فصل: تفسير الآيات رقم (197- 198)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏197- 198‏]‏

‏{‏الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ‏(‏197‏)‏ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ‏(‏198‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الحج أشهر معلومات‏}‏، في الكلام حذف تقديره‏:‏ أشهر الحج أشهر، أو‏:‏ وقت الحج أشهر، أو‏:‏ وقت عمل الحج أشهر، والغرض إنما هو أن يكون الخبر عن الابتداء هو الابتداء نفسه، والحج ليس بالأشهر فاحتيج إلى هذه التقديرات، ومن قدر الكلام‏:‏ الحج في أشهر، فيلزمه مع سقوط حرف الجر نصب الأشهر، ولم يقرأ بنصبها أحد‏.‏

وقال ابن مسعود وابن عمر وعطاء والربيع ومجاهد والزهري‏:‏ أشهر الحج شوال وذو القعدة وذو الحجة كله‏.‏

وقال ابن عباس والشعبي والسدي وإبراهيم‏:‏ هي شوال وذو العقدة وعشر ذي الحجة، والقولان لمالك رحمه الله، حكى الأخير ابن حبيب، وجمع على هذا القول الأخير الاثنان وبعض الثالث كما فعلوا في جمع عشر فقالوا عشرون لعشرين ويومين من الثالث، وكما قال امرؤ القيس‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

ثلاثون شهراً في ثلاثةِ أَحْوَال *** فمن قال إن ذا الحجة كله من أشهر الحج لم يد دماً فيما يقع من الأعمال بعد يوم النحر لأنها في أشهر الحج، وعلى القول الآخر ينقضي الحج بيوم النحر ويلزم الدم فيما عمل بعد ذلك‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن فرض فيهن الحج‏}‏ أي من ألزمه نفسه، وأصل الفرض الحز الذي يكون في السهام والقسي وغيرها، ومنه فرضة النهر والجبل، فكأن من التزم شيئاً وأثبته على نفسه قد فرضه، وفرض الحج هو بالنية والدخول في الإحرام، والتلبية تبع لذلك، و‏{‏من‏}‏ رفع بالابتداء، ومعناها الشرط، والخبر قوله ‏{‏فرض‏}‏ لأن ‏{‏من‏}‏ ليست بموصولة فكأنه قال فرجل فرض، وقوله ‏{‏فلا رفث‏}‏ يحتمل أن يكون‏.‏ الخبر، وتكون ‏{‏فرض‏}‏ صفة‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فيهن‏}‏ ولم يجيء الكلام فرض فيها‏:‏ فقال قوم‏:‏ هما سواء في الاستعمال‏.‏

وقال أبو عثمان المازني‏:‏ «الجميع الكثير لما لا يعقل يأتي كالواحدة المؤنثة، والقليل ليس كذلك، تقول الأجذاع انكسرن والجذوع انكسرت»، ويؤيد ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن عدة الشهور‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 36‏]‏، ثم قال‏:‏ ‏{‏منها‏}‏، وقرأ نافع «فلا رفثَ ولا فسوقَ ولا جدالَ» بنصب الجميع، وهي قراءة ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «فلا رفثٌ ولا فسوقٌ ولا جدالَ» بالرفع في الاثنين ونصب الجدال، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع بالرفع في الثلاثة، ورويت عن عاصم في بعض الطرق، و‏{‏لا‏}‏ بمعنى ليس في قراءة الرفع وخبرها محذوف على قراءة أبي عمرو، و‏{‏في الحج‏}‏ خبر ‏{‏لا جدال‏}‏ وحذف الخبر هنا هو مذهب أبي علي، وقد خولف في ذلك، بل ‏{‏في الحج‏}‏ هو خبر الكل، إذ هو في موضع رفع في الوجهين، لأن ‏{‏لا‏}‏ إنما تعمل على بابها فيما يليها وخبرها مرفوع باق على حاله من خبر الابتداء، وظن أبو علي أنها بمنزلة ليس في نصب الخبر، وليس كذلك، بل هي والاسم في موضع الابتداء يطلبان الخبر، و‏{‏في الحج‏}‏ هو الخبر في قراءة كلها بالرفع وفي قراءتها بالنصب، والتحرير أن ‏{‏في الحج‏}‏ في موضع نصب بالخبر المقدر كأنك قلت موجود في الحج، ولا فرق بين الآية وبين قولك زيد في الدار‏.‏

وقال ابن عباس وابن جبير والسدي وقتادة ومالك ومجاهد وغيرهم‏:‏ الرفث الجماع‏.‏

وقال عبد الله بن عمر وطاوس وعطاء وغيرهم‏:‏ الرفث الإعراب والتعريب، وهو الإفحاش بأمر الجماع عند النساء خاصة، وهذا قول ابن عباس أيضاً، وأنشد وهو محرم‏:‏

وَهُنَّ يَمْشينَ بِنَا هَمِيساً *** إنْ تَصْدُقِ الطِّيْرُ نَنِكْ لَمِيسَا

فقيل له‏:‏ ترفث وأنت محرم‏؟‏ فقال‏:‏ إنما الرفث ما كان عند النساء وقال قوم‏:‏ الرفث الإفحاش بذكر النساء كان ذلك بحضرتهن أم لا، وقد قال ابن عمر للحادي‏:‏ «لا تذكر النساء»‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا يحتمل أن تحضر امرأة فلذلك نهاه، وإنما يقوي القول من جهة ما يلزم من توقير الحج‏.‏

وقال أبو عبيدة‏:‏ «الرفث اللغا من الكلام»، وأنشد‏:‏

وَرُبَّ أَسْرَابِ حَجِيجٍ كُظُمِ *** عَنِ اللَّغَا وَرَفَثِ التَّكَلُّمِ

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ولا حجة في البيت، وقرأ ابن مسعود «ولا رفوث»‏.‏

وقال ابن عباس وعطاء والحسن وغيرهم‏:‏ الفسوق المعاصي كلها لا يختص بها شيء دون شيء‏.‏

وقال ابن عمر وجماعة معه‏:‏ الفسوق المعاصي في معنى الحج كقتل الصيد وغيره‏.‏

وقال ابن زيد ومالك‏:‏ الفسوق الذبح للأصنام، ومنه قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏أو فسقاً أهل لغير الله به‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 145‏]‏‏.‏

وقال الضحاك‏:‏ الفسوق التنابز بالألقاب، ومنه قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏بئس الاسم الفسوق‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 11‏]‏‏.‏

وقال ابن عمر أيضاً ومجاهد وعطاء وإبراهيم‏:‏ الفسوق السباب، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر»‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وعموم جميع المعاصي أولى الأقوال‏.‏

وقال قتادة وغيره‏:‏ الجدال هنا السباب‏.‏

وقال ابن مسعود وابن عباس وعطاء ومجاهد‏:‏ الجدال هنا أن تماري مسلماً حتى تغضبه‏.‏

وقال مالك وابن زيد‏:‏ الجدال هنا أن يختلف الناس أيهم صادف موقف إبراهيم عليه السلام كما كانوا يفعلون في الجاهلية حين كانت قريش تقف في غير موقف سائر العرب ثم يتجادلون بعد ذلك‏.‏

وقال محمد بن كعب القرظي‏:‏ الجدال أن تقول طائفة حجنا أبر من حجكم وتقول الأخرى مثل ذلك‏.‏

وقالت فرقة‏:‏ الجدال هنا أن تقول طائفة‏:‏ الجح اليوم وتقول طائفة بل الحج غداً، وقيل‏:‏ الجدال كان في الفخر بالآباء‏.‏

وقال مجاهد وجماعة معه‏:‏ الجدال أن تنسئ العرب الشهور حسبما كان النسيء عليه، فقرر الشرع وقت الحج وبينه، وأخبر أنه حتم لا جدال فيه، وهذا أصح الأقوال وأظهرها، والجدال مأخوذ من الجدل وهو الفتل، كأن كل مجادل يفاتل صاحبه في الكلام‏.‏

وأما ما كان النسيء عليه فظاهر سير ابن إسحاق وغيرها من الدواوين أن الناسئ كان يحل المحرم لئلا تتوالى على العرب ثلاثة أشهر لا إغارة فيها، ويحرم صفر، وربما سموه المحرم، وتبقى سائر الأشهر بأسمائها حتى يأتي حجهم في ذي الحجة على الحقيقة، وأسند الطبري عن مجاهد أنه قال‏:‏ كانوا يسقطون المحرم ثم يقولون صفران لصفر وشهر ربيع الأول، ثم كذلك ينقلون أسماء الشهور، ويتبدل وقت الحج في الحقيقة، لكنه يبقى في ذي الحجة بالتسمية لا في حقيقة الشهر، قال‏:‏ فكان حج أبي بكر سنة تسع في ذي القعدة على الحقيقة ثم حج رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة عشر في ذي الحجة على الحقيقة، وحينئذ قال‏:‏ «إن الزمان قد استدار» الحديث، ونزلت ‏{‏ولا جدال في الحج‏}‏ أي قد تبين أمره فلا ينتقل شهر البتة أبداً‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما تفعلوا من خير يعلمه الله‏}‏ المعنى فيثيب عليه، وفي هذا تخصيص على فعل الخير‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتزودوا‏}‏ الآية، قال ابن عمر وعكرمة ومجاهد وقتادة وابن زيد‏:‏ نزلت الآية في طائفة من العرب كانت تجيء إلى الحج بلا زاد ويقول بعضهم‏:‏ نحن المتوكلون، ويقول بعضهم‏:‏ كيف نجح بيت الله ولا يطعمنا، فكانوا يبقون عالة على الناس، فنهوا عن ذلك وأمروا بالتزود‏.‏

وقال بعض الناس‏:‏ المعنى تزودوا الرفيق الصالح، وهذا تخصيص ضعيف، والأولى في معنى الآية‏:‏ وتزودوا لمعادكم من الأعمال الصالحة، وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن خير الزاد التقوى‏}‏ حض على التقوى، وخص أولو الألباب بالخطاب وإن كان الأمر يعم الكل لأنهم الذين قامت عليهم حجة الله وهم قابلو أوامره، والناهضون بها، وهذا على أن اللب لب التجارب وجودة النظر، وإن جعلناه لب التكليف فالنداء ب ‏{‏أولي الألباب‏}‏ عام لجيمع المكلفين، واللب العقل، تقول العرب لبُبْت بضم الباء الأولى ألُب بضم اللام، حكاه سيبويه، وليس في الكلام فعل يفعل بضم العين فيهما غير هذه الكلمة‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليس عليكم جناح‏}‏ الآية، الجناح أعم من الإثم لأنه فيما يقتضي العقاب وفيما يقتضي العتاب والزجر، و‏{‏تبتغوا‏}‏ معناه تطلبون بمحاولتكم‏.‏

وقال ابن عمر وابن عباس ومجاهد وعطاء‏:‏ إن الآية نزلت لأن العرب تحرجت لما جاء الإسلام أن يحضروا أسواق الجاهلية كعكاظ وذي المجاز ومجنة، فأباح الله تعالى ذلك، أي لا درك في أن تتجروا وتطلبوا الربح‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ «كان بعض العرب لا يتجرون مذ يحرمون، فنزلت الآية في إباحة ذلك»‏.‏

وقال ابن عمر فيمن أكرى ليحج‏:‏ «حجه تام ولا حرج عليه في ابتغاء الكراء»، وقرأ ابن عباس وابن مسعود وابن الزبير‏:‏ «ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم في مواسم الحج»‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا أفضتم من عرفات‏}‏ أجمع أهل العلم على تمام حج من وقف بعرفة بعد الزوال وأفاض نهاراً قبل الليل إلا مالك بن أنس، فإنه قال‏:‏ «لا بد أن يأخذ من الليل شيئاً، وأما من وقف بعرفة بالليل فلا خلاف بين الأمة في تمام حجه» وأفاض القوم أو الجيش إذا اندفعوا جملة، ومنه أفاض الرجل في الكلام، ومنه فاض الإناء، وأفضته، ومنه المفيض في القداح، والتنوين في عرفات على حده في مسلمات، الكسرة مقابلة للياء في مسلمين والتنوين مقابل النون، فإذا سميت به شخصاً ترك، وهو معرف على حده قبل أن تسمي به، فإن كان ‏{‏عرفات‏}‏ اسماً تلك البقعة كلها فهو كما ذكرناه، وإن كان جمع عرفة فهو كمسلمات دون أن يسمى به، وحكى سيبويه كسر التاء من «عرفاتِ» دون تنوين في حال النصب والخفض مع التعريف، وحكى الكوفيون فتحها في حال النصب والخفض تشبيهاً بتاء فاطمة وطلحة، وسميت تلك البقعة ‏{‏عرفاتَ‏}‏ لأن إبراهيم عرفها حين رآها على ما وصفت له، قال السدي‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ «سميت بذلك لأن جبريل عليه السلام كان يقول لإبراهيم عليه السلام‏:‏ هذا موضع كذا، فيقول قد عرفت»، وقيل‏:‏ سميت بذلك لأن آدم عرف بها حواء حين لقيها هناك‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ والظاهر أنه اسم مرتجل كسائر أسماء البقاع، وعرفة هي نعمان الأراك، وفيها يقول الشاعر‏:‏

تزودت من نعمان عود أراكة *** لهند ولكن من يبلغه هندا‏؟‏

و ‏{‏المشعر الحرام‏}‏ جمع كله، وهو ما بين جبلي المزدلفة من حد مفضى مأزمي عرفة، قال ذلك ابن عباس وابن جبير والربيع وابن عمر ومجاهد، فهي كلها مشعر إلى بطن محسر، كما أن عرفة كلها موقف إلا بطن عُرَنة، بفتح الراء وضمها، روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «عرفة كلها موقف إلا بطن عرنة، والمزدلفة كلها مشعر، إلا وارتفعوا عن بطن محسر» وذكر هذا عبد الله بن الزبير في خطبته، وفي المزدلفة قرن قزح الذي كانت قريش تقف عليه، وذكر الله تعالى عند المشعر الحرام ندب عند أهل العلم‏.‏

وقال مالك‏:‏ «من مر به ولم ينزل فعليه دم»،

وقال الشافعي‏:‏ «من خرج من مزدلفة قبل نصف الليل فعليه دم، وإن كان بعد نصف الليل فلا شيء عليه»‏؟‏‏.‏

وقال الشعبي والنخعي‏:‏ من فاته الوقوف بمزدلفة فاته الحج‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏واذكروه كما هداكم‏}‏ تعديد للنعمة وأمر بشكرها، ثم ذكرهم بحال ضلالهم ليظهر قدر الإنعام، والكاف في ‏{‏كما‏}‏ نعت لمصدر محذوف، و‏{‏إن‏}‏ مخففة من الثقيلة، ويدل على ذلك دخول اللام في الخبر، هذا قول سيبويه‏.‏

وقال الفراء‏:‏ «هي النافية بمعنى ما، واللام بمعنى إلاّ» والضمير في ‏{‏قبله‏}‏ عائد على الهدي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏199- 203‏]‏

‏{‏ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏199‏)‏ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ‏(‏200‏)‏ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ‏(‏201‏)‏ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ‏(‏202‏)‏ وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ‏(‏203‏)‏‏}‏

قال ابن عباس وعائشة وعطاء وغيرهم‏:‏ المخاطب بهذه الآية قريش ومن ولدت وهم الحمس، وذلك أنهم كانوا يقولون نحن قطين الله فينبغي لنا أن نعظم الحرم ولا نعظم شيئاً من الحل، فسنوا شق الثياب في الطواف إلى غير ذلك وكانوا مع معرفتهم وإقرارهم أن عرفة هي موقف إبراهيم لا يخرجون من الحرم ويقفون بجمع ويفيضون منه، ويقف الناس بعرفة، فقيل لهم أن يفيضوا مع الجملة، و‏{‏ثم‏}‏ ليست في هذه الآية للترتيب، إنما هي لعطف جملة كلام على جملة هي منها منقطعة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحمس، ولكنه كان يقف مذ كان بعرفة، هداية من الله‏.‏

وقال الضحاك‏:‏ «المخاطب بالآية جملة الأمة» والمراد ب ‏{‏الناس‏}‏ إبراهيم عليه السلام كما قال‏:‏ ‏{‏الذين قال لهم الناس‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 173‏]‏ وهو يريد واحداً، ويحتمل على هذا أن يؤمر بالإفاضة من عرفة، ويحتمل أن تكون إفاضة أخرى وهي التي من المزدلفة فتجيء ‏{‏ثم‏}‏ على هذا الاحتمال على بابها، وعلى هذا الاحتمال عول الطبري، وقرأ سعيد بن جبير «الناسي» وتأوله آدم عليه السلام، ويجوز عند بعضهم تخفيف الياء فيقول الناس كالقاض والهاد‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه‏:‏ أما جوازه في العربية فذكره سيبويه، وأما جوازه مقروءاً به فلا أحفظه، وأمر تعالى بالاستغفار لأنها مواطنه ومظان القبول ومساقط الرحمة، وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب عشية عرفة فقال‏:‏ «أيها الناس، إن الله عز وجل قد تطاول عليكم في مقامكم هذا، فقبل من محسنكم ووهب مسيئكم لمحسنكم إلا التبعات فيما بينكم، أفيضوا على اسم الله»، فلما كان غداة جمع، خطب فقال‏:‏ «أيها الناس إن الله تطاول عليكم فعوض التبعات من عنده»‏.‏

وقالت فرقة‏:‏ المعنى والستغفروا الله من فعلكم الذي كان مخالفاً لسنة إبراهيم في وقوفكم بقزح من المزدلفة‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا قضيتم مناسككم‏}‏ الآية، قال مجاهد‏:‏ «المناسك الذبائح وهراقة الدماء»، والمناسك عندي العبادات في معالم الحج ومواضع النسك فيه، والمعنى إذا فرغتم من حجكم الذي هو الوقوف بعرفة فاذكروا الله بمحامده وأثنوا عليه بآلائه عندكم، وخص هذا الوقت بالقضاء لما يقضي الناس فيه مناسكهم في حين واحد، وما قبل وما بعد فهو على الافتراق‏:‏ هذا في طواف وهذا في رمي وهذا في حلاق وغير ذلك، وكانت عادة العرب إذا قضت حجها تقف عند الجمرة فتتفاخر بالآباء وتذكر أيام أسلافها من بسالة وكرم وغير ذلك، فنزلت الآية ليلزموا أنفسهم ذكر الله تعالى أكثر من التزامهم ذكر آبائهم بأيام الجاهلية، هذا قول جمهور المفسرين‏.‏

وقال ابن عباس وعطاء‏:‏ معنى الآية اذكروا الله كذكر الأطفال آباءهم وأمهاتهم، أي فاستغيثوا به والجؤوا إليه كما كنتم تفعلون في حال صغركم بآبائكم‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ معنى الآية اذكروا الله وعظموه وذبوا عن حرمه، وادفعوا من أراد الشرك والنقص في دنيه ومشاعره، كما تذكرون آباءكم بالخير إذا غض أحد منهم وتحمون جوانبهم وتذبون عنهم، وقرأ محمد ابن كعب القرظي «كذكركم آباؤكم» أي اهتبلوا بذكره كما يهتبل المرء بذكر ابنه، فالمصدر على هذه القراءة مضاف إلى المفعول، و‏{‏أشد‏}‏ في موضع خفض عطفاً على ‏{‏ذكركم‏}‏ ويجوز أن يكون في موضع نصب، التقدير أو اذكروه أشد ذكراً‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن الناس من يقول‏}‏ الآية، قال أبو وائل والسدي وابن زيد‏:‏ كانت عادتهم في الجاهلية أن يدعوا في مصالح الدنيا فقط إذ كانوا لا يعرفون الآخرة، فنهوا عن ذلك الدعاء المخصوص، بأمر الدنيا، وجاء النهي في صيغة الخبر عنهم، والخلاق‏:‏ النصيب والحظ، و‏{‏من‏}‏ زائدة لأنها بعد النفي، فهي مستغرقة لجنس الحظوظ‏.‏

وقال قتادة‏:‏ «حسنة الدنيا العافية وكفاف المال»‏.‏

وقال الحسن بن أبي الحسن‏:‏ «حسنة الدنيا العلم والعبادة»‏.‏

وقال السدي‏:‏ «حسنة الدنيا المال»، وقيل‏:‏ حسنة الدنيا المرأة الحسناء، واللفظة تقتضي هذا كله وجميع محابّ الدنيا، وحسنة الآخرة الجنة بإجماع، و‏{‏قنا عذاب النار‏}‏ دعاء في أن لا يكون المرء ممن يدخلها بمعاصيه وتخرجه الشفاعة، ويحتمل أن يكون دعاء مؤكداً لطلب دخول الجنة، لتكون الرغبة في معنى النجاة والفوز من الطرفين، كما قال أحد الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أنا إنما أقول في دعائي اللهم أدخلني الجنة وعافني من النار، ولا أدري ما دندنتك ولا دندنة معاذ»، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «حولها ندندن»‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك لهم نصيب مما كسبوا‏}‏ الآية، وعد على كسب الأعمال الصالحة في صيغة الإخبار المجرد، والرب تعالى سريع الحساب لأنه لا يحتاج إلى عقد ولا إلى إعمال فكر، وقيل لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه‏:‏ كيف يحاسب الله الخلائق في يوم‏؟‏ فقال «كما يرزقهم في يوم»، وقيل‏:‏ الحساب هنا المجازاة، كأن المجازي يعد أجزاء العمل ثم يجازي بمثلها، وقيل معنى الآية سريع مجيء يوم الحساب، فالمقصد بالآية الإنذار بيوم القيامة، وأمر الله تعالى عباده بذكره في الأيام المعدودات، وهي الثلاثة التي بعد يوم النحر، وهي أيام التشريق، وليس يوم النحر من المعدودات، ودل على ذلك إجماع الناس على أنه لا ينفر أحد يوم القر وهو ثاني يوم النحر، فإن يوم النحر من المعلومات، ولو كان يوم النحر في المعدودات لساغ أن ينفر من ينفر من شاء متعجلاً يوم القر، لأنه قد أخذ يومين من معدودات، وحكى مكي والمهدوي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ «المعدودات هي أيام العشر»، وهذا إما أن يكون من تصحيف النسخة، وإما أن يريد العشر الذي بعد يوم النحر، وفي ذلك بعد، والأيام المعلومات هي يوم النحر ويومان بعده لإجماعهم على أنه لا ينحر أحد في اليوم الثالث، والذكر في المعلومات إنما هو على ما رزق الله من بهيمة الأنعام‏.‏

وقال ابن زيد‏:‏ «المعلومات عشر ذي الحجة وأيام التشريق»، وفي هذا القول بعد، وجعل الله الأيام المعدودات أيام ذكر الله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «هي أيام أكل وشرب وذكر الله»‏.‏

ومن جملة الذكر التكبير في إثر الصلوات، واختلف في طرفي مدة التكبير‏:‏ فقال عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن عباس‏:‏ يكبر من صلاة الصبح من يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق‏.‏

وقال ابن مسعود وأبو حنيفة‏:‏ يكبر من غداة عرفة إلى صلاة العصر من يوم النحر‏.‏

وقال يحيى بن سعيد‏:‏ يكبر من صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة الظهر من آخر يوم التشريق‏.‏

وقال مالك‏:‏ يكبر من صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة الصبح من آخر أيام التشريق، وبه قال الشافعي‏.‏

وقال ابن شهاب‏:‏ «يكبر من الظهر يوم النحر إلى العصر من آخر أيام التشريق»‏.‏

وقال سعيد بن جبير‏:‏ «يكبر من الظهر يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق»‏.‏

وقال الحسن بن أبي الحسن‏:‏ «يكبر من صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة الظهر يوم النفر الأول»‏.‏

وقال أبو وائل‏:‏ «يكبر من صلاة الظهر يوم عرفة إلى صلاة الظهر يوم النحر»‏.‏

ومشهور مذهب مالك أنه يكبر إثر كل صلاة ثلاثة تكبيرات، وفي المذهب رواية أنه يقال بعد التكبيرات الثلاث‏:‏ لا إله إلا الله والله أكبر ولله الحمد‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه‏}‏، قال ابن عباس والحسن وعكرمة ومجاهد‏:‏ المعنى من نفر في اليوم الثاني من الأيام المعدودات فلا حرج عليه، ومن تأخر إلى الثالث فلا حرج عليه، فمعنى الآية كل ذلك مباح، وعبر عنه بهذا التقسيم اهتماماً وتأكيداً إذ كان من العرب من يذم المتعجل وبالعكس، فنزلت الآية رافعة للجناح في كل ذلك، ومن العلماء من رأى أن التعجل إنما أبيح لمن بعد قطره لا للمكي والقريب، إلا أن يكون له عذر، قاله مالك وغيره، ومنهم من رأى أن الناس كلهم مباح لهم ذلك، قاله عطاء وغيره‏.‏

وقال علي بن أبي طالب وابن مسعود وإبراهيم‏:‏ معنى الآية من تعجل فقد غفر له ومن تأخر فقد غفر له، واحتجوا بقوله عليه السلام‏:‏

«من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من خطاياه كيوم ولدته أمه»، فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا إثم عليه‏}‏ نفي عام وتبرئة مطلقة، وقال مجاهد أيضاً‏:‏ معنى الآية من تعجل أو تأخر فلا إثم عليه إلى العام القابل، وأسند في هذا القول أثر‏.‏

وقال أبو العالية‏:‏ المعنى في الآية لا إثم عليه لمن اتقى بقية عمره، والحاج مغفور له البتة‏.‏

وقال أبو صالح وغيره‏:‏ معنى الآية لا إثم عليه لمن اتقى قتل الصيد وما يجب عليه تجنبه في الحج، وقال أيضاً‏:‏ لمن اتقى في حجه فأتى به تاماً حتى كان مبروراً، واللام في قوله ‏{‏لمن اتقى‏}‏ متعلقة إما بالغفران على بعض التأويلات، أو بارتفاع الإثم في الحج على بعضها، وقيل‏:‏ بالذكر الذي دل عليه قوله ‏{‏واذكروا‏}‏، أي الذكر لمن اتقى، ويسقط رمي الجمرة الثالثة عمن تعجل‏.‏

وقال ابن أبي زمنين‏:‏ «يرميها في يوم النفر الأول حين يريد التعجل»‏.‏

قال ابن المواز‏:‏ «يرمي المتعجل في يومين بإحدى وعشرين حصاة، كل جمرة بسبع حصيات، فيصير جميع رميه بتسع وأربعين حصاة»‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه‏:‏ لأنه قد رمى جمرة العقبة بسبع يوم النحر‏.‏

قال ابن المواز‏:‏ «ويسقط رمي اليوم الثالث»‏.‏

وقرأ سالم بن عبد الله ‏{‏فلا إثم عليه‏}‏ بوصل الألف، ثم أمر تعالى بالتقوى وذكر بالحشر والوقوف بين يديه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏204- 208‏]‏

‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ‏(‏204‏)‏ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ ‏(‏205‏)‏ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ‏(‏206‏)‏ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ‏(‏207‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ‏(‏208‏)‏‏}‏

قال السدي‏:‏ «نزلت في الأخنس بن شريق، واسمه أبيّ، والأخنس لقب، وذلك أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأظهر الإسلام، وقال‏:‏ الله يعلم أني صادق، ثم هرب بعد ذلك، فمر بقوم من المسلمين، فأحرق لهم زرعاً، وقتل حمراً، فنزلت فيه هذه الآيات»‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه‏:‏ ما ثبت قط أن الأخنس أسلم‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ نزلت في قوم من المنافقين تكلموا في الذين قتلوا في غزوة الرجيع عاصم بن ثابت وخبيب وابن الدثنة وغيرهم قالوا‏:‏ ويح هؤلاء القوم لا هم قعدوا في بيوتهم ولا أدوا رسالة صاحبهم، فنزلت هذه الآيات في صفات المنافقين‏:‏ ثم ذكر المستشهدين في غزوة الرجيع في قوله‏:‏ ‏{‏ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله‏}‏ الآية، وقال قتادة ومجاهد وجماعة من العلماء‏:‏ نزلت هذه الآيات في كل مبطن كفر أو نفاق أو كذب أو إضرار وهو يظهر بلسانه خلاف ذلك، فهي عامة، وهي تشبه ما ورد في الترمذي أن في بعض كتب الله تعالى‏:‏ «أن من عباد الله قوماً ألسنتهم أحلى من العسل وقلوبهم أمر من الصبر، يلبسون للناس جلود الضأن من اللين، يجترون الدنيا بالدين، يقول الله تعالى‏:‏ أبي يغترون وعلي يجترون‏؟‏ حلفت لأسلطن عليهم فتنة تدع الحليم منهم حيران»‏.‏ ومعنى ‏{‏ويشهد الله‏}‏ أي يقول‏:‏ الله يعلم أني أقول حقاً، وقرأ أبو حيوة وابن محيصن «ويشهدُ الله» بإسناد الفعل إلى اسم الجلالة، المعنى يعجبك قوله والله يعلم منه خلاف ما قال، والقراءة التي للجماعة أبلغ في ذمه، لأنه قوى على نفسه التزام الكلام الحسن ثم ظهر من باطنه خلافه، و‏{‏ما في قلبه‏}‏ مختلف بحسب القراءتين، فعلى قراءة الجمهور هو الخير الذي يظهر، أي هو في قلبه بزعمه، وعلى قراءة ابن محيصن هو الشر الباطن، وقرأ ابن عباس «والله يشهد على ما في قلبه» وقرأ أبي وابن مسعود «ويستشهد الله على ما في قبله» والألد‏:‏ الشديد الخصومة الصعب الشكيمة الذي يلوي الحجج في كل جانب، فيشبه انحرافه المشي في لديدي الوادي، ومنه لديد الفم، واللدود، ويقال منه‏:‏ لدِدت بكسر العين ألد، وهو ذم، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم»، ويقال‏:‏ لَددته بفتح العين ألُده بضمها إذا غلبته في الخصام، ومن اللفظة قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الخفيف‏]‏

إنَّ تَحْتَ الأَحْجَارِ حَزْماً وَعَزْماً *** وَخَصيماً أَلَدَّ ذا مِعْلاَقِ

و ‏{‏الخصام‏}‏ في الآية مصدر خاصم، وقيل جمع خصم ككلب وكلاب، فكان الكلام وهو أشد الخصماء والدهم‏.‏

و ‏{‏تولى‏}‏ و‏{‏سعى‏}‏ تحتمل جميعاً معنيين‏:‏ أحدهما أن تكون فعل قلب فيجيء ‏{‏تولى‏}‏ بمعنى ضل وغضب وأنف في نفسه فسعى بحيلة وإرادته الدوائر على الإسلام، ومن هذا السعي قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وأن ليس للإنسان إلا ما سعى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 39‏]‏، ومنه ‏{‏وسعى لها سعيها‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 19‏]‏، ومنه قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الرجز‏]‏

أسعى على حيِّ بني مالك *** كل امرئ في شأنِهِ سَاعِ

ونحا هذا المنحى في معنى الآية ابن جريج وغيره، والمعنى الثاني أن يكونا فعل شخص فيجيء ‏{‏تولى‏}‏ بمعنى أدبر ونهض عنك يا محمد، و‏{‏سعى‏}‏ يجيء معناها بقدميه فقطع الطريق وأفسدها، نحا هذا المنحى ابن عباس وغيره، وكلا السعيين فساد‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويهلك الحرث والنسل‏}‏‏.‏

قال الطبري‏:‏ «المراد الأخنس في إحراقه الزرع وقتله الحمر»‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ «المراد أن الظالم يفسد في الأرض فيمسك الله المطر فيهلك الحرث والنسل»، وقيل‏:‏ المراد أن المفسد يقتل الناس فينقطع عمار الزرع والمنسلون «‏.‏

وقال الزجّاج‏:‏» يحتمل أن يراد بالحرث النساء وبالنسل نسلهن «‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ والظاهر أن الآية عبارة عن مبالغة في الإفساد، إذ كل فساد في أمور الدنيا، فعلى هذين الفصلين يدور، وأكثر القراء على ‏{‏يُهلكَ‏}‏ بضم الياء وكسر اللام وفتح الكاف عطفاً على ‏{‏ليفسد‏}‏، وفي مصحف أبي بن كعب» وليهلكَ «، وقرأ قوم» ويهلكُ «بضم الكاف، إما عطفاً على ‏{‏يعجبك‏}‏ وإما على ‏{‏سعى‏}‏، لأنها بمعنى الاستقبال، وإما على القطع والاستئناف، وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وأبو حيوة وابن محيصن» وَيهلِكُ «بفتح الياء وكسر اللام وضم الكاف ورفع» الحرثُ «و» النسَلُ «، وكذلك رواه ابن سلمة عن ابن كثير وعبد الوارث عن أبي عمرو، وحكى المهدوي أن الذي روى حماد بن سلمة عن ابن كثير إنما هو» ويُهلكُ «بضم الياء والكاف» الحرث «بالنصب، وقرأ قوم» وَيهلكَ «بفتح الياء واللام ورفع» الحرثُ «وهي لغة هلِكَ يهلَكُ، تلحق بالشواذ كركن يركن، و‏{‏الحرث‏}‏ في اللغة شقَ الأرض للزراعة، ويسمى الزرع حرثاً للمجاورة والتناسب، ويدخل سائر الشجر والغراسات في ذلك حملاً على الزرع، ومنه قول عز وجل ‏{‏إذ يحكمان في الحرث‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 78‏]‏، وهو كرم على ما ورد في التفسير، وسمي النساء حرثاً على التشبيه، و‏{‏النسل‏}‏ مأخوذ من نسل ينسل إذا خرج متتابعاً ومنه نسال الطائر ما تتابع سقوطه من ريشه، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهم من كل حدب ينسلون‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 96‏]‏، ومنه قول امرئ القيس‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

فَسُلِّي ثِيَابِي مِنْ ثِيَابِكِ تَنْسُلِ *** و‏{‏لا يحب‏}‏ معناه لا يحبه من أهل الصلاح، أي لا يحبه ديناً، وإلا فلا يقع إلا ما يحب الله تعالى وقوعه، والفساد واقع، وهذا على ما ذهب إليه المتكلمون من أن الحب بمعنى الإرادة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ والحب له على الإرادة مزية إيثار، فلو قال أحد‏:‏ إن الفساد المراد تنقصه مزية الإيثار لصح ذلك، إذ الحب من الله تعالى إنما هو لما حسن من جميع جهاته‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا قيل له اتق الله‏}‏ الآية، هذه صفة الكافر أو المنافق الذاهب بنفسه زهواً، ويكره للمؤمن أن يوقعه الحرج في نحو هذا‏.‏

وقال بعض العلماء‏:‏ كفى بالمرء إثماً أن يقول له أخوه اتق الله فيقول له‏:‏ عليك نفسك، مثلك يوصيني‏؟‏‏.‏ والعزة هنا المنعة وشدة النفس، أي اعتز في نفسه وانتخى فأوقعته تلك العزة في الإثم حين أخذته به وألزمته أباه، ويحتمل لفظ الآية أن يكون أخذته العزة مع الإثم، فمعنى الباء يختلف بحسب التأويلين، و‏{‏حسبه‏}‏ أي كافيه معاقبة وجزاء، كما تقول للرجل كفاك ما حل بك، وأنت تستعظم وتعظم عليه ما حل به، و‏{‏المهاد‏}‏ ما مهد الرجل لنفسه كأنه الفراش، ومن هذا الباب قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏

تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ *** وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن الناس من يشري نفسه‏}‏ الآية تتناول كل مجاهد في سبيل الله أو مستشهد في ذاته أو مغير منكر، والظاهر من هذا التقسيم أن تكون الآيات قبل هذه على العموم في الكافر بدليل الوعيد بالنار ويأخذ العصاة الذين فيهم شيء من هذا الخلق بحظهم من وعيد الآية، ومن قال إن الآيات المتقدمة هي في منافقين تكلموا في غزوة الرجيع قال‏:‏ هذه الآية في شهداء غزوة الرجيع، ومن قال تلك في الأخنس قال‏:‏ هذه في الأنصار والمهاجرين المبادرين إلى الإيمان‏.‏

وقال عكرمة وغيره‏:‏ هذه في طائفة من المهاجرين، وذكروا حديث صهيب أنه خرج من مكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاتبعته قريش لترده، فنثر كنانته، وقال لهم‏:‏ تعلمون والله إني لمن أرماكم رجلاً، والله لأرمينَّكم ما بقي لي سهم، ثم لأضربن بسيفي ما بقي في يدي منه شيء، فقالوا له‏:‏ لا نتركك تذهب عنا غنياً وقد جئتنا صعلوكاً، ولكن دلنا على مالك ونتركك، فدهلم على ماله وتركوه، فهاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلما رآه قال له‏:‏ «ربح البيع أبا يحيى»، فنزلت فيه هذه الآية، ومن قال قصد بالأول العموم قال في هذه كذلك بالعموم، و‏{‏يشري‏}‏ معناه يبيع، ومنه ‏{‏وشروه بثمن بخس‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 20‏]‏، ومنه قول يزيد بن مفرغ الحميري‏:‏ ‏[‏مجزوء الكامل‏]‏

وَشَريْتُ برداً لَيْتَنِي *** مِنْ بَعْدِ برْدٍ كُنْتَ هَامَه

وقال الآخر‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏

يعطى بها ثمناً فَيَمْنَعُها *** وَيَقُولُ صَاحِبُهُ أَلاَ تَشْرِي

ومن هذا تسمى الشراة كأنهم الذين باعوا أنفسهم من الله تعالى، وحكى قوم أنه يقال شرى بمعنى اشترى، ويحتاج إلى هذا من تأول الآية في صهيب، لأنه اشترى نفسه بماله ولم يبعها، اللهم إلا أن يقال إن عزم صهيب على قتالهم بيع لنفسه من الله تعالى فتستقيم اللفظة على معنى باع‏.‏

وتأول هذه الآية عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهم في مغيري المنكر، ولذلك قال علي وابن عباس‏:‏ اقتتل الرجلان، أي قال المغير للمفسد‏:‏ اتق الله، فأبى المفسد وأخذته العزة، فشرى المغير نفسه من الله تعالى وقاتله فاقتتلا‏.‏

وروي أن عمر بن الخطاب كان يجمع في يوم الجمعة شباباً من القرأة فيهم ابن عباس والحر بن قيس وغيرهما فيقرؤون بين يديه ومعه، فسمع عمر ابن عباس رضي الله عنهم يقول‏:‏ اقتتل الرجلان، حين قرأ هذه الآية، فسأله عما قال، ففسر له هذا التفسير، فقال له عمر‏:‏ «لله تلادك يا ابن عباس»‏.‏

وقال أبو هريرة وأبو أيوب حين حمل هشام بن عامر على الصف في القسطنطينية فقال قوم‏:‏ ألقى بيده إلى التهلكة، ليس كما قالوا، بل هذا قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن الناس من يشري نفسه‏}‏ الآية‏.‏

و ‏{‏ابتغاء‏}‏ مفعول من أجله، ووقف حمزة على ‏{‏مرضاة‏}‏ بالتاء والباقون بالهاء‏.‏ قال أبو علي‏:‏ «وجه وقف حمزة بالتاء إما أنه على لغة من يقول طلحت وعلقمت، ومنه قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الرجز‏]‏

بل جوز تيهاء كظهر الحجفت *** وإما أنه لما كان المضاف إليه في ضمن اللفظة ولا بد أثبت التاء كما تثبت في الوصل ليعلم أن المضاف إليه مراد‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله رؤوف بالعباد‏}‏ ترجية تقتضي الحض على امتثال ما وقع به المدح في الآية كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فحسبه جهنم‏}‏ تخويف يقتضي التحذير مما وقع به الذم في الآية‏.‏

ثم أمر تعالى المؤمنين بالدخول في السلم، وقرأ ابن كثير ونافع والكسائي» السلم «بفتح السين، وقرأ الباقون بكسرها في هذا الموضع، فقيل‏:‏ هما بمعنى واحد، يقعان للإسلام وللمسالمة‏.‏

وقال أبو عمرو بن العلاء‏:‏ السِّلم بكسر السين الإسلام، وبالفتح المسالمة»، وأنكر المبرد هذه التفرقة، ورجح الطبري حمل اللفظة على معنى الإسلام، لأن المؤمنين لم يؤمروا قط بالانتداب إلى الدخول في المسالمة، وإنما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم أن يجنح للسلم إذا جنحوا لها، وأما أن يبتدئ بها فلا‏.‏

واختلف بعد حمل اللفظ على الإسلام من المخاطب‏؟‏ فقالت فرقة‏:‏ جميع المؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم، والمعنى أمرهم بالثبوت فيه والزيادة من التزام حدوده، ويستغرق ‏{‏كافة‏}‏ حينئذ المؤمنين وجميع أجزاء الشرع، فتكون الحال من شيئين، وذلك جائز، نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأتت به قومها تحمله‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 27‏]‏، إلى غير ذلك من الأمثلة‏.‏

وقال عكرمة‏:‏ «بل المخاطب من آمن بالنبي من بني إسرائيل كعبد الله بن سلام وغيره»‏.‏

وذلك أنهم ذهبوا إلى تعظيم يوم السبت وكرهوا لحم الجمل وأرادوا استعمال شيء من أحكام التوارة وخلط ذلك بالإسلام فنزلت هذه الآية فيهم، ف ‏{‏كافة‏}‏ على هذا لإجزاء الشرع فقط‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ «نزلت الآية في أهل الكتاب»، والمعنى يا أيها الذي آمنوا بموسى وعيسى ادخلوا في الإسلام بمحمد كافة، ف ‏{‏كافة‏}‏ على هذا لإجزاء الشرع وللمخاطبين على من يرى السلم الإسلام، ومن يراها المسالمة يقول‏:‏ أمرهم بالدخول في أن يعطوا الجزية، و‏{‏كافة‏}‏ معناه جميعاً، والمراد بالكافة الجماعة التي تكف مخالفها، وقيل‏:‏ إن ‏{‏كافة‏}‏ نعت لمصدر محذوف، كأن الكلام‏:‏ دخله كافة، فلما حذفت المنعوت بقي النعت حالاً، وتقدم القول في ‏{‏خطوات‏}‏، والألف واللام في ‏{‏الشيطان‏}‏ للجنس، و‏{‏عدو‏}‏ يقع على الواحد والاثنين والجميع، و‏{‏مبين‏}‏ يحتمل أن يكون بمعنى أبان عداوته وأن يكون بمعنى بان في نفسه أنه عدو، لأن العرب تقول‏:‏ بان الأمر وأبان بمعنى واحد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏209- 212‏]‏

‏{‏فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏209‏)‏ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ‏(‏210‏)‏ سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آَتَيْنَاهُمْ مِنْ آَيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏211‏)‏ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ‏(‏212‏)‏‏}‏

قرأ جمهور الناس «زلَلتم» بفتح اللام، وقرأ أبو السمال «زلِلتم» بكسرها، وأصل الزلل في القدم ثم يستعمل في الاعتقادات والآراء ويغير ذلك، والمعنى ضللتم وعجتم عن الحق، و‏{‏البينات‏}‏ محمد وآياته ومعجزاته إذا كان الخطاب أولاً لجماعة المؤمنين، وإذا كان الخطاب لأهل الكتابين، فالبينات ما ورد في شرائعهم من الإعلام بمحمد صلى الله عليه وسلم والتعريف به، و‏{‏عزيز‏}‏ صفة مقتضية أنه قادر عليكم لا تعجزونه، ولا تمتنعون منه، و‏{‏حكيم‏}‏ أي محكم فيما يعاقبكم به لزللكم‏.‏

وحكى النقاش أن كعب الأحبار لما أسلم كان يتعلم القرآن، فأقرأه الذي كان يعلمه‏:‏ فاعلموا أن الله غفور رحيم، فقال كعب‏:‏ إني لأستنكر أن يكون هكذا، ومر بهما رجل، فقال كعب‏:‏ كيف تقرأ هذه الآية‏؟‏ فقرأ الرجل‏:‏ ‏{‏فاعلموا أن الله عزيز حكيم‏}‏، فقال كعب‏:‏ هكذا ينبغي‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هل ينظرون‏}‏ الآية، الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، و‏{‏هل‏}‏ من حروف الابتداء كأما، و‏{‏ينظرون‏}‏ معناه ينتظرون، والمراد هؤلاء الذين يزلون، والظلل جمع ظلة وهي ما أظل من فوق، وقرأ قتادة والضحاك «في ظلال»، وكذلك روى هارون بن حاتم عن أبي بكر عن عاصم هنا، وفي الحرفين في الزمر‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ ‏{‏ظلل‏}‏ طاقات، وقرأ الحسن ويزيد بن القعقاع وأبو حيوة «والملائكةِ» بالخفض عطفاً على ‏{‏الغمام‏}‏، وقرأ جمهور الناس بالرفع عطفاً على ‏{‏الله‏}‏، والمعنى يأتيهم حكم الله وأمره ونهيه وعقابه إياهم، وذهب ابن جريج وغيره إلى أن هذا التوعد هو بما يقع في الدنيا‏.‏

وقال قوم‏:‏ بل هو توعد بيوم القيامة، وقال قوم‏:‏ قوله ‏{‏إلا أن يأتيهم الله‏}‏ وعيد بيوم القيامة، وأما الملائكة فالوعيد هو بإتيانهم عند الموت، و‏{‏الغمام‏}‏ أرق السحاب وأصفاه وأحسنه، وهو الذي ظلل به بنو إسرائيل‏.‏

وقال النقاش‏:‏ «هو ضباب أبيض»، وفي قراءة ابن مسعود «إلا أن يأتيهم الله والملائكة في ظلل من الغمام»، و‏{‏قضي الأمر‏}‏ معناه وقع الجزاء وعذب أهل العصيان، وقرأ معاذ بن جبل «وقضاء الأمر»، وقرأ بحيى بن يعمر «وقضى الأمور» بالجمع، وقرأ ابن عامر وحمزة الكسائي «تَرجع» على بناء الفعل للفاعل، وقرأ الباقون «تُرجَع» على بنائه للمفعول، وهي راجعة إليه تعالى قبل وبعد، وإنما نبه بذكر ذلك في يوم القيامة على زوال ما كان منها إلى الملوك في الدنيا‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏سل بني إسرائيل‏}‏ الآية، الخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم، وفيه إباحة السؤال لمن شاء من أمته، ومعنى الآية توبيخهم على عنادهم بعد الآيات البينة‏.‏ وقرأ أبو عمرو في رواية عباس عنه «اسأل» على الأصل، وقرأ قوم «اسل» على نقل الحركة إلى السين وترك الاعتداد بذلك في إبقاء ألف الوصل على لغة من قال الحمر، ومن قرأ «سل» فإنه أزال ألف الوصل حين نقل واستغنى عنها‏.‏

و ‏{‏كم‏}‏ في موضع نصب إما بفعل مضمر بعدها لأن لها صدر الكلام، تقديره كم آتينا آتيناهم، وإما ب ‏{‏آتيناهم‏}‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏من آية‏}‏ هو على التقدير الأول مفعول ثان ل ‏{‏آتيناهم‏}‏، وعلى الثاني في موضع التمييز‏.‏ ويصح أن تكون ‏{‏كم‏}‏ في موضع رفع بالابتداء والخبر في ‏{‏آتيناهم‏}‏‏.‏ ويصير فيه عائد على ‏{‏كم‏}‏ تقديره كم آتيناهموه، والمراد بالآية‏:‏ كم جاءهم في أمر محمد صلى الله عليه وسلم من آية معرفة به دالة عليه، و‏{‏نعمة الله‏}‏ لفظ عام لجميع أنعامه، ولكن يقوي من حال النبي معهم أن المشار إليه هنا محمد صلى الله عليه وسلم، فالمعنى‏:‏ ومن يبدل من بني إسرائيل صفة نعمة الله، ثم جاء اللفظ منسحباً على كل مبدل نعمة لله تعالى‏.‏

وقال الطبري‏:‏ «النعمة هنا الإسلام»، وهذا قريب من الأول، ويدخل في اللفظ أيضاً كفار قريش الذين بعث محمد منهم نعمة عليهم، فبدلوا قبولها والشكر عليها كفراً، والتوراة أيضاً نعمة على بني إسرائيل أرشدتهم وهدتهم، فبدلوها بالتحريف لها وجحد أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن الله شديد العقاب‏}‏ خبر يقتضي ويتضمن الوعيد، و‏{‏العقاب‏}‏ مأخوذ من العقب، كأن المعاقب يمشي بالمجازاة له في آثار عقبه، ومنه عقبة الراكب وعقبة القدر‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏زين للذين كفروا الحياة الدنيا‏}‏ المزين هو خالقها ومخترعها وخالق الكفر، ويزينها أيضاً الشيطان بوسوسته وإغوائه، وقرأ مجاهد وحميد بن قيس وأبو حيوة «زَيَن» على بناء الفعل للفاعل ونصب «الحياة»، وقرأ ابن أبي عبلة «زينت» بإظهار العلامة، والقراءة دون علامة هي للحائل ولكون التأنيث غير حقيقي، وخص الذين كفروا الذكر بقبولهم التزيين جملة وإقبالهم على الدنيا وإعراضهم عن الآخرة سببها، والتزيين من الله تعالى واقع للكل، وقد جعل الله ما على الأرض زينة لها ليبلوا الخلق أيهم أحسن عملاً، فالمؤمنون الذين هم على سنن الشرع لم تفتنهم الزينة، والكفار تملكتهم لأنهم لا يعتقدون غيرها، وقد قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه حين قدم عليه بالمال‏:‏ «اللهم إنّا لا نستطيع إلا أن نفرح بما زينت لنا»‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويسخرون‏}‏ إشارة إلى كفار قريش لأنهم كانوا يعظمون حالهم من الدنيا ويغتبطون بها ويسخرون من أتباع النبي صلى الله عليه وسلم كبلال وصهيب وابن مسعود وغيرهم، فذكر الله قبيح فعلهم ونبه على خفض منزلتهم بقوله‏:‏ ‏{‏والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة‏}‏، ومعنى الفوق هنا في الدرجة والقدر فهي تقتضي التفضيل وإن لم يكن للكفار من القدر نصيب، كما قال تعالى‏:‏

‏{‏أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 24‏]‏، وتحتمل الآية أن المتقين هم في الآخر في التنعم والفوز بالرحمة فوق ما هم هؤلاء فيه في دنياهم، وكذلك خير مستقراً من هؤلاء في نعمة الدنيا، فعلى هذا الاحتمال وقع التفضيل في أمر فيه اشتراك، وتحتمل هذه الآية أن يراد بالفوق المكان من حيث الجنة في السماء والنار في أسفل السافلين، فيعلم من ترتيب الأمكنة أن هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار، وتحتمل الآيتان أن يكون التفضيل على ما يتضمنه زعم الكفار، فإنهم كانوا يقولون‏:‏ وإن كان معاد فلنا فيه الحظ أكثر مما لكم، ومنه حديث خباب مع العاصي بن وائل، وهذا كله من التحميلات حفظ لمذهب سيبويه والخليل في أن التفضيل إنما يجيء فيما فيه شركة، والكوفيون يجيزونه حيث لا اشتراك‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله يزرق من يشاء بغير حساب‏}‏ يحتمل أن يكون المعنى‏:‏ والله يرزق هؤلاء الكفرة في الدنيا فلا تستعظموا ذلك ولا تقيسوا عليه الآخرة، فإن الرزق ليس على قدر الكفر والإيمان بأن يحسب لهذا علمه ولهذا عمله فيرزقان بحساب ذلك، بل الرزق بغير حساب الأعمال، والأعمال ومجازاتها محاسبة ومعادة إذ أجزاء الجزاء تقابل أجزاء الفعل المجازى عليه، فالمعنى أن المؤمن وإن لم يرزق في الدنيا فهو فوق يوم القيامة، وتحتمل الآية أن يكون المعنى أن الله يرزق هؤلاء المستضعفين علو المنزلة بكونهم فوق، وما في ضمن ذلك من النعيم بغير حساب، فالآية تنبيه على عظم النعمة عليهم وجعل رزقهم بغير حساب، حيث هو دائم لا يتناهى، فهو لا ينفد، ويحتمل أن يكون ‏{‏بغير حساب‏}‏ صفة لرزق الله تعالى كيف تصرف، إذ هو جلت قدرته لا ينفق بعد، ففضله كله بغير حساب، ويحتمل أن يكون المعنى في الآية من حيث لا يحتسب هذا الذي يشاؤه الله، كأنه قال بغير احتساب من المرزوقين، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ويرزقه من حيث لا يحتسب‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 3‏]‏، وإن اعترض معترض على هذه الآية بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏عطاء حساباً‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 36‏]‏، فالمعنى في ذلك محسباً، وأيضاً، وأيضاً فلو كان عداً لكان الحساب في الجزاء والمثوبة لأنها معادة وغير الحساب في التفضل والإنعام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏213- 214‏]‏

‏{‏كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏213‏)‏ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ‏(‏214‏)‏‏}‏

قال أبي بن كعب وابن زيد‏:‏ المراد ب ‏{‏الناس‏}‏ بنو آدم حين أخرجهم الله نسماً من ظهر آدم، أي كانوا على الفطرة‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ «الناس آدم وحده»‏.‏

وقال قوم‏:‏ «آدم وحواء»‏.‏

وقال ابن عباس وقتادة‏:‏ ‏{‏الناس‏}‏ القرون التي كانت بين آدم ونوح، وهي عشرة، كانوا على الحق حتى اختلفوا فبعث الله تعالى نوحاً فمن بعده‏.‏

وقال قوم‏:‏ الناس نوح ومن في سفينته، كانوا مسلمين ثم بعد ذلك اختلفوا‏.‏

وقال ابن عباس أيضاً‏:‏ كان الناس أمة واحدة كفاراً، يريد في مدة نوح حين بعثه الله، و‏{‏كان‏}‏ على هذه الأقوال هي على بابها من المضي المنقضي، وتحتمل الآية معنى سابعاً وهو أن يخبر عن الناس الذين هم الجنس كله أنهم أمة واحدة في خلوهم عن الشرائع وجهلهم بالحقائق‏.‏ لولا منّ الله عليهم وتفضله بالرسل إليهم، ف ‏{‏كان‏}‏ على هذا الثبوت لا تختص بالمضي فقط، وذلك كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكان الله غفوراً رحيماً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 96-99-100-152، الفرقان‏:‏ 70، الأحزاب‏:‏ 5- 59، الفتح‏:‏ 14‏]‏، والأمة الجماعة على المقصد الواحد، ويسمى الواحد أمة إذا كان منفرداً بمقصد، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في قس بن ساعدة‏:‏ «يحشر يوم القيامة أمة وحده»، وقرأ أبي كعب «كان البشر أمة واحدة»، وقرأ ابن مسعود «كان الناس أمة واحدة فاختلفوا فبعث»، وكل من قدر ‏{‏الناس‏}‏ في الآية مؤمنين قدر في الكلام فاختلفوا، وكل من قدرهم كفاراً كانت بعثة ‏{‏النبيين‏}‏ إليهم، وأول الرسل على ما ورد في الصحيح في حديث الشفاعة نوح، لأن الناس يقولون له‏:‏ أنت أول الرسل، والمعنى إلى تقويم كفار وإلا فآدم مرسل إلى بنيه يعلمهم الدين والإيمان، و‏{‏مبشرين‏}‏ معناه بالثواب على الطاعة، و‏{‏منذرين‏}‏ معناه من العقاب على المعاصي، ونصب اللفظتين على الحال، و‏{‏الكتاب‏}‏ اسم الجنس، والمعنى جميع الكتب‏.‏

وقال الطبري‏:‏ «الألف واللام في الكتاب للعهد، والمراد التوارة»، و‏{‏ليحكم‏}‏ مسند إلى الكتاب في قول الجمهور‏.‏

وقال قوم‏:‏ المعنى ليحكم الله، وقرأ الجحدري «ليُحَكم» على بناء الفعل للمفعول، وحكى عنه مكي «لنحكم»‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وأظنه تصحيفاً لأنه لم يحك عنه البناء للمفعول كما حكى الناس، والضمير في ‏{‏فيه‏}‏ عائد على ‏{‏ما‏}‏ من قوله‏:‏ ‏{‏فيما‏}‏، والضمير في ‏{‏فيه‏}‏ الثانية يحتمل العود على الكتاب ويحتمل على الضمير الذي قبله، والذين أوتوه أرباب العلم به والدراسة له، وخصهم بالذكر تنبيهاً منه تعالى على الشنعة في فعلهم والقبح الذي واقعوه‏.‏ و‏{‏البينات‏}‏ الدلالات والحجج، و‏{‏بغياً‏}‏ منصوب على المفعول له، والبغي التعدي بالباطل، و‏{‏هدى‏}‏ معناه أرشد، وذلك خلق الإيمان في قلوبهم، وقد تقدم ذكر وجوه الهدى في سورة الحمد، والمراد ب ‏{‏الذين آمنوا‏}‏‏.‏

من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

فقالت طائفة‏:‏ معنى الآية‏:‏ أن الأمم كذب بعضهم كتاب بعض فهدى الله أمة محمد التصديق بجميعها‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ إن الله هدى المؤمنين للحق فيما اختلف فيه أهل الكتابين من قولهم‏:‏ إن إبراهيم كان يهودياً أو نصرانياً‏.‏

وقال ابن زيد‏:‏ من قبلتهم، فإن قبلة اليهود إلى بيت المقدس والنصارى إلى المشرق، ومن يوم الجمعة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «هذا اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له، فلليهود غد، وللنصارى بعد غد»، ومن صيامهم وجميع ما اختلفوا فيه‏.‏

وقال الفراء‏:‏ في الكلام قلب، واختاره الطبري، قال‏:‏ وتقديره فهدى الله الذين آمنوا للحق مما اختلفوا فيه‏.‏ ودعاه إلى هذا التقدير خوف أن يحتمل اللفظ أنهم اختلفوا في الحق فهدى الله المؤمنين لبعض ما اختلفوا فيه وعساه غير الحق في نفسه، نحا إلى هذا الطبري في حكايته عن الفراء‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وادعاء القلب على لفظ كتاب الله دون ضرورة تدفع إلى ذلك عجز وسوء نظر، وذلك أن الكلام يتخرج على وجهه ورصفه، لأن قوله ‏{‏فهدى‏}‏ يقتضي أنهم أصابوا الحق، وتم المعنى في قوله ‏{‏فيه‏}‏، وتبين بقوله ‏{‏من الحق‏}‏ جنس ما وقع الخلاف فيه‏.‏

قال المهدوي‏:‏ «وقدم لفظ الخلاف على لفظ الحق اهتماماً، إذ العناية إنما هي بذكر الاختلاف»‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه‏:‏ وليس هذا عندي بقوي، وفي قراءة عبد الله بن مسعود «لما اختلفوا عنه من الحق» أي عن الإسلام‏.‏

و ‏{‏بإذنه‏}‏ قال الزجّاج‏:‏ معناه بعلمه، وقيل‏:‏ بأمره، والإذن هو العلم والتمكين، فإن اقترن بذلك أمر صار أقوى من الإذن بمزية، وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله يهدي من يشاء‏}‏ رد على المعتزلة في قولهم إن العبد يستبد بهداية نفسه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أم حسبتم‏}‏ الآية، ‏{‏أم‏}‏ قد تجيء لابتداء كلام بعد كلام وإن لم يكن تقسيم ولا معادلة ألف استفهام، وحكى بعض اللغويين أنها قد تجئ بمثابة ألف الاستفهام يبتدأ بها، و‏{‏حسبتم‏}‏ تطلب مفعولين، فقال النحاة ‏{‏أن تدخلوا‏}‏ تسد مسد المفعولين لأن الجملة التي بعد ‏{‏أن‏}‏ مستوفاة المعنى، ويصح أن يكون المفعول الثاني محذوفاً، تقديره أحسبتم دخولكم الجنة واقعاً، و‏{‏لما‏}‏، ولا يظهر أن يتقدر المفعول الثاني في قوله ‏{‏ولمّا يأتكم‏}‏ بتقدير أحسبتم دخولكم الجنة خلواً من أن يصيبكم ما أصاب من قبلكم، لأن ‏{‏خلوا‏}‏ حال، والحال هنا إنما تأتي بعد توفية المفعولين، والمفعولان هما الابتداء والخبر قبل دخول حسب، و‏{‏البأساء‏}‏‏:‏ في المال، و‏{‏الضراء‏}‏‏:‏ في البدن‏:‏ و‏{‏خلوا‏}‏ معناه انقرضوا، أي صاروا في خلاء من الأرض‏.‏

وهذه الآية نزلت في قصة الأحزاب حين حصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في المدينة، هذا قول قتادة والسدي وأكثر المفسرين‏.‏

وقالت فرقة‏:‏ نزلت الآية تسلية للمهاجرين الذين أصيبت أموالهم بعدهم في بلادهم وفتنوا هم قبل ذلك، و‏{‏مثل‏}‏ معناه شبه، فالتقدير شبه آتى الذين ‏{‏خلوا‏}‏، والزلزلة شدة التحريك، تكون في الأشخاص وفي الأحوال، ومذهب سيبويه أن «زلزل» رباعي ك «دحرج»‏.‏

وقال الزجّاج‏:‏ «هو تضعيف في زل» فيجيء التضعيف على هذا في الفاء، وقرأ الأعمش «وزلزلوا ويقول الرسول» بالواو بدل حتى، وفي مصحف ابن مسعود «وزلزلوا ثم زلزلوا ويقول الرسول»، وقرا نافع «يقولُ» بالرفع، وقرأ الباقون «يقولَ» بالنصب، ف ‏{‏حتى‏}‏ غاية مجردة تنصب الفعل بتقدير إلى أن، وعلى قراءة نافع كأنها اقترن بها تسبيب فهي حرف ابتداء ترفع الفعل، وأكثر المتأولين على أن الكلام إلى آخر الآية من قول الرسول والمؤمنين، ويكون ذلك من قول الرسول على طلب استعجال النصر لا على شك ولا ارتياب، و‏{‏الرسول‏}‏ اسم الجنس، وذكره الله تعظيماً للنازلة التي دعت الرسول إلى هذا القول، وقالت طائفة‏:‏ في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير حتى يقول الذين آمنوا متى نصر الله فيقول الرسول ‏{‏ألا إن نصر الله قريب‏}‏، فقدم الرسول في الرتبة لمكانته ثم قدم قول المؤمنين لأنه المتقدم في الزمان‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا تحكم، وحمل الكلام على وجهه غير متعذر، ويحتمل أن يكون ‏{‏ألا إن نصر الله قريب‏}‏ إخباراً من الله تعالى مؤتنفاً بعد تمام ذكر القول‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏215- 216‏]‏

‏{‏يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ‏(‏215‏)‏ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏216‏)‏‏}‏

السائلون هم المؤمنون، والمعنى يسألونك ما هي الوجوه التي ينفقون فيها وأين يضعون ما لزم إنفاقه، و«ما» يصح أن تكون في موضع رفع على الابتداء، و«ذا» خبرها، فهي بمعنى الذي، و‏{‏ينفقون‏}‏ صلة، وفيه عائد على «ذا» تقديره ينفقونه، ويصح أن تكون ‏{‏ماذا‏}‏ اسماً واحداً مركباً في موضع نصب ب ‏{‏ينفقون‏}‏، فيعرى من الضمير، ومتى كانت اسماً مركباً فهي في موضع نصب لا ما جاء من قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏‏.‏

وَمَاذا عَسَى الْوَاشُون أَنْ يَتَحَدَّثُوا *** سِوَى أَنْ يَقُولُوا إنّني لَكِ عاشقُ

فإن عسى لا تعمل، فماذا في موضع رفع وهو مركب إذ لا صلة لذا‏.‏

قال قوم‏:‏ هذه الآية في الزكاة المفروضة، وعلى هذا نسخ منها الوالدان ومن جرى مجراهما من الأقربين‏.‏

وقال السدي‏:‏ «نزلت هذه الآية قبل فرض الزكاة، ثم نسختها الزكاة المفروضة»، ووهم المهدوي على السدي في هذا فنسب إليه أنه قال إن الآية في الزكاة المفروضة، ثم نسخ منها الوالدان، وقال ابن جريج وغيره‏:‏ هي ندب، والزكاة غير هذا الإنفاق، فعلى هذا لا نسخ فيها، واليتم فقد الأب قبل البلوغ، وتقدم القول في المسكين و‏{‏ابن السبيل‏}‏، و‏{‏ما تفعلوا‏}‏ جزم بالشرط، والجواب في الفاء، وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه‏:‏ «يفعلوا» بالياء على الغائب، وظاهر الآية الخبر، وهي تتضمن الوعد بالمجازاة، و‏{‏كتب‏}‏ معناه فرض، وقد تقدم مثله، وهذا هو فرض الجهاد، وقرأ قوم «كتب عليكم القتل»‏.‏

وقال عطاء بن أبي رباح‏:‏ «فرض القتال على أعيان أصحاب محمد، فلما استقر الشرع وقيم به صار على الكفاية»، وقال جمهور الأمة‏:‏ أول فرضه إنما كان على الكفاية دون تعيين‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه‏:‏ واستمر الإجماع على أن الجهاد على أمة محمد فرض كفاية، فإذا قام به من قام من المسلمين سقط عن الباقين، إلا أن ينزل العدو بساحة للإسلام، فهو حينئذ فرض عين، وذكر المهدوي وغيره عن الثوري أنه قال‏:‏ الجهاد تطوع‏.‏ وهذه العبارة عندي إنما هي على سؤال سائل وقد قيم بالجهاد‏.‏ فقيل له‏:‏ ذلك تطوع وال ‏{‏كُره‏}‏ بضم الكاف الاسم، وفتحها المصدر‏.‏

وقال قوم «الكَره» بفتح الكاف ما أُكره المرء عليه، و«الكُره» ما كرهه هو‏.‏

وقال قوم‏:‏ هما بمعنى واحد‏.‏

وقوله تعالى ‏{‏وعسى أن كرهوا شيئاً‏}‏ الآية، قال قوم ‏{‏عسى‏}‏ من الله واجبة، والمعنى عسى أن تكرهوا ما في الجهاد من المشقة ‏{‏وهو خير لكم‏}‏ في أنكم تغلبون وتظهرون وتغنمون وتؤجرون، ومن مات مات شهيداً، ‏{‏وعسى أن تحبوا‏}‏ الدعة وترك القتال ‏{‏وهو شر لكم‏}‏ في أنكم تغلبون وتذلون ويذهب أمركم، وفي قوله تعالى ‏{‏والله يعلم‏}‏ الآية قوة أمر‏.‏

وقوله تعالى ‏{‏يسألونك عن الشهر الحرام‏}‏ الآية، نزل في قصة عمرو بن الحضرمي، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية عليها عبد الله بن جحش الأسدي مقدمه من بدر الأولى، فلقوا عمرو بن الحضرمي ومعه عثمان بن عبد الله بن المغيرة وأخوه نوفل المخزوميان والحكم بن كيسان في آخر يوم من رجب على ما ذكر ابن إسحاق، وفي آخر يوم من جمادى الآخرة على ما ذكره الطبري عن السدي وغيره‏.‏ والأول أشهر، على أن ابن عباس قد ورد عنه أن ذاك كان في أول ليلة من رجب والمسلمون يظنونها من جمادى، وأن القتل في الشهر الحرام لم يقصدوه، وأما على قول ابن إسحاق فإنهم قالوا إن تركناهم اليوم دخلوا الحرم فأزمعوا قتالهم، فرمى واقد بن عبد الله عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله، وأسر عثمان بن عبد الله والحكم، وفر نوفل فأعجزهم، واستسهل المسلمون هذا في الشهر الحرام خوف فوتهم، فقالت قريش‏:‏ محمد قد استحل الأشهر الحرم، وعيروا بذاك، وتوقف النبي صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ ما أمرتكم بقتال في الأشهر الحرم، فنزلت هذه الآية‏.‏

وذكر المهدوي أن سبب هذه الآية أن عمرو بن أمية الضمري قتل رجلين من بني كلاب في رجب فنزلت، وهذا تخليط من المهدوي‏.‏ وصاحبا عمرو كان عندهما عهد من النبي صلى الله عليه وسلم، وكان عمرو قد أفلت من قصة بئر معونة، وذكر الصاحب بن عباد في رسالته المعروفة بالأسدية أن عبد الله بن جحش سمي أمير المؤمنين في ذلك الوقت، لكونه مؤمراً على جماعة من المؤمنين، و‏{‏قتال‏}‏ بدل عند سيبويه، وهو بدل الاشتمال‏.‏

وقال الفراء‏:‏ هو خفض بتقدير عن‏.‏

وقال أبو عبيدة «هو خفض على الجوار»، وقوله هذا خطأ، وفي مصحف عبد الله بن مسعود «يسألونك عن الشهر الحرام عن قتال فيه» بتكرير عن، وكذلك قرأها الربيع والأعمش، وقرأ عكرمة «عن الشهر الحرام قتل فيه قل قتل» دون ألف فيهما، و‏{‏الشهر‏}‏ في الآية اسم الجنس، وكانت العرب قد جعل الله لها ‏{‏الشهر الحرام‏}‏ قواماً تعتدل عنده، فكانت لا تسفك دماً ولا تغير في الأشهر الحرم، وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب، وروى جابر بن عبد الله النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يغزو فيها إلا أن يغزى، فذلك قوله تعالى ‏{‏قل قتال فيه كبير‏}‏، و‏{‏صد‏}‏ مبتدأ مقطوع مما قبله، والخبر ‏{‏أكبر‏}‏، و‏{‏المسجد‏}‏ معطوف على ‏{‏سبيل الله‏}‏، وهذا هو الصحيح‏.‏

وقال الفراء‏:‏ ‏{‏صد‏}‏ عطف على ‏{‏كبير‏}‏، وذلك خطأ، لأن المعنى يسوق إلى أن قوله ‏{‏وكفر به‏}‏ عطف أيضاً على ‏{‏كبير‏}‏، ويجيء من ذلك أن إخراج أهل المسجد منه أكبر من الكفر عند الله، هذا بين فساده، ومعنى الآية على قول الجمهور‏:‏ إنكم يا كفرا قريش تستعمظون علينا القتال في الشهر الحرام، وما تفعلون أنتم من الصد عن سبيل الله لمن أراد الإسلام ومن كفركم بالله وإخراجكم أهل المسجد عنه كما فعلوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أكبر جرماً عند الله‏.‏

وقال الزهري ومجاهد وغيرهما‏:‏ قوله ‏{‏قل قتال فيه كبير‏}‏ منسوخ بقوله ‏{‏وقاتلوا المشركين كافة‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 36‏]‏، وبقوله‏:‏ ‏{‏فاقتلوا المشركين‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 5‏]‏‏.‏

وقال عطاء‏:‏ «لم تنسخ، ولا ينبغي القتال في الأشهر الحرم»، وهذا ضعيف‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والفتنة أكبر من القتل‏}‏ المعنى عند جمهور المفسرين، والفتنة التي كنتم تفتنون المسلمين عن دينهم حتى يهلكوا أشد اجتراماً من قتلكم في الشهر الحرام، وقيل‏:‏ المعنى والفتنة أشد من أن لو قتلوا ذلك المفتون، أي فعلكم على كل إنسان أشد من فعلنا‏.‏

وقال مجاهد وغيره‏:‏ ‏{‏الفتنة‏}‏ هنا الكفر أي كفركم أشد من قتلنا أولئك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏217- 219‏]‏

‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏217‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏218‏)‏ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ‏(‏219‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يزالون‏}‏ ابتداء خبر من الله-عز وجل- وتحذير منه للمؤمنين من شر الكفرة، و‏{‏يردوكم‏}‏ نصب ب ‏{‏حتى‏}‏ لأنها غاية مجردة، وقوله تعالى ‏{‏ومن يرتدد‏}‏ ‏[‏أي يرجع عن الإسلام إلى الكفر، قالت طائفة من العلماء‏:‏ يستتاب المرتد فإن تاب وإلا قتل‏.‏

وقال عبيد بن عمير وطاوس والحسن-على خلاف عنه- والشافعي في أحد قوليه‏:‏ يقتل دون أن يستتاب، وروي نحو هذا عن أبي موسى الأشعري ومعاذ بن جبل‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ومقتضى قولهما إنه يقال له للحين‏:‏ راجع، فإن أبى ذلك قتل، وقال عطاء ابن أبي رباح‏:‏ «إن كان المرتد ابن مسلمين قتل دون استتابة وإن كان أسلم ثم ارتد استتيب»، وذلك لأنه يجهل من فضل الإسلام ما لا يجهل ابن المسلمين، واختلف القائلون بالاستتابة‏:‏ فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه يستتاب ثلاثة أيام‏.‏ وبه قال مالك وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي والشافعي في أحد قوليه‏.‏

وقال الزهري‏:‏ «يدعى إلى الإسلام فإن تاب وإلا قتل»‏.‏

وروي عن علي أبي طالب رضي الله عنه أنه استتاب مرتداً شهراً فأبى فقتله، وقال النخعي والثوري‏:‏ يستتاب محبوساً أبداً، قال ابن المنذر‏:‏ واختلفت الآثار عن عمر في هذا الباب‏.‏

‏{‏قال القاضي أبو محمد‏}‏‏:‏ كان رضي الله عنه ينفذ بحسب جرم ذلك المرتد أو قلة جرمه المقترن بالردة، وحبط العمل إذا انفسد في آخر فبطل، وقرأ أبو السمال «حبطَت» بفتح الباء في جميع القرآن‏.‏

وقال علي بن أبي طالب والحسن والشعبي الحكم والليث وأبو حنيفة وإسحاق بن راهويه‏:‏ ميراث المرتد لورثته من المسلمين، وقال مالك وربيعة وابن أبي ليلى والشافعي وأبو ثور‏:‏ ميراثه في بيت المال، وأجمع الناس على أن ورثته من أهل الكفر لا يرثونه إلإ شذوذاً، روي عن عمر بن عبد العزيز وعن قتادة، وروي عن عمر بن عبد العزيز خلافه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين آمنوا والذين هاجروا‏}‏ الآية، قال جندب بن عبد الله وعروة بن الزبير وغيرهما‏:‏ لما قتل واقد بن عبد الله التميمي عمرو بن الحضرمي في الشهر الحرام توقف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أخذ خمسه الذي وفق في فرضه له عبد الله به جحش وفي الأسيرين، فعنف المسلمون عبد الله بن جحش وأصحابه حتى شق ذلك عليهم، فتلافاهم الله عز وجل بهذه الآية في الشهر الحرام، ثم بذكرهم والإشارة إليهم في قوله‏:‏ ‏{‏إن الذين آمنوا‏}‏، ثم هي باقية في كل من فعل ما ذكر الله عز وجل، وهاجر الرجال إذا انتقل نقلة إقامة من موضع إلى موضع وقصد ترك الأول إيثاراً للثاني، وهي مفاعلة من هجر، ومن قال المهاجرة الانتقال من البادية إلى الحاضرة فقد أوهم بسبب أن ذلك كان الأغلب في العرب، وليس أهل مكة مهاجرين على قوله، وجاهد مفاعلة من جهد إذا استخرج الجهد، ‏{‏ويرجون‏}‏ معناه يطمعون ويستقربون، والرجاء تنعم، والرجاء أبداً معه خوف ولا بد، كما أن الخوف معه رجاء، وقد يتجوز أحياناً ويجيء الرجاء بمعنى ما يقارنه من الخوف، كما قال الهذلي‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

إذَا لَسَعَتْهُ النَّحْلُ لَمْ يَرْجُ لَسْعَهَا *** وَحَالَفَهَا في بَيْتِ نَوْبٍ عَوَامِلُ

وقال الأصمعي‏:‏ «إذ اقترن حرف النفي بالرجاء كان بمعنى الخوف»، كهذا البيت، وكقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏لا يرجون لقاءنا‏}‏ ‏[‏سورة يونس‏:‏ الآيات‏:‏ 7- 11- 15، سورة الفرقان‏:‏ الآية 21‏]‏، المعنى لا يخافون، وقد قيل‏:‏ إن الرجاء في الآية على بابه، أي لا يرجون الثواب في لقائنا، وبإزاء ذلك خوف العقاب، وقال قوم‏:‏ اللفظة من الأضداد دون تجوز في إحدى الجهتين، وليس هذا بجيد، وقال الجاحظ في كتاب البلدان‏:‏ «إن معنى قوله لم يرج لسعها أي لم يرج برء لسعها وزواله، فهو يصبر عليه»، وباقي الآية وعد‏.‏

وقوله تعالى ‏{‏يسألونك عن الخمر والميسر‏}‏ الآية، السائلون هم المؤمنون، و‏{‏الخمر‏}‏ مأخوذة من خمر إذا ستر، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «خمروا الإناء»، ومنه خمار المرأة، والخمر ما واراك من شجر وغيره، ومنه قول الشاعر‏:‏

ألا يا زيد والضحاك سيرا *** فقد جاوزتما خمر الطريق

أي سيرا مدلين فقد جاوزتما الوهدة التي يستتر بها الذئب وغيره، ومنه قول العجاج‏:‏

في لامِعِ العقْبَانِ لاَ يَمْشِي الخَمر *** يصف جيشاً جاء برايات غير مستخف، ومنه قولهم دخل فلان في غمار الناس وخمارهم، أي هو بمكان خاف، فلما كانت الخمر تستر العقل وتغطي عليه سميت بذلك، والخمر ماء العنب الذي غلي ولم يطبخ أو طبخ طبخاً لم يكف غليانه، وما خامر العقل من غير ذلك فهو حكمه‏.‏ قال أبو حنيفة‏:‏ قد تكون الخمر من الحبوب، قال ابن سيده‏:‏ وأظنه تسفحاً منه، لأن حقيقة الخمر إنما هي ماء العنب دون سائر الأشياء، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «الخمر من هاتين الشجرتين‏:‏ العنب والنخلة»، وحرمت الخمر بالمدينة يوم حرمت وهي من العسل والزبيب والتمر والشعير والقمح، ولم تكن عندهم خمر عنب، وأجمعت الأمة على خمر العنب إذا غلت ورمت بالزبد أنها حرام قليلها وكثيرها، وأن الحد واجب في القليل منها والكثير، وجمهور الأمة على أن ما أسكر كثيره من غير خمر العنب فمحرم قليله وكثيره‏.‏ والحد في ذلك واجب‏.‏ وقال أبو حنيفة وسفيان الثوري وابن أبي ليلى وابن شبرمة وجماعة من فقهاء الكوفة‏:‏ ما أسكر كثيره من غير خمر العنب، فما لا يسكر منه حلال، وإذا سكر أحد منه دون أن يتعمد الوصول إلى حد السكر فلا حد عليه‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا قول ضعيف يرده النظر، وأبو بكر الصديق وعمر الفاروق والصحابة على خلافه، وروي أن النبي عليه السلام قال‏:‏ «كل مسكر خمر، وكل خمر حرام، وما اسكر كثيره فقليله حرام»، قال ابن المنذر في الإشراف‏:‏ «لم يبق هذا الخبر مقالة لقائل ولا حجة لمحتج»، وروي أن هذه الآية أول تطرق إلى تحريم الخمر، ثم بعده ‏{‏لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 43‏]‏، ثم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة، فهل أنتم منتهون‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 91‏]‏، ثم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 90‏]‏، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «حرمت الخمر»، ولم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم في حد الخمر إلا أنه جلد أربعين، خرجه مسلم وأبو داود، وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه ضرب فيها ضرباً مشاعاً، وحزره أبو بكر أربعين سوطاً، وعمل بذلك هو ثم عمر، ثم تهافت الناس فيها فشدد عليهم الحد وجعله كأخف الحدود ثمانين، وبه قال مالك، وقال الشافعي بالأربعين، وضرب الخمر غير شديد عند جماعة العلماء ولا يبدو إبط الضارب، وقال مالك‏:‏ «الضرب كله سواء لا يخفف ولا يبرح»، ويجتنب من المضروب الوجه والفرج والقلب والدماغ والخواصر بإجماع، وقالت طائفة‏:‏ هذه الآية منسوخة بقوله‏:‏ ‏{‏فاجتنبوه لعلكم تفلحون‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 90‏]‏، يريد ما في قوله ‏{‏ومنافع للناس‏}‏ من الإباحة والإشارة إلى الترخيص‏.‏

و ‏{‏الميسر‏}‏ مأخوذ من يسر إذا جزر، والياسر الجازر، ومنه قول الشاعر‏:‏

فلَمْ يَزَلْ بِكَ واشيهمْ وَمَكْرُهُمْ *** حتَّى أَشَاطُوا بِغْيبٍ لَحْمَ مَنْ يَسَرُوا

ومنه قول الآخر‏:‏

أقُولُ لَهُمْ بِالشَّعْبِ إذْ يَيْسِرونني *** أَلَمْ تَيْأسُوا إنّي ابْنُ فَارِسِ زهدمِ‏؟‏

والجزور الذي يستهم عليه يسمى ميسراً لأنه موضع اليسر، ثم قيل للسهام ميسر للمجاورة‏.‏ وقال الطبري‏:‏ «الميسر مأخوذ من يسر لي هذا إذا وجب وتنسى»، ونسب القول إلى مجاهد، ثم جلب من نص كلام مجاهد ما هو خلاف لقوله، بل أراد مجاهد الجزر، واليسر‏:‏ الذي يدخل في الضرب بالقداح، وجمعه أيسار وقيل يسر جمع ياسر، كحارس وحرس وأحراس، وسهام الميسر سبعة لها حظوظ وفيها فروض على عدة الحظوظ، وثلاثة لا حظوظ لها، ولا فروض فيها، وهي الفذ والتوأم والرقيب والحلس والنافس والمسبل والمعلى، والثلاثة التي لا حظوظ لها المنيح والسفيح والوغد، تزاد هذه الثلاثة لتكثر السهام وتختلط على الحرضة وهو الضارب بها، فلا يجد إلى الميل مع أحد سبيلاً، وكانت عادة العرب أن تضرب بهذه القداح في الشتوة وضيق الوقت وكلب البرد على الفقراء، تشتري الجزور ويضمن الأيسار ثمنها ثم تنحر وتقسم على عشرة أقسام، وأخطأ الأصمعي في قسمة الجزور، فذكر أنها كانت على قدر حظوظ السهام ثمانية وعشرين قسماً، وليس كذلك، ثم يضرب على العشرة الأقسام، فمن فاز سهمه بأن يخرج من الربابة متقدماً أخذ أنصباءه وأعطاها الفقراء، وفي أحيان ربما تقامروا لأنفسهم ثم يغرم الثمن من لم يفز سهمه‏.‏

ويعيش بهذه السيرة فقراء الحي، ومنه قول الأعشى‏:‏ ‏[‏السريع‏]‏

المطعمو الضيف إذا ما شتا *** والجاعلو القوت على الياسر

ومنه قول الآخر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

بأيديهمُ مَقْرومَةٌ وَمَغَالقٌ *** يَعُودُ بأرزاقِ العُفَاةِ مَنِيحُها

والمنيح في هذا البيت المستمنح، لأنهم كانوا يستعيرون السهم الذي قد أملس وكثر فوزه، فلذلك المنيح الممدوح، وأما المنيح الذي هو أحد الثلاثة الأغفال، فذلك إنما يوصف بالكر، وإياه أراد جرير بقوله‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏

وَلَقَدْ عَطَفْنَ عَلَى فَزَارَةَ عَطْفَةً *** كَرَّ الْمَنيحِ وَجُلْنَ ثمَّ مَجَالاَ

ومن الميسر قول لبيد‏:‏

‏[‏الطويل‏]‏

وإذا يَسِرُوا لَمْ يُورِثِ الْيُسْرُ بَيْنَهُمْ *** فَوَاحِش يُنْعى ذكرُها بِالْمَصَايِفِ

فهذا كله هو نفع الميسر، إلى أنه أكل المال بالباطل، ففيه إثم كبير، وقال محمد بن سيرين والحسن وابن عباس وابن المسيب وغيرهم‏:‏ كل قمار ميسر من نرد وشطرنج ونحوه حتى لعب الصبيان بالجوز‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس‏}‏ الآية، قال ابن عباس والربيع‏:‏ الإثم فيهما بعد التحريم، والمنفعة فيهما قبله، وقالت طائفة‏:‏ الإثم في الخمر ذهاب العقل والسباب والافتراء والإذاية والتعدي الذي يكون من شاربها، والمنفعة اللذة بها كما قال حسان بن ثابت‏:‏

وَنَشْرَبُهَا فَتَتْرُكَنَا ملوكاً *** وَأسْداً ما يُنَهْنِهُنَا للقَاءُ

إلى غير ذلك من أفراحها، وقال مجاهد‏:‏ «المنفعةَ بها كسب أثمانها» ثم أعلم الله عز وجل أن الإثم أكبر من النفع وأعود بالضرر في الآخرة، فهذا هو التقدمة للتحريم، وقرأ حمزة والكسائي «كثير» بالثاء المثلثة، وحجتها أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن الخمر ولعن معها عشرة‏:‏ بائعها، ومبتاعها، والمشتراة له، وعاصرها، والمعصورة له، وساقيها، وشاربها، وحاملها، والمحمولة إليه، وآكل ثمنها، فهذه آثام كثيرة، وأيضاً فجمع المنافع يحسن معه جمع الآثام، و«كثير» بالثاء المثلثة يعطي ذلك، وقرأ باقي القراء وجمهور الناس «كبير» بالباء بواحدة، وحجتها أن الذنب في القمار وشرب الخمر من الكبائر فوصفه بالكبير أليق، وأيضاً فاتفاقهم على ‏{‏أكبر‏}‏ حجة لكبير بالباء بواحدة، وأجمعوا على رفض أكثر بالثاء مثلثة، إلا ما مصحف ابن مسعود فإن فيه «قل فيهما إثم كثير وإثمهما أكثر» بالثاء مثلثة في الحرفين، وقوله تعالى‏:‏ «فيهما إثم» يحتمل مقصدين، أحدهما أن يراد في استعمالهما بعد النهي، والآخر أن يراد خلال السوء التي فيهما، وقال سعيد بن جبير‏:‏ لما نزلت ‏{‏قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس‏}‏ كرهها قوم للإثم وشربها قوم للمنافع، فلما نزلت

‏{‏لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 43‏]‏ تجنبوها عند أوقات الصلوات الخمس، فلما نزلت ‏{‏إنما الخمر والمسير والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 90‏]‏ قال عمر بن الخطاب‏:‏ ضيعة لك اليوم قرنت بالميسر والأنصاب، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ حرمت الخمر‏.‏

ولما سمع عمر بن الخطاب قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فهل أنتمْ منتهون‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 91‏]‏ قال‏:‏ «انتهينا، انتهينا»، قال الفارسي‏:‏ وقال بعض أهل النظر‏:‏ حرمت الخمر بهذه الآية لأن الله تعالى قال‏:‏ ‏{‏قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 33‏]‏، وأخبر في هذه الآية أن فيها إثماً، فهي حرام‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه‏:‏ ليس هذ النظر بجيد لأن الإثم الذي فيها هو الحرام، لا هي بعينها على ما يقتضيه هذا النظر، وقال قتادة‏:‏ ذم الله الخمر بهذه الآية ولم يحرمها‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو‏}‏ قال قيس بن سعد‏:‏ «هذه الزكاة المفروضة»‏.‏ وقال جمهور العلماء‏:‏ بل هي نفقات التطوع‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ نسخت بالزكاة‏.‏ وقال آخرون‏:‏ هي محكمة وفي المال حق سوى الزكاة‏.‏ و‏{‏العفو‏}‏‏:‏ هو ما ينفقه المرء دون أن يجهد نفسه وماله‏.‏ ونحو هذا هي عبارة المفسرين‏:‏ وهو مأخوذ من عفا الشيء إذا كثر، فالمعنى أنفقوا ما فضل عن حوائجكم ولم تؤذوا فيه أنفسكم فتكونوا عالة، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ قال‏:‏ «من كان له فضل فلينفقه على نفسه، ثم على من يعول، فإن فضل شيء فليتصدق به»، وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «خير الصدقة ما أبقت غنى»، وفي حديث آخر‏:‏ «ما كان عن ظهر غنى»‏.‏

وقرأ جمهور الناس «العفو» بالنصب، وقرأ أبو عمرو وحده «العفُو» بالرفع، واختلف عن ابن كثير، وهذا متركب على ‏{‏ماذا‏}‏، فمن جعل «ما» ابتداء و«ذا» خبره بمعنى الذي وقدر الضمير في ‏{‏ينفقونه‏}‏ عائداً قرأ «العفوُ» بالرفع، لتصح مناسبة الجمل، ورفعه على الابتداء تقديره العفو إنفاقكم، أو الذي تنفقون العفو، ومن جعل ‏{‏ماذا‏}‏ اسماً واحداً مفعولاً ب ‏{‏ينفقون‏}‏، قرأ «قل العفوَ» بالنصب بإضمار فعل، وصح له التناسب، ورفع «العفوُ» مع نصب «ما» جائز ضعيف، وكذلك نصبه مع رفعها‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون‏}‏ الإشارة إلى ما تقدم تبيينه من أمر الخمر والميسر والإنفاق، وأخبر تعالى أنه يبين للمؤمنين الآيات التي تقودهم إلى الفكرة في الدنيا والآخرة، وذلك طريق النجاة لمن تنفعه فكرته، وقال مكي‏:‏ «معنى الآية أنه يبين للمؤمنين آيات في الدنيا والآخرة تدل عليهما وعلى منزلتيهما لعلهم يتفكرون في تلك الآيات، فقوله ‏{‏في الدنيا‏}‏ متعلق على هذا التأويل ب ‏{‏الآيات‏}‏، وعلى التأويل الأول وهو المشهور عن ابن عباس وغيره يتعلق ‏{‏في الدنيا‏}‏ ب ‏{‏تتفكرون‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏220- 221‏]‏

‏{‏فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏220‏)‏ وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ‏(‏221‏)‏‏}‏

قوله قبل ‏{‏في الدنيا‏}‏ ابتداء آية، وقد تقدم تعلقه، وكون ‏{‏تتفكرون‏}‏ موقفاً يقوي تعلق ‏{‏في الدنيا‏}‏ ب ‏{‏الآيات‏}‏، وقرأ طاوس «قل أصلح لهم خير»، وسبب الآية فيما قال السدي والضحاك أن العرب كانت عادتهم أن يتجنبوا مال اليتيم ولا يخالطوه في مأكل ولا مشرب ولا شيء، فكانت تلك مشقة عليهم، فسألوا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال ابن عباس وسعيد بن المسيب‏:‏ سببها أن المسلمين لما نزلت ‏{‏ولا تقربوا مال اليتيم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 152‏]‏ الآية ونزلت ‏{‏إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 10‏]‏ تجنبوا اليتامى وأموالهم وعزلوهم عن أنفسهم، فنزلت ‏{‏وإن تخالطوهم فإخوانكم‏}‏ الآية، وقيل‏:‏ إن السائل عبد الله بن رواحة، وأمر الله تعالى نبيه أن يجيب بأن من قصد الإصلاح في مال اليتيم فهو خير، وما فعل بعد هذا المقصد من مخالطة وانبساط بعوض منه فلا حرج، ورفع تعالى المشقة في تجنب اليتيم ومأكله ومشربه، وأباح الخلطة في ذلك إذا قصد الإصلاح ورفق اليتيم، مثال ذلك كان يكتفي اليتيم دون خلطة بقدر ما في الشهر، فإن دعت خلطة الولي إلى أن يزاد في ذلك القدر فهي مخالطة فساد، وإن دعت إلى الحط من ذلك القدر فهي مخالطة إصلاح، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإخوانكم‏}‏ خبر ابتداء محذوف، وقوله ‏{‏والله يعلم المفسد من المصلح‏}‏ تحذير، والعنت المشقة، منه عنت العزبة، وعقبة عنوت أي شاقة، وعنت البعير إذا انكسر بعد جبر، فالمعنى‏:‏ لأتعبكم في تجنب أمر اليتامى، ولكنه خفف عنكم، وقال ابن عباس‏:‏ المعنى لأوبقكم بما سلف من نيلكم من أموال اليتامى، و‏{‏عزيز‏}‏ مقتضاه لا يرد أمره، و‏{‏حكيم‏}‏ أي محكم ما ينفذه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنّ‏}‏ الآية، قرأ جمهور الناس «تَنكحوا» بفتح التاء، وقرئت في الشاذ بالضم كأن المتزوج لها أنكحها من نفسسه، ونكح أصله الجماع، ويستعمل في التزوج تجوزاً واتساعاً، وقالت طائفة‏:‏ ‏{‏المشركات‏}‏ هنا من يشرك مع الله إلهاً آخر، فلم تدخل اليهوديات ولا النصرانيات في لفظ هذه الآية، ولا في معناها، وسببها قصة أبي مرثد كناز بن حصين مع عناق التي كانت بمكة، وقال قتادة وسعيد بن جبير‏:‏ لفظ الآية العموم في كل كافرة، والمراد بها الخصوص في الكتابيات، وبينت الخصوص آية المائدة ولم يتناول قط الكتابيات، وقال ابن عباس والحسن‏:‏ تناولهن العموم ثم نسخت آية سورة المائدة بعض العموم في الكتابيات، وهذا مذهب مالك رحمه الله، ذكره ابن حبيب وقال‏:‏ «ونكاح اليهودية والنصرانية وإن كان قد أحله الله مستثقل مذموم»، وكره مالك رحمه الله تزوج الحربيات لعله ترك الولد في دار الحرب ولتصرفها في الخمر والخنزير، وأباح نكاح الكتابيات عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وجابر بن عبد الله وطلحة وعطاء بن أبي رباح وابن المسيب والحسن وطاوس وابن جبير والزهري الشافعي وعوام أهل المدينة والكوفة، ومنه مالك والشافعي وأبو حنيفة والأوزاعي وإسحاق نكاح المجوسية، وقال ابن حنبل‏:‏ لا يعجبني، وروي أن حذيفة بن اليمان تزوج مجوسية، وقال ابن الفصار‏:‏ «قال بعض أصحابنا‏:‏ يجب-على أحد القولين أن لهم كتاباً- أن تجوز مناكحتهم»‏.‏

وقال ابن عباس في بعض ما روي عنه إن الآية عامة في الوثنيات والمجوسيات والكتابيات، وكل من كان على غير الإسلام حرام «‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فعلى هذا هي ناسخة للآية التي في سورة المائدة، وينظر إلى هذا قول ابن عمر في الموطأ‏:‏» ولا أعلم إشراكاً أعظم من أن تقول المرأة‏:‏ ربها عيسى «، وروي عن عمر أنه فرق بين طلحة بن عبيد الله وحذيفة بن اليمان وبين كتابيتين وقالا‏:‏ نطلق يا أمير المؤمنين ولا تغضب، فقال‏:‏ لو جاز طلاقكما لجاز نكاحكما، ولكن أفرق بينكما صغرة قمأة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا لا يستند جيداً، وأسند منه أن عمر أراد التفريق بينهما فقال له حذيفة‏:‏ أتزعم أنها حرام فأخلي سبيلها يا أمير المؤمنين‏؟‏ فقال‏:‏ لا أزعم أنها حرام، ولكني أخاف أن تعاطوا المومسات منهن، وروي عن ابن عباس نحو هذا، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولأمة مؤمنة‏}‏ إخبار أن المؤمنة المملوكة خير من المشركة وإن كانت ذات الحسب والمال ولو أعجبتكم في الحسن وغير ذلك، هذا قول الطبري وغيره، وقال السدي‏:‏ نزلت في عبد الله بن رواحة كانت له أمة سوداء فلطمها في غضب، ثم ندم فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، وقال‏:‏ هي تصوم وتصلي وتشهد الشهادتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ هذه مؤمنة‏.‏ فقال ابن رواحة‏:‏ لأعتقنّها ولأتزوجنّها، ففعل، فطعن عليه ناس فنزلت الآية فيه، ومالك رحمه الله لا يجوز عنده نكاح الأمة الكتابية، وقال أشهب في كتاب محمد فيمن أسلم وتحته أمة كتابية‏:‏ إنه لا يفرق بينهما، وروى ابن وهب وغيره عن مالك أن المجوسية لا يجوز أن توطأ بملك اليمين، وأبو حنيفة وأصحابه يجيزون نكاح الإماء الكتابيات‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تنحكوا المشركين حتى يؤمنوا‏}‏ الآية، أجمعت الأمة على أن المشرك لا يطأ المؤمنة بوجه لما في ذلك من الغضاضة على دين الإسلام، والقراء على ضم التاء من ‏{‏تنكحوا‏}‏، وقال بعض العلماء‏:‏ إن الولاية في النكاح نص في لفظ هذه الآية‏.‏

‏{‏ولبعد مؤمن‏}‏ مملوك ‏{‏خير من مشرك‏}‏ حسيب ولو أعجبك حسنه وماله حسبما تقدم، وليس التفضيل هنا بلفظة ‏{‏خير‏}‏ من جهة الإيمان فقط لأنه لا اشتراك من جهة الإيمان، لكن الاشتراك موجود في المعاشرة والصحبة وملك العصمة وغير شيء، وهذا النظر هو على مذهب سيبويه في أن لفظة» أفعل «التي هي للتفضيل لا تصح حيث لا اشتراك‏.‏

كقولك «الثلج أبرد من النار»، والنور أضوأ من الظلمة «، وقال الفراء وجماعة من الكوفيين‏:‏ تصح لفظة» أفعل «حيث الاشتراك وحيث لا اشتراك، وحكى مكي عن نفطويه أن لفظة التفضيل تجيء في كلام العرب إيجاباً للأول ونفياً عن الثاني‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وتحتمل الآية عندي أن يكون ذكرالعبد والأمة عبارة عن جميع الناس حرهم ومملوكهم، وكما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏» لا تمنعوا إماء الله مساجد الله «، وكما نعتقد أن الكل عبيد الله، وكما قال تعالى‏:‏ ‏{‏نعم العبد إنه أواب‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 30‏]‏، فكأن الكلام في هذه الآية‏:‏ ولا مرأة ولرجل‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك‏}‏ الإشارة إلى المشركات والمشركين، أي أنَّ صحبتهم ومعاشرتهم توجب الانحطاط في كثير من هواهم مع تربيتهم النسل، فهذا كله دعاء إلى النار مع السلامة مع أن يدعوا إلى دينه نصاً من لفظه، والله تعالى يمن بالهداية ويبين الآيات ويحض على الطاعات التي هي كلها دواع إلى الجنة، وقرأ الحسن بن أبي الحسن» والمغفرةُ «بالرفع على الابتداء، والإذن العلم والتمكين، فإن انضاف إلى ذلك أمر فهو أقوى من الإذن، لأنك إذا قلت» أذنت كذا «فليس يلزمك أنك أمرت، و‏{‏لعلهم‏}‏ ترجٍّ في حق البشر، ومن تذكر عَمِلَ حسب التذكر فنجا‏.‏