتأيد هذا بقوله ‏{‏لمن‏}‏، لأن اللام أبداً إنما تجيء مع الرخص، تقول لك إن تفعل كذا، وأما مع الشدة فالوجه أن تقول عليك، وأما من يرى أن المكي يعتمر ولا دم عليه لأنه لم يسقط سفراً فالإشارة بذلك-على قوله- هي إلى الهدي، أي ذلك الاشتداد والإلزام‏.‏

واختلف الناس في ‏{‏حاضري المسجد الحرام‏}‏ بعد الإجماع على أهل مكة وما اتصل بها، وقال الطبري‏:‏ بعد الإجماع على أهل الحرم، وليس كما قال‏:‏ فقال بعض العلماء‏:‏ من كان حيث تجب الجمعة عليه بمكة فهو حضري، ومن كان أبعد من ذلك فهو بدوي‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فجعل اللفظة من الحضارة والبداوة، وقال بعضهم‏:‏ من كان بحث لا تقصر الصلاة إلى مكانه فهو حاضر أي شاهد، ومن كان أبعد من ذلك فهو غائب، وقال عطاء بن أبي رباح‏:‏ مكة وضجنان وذو طوى وما أشبهها حاضرو المسجد الحرام‏.‏

وقال ابن عباس ومجاهد‏:‏ أهل الحرم كله حاضرو المسجد الحرام، وقال مكحول وعطاء‏:‏ من كان دون المواقيت من كل جهة حاضروا المسجد الحرام‏.‏

وقال الزهري‏:‏ من كان على يوم أو يومين فهو من حاضري المسجد الحرام، ثم أمر تعالى بتقواه على العموم، وحذر من شديد عقابه‏.‏