فصل: تفسير الآيات رقم (37- 39)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏30- 32‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏30‏)‏ وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏31‏)‏ قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ‏(‏32‏)‏‏}‏

قال معمر بن المثنى‏:‏ «إذ زائدة، والتقدير وقال ربك»‏.‏

قال أبو إسحاق الزجاج‏:‏ «هذا اجتراء من أبي عبيدة»‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وكذلك رد عليه جميع المفسرين‏.‏

وقال الجمهور‏:‏ ليست بزائدة وإنما هي معلقة بفعل مقدر تقديره واذكر إذ قال، وأيضاً فقوله‏:‏ ‏{‏خلق لكم ما في الأرض جميعاً‏}‏ الآية، يقتضي أن يكون التقدير وابتداء خلقكم إذ قال ربك للملائكة، وإضافة رب إلى محمد صلى الله عليه وسلم ومخاطبته بالكاف تشريف منه له، وإظهار لاختصاصه به، والملائكة واحدها ملك أصله ملاك على وزن مفعل من لاك إذا أرسل، وجمعه ملائكة على وزن مفاعلة‏.‏

وقال قوم‏:‏ أصل ملك مألك، من ألك إذا أرسل، ومنه قول عدي بن زيد‏:‏ ‏[‏الرمل‏]‏

أبلغ النعمان عني مألكاً *** أنه قد طال حبسي وانتظاري

واللغتان مسموعتان لأك وألك، قلبت فيه الهمزة بعد اللام فجاء وزنه معفل، وجمعه ملائكة، وزنه معافلة‏.‏

وقال ابن كيسان‏:‏ «هو من ملك يملك، والهمزة فيه زائدة كما زيدت في شمأل من شمل، فوزنه فعأل، ووزن جمعه فعائلة» وقد يأتي في الشعر على أصله كما قال‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

فلستِ لأنسيٍّ ولكنْ لمَلأكٍ *** تَنَزَّلَ مَن جَوِّ السماءِ يصُوبُ

وأما في الكلام فسهلت الهمزة وألقيت حركتها على اللام أو على العين في قول ابن كيسان فقيل ملك، والهاء في ملائكة لتأنيث الجموع غير حقيقي، وقيل هي للمبالغة كعلامة ونسابة، والأول أبين‏.‏

وقال أبو عبيدة‏:‏ «الهمزة في ملائكة مجتلبة لأن واحدها ملك»‏.‏

قال القاضي أبو محمد بن عبد الحق رضي الله عنه‏:‏ فهذا الذي نحا إليه ابن كيسان‏.‏

و ‏{‏جاعل‏}‏ في هذه الآية بمعنى خالق، ذكره الطبري عن أبي روق، ويقضي بذلك تعديها إلى مفعول واحد‏.‏

وقال الحسن وقتادة‏:‏ «جاعل بمعنى فاعل»‏.‏

وقال ابن سابط عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «إن الأرض هنا يعني بها مكة لأن الأرض دحيت من تحتها، ولأنها مقرٌّ من هلك قومه من الأنبياء، وإن قبر نوح وصالح بين المقام والركن»‏.‏

و ‏{‏خليفة‏}‏ معناه من يخلف‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ «كانت الجن قبل بني آدم في الأرض فأفسدوا وسفكوا الدماء فبعث الله إليهم قبيلاً من الملائكة قتلهم وألحق فلَّهم بجزائر البحار ورؤوس الجبال، وجعل آدم وذريته خليفة»‏.‏

وقال الحسن‏:‏ «إنما سمى الله بني آدم خليفة لأن كل قرن منهم يخلف الذي قبله، الجيل بعد الجيل»‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه‏:‏ ففي هذا القول، يحتمل أن تكون بمعنى خالفة وبمعنى مخلوفة‏.‏

وقال ابن مسعود‏:‏ «إنما معناه خليفة مني في الحكم بين عبادي بالحق وبأوامري» يعني ذلك آدم عليه السلام ومن قام مقامه بعده من ذريته‏.‏

وقرأ زيد بن علي «خليقة» بالقاف‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالوا أتجعل فيها‏}‏ الآية، وقد علمنا قطعاً أن الملائكة لا تعلم الغيب ولا تسبق بالقول، وذلك عام في جميع الملائكة، لأن قوله‏:‏ «لا يسبقونه بالقول» خرج على جهة المدح لهم‏.‏

قال القاضي أبو بكر بن الطيب‏:‏ «فهذه العموم، فلا يصح مع هذين الشرطين إلا أن يكون عندهم من إفساد الخليفة في الأرض نبأ ومقدمة»‏.‏

قال ابن زيد وغيره‏:‏ إن الله تعالى أعلمهم أن الخليفة سيكون من ذريته قوم يفسدون ويسفكون الدماء، فقالوا لذلك هذه المقالة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فهذا إما على طريق التعجب من استخلاف الله من يعصيه، أو من عصيان من يستخلفه الله في أرضه وينعم عليه بذلك، وإما على طريق الاستعظام والإكبار للفصلين جميعاً، الاستخلاف، والعصيان‏.‏

وقال أحمد بن يحيى ثعلب وغيره‏:‏ إنما كانت الملائكة قد رأت وعلمت ما كان من إفساد الجن وسفكهم الدماء في الأرض فجاء قولهم ‏{‏أتجعل فيها‏}‏ الأية، على جهة الاستفهام المحض، هل هذا الخليفة على طريقة من تقدم من الجن أم لا‏؟‏

وقال آخرون‏:‏ كان الله تعالى قد أعلم الملائكة أنه يخلق في الأرض خلقاً يفسدون ويسفكون الدماء، فلما قال لهم بعد ذلك‏:‏ ‏{‏إني جاعل‏}‏ ‏{‏قالوا أتجعل فيها‏}‏ الآية، على جهة الاسترشاد والاستعلام هل هذا الخليفة هو الذي كان أعلمهم به قبل أو غيره‏؟‏

والسفك صب الدم، هذا عرفه،، وقد يقال سفك كلامه في كذا إذا سرده‏.‏

وقرأءة الجمهور بكسر الفاء‏.‏

وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة‏:‏ «ويسفكُ» بضم الفاء‏.‏

وقرأ ابن هرمز «ويسفك» بالنصب بواو الصرف كأنه قال‏:‏ من يجمع أن يفسد وأن يفسك‏.‏

وقال المهدوي‏:‏ هو نصب في جواب الاستفهام‏.‏

قال القاضي أبو محمد والأول أحسن‏.‏

وقولهم‏:‏ ‏{‏ونحن نسبح بحمدك‏}‏ قال بعض المتأولين‏:‏ هو على جهة الاستفهام، كأنهم أرادوا ‏{‏ونحن نسبح بحمدك‏}‏ الآية، أن نتغير عن هذه الحال‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه‏:‏ وهذا يحسن مع القول بالاستفهام المحض في قولهم‏:‏ ‏{‏أتجعل‏}‏‏؟‏‏.‏

وقال آخرون‏:‏ معناه التمدح ووصف حالهم، وذلك جائز لهم كما قال يوسف عليه السلام‏:‏ ‏{‏إني حفيظ عليم‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 55‏]‏‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا يحسن مع التعجب الاستعظام لأن يستخلف الله من يعصيه في قولهم ‏{‏أتجعل‏}‏ وعلى هذا أدبهم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إني أعلم ما لا تعلمون‏}‏‏.‏

وقال قوم‏:‏ معنى الآية ونحن لو جعلتنا في الأرض واستخلفتنا نسبح بحمدك‏.‏ وهذا أيضاً حسن مع التعجب والاستعظام في قولهم‏:‏ ‏{‏أتجعل‏}‏‏.‏

ومعنى ‏{‏نسبح بحمدك‏}‏ ننزهك عما لا يليق بك وبصفاتك‏.‏

وقال ابن عباس وابن مسعود‏:‏ «تسبيح لملائكة صلاتهم لله»‏.‏

وقال قتادة‏:‏ «تسبيح الملائكة قولهم سبحان الله على عرفه في اللغة‏.‏

و ‏{‏بحمدك‏}‏ معناه‏:‏ نخلط التسبيح بالحمد ونصله به، ويحتمل أن يكون قوله ‏{‏بحمدك‏}‏ اعتراضاً بين الكلامين، كأنهم قالوا ونحن نسبح ونقدس، ثم اعترضوا على جهة التسليم، أي وأنت المحمود في الهداية إلى ذلك‏.‏

‏{‏ونقدس لك‏}‏ قال الضحاك وغيره‏:‏ معناه نطهر أنفسنا لك ابتغاء مرضاتك، والتقديس التطهير بلا خلاف، ومنه الأرض المقدسة أي المطهرة، ومنه بيت المقدس، ومنه القدس الذي يتطهر به‏.‏

وقال آخرون‏:‏ ‏{‏ونقدس لك‏}‏ معناه ونقدسك أي نعظمك ونطهر ذكرك عما لا يليق به‏.‏ قاله مجاهد وأبو صالح وغيرهما‏.‏

وقال قوم‏:‏ نقدس لك معناه نصلي لك‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا ضعيف‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إني أعلم ما لا تعلمون‏}‏ الأظهر أن ‏{‏أعلم‏}‏ فعل مستقبل، و‏{‏ما‏}‏ في موضع نصب به، وقيل ‏{‏أعلم‏}‏ اسم، و‏{‏ما‏}‏ في موضع خفض بالإضافة، ولا يصح الصرف فيه بإجماع من النحاة، وإنما الخلاف في أفعل إذا سمي به وكان نكرة، فسيبويه والخليل لا يصرفانه، والأخفش يصرفه‏.‏

واختلف أهل التأويل في المراد بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما لا تعلمون‏}‏ فقال ابن عباس‏:‏» كان إبليس- لعنه الله- قد أعجب ودخله الكبر لما جعله الله خازن السماء الدنيا وشرفه «‏.‏ وقيل‏:‏ بل لما بعثه الله إلى قتل الجن الذين كانوا أفسدوا في الأرض فهزمهم وقتلهم بجنده، قاله ابن عباس أيضاً، واعتقد أن ذلك لمزية له واستحقب الكفر والمعصية في جانب آدم عليه السلام‏.‏

قال‏:‏ فلما قالت الملائكة ‏{‏ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك‏}‏ وهي لا تعلم أن في نفس إبليس خلاف ذلك‏.‏ قال الله لهم ‏{‏إني أعلم ما لا تعلمون‏}‏ يعني ما في نفس إبليس‏.‏

وقال قتادة‏:‏ لما قالت الملائكة ‏{‏أتجعل فيها من يفسد فيها‏}‏ وقد علم الله تعالى أن فيمن يستخلف في الأرض أنبياء وفضلاء وأهل طاعة، قال لهم ‏{‏إني أعلم ما لا تعلمون‏}‏ يعني أفعال الفضلاء من بني آدم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وعلم‏}‏ معناه عرف وتعليم آدم هنا عند قوم إلهام علمه ضرورة‏.‏

وقال قوم‏:‏ بل تعليم بقول، فإما بواسطة ملك، أو بتكليم قبل هبوطه الأرض، فلا يشارك موسى- عليه السلام- في خاصته‏.‏

وقرأ اليماني‏:‏» وعُلِّم «بضم العين على بناء الفعل للمفعول،» آدمُ «مرفوعاً‏.‏

قال أبو الفتح‏:‏» هي قراءة يزيد البربري «و ‏{‏آدم‏}‏ أفعل مشتق من الأدمة وهي حمرة تميل إلى السواد، وجمعه أدم وأوادم كحمر وأحامر، ولا ينصرف بوجه، وقيل ‏{‏آدم‏}‏ وزنه فاعل مشتق من أديم الأرض، كأن الملك آدمها وجمعه آدمون وأوادم، ويلزم قائل المقالة صرفه‏.‏

وقال الطبري‏:‏ «آدم فعل رباعي سمي به»، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «خلق الله آدم من أديم الأرض كلها فخرجت ذريته على نحو ذلك منهم الأبيض والأسود والأسمر والسهل والحزن والطيب والخبيث»‏.‏

واختلف المتأولون في قوله‏:‏ ‏{‏الأسماء‏}‏ فقال جمهور الأمة‏:‏ «علمه التسميات» وقال قوم‏:‏ «عرض عليه الأشخاص»‏.‏

قال القاضي أبو محمد والأول أبين، ولفظة-علمه- تعطي ذلك‏.‏

ثم اختلف الجمهور في أي الأسماء علمه‏؟‏ فقال ابن عباس وقتادة ومجاهد‏:‏ «علمه اسم كل شيء من جميع المخلوقات دقيقها وجليلها»‏.‏

وقال حميد الشامي‏:‏ «علمه أسماء النجوم فقط»‏.‏

وقال الربيع بن خثيم‏:‏ «علمه أسماء الملائكة فقط»‏.‏

وقال عبد الرحمن بن زيد‏:‏ «علمه أسماء ذريته فقط»‏.‏

وقال الطبري‏:‏ «علمه أسماء ذريته والملائكة»، واختار هذا ورجحه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم عرضهم على الملائكة‏}‏‏.‏

وحكى النقاش عن ابن عباس أنه تعالى علمه كلمة واحدة عرف منها جميع الأسماء‏.‏

وقال آخرون‏:‏ «علمه أسماء الأجناس، كالجبال والخيل والأودية ونحو ذلك، دون أن يعين ما سمته ذريته منها»‏.‏

وقال ابن قتيبة‏:‏ «علمه أسماء ما خلق في الأرض»‏.‏

وقال قوم‏:‏ علمه الأسماء بلغة واحدة، ثم وقع الاصطلاح من ذريته فيما سواها‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ «بل علمه الأسماء بكل لغة تكلمت بها ذريته» وقد غلا قوم في هذا المعنى حتى حكى ابن جني عن أبي علي الفارسي أنه قال‏:‏ «علم الله تعالى آدم كل شيء، حتى إنه كان يحسن من النحو مثل ما أحسن سيبويه»، ونحو هذا من القول الذي هو بين الخطأ من جهات‏.‏ وقال أكثر العلماء‏:‏ «علمه تعالى منافع كل شيء ولما يصلح»‏.‏

وقال قوم‏:‏ «عرض عليه الأشخاص عند التعليم»‏.‏

وقال قوم‏:‏ «بل وصفها له دون عرض أشخاص»‏.‏

قال القاضي أبو محمد رحمه الله‏:‏ وهذه كلها احتمالات، قال الناس بها‏.‏

وقرا أبي بن كعب‏:‏ «ثم عرضها»‏.‏

وقرأ ابن مسعود‏:‏ «ثم عرضهن» واختلف المتأولون هل عرض على الملائكة أشخاص الأسماء أو الأسماء دون الأشخاص‏؟‏ فقال ابن مسعود وغيره‏:‏ عرض الأشخاص‏.‏

وقال ابن عباس وغيره‏:‏ عرض الأسماء، فمن قال في الأسماء بعموم كل شيء قال عرضهم أمة أمة ونوعاً نوعاً، ومن قال في الأسماء إنها التسميات استقام على قراء ة أبيّ‏:‏ «عرضها»، ونقول في قراءة من قرأ «عرضهم»‏:‏ إن لفظ الأسماء يدل على الأشخاص، فلذلك ساغ أن يقول للأسماء عرضهم‏.‏

و ‏{‏أنبئوني‏}‏ معناه‏:‏ أخبروني، والنبأ الخبر، ومنه النبيء‏.‏

وقال قوم‏:‏ يخرج من هذا الأمر بالإنباء تكليف ما لا يطاق، ويتقرر جوازه، لأنه تعالى علم أنهم لا يعملون‏.‏

وقال المحققون من أهل التأويل‏:‏ ليس هذا على جهة التكليف وإنما على جهة التقرير والتوقيف‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هؤلاء‏}‏ ظاهره حضور أشخاص، وذلك عند العرض على الملائكة‏.‏

وليس في هذه الآية ما يوجب أن الاسم أريد به المسمى كما ذهب إليه مكي والمهدوي، فمن قال إنه تعالى عرض على الملائكة أشخاصاً استقام له مع لفظ ‏{‏هؤلاء‏}‏، ومن قال إنه إنما عرض أسماء فقط جعل الإشارة ب ‏{‏هؤلاء‏}‏ إلى أشخاص الأسماء وهي غائبة، إذ قد حضر ما هو منها بسبب، وذلك أسماؤها، وكأنه قال لهم في كل اسم لأي شخص هذا‏.‏

قال القاضي أبو محمد رحمه الله‏:‏ والذي يظهر أن الله تعالى علم آدم الأسماء وعرض مع ذلك عليه الأجناس أشخاصاً، ثم عرض تلك على الملائكة وسألهم عن تسمياتها التي قد تعلمها آدم، ثم إن آدم قال لهم هذا اسمه كذا، وهذا اسمه كذا، و‏{‏هؤلاء‏}‏ لفظ مبني على الكسر والقصر فيه لغة تميم وبعض قيس وأسد، قال الأعشى‏:‏ ‏[‏الخفيف‏]‏‏.‏

هؤلا ثم هؤلا كلا أعطي *** تَ نعالاً محذوة بنعال

و ‏{‏كنتم‏}‏ في موضع الجزم بالشرط، والجواب عند سيبويه فيما قبله، وعند المبرد محذوف، والتقدير‏:‏ إن كنتم صادقين فأنبئوني‏.‏

وقال ابن مسعود وابن عباس وناس من أصحاب النبي صلى عليه السلام، معنى الآية‏:‏ ‏{‏إن كنتم صادقين‏}‏ في أن الخليفة يفسد ويسفك‏.‏

وقال آخرون‏:‏ ‏{‏صادقين‏}‏ في إني إن استخلفتكم سبحتم بحمدي وقدستم لي‏.‏

وقال الحسن وقتادة‏:‏ روي أن الملائكة قالت حين خلق الله آدم‏:‏ ليخلق ربنا ما شاء فلن يخلق خلقاً أعلم منا ولا أكرم عليه، فأراد الله تعالى أن يريهم من علم آدم وكرامته خلاف ما ظنوا فالمعنى إن كنتم صادقين في دعواكم العلم‏.‏

وقال قوم‏:‏ معنى الآية ‏{‏إن كنتم صادقين‏}‏ في جواب السؤال عالمين بالأسماء‏.‏ ‏{‏قالوا‏}‏‏:‏ ولذلك لم يسغ للملائكة الاجتهاد وقالوا‏:‏ ‏{‏سبحانك‏}‏ حكاه النقاش‏.‏ قال‏:‏ ولو لم يشترط عليهم الصدق في الإنباء لجاز لهم الاجتهاد كما جاز للذي أماته الله مائة عام حين قال له «كم لبثت‏؟‏» ولم يشترط عليه الإصابة‏.‏ فقال، ولم يصب فلم يعنف‏.‏

قال القاضي أبو محمد رحمه الله‏:‏ وهذا كله محتمل‏.‏

وحكى الطبري أن بعض المفسرين قال‏:‏ معنى ‏{‏إن كنتم‏}‏ «إذ كنتم»‏.‏

قال الطبري‏:‏ وهذا خطأ‏.‏ وإن قال قائل ما الحكمة في قول الله تعالى للملائكة ‏{‏إني جاعل‏}‏ الآية، قيل‏:‏ هذا منه امتحان لهم واختبار ليقع منهم ما وقع ويؤدبهم تعالى من تعليم آدم وتكريمه بما أدب‏.‏

و ‏{‏سبحانك‏}‏ معناه‏:‏ تنزيهاً لك وتبرئة أن يعلم أحد من علمك إلا ما علمته، و‏{‏سبحانك‏}‏ نصب على المصدر‏.‏

وقال الكسائي‏:‏ «نصبه على أنه منادى مضاف»‏.‏

قال الزهراوي‏:‏ موضع ‏{‏ما‏}‏ من قولهم ‏{‏ما علمتنا‏}‏ نصب ب ‏{‏علمتنا‏}‏، وخبر التبرئة في ‏{‏لنا‏}‏، ويحتمل أن يكون موضع ‏{‏ما‏}‏ رفعاً على أنه بدل من خبر التبرئة، كما تقول لا إله إلا الله أي لا إله في الوجود إلا الله، و‏{‏أنت‏}‏ في موضع نصب تأكيد للضمير في ‏{‏إنك‏}‏، أو في موضع رفع على الابتداء‏.‏

و ‏{‏العليم‏}‏ خبره، والجملة خبر «إن»، أو فاصلة لا موضع لها من الإعراب‏.‏ و‏{‏العليم‏}‏ معناه‏:‏ العالم، ويزيد عليه معنى من المبالغة والتكثير من المعلومات في حق الله عز وجل‏.‏

و ‏{‏الحكيم‏}‏ معناه الحاكم، وبينهما مزية المبالغة، وقيل‏:‏ معناه المحكم كما قال عمرو بن معديكرب‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏‏.‏

أمن ريحانة الداعي السميع *** أي المسمع، ويجيء ‏{‏الحكيم‏}‏ على هذا من صفات الفعل‏.‏

وقال قوم‏:‏ ‏{‏الحكيم‏}‏ المانع من الفساد، ومنه حكمة الفرس مانعته، ومنه قول جرير‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏‏.‏

أبني حنيفةَ أحكمُوا سفهاءكُمْ *** إني أخافُ عليكمُ أن أغضبا

تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 34‏]‏

‏{‏قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ‏(‏33‏)‏ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ‏(‏34‏)‏‏}‏

‏{‏أنبئهم‏}‏ معناه أخبرهم، وهو فعل يتعدى إلى مفعولين أحدهما بحرف جر وقد يحذف حرف الجر أحياناً، تقول نبئت زيداً‏.‏

قال سيبويه‏:‏ معناه نبئت عن زيد‏.‏ والضمير في ‏{‏أنبئهم‏}‏ عائد على الملائكة بإجماع، والضمير في أسمائهم مختلف فيه حسب الاختلاف في الأسماء التي علمها آدم‏.‏

قال أبو علي‏:‏ «كلهم قرأ» أنبئهُم «بالهمز وضم الهاء، إلا ما روي عن ابن عامر،» أنبئِهم «بالهمز وكسر الهاء، وكذلك روى بعض المكيين عن ابن كثير، وذلك على إتباع كسرة الهاء لكسرة الباء، وإن حجز الساكن فحجزه لا يعتد به»‏.‏

قال أبو عمرو الداني‏:‏ «وقرأ الحسن والأعرج‏:‏» أنبيهم «بغير همز»‏.‏

قال ابن جني‏:‏ «وقرأ الحسن أنبهِم»، على وزن «أعطهِم»، وقد روي عنه، «انبيهم» بغيرهمز «‏.‏

قال أبو عمرو‏:‏» وقد روي مثل ذلك عن ابن كثير من طريق القواس «‏.‏

قال أبو الفتح‏:‏ أما قراءة الحسن،» أنبهم «» كأعطهم «فعلى إبدال الهمزة ياء، على أنك تقول» أنبيت «كأعطيت، وهذا ضعيف في اللغة، لأنه بدل لا تخفيف والبدل عندنا لا يجوز إلا في ضرورة شعر‏.‏

قال بعض العلماء‏:‏ إن في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلما أنبأهم‏}‏ نبوة لآدم عليه السلام، إذ أمره الله أن ينبئ الملائكة بما ليس عندهم من علم الله عز وجل‏.‏

ويجوز فتح الياء من» إني «وتسكينها‏.‏

قال الكسائي‏:‏» رأيت العرب إذا لقيت عندهم الياء همزه فتحوها «‏.‏

قال أبو علي‏:‏» كان أبو عمرو يفتح ياء الإضافة المكسور ما قبلها عند الهمزة المفتوحة والمكسورة، إذا كانت متصلة باسم، أو بفعل، ما لم يطل الحرف فإنه يثقل فتحها، نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تفتني ألا‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 49‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاذكروني أذكركم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 152‏]‏، والذي يخف، ‏{‏إني أرى‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 48، يوسف‏:‏ 43، الصافات‏:‏ 102‏]‏ و‏{‏أجري إلا على الله‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 72، هود‏:‏ 29، سبأ‏:‏ 47‏]‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أعلم غيب السموات والأرض‏}‏ معناه‏:‏ ما غاب عنكم، لأن الله لا غيب عنده من معلوماته وما في موضع نصب «بأعلم»‏.‏

قال المهدوي‏:‏ ويجوز أن يكون قوله ‏{‏أعلم‏}‏ اسماً بمعنى التفضيل في العلم، فتكون ‏{‏ما‏}‏ في موضع خفض بالإضافة‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه‏:‏ فإذا قدر الأول اسماً فلا بد بعده من إضمار فعل ينصب ‏{‏غيب‏}‏، تقديره إني أعلم من كل أعلم غيب، وكونها في الموضعين فعلاً مضارعاً أخصر وأبلغ‏.‏

واختلف المفسرون في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما تبدون وما كنتم تكتمون‏}‏ فقالت طائفة‏:‏ ذلك على معنى العموم في معرفة أسرارهم وظواهرهم وبواطنهم أجمع‏.‏

وحكى مكي أن المراد بقول ‏{‏ما تبدون‏}‏ قولهم‏:‏ ‏{‏أتجعل فيها‏}‏ الآية‏.‏

وحكى المهدوي أن ‏{‏ما تبدون‏}‏ قولهم‏:‏ ليخلق ربنا ما شاء فلن يخلق أعلم منا ولا أكرم عليه، فجعل هذا مما أبدوه لما قالوه‏.‏

وقال الزهراوي‏:‏ «ما أبدوه هو بدارهم بالسجود لآدم»‏.‏

واختلف في المكتوم فقال ابن عباس وابن مسعود‏:‏ المراد ما كتمه إبليس في نفسه من الكبر والكفر، ويتوجه قوله ‏{‏تكتمون‏}‏ للجماعة والكاتم واحد في هذا القول على تجوز العرب واتساعها، كما يقال لقوم قد جنى سفيه منهم‏:‏ أنتم فعلتم كذا، أي منكم فاعله‏.‏

قال القاضي أبو محمد رحمه الله‏:‏ وهذا مع قصد تعنيف، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 4‏]‏ وإنما ناداه منهم عيينة، وقيل الأقرع، وقال قتادة‏:‏ المكتوم هو ما أسره بعضهم إلى بعض من قولهم‏:‏ ليخلق ربنا ما شاء، فجعل هذا فيما كتموه لما أسروه،- ‏{‏وإذ‏}‏ من قوله‏:‏ ‏{‏وإذ قلنا‏}‏ معطوف على ‏{‏إذ‏}‏ المتقدمة‏.‏

وقول الله تعالى وخطابه للملائكة متقرر قديم في الأزل، بشرط وجودهم وفهمهم، وهذا هو الباب كله في أوامر الله سبحانه ونواهيه ومخاطباته و‏{‏قلنا‏}‏ كناية العظيم عن نفسه بلفظ الجمع، وقوله للملائكة عموم فيهم‏.‏

وقرأ أبو جعفر بن القعقاع‏:‏ «للملائكةُ اسجدوا» برفع تاء للملائكة إتباعاً لضمة ثالث المستقبل‏.‏

قال أبو علي‏:‏ «وهذا خطأ»‏.‏

وقال الزجاج‏:‏ «أبو جعفر من رؤساء القرأة ولكنه غلط في هذا»‏.‏

قال أبو الفتح‏:‏ لأن الملائكة في موضع جر فالتاء مكسورة كسرة إعراب، وهذا الذي ذهب إليه أبو جعفر إنما يجوز إذا كان ما قبل الهمزة حرفاً ساكناً صحيحاً، نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقالت اخرج عليهن‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 31‏]‏ والسجود في كلام العرب الخضوع والتذلل، ومنه قول الشاعر ‏[‏زيد الخيل‏]‏‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

ترى الأُكْمَ فيهِ سُجَّداً للحوافرِ *** وغايته وضع الوجه بالأرض، والجمهور على أن سجود الملائكة لآدم إيماء وخضوع، ذكره النقاش وغيره، ولا تدفع الآية أن يكونوا بلغوا غاية السجود‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فقعوا له ساجدين‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 29‏]‏ لا دليل فيه لأن الجاثي على ركبتيه واقع‏.‏

واختلف في حال السجود لآدم، فقال ابن عباس‏:‏ «تعبدهم الله بالسجود لآدم، والعبادة في ذلك لله»‏.‏

وقال علي بن أبي طالب وابن مسعود وابن عباس‏:‏ «إنما كان سجود تحية كسجود أبوي يوسف عليه السلام، لا سجود عبادة»‏.‏

وقال الشعبي‏:‏ «إنما كان آدم كالقبلة، ومعنى لآدم إلى آدم»‏.‏

قال القاضي أبو محمد رحمه الله‏:‏ وفي هذه الوجوه كلها كرامة لآدم عليه السلام‏.‏

وحكى النقاش عن مقاتل‏:‏ «أن الله إنما أمر الملائكة بالسجود لآدم قبل أن يخلقه»‏.‏

قال‏:‏ «والقرآن يرد على هذا القول»‏.‏

وقال قوم‏:‏ سجود الملائكة كان مرتين، والإجماع يرد هذا‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا إبليس‏}‏ نصب على الاستثناء المتصل، لأنه من الملائكة على قول الجمهور، وهو ظاهر الآية، وكان خازناً وملكاً على سماء الدنيا والأرض، والأرض، واسمه عزازيل، قاله ابن عباس‏.‏

وقال ابن زيد والحسن‏:‏ «هو أبو الجن كما أن آدم أبو البشر، ولم يكن قط ملكاً»‏.‏

وقد روي نحوه عن ابن عباس أيضاً، قال‏:‏ «واسمه الحارث»‏.‏

وقال شهر بن حوشب‏:‏ كان من الجن الذين كانوا في الأرض وقاتلتهم الملائكة فسبوه صغيراً، وتعبد وخوطب معها، وحكاه الطبري عن ابن مسعود‏:‏ والاستثناء على هذه الأقوال منقطع، واحتج بعض أصحاب هذا القول بأن الله تعالى قال صفة للملائكة‏:‏ «لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون»‏.‏

ورجح الطبري قول من قال‏:‏ «إن إبليس كان من الملائكة»‏.‏ وقال‏:‏ «ليس في خلقه من نار ولا في تركيب الشهوة والنسل فيه حين غضب عليه ما يدفع أنه كان من الملائكة»‏.‏

وقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏كان من الجن ففسق عن أمر ربه‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 50‏]‏ يتخرج على أنه عمل عملهم فكان منهم في هذا، أو على أن الملائكة قد تسمى جناً لاستتارها، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 158‏]‏‏.‏

وقال الأعشى في ذكر سليمان عليه السلام‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

وسخّر من جن الملائك تسعة *** قياماً لديه يعملون بلا أجْرِ

أو على أن يكون نسبهم إلى الجنة كما ينسب إلى البصرة بصريّ، لما كان خازناً عليها، و‏{‏إبليس‏}‏ لا ينصرف لأنه اسم أعجمي معرف‏.‏

قال الزجاج‏:‏ «ووزنه فِعْليل»‏.‏

وقال ابن عباس والسّدي وأبو عبيدة وغيرهم‏:‏ هو مشتق من أبلس إذا أبعد عن الخير، ووزنه على هذا إفعيل ولم تصرفه هذه الفرقة لشذوذه، وأجروه مجرى إسحاق من أسحقه الله، وأيوب من آب يؤوب، مثل قيوم من قام يقوم، ولما لم تصرف هذه-ولها وجه من الاشتقاق- كذلك لم يصرف هذا وإن توجه اشتقاقه لقلته وشذوذه، ومن هذا المعنى قول الشاعر العجاج‏:‏ ‏[‏الرجز‏]‏‏.‏

يا صاح هل تعرف رسماً مكرسا *** قال نعمْ أعرفه وأبلسا

أي تغير وبعد عن العمار والإنس به ومثله قول الآخر‏:‏ ‏[‏الرجز‏]‏

وفي الوجوه صفرة وإبلاس *** ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا هم مبلسون‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 44‏]‏ أي يائسون عن الخير مبعدون منه فيما يرون- و‏{‏أبى‏}‏ معناه امتنع من فعل ما أمر به، و‏{‏استكبر‏}‏ دخل في الكبرياء، والإباية مقدمة على الاستكبار في ظهورهما عليه، والاستكبار والأنفة مقدمة في معتقده‏.‏

وروى ابن القاسم عن مالك أنه قال‏:‏ بلغني أن أول معصية كانت الحسد والكبر والشح، حسد إبليس آدم وتكبر، وشح آدم في آكله من شجرة قد نهي عن قربها‏.‏

حكى المهدوي عن فرقة أن معنى ‏{‏وكان من الكافرين‏}‏‏:‏ وصار من الكافرين‏.‏

وقال ابن فورك‏:‏ «وهذا خطأ ترده الأصول»‏.‏

وقالت فرقة‏:‏ «قد كان تقدم قبل من الجن من كفر فشبهه الله بهم وجعله منهم، لما فعل في الكفر فعلهم»‏.‏

وذكر الطبري عن أبي العالية أنه كان يقول‏:‏ «وكان من الكافرين معناه‏:‏ من العاصين»‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه‏:‏ وتلك معصية كفر لأنها عن معتقد فاسد صدرت‏.‏

وروي أن الله تعالى خلق خلقاً وأمرهم بالسجود لآدم فعصوا فأحرقهم بالنار، ثم خلق آخرين وأمرهم بذلك فعصوا فأحرقهم، ثم خلق الملائكة فأمرهم بذلك فسجدوا‏.‏

قال القاضي أبو محمد رحمه الله‏:‏ والإسناد في مثل هذا غير وثيق‏.‏

وقال جمهور المتأولين‏:‏ معنى ‏{‏وكان من الكافرين‏}‏ أي في علم الله تعالى أنه سيكفر، لأن الكافر حقيقة والمؤمن حقيقة هو الذي قد علم الله منه الموافاة‏.‏

وذهب الطبري‏:‏ إلى أن الله أراد بقصة إبليس تقريع أشباهه من بني آدم وهم اليهود الذين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم، مع علمهم بنبوته ومع تقدم نعم الله عليهم وعلى أسلافهم، واختلف هل كفر إبليس جهلاً أو عناداً على قولين بين أهل السنة، ولا خلاف أنه كان عالماً بالله قبل كفره، فمن قال إنه كفر جهلاً‏:‏ قال‏:‏ «إنه سلب العلم عند كفره»‏.‏ ومن قال كفر عناداً قال‏:‏ «كفر ومعه علمه»، قال‏:‏ والكفر عناداً مع بقاء العلم مستبعد، إلا أنه عندي جائز لا يستحيل مع خذل الله لمن شاء‏.‏ ولا خلاف أن الله تعالى أخرج إبليس عند كفره وأبعده عن الجنة، وبعد إخراجه قال لآدم اسكن‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏35- 36‏]‏

‏{‏وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ‏(‏35‏)‏ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ‏(‏36‏)‏‏}‏

‏{‏اسكن‏}‏ معناه لازم الإقامة، ولفظه لفظ الأمر ومعناه الإذن، و‏{‏أنت‏}‏ تأكيد للضمير الذي في ‏{‏اسكن‏}‏، ‏{‏وزوجك‏}‏ عطف عليه والزوج امرأة الرجل وهذا أشهر من زوجة، وقد تقدم، و‏{‏الجنة‏}‏ البستان عليه حظيرة، واختلف في الجنة التي أسكنها آدم، هل هي جنة الخلد أو جنة أعدت لهما‏؟‏ وذهب من لم يجعلها جنة الخلد إلى أن من دخل جنة الخلد لا يخرج منها، وهذا لا يمتنع، إلا أن السمع ورد أن من دخلها مثاباً لا يخرج منها، وأما من دخلها ابتداء كآدم فغير مستحيل ولا ورد سمع بأنه لا يخرج منها‏.‏

واختلف متى خلقت حواء من ضلع آدم عليه السلام‏؟‏ فقال ابن عباس «حين أنبأ الملائكة بالأسماء وأسجدوا له ألقيت عليه السنة وخلقت حواء، فاستيقظ وهي إلى جانبه» فقال فيما يزعمون‏:‏ لحمي ودمي، وسكن إليها، فذهبت الملائكة لتجرب علمه، فقالوا له يا آدم ما اسمها‏؟‏ قال‏:‏ حواء‏.‏ قالوا‏:‏ ولم‏؟‏ قال‏:‏ لأنها خلقت من شيء حي، ثم قال الله له‏:‏ ‏{‏اسكن أنت وزوجك الجنة‏}‏‏.‏

وقال ابن مسعود وابن عباس أيضاً‏:‏ لما أسكن آدم الجنة مشى فيها مستوحشاً، فلما نام خلقت حواء من ضلعه القصيرى، ليسكن إليها ويستأنس بها، فلما انتبه رآها، فقال‏:‏ من أنت‏؟‏ قالت‏:‏ امرأة خلقت من ضلعك لتسكن إلي، وحذفت النون من ‏{‏كلا‏}‏ للأمر، والألف الأولى لحركة الكاف حين حذفت الثانية لاجتماع المثلين وهو حذف شاذ، ولفظ هذا الأمر ب ‏{‏كلا‏}‏ معناه الإباحة، بقرينة قوله‏:‏ ‏{‏حيث شئتما‏}‏ والضمير في ‏{‏منها‏}‏ عائد على ‏{‏الجنة‏}‏‏.‏

وقرأ ابن وثاب والنخعي «رغْداً» بسكون الغين، والجمهور على فتحها، والرغد العيش الدارّ الهنيّ الذي لا عناء فيه، ومنه قول امرئ القيس‏:‏ ‏[‏الرمل‏]‏‏.‏

بينما المرء تراه ناعماً *** يأمن الأحداث في عيشٍ رَغَدْ

و ‏{‏رغداً‏}‏ منصوب على الصفة لمصدر محذوف وقيل‏:‏ هو نصب على المصدر في موضع الحال، و‏{‏حيث‏}‏ مبنية على الضم، ومن العرب من يبنيها على الفتح، ومن العرب من يعربها حسب موضعها بالرفع والنصب والخفض، كقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏سنستدرجهم من حيث لا يعلمون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 82، القلم‏:‏ 44‏]‏ ومن العرب من يقول «حوث»، و‏{‏شئتما‏}‏ أصله شيأتما حوّل إلى فعلتما تحركت ياؤه وانفتح ما قبلها جاء شائتما، حذفت الألف الساكنة الممدودة للالتقاء وكسرت الشين لتدل على الياء فجاء شئتما‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ هذا تعليل المبرد، فأما سيبويه فالأصل عنده شيئتما بكسر الياء، نقلت حركة الياء إلى الشين، وحذفت الياء بعد‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تقربا هذه الشجرة‏}‏ معناه لا تقرباها، بأكل، لأن الإباحة فيه وقعت‏.‏

قال بعض الحذاق‏:‏ «إن الله لم أراد النهي عن أكل الشجرة نهى عنه بلفظ تقتضي الأكل وما يدعو إليه وهو القرب»‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه‏:‏ وهذا مثال بين في سد الذرائع‏.‏

وقرأ ابن محيصن هذي على الأصل، والهاء في هذه بدل من الياء، وليس في الكلام هاء تأنيث مكسور ما قبلها غير هذه، وتحتمل هذه الإشارة أن تكون إلى شجرة معينة واحدة، أو إلى جنس‏.‏

وحكى هارون الأعور عن بعض العلماء قراءة «الشِّجرة» بكسر الشين و«الشجر» كل ما قام من النبات على ساق‏.‏

واختلف في هذه ‏{‏الشجرة‏}‏ التي نهى عنها ما هي‏؟‏

فقال ابن مسعود وابن عباس‏:‏ «هي الكَرْم ولذلك حرمت علينا الخمر»‏.‏

وقال ابن جريج عن بعض الصحابة‏:‏ «هي شجرة التين»‏.‏

وقال ابن عباس أيضاً وأبو مالك وعطية وقتادة‏:‏ «هي السنبلة وحبها ككلى البقر، أحلى من العسل، وألين من الزبد»‏.‏

وروي عن ابن عباس أيضاً‏:‏ «أنها شجرة العلم، فيها ثمر كل شيء»‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا ضعيف لا يصح عن ابن عباس‏.‏

وحكى الطبري عن يعقوب بن عتبة‏:‏ «أنها الشجرة التي كانت الملائكة تحنك بها للخلد»‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا أيضاً ضعيف‏.‏

قال‏:‏ «واليهود تزعم أنها الحنظلة، وتقول‏:‏ إنها كانت حلوة ومُرَّت من حينئذ»‏.‏

قال القاضي أبو محمد وليس في شيء من هذا التعيين ما يعضده خبر، وإنما الصواب أن يعتقد أن الله تعالى نهى آدم عن شجرة فخالف هو إليها وعصى في الأكل منها، وفي حظره تعالى على آدم الشجرة ما يدل على أن سكناه في الجنة لا يدوم، لأن المخلد لا يحظر عليه شيء، ولا يؤمر ولا ينهى‏.‏

وقيل إن هذه الشجرة كانت خصت بأن تحوج آكلها إلى التبرز، فلذلك نهي عنها فلما أكل منها ولم تكن الجنة موضع تبرز أهبط إلى الأرض‏.‏

وقوله ‏{‏فتكونا‏}‏ في موضع جزم على العطف على ‏{‏لا تقربا‏}‏، ويجوز فيه النصب على الجواب، والناصب عند الخليل وسيبويه «أن المضمرة»، وعند الجرمي الفاء، والظالم في اللغة الذي يضع الشيء غير موضعه، ومنه قولهم‏:‏ «من أشبه أباه فما ظلم» ومنه «المظلومة الجلد» لأن المطر لم يأتها في وقته، ومنه قول عمرو بن قمئة‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏

ظلم البطاح بها انهلالُ حريصةٍ *** فصفا النطافُ له بعيدَ المقلعِ

والظلم في أحكام الشرع على مراتب، أعلاها الشرك، ثم ظلم المعاصي وهي مراتب، وهو في هذه الآية يدل على أن قوله‏:‏ ‏{‏ولا تقربا‏}‏ على جهة الوجوب، لا على الندب، لأن من ترك المندوب لا يسمى ظالماً، فاقتضت لفظة الظلم قوة النهي، و«أزلهما» مأخوذ من الزلل، وهو في الآية مجاز، لأنه في الرأي والنظر، وإنما حقيقة الزلل في القدم‏.‏

قال أبو علي‏:‏ ‏{‏فأزلهما‏}‏ يحتمل تأويلين، أحدهما، كسبهما الزلة، والآخر أن يكون من زل إذا عثر «‏.‏

وقرأ حمزة‏:‏» فأزالهما «، مأخوذ من الزوال، كأنه المزيل لما كان إغواؤه مؤدياً إلى الزوال‏.‏ وهي قراءة الحسن وأبي رجاء، ولا خلاف بين العلماء أن إبليس اللعين هو متولي إغواء آدم‏.‏ واختلف في الكيفية، فقال ابن عباس وابن مسعود وجمهور العلماء‏:‏ أغواهما مشافهة، ودليل ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقاسمهما‏}‏ والمقاسمة ظاهرها المشافهة‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ إن إبليس لما دخل إلى آدم كلمه في حاله، فقال‏:‏ يا آدم ما أحسن هذا لو أن خلداً كان، فوجد إبليس السبيل إلى إغوائه، فقال‏:‏ هل أدلك على شجرة الخلد‏؟‏‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ دخل الجنة في فم الحية وهي ذات أربع كالبختية، بعد أن عرض نفسه على كثير من الحيوان فلم تدخله إلا الحية، فخرج إلى حواء وأخذ شيئاً من الشجرة، وقال‏:‏ انظري ما أحسن هذا فأغواها حتى أكلت، ثم أغوى آدم، وقالت له حواء‏:‏ كل فإني قد أكلت فلم يضرني فأكل فبدت لهما سوءاتهما، وحصلا في حكم الذنب، ولعنت الحية وردت قوائمها في جوفها، وجعلت العداوة بينها وبين بني آدم، وقيل لحواء‏:‏ كما أدميت الشجرة فكذلك يصيبك الدم في كل شهر، وكذلك تحملين كرهاً، وتضعين كرهاً، تشرفين به على الموت مراراً‏.‏ زاد الطبري والنقاش‏:‏» وتكونين سفيهة، وقد كنت حليمة «‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ إن إبليس لم يدخل الجنة إلى آدم بعد أن أخرج منها، وإنما أغوى آدم بشيطانه وسلطانه ووساوسه التي أعطاه الله تعالى، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏» إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم «‏.‏ والضمير في ‏{‏عنها‏}‏ عائد على ‏{‏الشجرة‏}‏ في قراءة من قرأ» أزلهما «، ويحتمل أن يعود على ‏{‏الجنة‏}‏ فأما من قرأ» أزالهما «فإنه يعود على ‏{‏الجنة‏}‏ فقط، وهنا محذوف يدل عليه الظاهر، تقديره فأكلا من الشجرة‏.‏

وقال قوم‏:‏» أكلا من غير التي أشير إليها فلم يتأولا النهي واقعاً على جميع جنسها «‏.‏

وقال آخرون‏:‏» تأولا النهي على الندب «‏.‏

وقال ابن المسيب‏:‏» إنما أكل آدم بعد أن سقته حواء الخمر فكان في غير عقله «‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأخرجهما مما كانا فيه‏}‏ يحتمل وجوهاً، فقيل أخرجهما من الطاعة إلى المعصية‏.‏ وقيل‏:‏ من نعمة الجنة إلى شقاء الدنيا‏.‏ وقيل‏:‏ من رفعة المنزلة إلى سفل مكانة الذنب‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا كله يتقارب‏.‏

وقرأ أبو حيوة‏:‏» اهبُطوا «بضم الباء‏.‏

«ويفعُل» كثير في غير المتعدي وهبط غير متعدٍّ‏.‏ والهبوط النزول من علو إلى أسفل‏.‏

واختلف من المخاطب بالهبوط، فقال السدي وغيره‏:‏ «آدم وحواء وإبليس والحية»‏.‏

وقال الحسن‏:‏ «آدم وحواء والوسوسة»‏.‏

قال غيره‏:‏ «والحية لأن إبليس قد كان أهبط قبل عند معصيته»‏.‏

و ‏{‏بعضكم لبعض عدو‏}‏ جملة في موضع الحال، وإفراد لفظ ‏{‏عدو‏}‏ من حيث لفظ ‏{‏بعض‏}‏، وبعض وكل تجري مجرى الواحد، ومن حيث لفظة ‏{‏عدو‏}‏ تقع للواحد، والجمع، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏هم العدو فاحذرهم‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 4‏]‏ ‏{‏ولكم في الأرض مستقر‏}‏ أي موضع استقرار قاله أبو العالية وابن زيد‏.‏

وقال السدي‏:‏ «المراد الاستقرار في القبور، والمتاع ما يستمتع به من أكل ولبس وحياة، وحديث، وأنس، وغير ذلك»‏.‏ وأنشد سليمان بن عبد الملك حين وقف على قبر ابنه أيوب إثر دفنه‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

وقفتُ على قبرٍ غريب بقفرة *** متاع قليل من حبيب مفارق

واختلف المتأولون في الحين هاهنا فقالت فرقة‏:‏ إلى الموت، وهذا قول من يقول المستقر هو المقام في الدنيا، وقالت فرقة‏:‏ ‏{‏إلى حين‏}‏ إلى يوم القيامة، وهذا قول من يقول‏:‏ المستقر هو في القبور‏.‏ ويترتب أيضاً على أن المستقر في الدنيا أن يراد بقوله‏:‏ ‏{‏ولكم‏}‏، أي لأنواعكم في الدنيا استقرار ومتاع قرناً بعد قرن إلى يوم القيامة، والحين المدة الطويلة من الدهر، أقصرها في الأيمان والالتزامات سنة‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 25‏]‏ وقد قيل‏:‏ أقصرها ستة أشهر، لأن من النخل ما يثمر في كل ستة أشهر، وقد يستعمل الحين في المحاورات في القليل من الزمن‏.‏

وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلى حين‏}‏ فائدة لآدم عليه السلام، ليعلم أنه غير باق فيها ومنتقل إلى الجنة التي وعد بالرجوع إليها، وهي لغير آدم دالة على المعاد‏.‏

وروي أن آدم نزل على جبل من جبال سرنديب وأن حواء نزلت بجدة، وأن الحية نزلت بأصبهان، وقيل بميسان، وأن إبليس نزل على الأبلة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏37- 39‏]‏

‏{‏فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ‏(‏37‏)‏ قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏38‏)‏ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏39‏)‏‏}‏

المعنى‏:‏ فقال الكلمات فتاب الله عليه عند ذلك، و‏{‏آدمُ‏}‏ رفع ب «تلقى»، و‏{‏كلمات‏}‏ نصب بها، والتلقي من آدم هو الإقبال عليها والقبول لها والفهم‏.‏

وحكى مكي قولاً‏:‏ أنه أُلهِمَهاها فانتفع بها‏.‏

وقرأ ابن كثير‏:‏ «آدمَ» بالنصب‏.‏ «من ربه كلماتٌ» بالرفع، فالتلقي من الكلمات هو نيل آدم بسببها رحمة الله وتوبته‏.‏

واختلف المتأولون في الكلمات، فقال الحسن بن أبي الحسن‏:‏ هي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ربنا ظلمنا أنفسنا‏}‏ الآية ‏[‏الأعراف‏:‏ 23‏]‏‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ «هي أن آدم قال‏:‏ سبحانك اللهم لا إله أنت ظلمت نفسي فاغفر لي إنك أنت التواب الرحيم»‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ «هي أن آدم قال‏:‏ أي رب ألم تخلقني بيدك‏؟‏ قال‏:‏ بلى، قال‏:‏ أي رب ألم تنفخ فيّ من روحك‏؟‏ قال بلى، أي رب ألم تسكني جنتك‏؟‏ قال‏:‏ بلى‏.‏ قال‏:‏ أرأيت إن تبت وأطعت أراجعي أنت إلى الجنة‏؟‏ قال‏:‏ نعم»‏.‏

قال عبيد بن عمير‏:‏ «إن آدم قال‏:‏ أي رب أرأيت ما عصيتك فيه أشيء كتبته على أم شيء ابتدعته‏؟‏ قال‏:‏ بل شيء كتبته عليك‏.‏ قال‏:‏ أي رب كما كتبته علي فاغفر لي»‏.‏

وقال قتادة‏:‏ «الكلمات هي أن آدم قال‏:‏ أي رب أرأيت إن أنا تبت وأصلحت‏؟‏ قال‏:‏ إذاً أدخلك الجنة»‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ إن المراد بالكلمات ندمه واستغفاره وحزنه، رسول الله «فتشفع بذلك، فهي الكلمات»‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ «إن المراد بالكلمات ندمه واستغفاره وحزنه، وسماها كلمات مجازاً لما هي في خلقها صادرة عن كلمات، وهي كن في كل واحدة منهن، وهذا قول يقتضي أن آدم لم يقل شيئاً إلا الاستغفار المعهود»‏.‏

وسئل بعض سلف المسلمين عما ينبغي أن يقوله المذنب، يقول ما قال أبواه، ‏{‏ربنا ظلمنا أنفسنا‏}‏‏.‏ وما قال موسى‏:‏ ‏{‏رب إنّي ظلمت نفسي فاغفر لي‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 16‏]‏‏.‏ وما قال يونس‏:‏ ‏{‏لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 87‏]‏‏.‏

و ‏{‏تاب عليه‏}‏ معناه رجع به، والتوبة من الله تعالى الرجوع على عبده بالرحمة والتوفيق، والتوبة من العبد الرجوع عن المعصية والندم على الذنب مع تركه فيما يستأنف وإنما خص الله تعالى آدم بالذكر هنا في التلقي والتوبة، وحواء مشاركة له في ذلك بإجماع لأنه المخاطب في أول القصة بقوله‏:‏ ‏{‏اسكن أنت وزوجك الجنة‏}‏ فلذلك كملت القصة بذكره وحده، وأيضاً فلأن المرأة حرمة ومستورة فأراد الله الستر لها، ولذلك لم يذكرها في المعصية في قوله‏:‏ ‏{‏وعصى آدم ربه فغوى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 121‏]‏‏.‏

وروي أن الله تعالى تاب على آدم في يوم عاشوراء وكنية آدم أبو محمد، وقيل أبو البشر‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ «إنه» بكسر الألف على القطع‏.‏

وقرأ ابن أبي عقرب‏:‏ «أنه» بفتح الهمزة على معنى لأنه، وبنية ‏{‏التواب‏}‏ للمبالغة والتكثير، وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنه هو التواب الرحيم‏}‏ تأكيد فائدته أن التوبة على العبد إنما هي نعمة من الله، لا من العبد وحده لئلا يعجب التائب، بل الواجب عليه شكر الله تعالى في توبته عليه، وكرر الأمر بالهبوط لما علق بكل أمر منهما حكماً غير حكم الآخر، فعلق بالأول العداوة، وعلق بالثاني إتيان الهدى‏.‏ وقيل‏:‏ كرر الأمر بالهبوط على جهة تغليظ الأمر وتأكيده، كما تقول لرجل قم قم‏.‏

وحكى النقاش‏:‏ أن الهبوط الثاني إنما هو من الجنة إلى السماء، والأول في ترتيب الآية إنما هو إلى الأرض، وهو الآخر في الوقوع، فليس في الأمر تكرار على هذا، و‏{‏جميعاً‏}‏ حال من الضمير في ‏{‏اهبطوا‏}‏، وليس بمصدر ولا اسم فاعل، ولكنه عوض منهما دال عليهما، كأنه قال هبوطاً جميعاً، أو هابطين جميعاً، واختلف في المقصود بهذا الخطاب، فقيل آدم وحواء وإبليس وذريتهم، وقيل ظاهره العموم ومعناه الخصوص في آدم وحواء، لأن إبليس لا يأتيه هدى، وخوطبا بلفظ تشريفاً لهما، والأول أصح لأن إبليس مخاطب بالإيمان بإجماع، و«إنْ» في قوله ‏{‏فإمّا‏}‏ هي للشرط دخلت ما عليها مؤكدة ليصح دخول النون المشددة، فهي بمثابة لام القسم التي تجيء لتجيء النون، وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مني‏}‏ إشارة إلى أن أفعال العباد خلق لله تعالى‏.‏ واختلف في معنى قوله ‏{‏هدى‏}‏، فقيل‏:‏ بيان وإرشاد‏.‏

قال القاضي أبو محمد رحمه الله‏:‏ والصواب أن يقال‏:‏ بيان ودعاء‏.‏

وقالت فرقة‏:‏ الهدى الرسل، وهي إلى آدم من الملائكة وإلى بنيه من البشر‏:‏ هو فمن بعده‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن تبع هداي‏}‏ شرط جوابه فلا خوف عليهم‏.‏

قال سيبويه، الشرط الثاني وجوابه هما جواب الأول في قوله‏:‏ ‏{‏فإما يأتينكم‏}‏‏.‏

وحكي عن الكسائي أن قوله‏:‏ ‏{‏فلا خوف عليهم‏}‏ جواب الشرطين جميعاً‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه‏:‏ حكي هذا وفيه نظر، ولا يتوجه أن يخالف سيبويه هنا، وإنما الخلاف في نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأما إن كان من المقربين فروح وريحان‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 89‏]‏‏.‏ فيقول سيبويه‏:‏ «جواب أحد الشرطين محذوف لدلالة قوله‏:‏ ‏(‏فروح‏)‏ عليه» ويقول الكوفيون‏:‏ «فروح جواب الشرطين»‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وأما في هذه الآية فالمعنى يمنع أن يكون ‏{‏فلا خوف‏}‏ جَواباً للشرطين‏.‏

وقرأ الجحدري وابن أبي إسحاق‏:‏ ‏{‏هدى‏}‏ وهي لغة هذيل‏.‏

قال أبو ذؤيب يرثي بنيه‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏‏.‏

سبقوا هويَّ وأعنقوا لهواهُم *** فتخرموا، ولكل جنبٍ مصرع

وكذلك يقولون عصى وما أشبهه، وعلة هذه اللغة أن ياء الإضافة من شأنها أن يكسر ما قبلها، فلما لم يصح في هذا الوزن كسر الألف الساكنة أبدلت ياء وأدغمت‏.‏

وقرأ الزهري ويعقوب وعيسى الثقفي‏:‏ «فلا خوفَ عليهم» نصب بالتبرية ووجهه أنه أعم وأبلغ في رفع الخوف، ووجه الرفع أنه أعدل في اللفظ لينعطف المرفوع من قولهم ‏{‏يحزنون‏}‏ على مرفوع، «ولا» في قراءة الرفع عاملة عمل ليس‏.‏

وقرأ ابن محيصن باختلاف عنه «فلا خوفُ» بالرفع وترك التنوين وهي على أن تعمل «لا» عمل ليس، لكنه حذف التنوين تخفيفاً لكثرة الاستعمال، ويحتمل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا خوف عليهم‏}‏ أي فيما بين أيديهم من الدنيا، ‏{‏ولا هم يحزنون‏}‏ على ما فاتهم منها، ويحتمل أن ‏{‏لا خوف عليهم‏}‏ يوم القيامة، ‏{‏ولا هم يحزنون‏}‏ فيه، ويحتمل أن يريد أنه يدخلهم الجنة حيث لا خوف ولا حزن‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين كفروا‏}‏ الآية، عطف جملة مرفوعة على جملة مرفوعة، وقال ‏{‏وكذبوا‏}‏ وكان في الكفر كفاية لأن لفظة كفرا يشترك فيها كفر النعم وكفر المعاصي، ولا يجب بهذا خلود فبين أن الكفر هنا هو الشرك، بقوله ‏{‏وكذبوا بآياتنا‏}‏ والآية هنا يحتمل أن يريد المتلوة، ويحتمل أن يريد العلامة المنصوبة، وقد تقدم في صدر هذا الكتاب القول على لفظ آية، و‏{‏أولئك‏}‏ رفع بالابتداء و‏{‏أصحاب‏}‏ خبره، والصحبة الاقتران بالشيء في حالة ما، في زمن ما، فإن كانت الملازمة والخلطة فهو كمال الصحبة، وهكذا هي صحبة أهل النار لها، وبهذا القول ينفك الخلاف في تسمية الصحابة رضي الله عنهم إذ مراتبهم متباينة، أقلها الاقتران في الإسلام والزمن، وأكثرها الخلطة والملازمة، و‏{‏هم فيها خالدون‏}‏، ابتداء وخبر في موضع الحال‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏40- 41‏]‏

‏{‏يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ‏(‏40‏)‏ وَآَمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ ‏(‏41‏)‏‏}‏

‏{‏يا‏}‏ حرف نداء مضمن معنى التنبيه‏.‏

قال الخليل‏:‏ «والعامل في المنادي فعل مضمر كأنه يقول‏:‏ أريد أو أدعو»‏.‏

وقال أبو علي الفارسي‏:‏ العامل حرف النداء عصب به معنى الفعل المضمر فقوي فعمل، ويدل على ذلك أنه ليس في حروف المعاني ما يلتئم بانفراده مع الأسماء غير حرف النداء، و‏{‏بني‏}‏ منادى مضاف و‏{‏إسرائيل‏}‏ هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، وهو اسم أعجمي يقال فيه أسراءل وإسرائيل وإسرائل، وتميم تقول إسرائين، وإسرا هو بالعبرانية عبد وإيل اسم الله تعالى فمعناه عبد الله‏.‏

وحكى المهدوي أن-إسرا- مأخوذ من الشدة في الأسر كأنه الذي شد الله أسره وقوى خلقته‏.‏

وروي عن نافع والحسن والزهري وابن أبي إسحاق ترك همز إسراييل، والذكر في كلام العرب على أنحاء، وهذا منها ذكر القلب الذي هو ضد النسيان، والنعمة هنا اسم الجنس فهي مفردة بمعنى الجمع، وتحركت الياء من ‏{‏نعمتي‏}‏ لأنها لقيت الألف واللام، ويجوز تسكينها، وإذا سكنت حذفت للالتقاء وفتحها أحسن لزيادة حرف في كتاب الله تعالى، وخصص بعض العلماء النعمة في هذه الآية‏.‏

فقال الطبري‏:‏ «بعثة الله الرسل منهم وإنزال المن والسلوى، وإنقاذهم من تعذيب آل فرعون، وتفجير الحجر»‏.‏

وقال غيره‏:‏ «النعمة هنا أن دركهم مدة محمد صلى الله عليه وسلم»‏.‏

وقال أخرون‏:‏ «هي أن منحهم علم التوراة وجعلهم أهله وحملته»‏.‏

قال القاضي أبو محمد رحمه الله‏:‏ وهذه أقوال على جهة المثال، والعموم في اللفظة هو الحسن‏.‏

وحكى مكي‏:‏ أن المخاطب من بني إسرائيل بهذا الخطاب هم المؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم، لأن الكافر لا نعمة لله عليه‏.‏

وقال ابن عباس وجمهور العلماء‏:‏ بل الخطاب لجميع بني إسرائيل في مدة النبي عليه السلام، مؤمنهم وكافرهم، والضمير في ‏{‏عليكم‏}‏ يراد به على آبائكم كما تقول العرب ألم نهزمكم يوم كذا لوقعه كانت بين الآباء والأجداد، ومن قال إنما خوطب المؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم استقام الضمير في ‏{‏عليكم‏}‏ ويجيء كل ما توالى من الأوامر على جهة الاستدامة‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم‏}‏ أمر وجوابه‏.‏

فقال الخليل‏:‏ «جزم الجواب في الأمر من معنى الشرط، والوفاء بالعهد هو التزام ما تضمن من فعل»‏.‏

وقرأ الزهري‏:‏ «أوَفّ» بفتح الواو وشد الفاء للتكثير‏.‏

واختلف المتأولون في هذا العهد إليهم فقال الجمهور ذلك عام في جميع أوامره ونواهيه ووصاياه فيدخل في ذلك ذكر محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة، وقيل العهد قوله تعالى‏:‏ ‏{‏خذوا ما آتيناكم بقوة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 63، 93‏]‏، وقال ابن جريج‏:‏ العهد قوله تعالى‏:‏

‏{‏ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 12‏]‏، وعهدهم هو أن يدخلهم الجنة، ووفاؤهم بعهد الله أمارة لوفاء الله تعالى لهم بعهدهم، لا علة له، لأن العلة لا تتقدم المعلول‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإياي فارهبون‏}‏ الاسم إيا والياء ضمير ككاف المخاطب، وقيل ‏{‏إياي‏}‏ يجملته هو الاسم، وهو منصوب بإضمار فعل مؤخر، تقديره‏:‏ وإياي ارهبوا فارهبون، وامتنع أن يتقدر مقدماً لأن الفعل إذا تقدم لم يحسن أن يتصل به إلا ضمير خفيف، فكان يجيء وارهبون، والرهبة يتضمن الأمر بها معنى التهديد وسقطت الياء بعد النون لأنها رأس آية‏.‏

وقرأ بان أبي إسحاق بالياء، ‏{‏وآمنوا‏}‏ معناه صدقوا، و‏{‏مصدقاً‏}‏ نصب على الحال من الضمير في ‏{‏أنزلت‏}‏، وقيل ما «والعامل فيه ‏{‏آمنوا‏}‏ وما أنزلت كناية عن القرآن، و‏{‏لما معكم‏}‏ يعني من التوراة وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تكونوا أول كافر به‏}‏ هذا من مفهوم الخطاب الذي‏:‏ المذكور فيه والمسكوت عنه حكمهما واحد، فالأول والثاني وغيرهما داخل في النهي، ولكن حذروا البدار إلى الكفر به إذ على الأول كفل من فعل المقتدى به، ونصب أول على خبر كان‏.‏

قال سيبويه‏:‏ ‏{‏أول‏}‏ أفعل لا فعل له لاعتلال فائه وعينه» قال غير سيبويه‏:‏ «هو أوأل من وأل إذا نجا، خففت الهمزة وأبدلت واواً وأدغمت»‏.‏

وقيل‏:‏ إنه من آل فهو أأول قلب فجاء وزنه أعفل، وسهل وأبدل وأدغم، ووحد كافر وهو بنية الجمع لأن أفعل إذا أضيف إلى اسم متصرف من فعل جاز إفراد ذلك الاسم، والمراد به الجماعة‏.‏

قال الشاعر‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏

وإذا همُ طعموا فألأمُ طاعمٍ *** وإذا همُ جاعوا فشرُّ جياع

وسيبويه يرى أنها نكرة مختصرة من معرفة كأنه قال ولا تكونوا أول كافرين به وقيل معناه‏:‏ ولا تكونوا أول فريق كافر به‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه‏:‏ وقد كان كفر قبلهم كفار قريش، فإنما معناه من أهل الكتاب، إذ هم منظور إليهم في مثل هذا، لأنهم حجة مظنون بهم علم، واختلف في الضمير في ‏{‏به‏}‏ على من يعود، فقيل على محمد عليه السلام، وقيل على التوراة إذ تضمنها قوله‏:‏ ‏{‏لما معكم‏}‏‏.‏

قال القاضي أبو محمد رحمه الله‏:‏ وعلى هذا القول يجيء ‏{‏أول كافر به‏}‏ مستقيماً على ظاهرة في الأولية، وقيل الضمير في ‏{‏به‏}‏ عائد على القرآن، إذ تضمنه قوله ‏{‏بما أنزلت‏}‏‏.‏

واختلف المتأولون في الثمن الذي نهوا أن يشتروه بالآيات‏.‏ فقالت طائفة‏:‏ إن الأحبار كانوا يعلمون دينهم بالأجرة، فنهوا عن ذلك وفي كتبهم‏:‏ علم مجاناً كما علمت مجاناً أي باطلاً بغير أجرة‏.‏

وقال قوم‏:‏ كانت للأحبار مأكلة يأكلونها على العلم كالراتب فنهوا عن ذلك‏.‏

وقال قوم‏:‏ إن الأحبار أخذوا رشى على تغيير قصة محمد عليه السلام في التوراة، ففي ذلك قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 41، المائدة‏:‏ 44‏]‏‏.‏

وقال قوم‏:‏ معنى الآية ولا تشتروا بأوامري ونواهيَّ وآياتي ثمناً قليلاً، يعني الدنيا ومدتها والعيش الذي هو نزر لا خطر له، وقد تقدم نظير قوله ‏{‏وإياي فاتقون‏}‏ وبين ‏{‏اتقون‏}‏ و‏{‏ارهبون‏}‏ فرق، ان الرهبة مقرون بها وعيد بالغ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏42- 46‏]‏

‏{‏وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏42‏)‏ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ ‏(‏43‏)‏ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏44‏)‏ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ ‏(‏45‏)‏ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ‏(‏46‏)‏‏}‏

المعنى ولا تخلطوا، يقال «لبَسْتُ الأمر» بفتح الباء ألبسه، إذا خلطته ومزجت بينه بمشكله وحقه بباطله‏.‏ وأما قول الشاعر‏:‏

وكتيبة لبّستها بكتيبة *** فالظاهر أنه من هذا المعنى، ويحتمل أن يكون المعنى من اللباس، واختلف أهل التأويل في المراد بقوله‏:‏ ‏{‏الحق بالباطل‏}‏‏.‏

فقال أبو العالية‏:‏ «قالت اليهود‏:‏ محمد نبي مبعوث، لكن إلى غيرنا، فإقرارهم ببعثه حق وجحدهم أنه بعث إليهم باطل»‏.‏

وقال الطبري‏:‏ «كان من اليهود منافقون فما أظهروا من الإيمان حق، وما أبطنوا من الكفر باطل»‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ «معناه لا تخلطوا اليهودية والنصرانية بالإسلام»‏.‏

وقال ابن زيد‏:‏ المراد ‏{‏بالحق‏}‏ التوراة، و«الباطل» ما بدلوا فيها من ذكر محمد عليه السلام، و‏{‏تلبسوا‏}‏ جزم بالنهي، ‏{‏وتكتموا‏}‏ عطف عليه في موضع جزم، ويجوز أن يكون في موضع نصب بإضمار «أن» وإذا قدرت «أن» كانت مع ‏{‏تكتموا‏}‏ بتأويل المصدر، وكانت الواو عاطفة على مصدر مقدر من ‏{‏تلبسوا‏}‏، كأن الكلام ولا يكن لبسكم الحق بالباطل وكتمانكم الحق‏.‏

وقال الكوفيون‏:‏ ‏{‏تكتموا‏}‏ نصب بواو الصرف، و‏{‏الحق‏}‏ يعني به أمر محمد صلى الله عليه وسلم «‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأنتم تعلمون‏}‏ جملة في موضع الحال ولم يشهد لهم تعالى بعلم وإنما نهاهم عن كتمان ما علموا، ويحتمل أن تكون شهادة عليهم بعلم حق مخصوص في أمر محمد عليه السلام، ولم يشهد لهم بالعلم على الإطلاق ولا تكون الجملة على هذا في موضع الحال، وفي هذه الألفاظ دليل على تغليظ الذنب على من واقعه على علم، وأنه أعصى من الجاهل‏.‏

‏{‏وأقيموا الصلاة‏}‏ معناه‏:‏ أظهروا هيئتها وأديموها بشروطها، وذلك تشبيه بإقامة القاعد إلى حال ظهور، ومنه قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏

وإذا يقال أتيتمُ يبرحوا *** حتى تقيمَ الخيلُ سوقَ طعان

وقد تقدم القول في الصلاة، و‏{‏الزكاة‏}‏ في هذه الآية هي المفروضة بقرينة إجماع الأمة على وجوب الأمر بها، و‏{‏الزكاة‏}‏ مأخوذة من زكا الشيء إذا نما وزاد، وسمي الإخراج من المال زكاة وهو نقص منه من حيث ينمو بالبركة أو بالأجر الذي يثيب الله به المزكي وقيل ‏{‏الزكاة‏}‏ مأخوذة من التطهير، كما يقال زكا فلان أي طهر من دنس الجرحة أو الاغفال، فكأن الخارج من المال يطهره من تبعة الحق الذي جعل الله فيه للمساكين، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى في الموطأ ما يخرج في الزكاة أوساخ الناس‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واركعوا مع الراكعين‏}‏ قال قوم‏:‏ جعل الركوع لما كان من أركان الصلاة عبارة عن الصلاة كلها‏.‏

وقال قوم‏:‏ إنما خص الركوع بالذكر لأن بني إسرائيل لم يكن في صلاتهم ركوع‏.‏

وقالت فرقة‏:‏ إنما قال ‏{‏مع‏}‏ لأن الأمر بالصلاة أولاً لم يقتض شهود الجماعة، فأمرهم بقوله ‏{‏مع‏}‏ بشهود الجماعة، والركوع في اللغة الانحناء بالشخص‏.‏

قال لبيد‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

أخبر أخبار القرون التي مضت *** أدبُّ كأني كلما قمت راكع

ويستعار أيضاً في الانحطاط في المنزلة، قال الأضبط بن قريع‏:‏ ‏[‏الخفيف‏]‏

لا تعاد الضعيف علك أن تر *** كع يوماً والدهر قد رفعه

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أتأمرون الناس‏}‏ خرج مخرج الاستفهام، ومعناه التوبيخ، و«البر» يجمع وجوه الخير والطاعات ويقع على كل واحد منها اسم بر، ‏{‏وتنسون‏}‏ بمعنى تتركون كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏نسوا الله فنسيهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 67‏]‏‏.‏

واختلف المتأولون في المقصود بهذه الآية، فقال ابن عباس‏:‏ «كان الأحبار يأمرون أتباعهم ومقلديهم باتباع التوراة، وكانوا هم يخالفونها في جحدهم منها صفة محمد صلى الله عليه وسلم»‏.‏

وقالت فرقة‏:‏ كان الأحبار إذا استرشدهم أحد من العرب في اتباع محمد دلوه على ذلك، وهم لا يفعلونه‏.‏

وقال ابن جريج‏:‏ «كان الأحبار يحضون الناس على طاعة الله، وكانوا هم يواقعون المعاصي»‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ كانوا يحضون على الصدقة ويبخلون‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأنتم تتلون‏}‏ معناه‏:‏ تدرسون وتقرؤون، ويحتمل أن يكون المعنى تتبعون أي في الاقتداء به، و‏{‏الكتاب‏}‏ التوراة وهي تنهاهم عما هم عليه من هذه الصفة الذميمة‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفلا تعقلون‏}‏ معناه‏:‏ أفلا تمنعون أنفسكم من مواقعة هذه الحال المردية لكم‏؟‏ والعقل‏:‏ الإدراك المانع من الخطأ مأخوذ منه عقال البعير، أي يمنعه من التصرف، ومنه المعقل أي موضع الامتناع‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واستعينوا بالصبر والصلاة‏}‏ قال مقاتل‏:‏ «معناه على طلب الآخرة»‏.‏

وقال غيره‏:‏ المعنى استعينوا بالصبر عن الطاعات وعن الشهوات على نيل رضوان الله، وبالصلاة على نيل الرضوان وحط الذنوب، وعلى مصائب الدهر أيضاً، ومنه الحديث‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كربه أمر فزع إلى الصلاة، ومنه ما روي أن عبد الله بن عباس نعي إليه أخوه قثم، وهو في سفر، فاسترجع وتنحى عن الطريق وصلى ثم انصرف إلى راحلته، وهو يقرأ ‏{‏واستعينوا بالصبر والصلاة‏}‏‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ الصبر في هذه الآية الصوم، ومنه قيل لرمضان شهر الصبر، وخص الصوم والصلاة على هذا القول بالذكر لتناسبهما في أن الصيام يمنع الشهوات ويزهد في الدنيا، والصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر وتخشع‏.‏ ويقرأ فيها القرآن الذي يذكر بالآخرة‏.‏

وقال قوم‏:‏ «الصبر» على بابه، ‏{‏والصلاة‏}‏ الدعاء، وتجيء هذه الآية على هذا القول مشبهة لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 45‏]‏ لأن الثبات هو الصبر، وذكر الله هو الدعاء‏.‏

واختلف المتأولون في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإنها لكبيرة‏}‏ على أي شيء يعود الضمير‏؟‏ فقيل على ‏{‏الصلاة‏}‏، وقيل على الاستعانة التي يقتضيها قوله ‏{‏واستعينوا‏}‏، وقيل على العبادة التي يتضمنها بالمعنى ذكر الصبر والصلاة‏.‏

وقالت فرقة‏:‏ على إجابة محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال القاضي أبو محمد رحمه الله‏:‏ وفي هذا ضعف، لأنه لا دليل له من الآية عليه‏.‏

وقيل‏:‏ يعود الضمير على الكعبة، لأن الأمر بالصلاة إنما هو إليها‏.‏

قال القاضي أبو محمد رحمه الله‏:‏ وهذا أضعف من الذي قبله‏.‏

و «كبيرة» معناه ثقيلة شاقة، والخاشعون المتواضعون المخبتون، والخشوع هيئة في النفس يظهر منها على الجوارح سكون وتواضع‏.‏

و ‏{‏يظنون‏}‏ في هذه الآية قال الجمهور‏:‏ معناه يوقنون‏.‏

وحكى المهدوي وغيره‏:‏ أن الظن يصح أن يكون على بابه، ويضمر في الكلام بذنوبهم، فكأنهم يتوقعون لقاءه مذنبين‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه‏:‏ وهذا تعسف، والظن في كلام العرب قاعدته الشك مع ميل إلى احد معتقديه، وقد يوقع الظن موقع اليقين في الأمور المتحققة، لكنه لا يوقع فيما قد خرج إلى الحس، لا تقول العرب في رجل مرئي حاضر أظن هذا إنساناً وإنما تجد الاستعمال فيما لم يخرج إلى الحس بعد، كهذه الآية، وكقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فظنوا أنهم مواقعوها‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 53‏]‏ وكقول دريد بن الصمة‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج *** سراتهُم بالفارسي المسرد

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أنهم ملاقو ربهم‏}‏ أن وجملتها تسد مسد مفعولي الظن، والملاقاة هي للعقاب أو الثواب، ففي الكلام حذف مضاف، ويصح أن تكون الملاقاة هنا بالرؤية التي عليها أهل السنة، وورد بها متواتر الحديث‏.‏

وحكى المهدوي‏:‏ أن الملاقاة هنا مفاعلة من واحد، مثل عافاك الله‏.‏

قال القاضي أبو محمد رحمه الله‏:‏ وهذا قول ضعيف، لأن لقي يتضمن معنى لاقى، وليست كذلك الأفعال كلها، بل فعل خلاف فاعل في المعنى‏.‏

‏{‏وملاقو‏}‏ أصله ملاقون، لأنه بمعنى الاستقبال فحذفت النون تخفيفاً، فلما حذفت تمكنت الإضافة لمناسبتها للأسماء، وهي إضافة غير محضة، لأنها تعرف‏.‏

وقال الكوفيون‏:‏ ما في اسم الفاعل الذي هو بمعن المجيء من معنى الفعل يقتضي إثبات النون وإعماله، وكونه وما بعده اسمين يقتضي حذف النون والإضافة‏.‏

و ‏{‏راجعون‏}‏ قيل‏:‏ معناه بالموت وقيل بالحشر والخروج إلى الحساب والعرض، وتقوي هذا القول الآية المتقدمة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 28، الحج‏:‏ 66، الروم‏:‏ 40‏]‏ والضمير في ‏{‏إليه‏}‏ عائد على الرب تعالى، وقيل على اللقاء الذي يتضمنه ‏{‏ملاقو‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏47- 49‏]‏

‏{‏يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ‏(‏47‏)‏ وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ‏(‏48‏)‏ وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ‏(‏49‏)‏‏}‏

قد تكرر هذا النداء والتذكير بالنعمة، وفائدة ذلك أن الخطاب الأول يصح أن يكون المؤمنين، ويصح أن يكون للكافرين منهم، وهذا المتكرر إنما هو للكافرين، بدلالة ما بعده، وأيضاً فإن فيه تقوية التوقيف وتأكيد الحض على ذكر أيادي الله وحسن خطابهم بقوله‏:‏ ‏{‏فضلتكم على العالمين‏}‏ لأن تفضيل آبائهم وأسلافهم تفضيل لهم، وفي الكلام اتساع‏.‏

قال قتادة وابن زيد وابن جريج وغيرهم‏:‏ المعنى على عالم زمانهم الذي كانت فيه النبوءة المتكررة والملك، لأن الله تعالى يقول لأمة محمد صلى الله عليه وسلم‏:‏ «كنتم خير أمة أخرجت للناس»‏.‏

وقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏واتقوا يوماً‏}‏ نصب يوماً ب ‏{‏اتقوا‏}‏ على السعة، والتقدير عذاب يوم، أو هول يوم، ثم حذف ذلك وأقام اليوم مقامه، ويصح أن يكون نصبه على الظرف لا للتقوى، لأن يوم القيامة ليس بيوم عمل، ولكن معناه‏:‏ جيئوا متقين يوماً‏.‏ و‏{‏لا تجزي‏}‏ معناه‏:‏ لا تغني‏.‏

وقال السدي‏:‏ معناه لا تقضي، ويقويه قوله ‏{‏شيئاً‏}‏ وقيل المعنى‏:‏ لا تكافئ، ويقال‏:‏ جزى وأجزأ بمعنى واحد، وقد فرق بينهما قوم، فقالوا‏:‏ جزى بمعنى‏:‏ قضى وكافأ، وأجزأ بمعنى أغنى وكفى‏.‏

وقرأ أبو السمال «تُجزئ» بضم التاء والهمز، وفي الكلام حذف‏.‏

وقال البصريون‏:‏ التقدير لا تجزي فيه، ثم حذف فيه‏.‏

وقال غيرهم‏:‏ حذف ضمير متصل ب ‏{‏تجزي‏}‏ تقديره لا تجزيه، على أنه يقبح حذف هذا الضمير في الخبر، وإنما يحسن في الصلة‏.‏

وقال بعض البصريين‏:‏ التقدير لا تجزي فيه، فحذف حرف الجر واتصل الضمير، ثم حذف الضمير بتدريج‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تقبل منها شفاعة‏}‏ قرأ ابن كثير وأبو عمرو‏:‏ بالتاء، وقرأ الباقون‏:‏ بالياء من تحت على المعنى إذ تأنيت الشفاعة ليس بحقيقي، والشفاعة مأخوذة من الشفع وهما الاثنان لأن الشافع والمشفوع له شفع، وكذلك الشفيع فيما لم يقسم‏.‏

وسبب هذه الآية أن بني إسرائيل قالوا‏:‏ نحن أبناء الله وأبناء أنبيائه وسيشفع لنا آباؤنا، فأعلمهم الله تعالى عن يوم القيامة أنه لا تقبل فيه الشفاعة، و‏{‏لا تجزي نفس عن نفس‏}‏، وهذا إنما هو في الكافرين، للإجماع وتواتر الحديث بالشفاعة في المؤمنين‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يؤخذ منها عدل‏}‏، قال أبو العالية‏:‏ «العدل الفدية»‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه‏:‏ وعدل الشيء هو الذي يساويه قيمة وقدراً وإن لم يكن من جنسه، «والعِدل» بكسر العين هو الذي يساوي الشيء من جنسه وفي جرمه‏.‏

وحكى الطبري أن من العرب من يكسر العين من معنى الفدية، فأما واحد الأعدال فبالكسر لا غير، والضمير في قوله ‏{‏ولا هم‏}‏ عائد على الكافرين الذين اقتضتهم الآية، ويحتمل أن يعود على النفسين المتقدم ذكرهما، لأن اثنين جمع، أو لأن النفس للجنس وهو جمع، وحصرت هذه الآية المعاني التي اعتادها بنو آدم في الدنيا، فإن الواقع في شدة مع آدمي لا يتخلص إلا بأن يشفع له أو ينصر أو يفتدى‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ نجيناكم من آل فرعون‏}‏ أي خلصناكم، و‏{‏آل‏}‏ أصله أهل، قلبت الهاء ألفاً كما عمل في ماء، ولذلك ردها التصغير إلى الأصل، فقيل أُهَيْل، موَيْه، وقد قيل في ‏{‏آل‏}‏ إنه اسم غير أهل، أصله أول وتصغيره أويل، وإنما نسب الفعل إلى ‏{‏آل فرعون‏}‏ وهم إنما كانوا يفعلونه بأمره وسلطانه لتوليهم ذلك بأنفسهم‏.‏

وقال الطبري رحمه الله‏:‏ «ويقتضي هذا أن من أمره ظالم بقتل أحد فقتله المأمور فهو المأخوذ به، وآل الرجل قرابته وشيعته وأتباعه»‏.‏

ومنه قول أراكة الثقفي‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

فلا تبك ميْتاً بعد ميْتٍ أجنّهُ *** عليٌّ وعباسٌ وآلُ أبي بكر

يعني المؤمنين الذين قبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأشهر في ‏{‏آل‏}‏ أن يضاف إلى الأسماء لا إلى البقاع والبلاد، وقد يقال آل مكة، وآل المدنية، وفرعون اسم لكل من ملك من العمالقة مصر، وفرعون موسى قيل اسمه مصعب بن الريان‏.‏

وقال ابن إسحاق‏:‏ «اسمه الوليد بن مصعب»‏.‏

وروي أنه كان من أهل اصطخر، ورد مصر فاتفق له فيها الملك، وكان أصل كون بني إسرائيل بمصر نزول إسرائيل بها زمن ابنه يوسف عليهما السلام‏.‏

و ‏{‏يسومونكم‏}‏ معناه‏:‏ يأخذونكم به ويلزمونكم إياه ومنه المساومة بالسلعة، وسامه خطة خسف و‏{‏يسومونكم‏}‏ إعرابه رفع على الاستئناف والجملة في موضع نصب على الحال، أي سائمين لكم سوء العذاب، ويجوز أن لا تقدر فيه الحال، ويكون وصف حال ماضية، و‏{‏سوء العذاب‏}‏ أشده وأصعبه‏.‏

قال السدي‏:‏ «كان يصرفهم في الأعمال القذرة ويذبح الأبناء، ويستحيي النساء»‏.‏

وقال غيره‏:‏ صرفهم على الأعمال‏:‏ الحرث والزراعة والبناء وغير ذلك، وكان قومه جنداً ملوكاً، وقرأ الجمهور «يذبِّحون» بشد الباء المكسورة على المبالغة، وقرأ ابن محيصن‏:‏ «يذبحون» بالتخفيف، والأول أرجح إذ الذبح متكرر‏.‏ كان فرعون على ما روي قد رأى في منامه ناراً خرجت من بيت المقدس فأحرقت بيوت مصر، فأولت له رؤياه أن مولوداً من بني إسرائيل ينشأ فيخرب ملك فرعون على يديه‏.‏

وقال ابن إسحاق وابن عباس وغيرهما‏:‏ إن الكهنة والمنجمين قالوا لفرعون‏:‏ قد أظلك زمن مولود من بني إسرائيل يخرب ملكك‏.‏

وقال ابن عباس أيضاً‏:‏ إن فرعون وقومه تذاكروا وعد الله لإبراهيم أن يجعل في ذريته أنبياء وملوكاً، فأمر عند ذلك بذبح الذكور من المولودين في بني إسرائيل، ووكل بكل عشر نساء رجلاً يحفظ من يحمل منهن‏.‏

وقيل‏:‏ «وكل بذلك القوابل»‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ معنى ‏{‏يذبحون أبناءكم‏}‏ يذبحون الرجال ويسمون أبناء لما كانوا كذلك، واستدل هذا القائل بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏نساءكم‏}‏‏.‏

قال القاضي أبو محمد رحمه الله‏:‏ والصحيح من التأويل أن الأبناء هم الأطفال الذكور، والنساء هم الأطفال الإناث، وعبر عنهن باسم النساء بالمآل، وليذكرهن بالاسم الذي في وقته يستخدمن ويمتهنَّ، ونفس الاستحياء ليس بعذاب، لكن العذاب بسببه وقع الاستحياء، و‏{‏يذبحون‏}‏ بدل من «يسومون»‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وفي ذلكم‏}‏ إشارة إلى جملة الأمر، إذ هو خبر فهو كمفرد حاضر، و‏{‏بلاء‏}‏ معناه امتحان واختبار، ويكون ‏{‏البلاء‏}‏ في الخير والشر‏.‏

وقال قوم‏:‏ الإشارة ‏{‏بذلكم‏}‏ إلى التنجية من بني إسرائيل، فيكون ‏{‏البلاء‏}‏ على هذا في الخير، أي وفي تنجيتكم نعمة من الله عليكم‏.‏

وقال جمهور الناس‏:‏ الإشارة إلى الذبح ونحوه، و‏{‏البلاء‏}‏ هنا في الشر، والمعنى وفي الذبح مكروه وامتحان‏.‏

وحكى الطبري وغيره في كيفيه نجاتهم‏:‏ أن موسى عليه السلام أوحي إليه أن يسري من مصر ببني إسرائيل فأمرهم موسى أن يستعيروا الحلي والمتاع من القبط، وأحل الله ذلك لبني إسرائيل، فسرى بهم موسى من أول الليل، فأعلم فرعون فقال لا يتبعنهم أحد حتى تصيح الديكة، فلم يصح تلك الليلة بمصر ديك حتى أصبح، وأمات الله تلك الليلة كثيراً من أبناء القبط فاشتغلوا في الدفن وخرجوا في الأتباع مشرقين، وذهب موسى إلى ناحية البحر حتى بلغه، وكانت عدة بني إسرائيل نيفاً على ستمائة ألف، وكانت عدة فرعون ألف ألف ومائتي ألف‏.‏

وحكي غير هذا مما اختصرته لقلة ثبوته، فلما لحق فرعون موسى ظن بنو إسرائيل أنهم غير ناجين، فقال يوشع بن نون لموسى أين أمرت‏؟‏ فقال هكذا وأشار إلى البحر فركض فرسه فيه حتى بلغ الغمر، ثم رجع فقال لموسى أين أمرت، فوالله ما كذبت ولا كذبت، فأشار إلى البحر، وأوحى الله تعالى إليه، ‏{‏أن اضرب بعصاك البحر‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 63‏]‏‏.‏ وأوحى إلى البحر أن انفرق لموسى إذا ضربك، فبات البحر تلك الليلة يضطرب فحين أصبح ضرب موسى البحر، وكناه أبا خالد فانفرق وكان ذلك في يوم عاشوراء‏.‏